أما بعد:
فعنوان هذه المحاضرة كما سمعتم: دفاعٌ عن السنة النبوية، وفي هذا العصر كثرت الدعاوى التي يريد أصحابها من ورائها أن يقوضوا أركان الإسلام ودعائمه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [الصف:8].
إنهم كما قال الشاعر:
كناطح صخرةً يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل |
بل هم كمن يحاول أن يطفئ نور الشمس بنفخةٍ من فيه:
أتطفئ نورَ الله نفخةُ كافرٍ تعالى الذي بالكبرياء تفردا |
والدعاوى اليوم عجيبة، كل ما يخطر في بالك، وهناك من يدعي هذا الذي يخطر في بالك.
وقال هذا الشاب: إن هذا الرجل خدع بدعوته أناساً، وله نشرات يصدرها، وقد اطلعت على بعض هذه النشرات؛ فوجدت أن هذا الرجل يقول: إن عنده مئات الأدلة على أنه رسول ونبي، ما هذه الأدلة؟! قال: من الأدلة أن حروف البسملة تسعة عشر حرفاً، والله قال: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30].
وعدد حروف القرآن من مضاعفات العدد تسعة عشر، وعدد كلماته من مضاعفات تسعة عشر، ورشاد خليفة ولد في التاسع عشر من شهر نوفمبر، أو شهر سبتمبر، كما يقول، فمعنى ذلك أن هذا دليل على أنه نبي، ويطلب من الناس أن يؤمنوا به بمقتضى هذا الكلام السخيف.
نحن لماذا لا نقول: إن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ لأنه ولد في التاسع عشر من نوفمبر، وهو الرقم الذي يساوي عدد حروف البسملة، والله تعالى يقول عن جهنم: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30].
فليس القول بأن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ بأقل من دعواه أنه نبي لأنه ولد في تسعة عشر، وهذا منتهى السخف، ومع ذلك يجد من يتقبل دعوته.
وأذكر أن بعض الصحف الإسلامية والعربية -وفي بلادنا أيضاً- نشرت منذ زمن طويل، دعاية عن إنجاز علمي كبير سوف يحقق معجزة القرآن في القرن العشرين -على حد تعبيرهم- وهو ما يسمونه بمعجزة القرآن العددية، وهذه المعجزة العددية هي الأسطورة والخرافة التي ابتكرها/ رشاد خليفة، ليدعم بها دعواه للنبوة.
فقد قرأت في مقابلة صحفية مع رجل اسمه/ أغاخان، وهو يعبد من دون الله في شبه القارة الهندية، له أتباع يعبدونه ويسبحون بحمده وله يسجدون!
فمن ضمن الأسئلة التي وجهها إليه أحد الصحفيين أن قال له: لماذا ترضى وتقبل من هؤلاء البشر الذين هم في منـزلتك أن يعبدوك ويسبحوك ويعظموك؟ فابتسم، وقال له: ألا تراهم يعبدون البقر؟!وهل أنا أقل منـزلة من البقر حتى تستكثر علي أن يعبدوني؟!
فقد تعرضت السنة منذ عصور قديمة لهجمات شرسة من أهل البدع، كـالخوارج، والمعتزلة، والشيعةوغيرهم، لكنها لم تتعرض كما تعرضت في هذا العصر لحملات ضارية، تستهدف القضاء على السنة النبوية، وإقصاءها عن واقع الأمة الإسلامية، ولذلك وجب على القادرين منا أن يتحدثوا في موضوع السنة النبوية، ويدافعوا عنها، ويبينوا للناس حقيقة السنة ومكانتها بالنسبة للقرآن الكريم ومدى حجيتها حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
ولست أزعم أنني في هذه المحاضرة أستطيع أن أقول كل ما يتعلق بهذا الموضوع، أو كل ما عندي مما يتعلق بهذا الموضوع، كلا! ولكنني سوف أبدأ في هذه المحاضرة بعرض جوانب مهمة تتعلق بالسنة النبوية، وأعد أن أكمل هذا الموضوع في مناسبة قادمة إن شاء الله؛ ليكون الموضوع بين أيدي الناس، وليسمعه جمهور المسلمين وجمهور المثقفين؛ ليأخذوا صورة عن الموقف الصحيح الذي يجب أن يقفوه من السنة النبوية.
إن السنة النبوية هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي تدل على الأحكام الشرعية.
وهذا التعريف هو أوسع التعريفات وأكثرها انتشاراً، والتقسيمات المختلفة في السنة تدور عليه، وهو يتضمن أن السنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
وهي كثيرة جداً، منها على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال:{ لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة}.
فهذا قول من النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن أحكاماً شرعية، منها تحريم لبس الحرير والديباج على الرجال، ومنها تحريم الأكل أو الشرب في آنية الذهب والفضة وصحافها؛ لأن هذا من شأن المشركين الذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم. هذا هو القسم الأول من السنة النبوية، وهو السنة القولية.
القسم الأول: ما يعتبر تشريعاً ينبغي على الناس الاقتداء به والالتزام به، إباحة أو إيجاباً أو استحباباً أو تحريماً، وهذه الأشياء التي تدل على التشريع، ويجب على الناس الالتزام بها، إما أن تكون بياناً للقرآن الكريم، أو تكون تأسيساً لحكمٍ جديد لم يرد في القرآن، كما سوف يأتي بعد قليل.
القسم الثاني: ما لا يعد تشريعاً، وهو أربعة أشياء:
الأول منها: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة والطبيعة البشرية، مثل نومه عليه السلام، وأكله وشربه وقضائه لحاجته، وغير ذلك من الأشياء التي فعلها بمقتضى الجبلة والطبيعة.
فهذه لا دخل فيها للاقتداء أصلاً، ولكن قد يكون الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في شيءٍ يتعلق بأخلاقيات هذه الأشياء.
كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا آداب النوم وآداب الجماع، وآداب التخلي وقضاء الحاجة، وآداب الأكل وآداب الشرب، لكن أصل الفعل ليس فيه مجال للاقتداء، فهو أمر طبيعي فطري جبلي موجود عند الإنسان، فهذا ليس من باب التشريع.
هذا هو النوع الأول مما لا يعد تشريعاً من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة. فقد يكون هناك عادات اجتماعية موجودة في المجتمع، ففعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، وليس لأنها مشروعة أو مستحبة، أو أمور تركها أيضاً بمقتضى العادة، وليس لأنها مكروهة أو محرمة.
ومثال ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، كما ذكر بعض أهل العلم: ترك النبي صلى الله عليه وسلم لشعر رأسه، فقد كان النبي عليه السلام له شعرٌ يضرب إلى منكبيه، وفي رواية إلى "شحمة أذنيه"، والأظهر -والله تعالى- أعلم أن إطلاقه عليه السلام لشعر الرأس، إنما أطلقه لأن هذه عادة معروفة عند العرب، والإسلام لم يرفض هذه العادة، ففعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض أهل العلم قالوا: بل هذه سنة.
ومثال ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة والكراهية البشرية، تركه عليه الصلاة والسلام لأكل الضب ففي الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم قُدِّم له الضب على مائدة ليأكل منها، فأراد أن يأكل، فقالت إحدى أمهات المؤمنين: أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا اللحم الذي يريد أن يأكله، فقالوا: يا رسول الله! إن هذا ضب، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، وكان بحضرته جماعة من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، فاجتره
فترك النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب ليس تشريعاً يدل على كراهية أكل الضب، لكنه أمر كرهته نفسه، وعافته نفسه فتركه.
النوع الثالث من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تعد تشريعاً: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الخبرة والتجربة في الأمور الدنيوية البحتة.
فكونه صلى الله عليه وسلم في الغزو يرتب الجيش ترتيباً معيناً، أو إذا أراد أن ينـزل على ماء نـزل عند هذا الماء أو عند ذاك، أو فعل أمراً يتعلق بالحرب، أو الزراعة، أو بالسفر أو بالإقامة، أو غيرها من الأمور الدنيوية البحتة المتعلقة بخبرة الناس، فهذا الأمر أيضاً ليس فيه مجال للتشريع والتأسي والاقتداء.
النوع الرابع من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تعد تشريعاً: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي من عند الله، ولكن دل الدليل على أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نسوة؛ فإن الله تعالى أباح للأمة أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، ولا يجوز الزيادة على أربع، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام مات عن تسع نسوة، فدل على أن هذا الأمر خاص به.
كذلك تحريم النكاح عليه في آخر عمره على قول، كما في قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب:52].
فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم، وخصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداً، حتى إن بعض أهل العلم صنفوا فيها كتباً ككتاب" الخصائص الكبرى للسيوطي، والذي ذكر فيه، ألف خصلة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بعضها يقال: إنه خاص، لكن عند الدراسة والبحث يتبين أنه ليس خاصاً، لكن بالتأكيد هناك خصال خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا يجوز لأمته أن تتأسى به فيها.
إذاً السنة الفعلية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يقصد به التشريع.
والقسم الثاني: ما لا يقصد به التشريع: وما لا يقصد به التشريع هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة، أو ما فعله بمقتضى العادة، أو ما فعله بحكم الخبرة والتجربة، أو ما دل الدليل على خصوصيته بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا وجد تردد فالأصل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رأيت بعض المصنفين -وقد يكون من بينهم من هو محسوب على أهل العلم وإلى الله المشتكى- من يتوسعون في هذه المسألة توسعاً غير محمود، فكلما تضايقوا من سنة من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ردوها وقالوا: هذه فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بحكم العادة، وهذه فعلها بحكم الخبرة، وهذه فعلها بحكم الجبلة؛ ثم رفضوها وأخذوا بسنن الكفار والمشركين واليهود والنصارى!
وأضرب لكم على ذلك بعض الأمثلة:
قرأت في أحد الكتب لعالم يشار إليه بالبنان، وقد تحدث عن موضوع إعفاء اللحية، فقال: إن إعفاء النبي صلى الله عليه وسلم للحيته، إنما فعله عليه السلام بمقتضى العادة الموجودة في عهده، وليس تشريعاً يقتدى به!
وبناءً على ذلك؛ فتح الباب على مصراعيه للناس ليفعلوا بشعورهم ما شاءوا، من التهذيب والتشذيب والحلق، وهم في منجاة من أن يقول لهم قائل: لماذا تخالفون سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؟
ونسي أو تناسى الأحاديث الكثيرة الصحيحة، التي يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بإعفاء اللحية، وينهى عن التشبه بـالمجوس والمشركين الذين يحلقون شعر لحاهم -هذا مثال-.
وسمعت عن رجلٍ آخر، وقد يكون داعيةً وكاتباً مرموقاً، وهو يتحدث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:{إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم ليرفعه فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء}رواه البخاري وأبو داود وزاد أبو داود {وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء} أي أن الذباب يسقط على الجناح الذي فيه الداء، والحديث عن أبي هريرة، لكن له شواهد عن جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، ومنهم علي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة.
ورد الحديث عن جماعة من الصحابة وبأسانيد صحيحة، ومع ذلك لم يجد أحد الدعاة حرجاً أن يقول: إن هذا الحديث من الأمور الدنيوية، التي تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بحسب الثقافة الموجودة في عصره، ولا يلزم أن يكون هذا الأمر صحيحاً نعوذ بالله من ذلك!
وهذا يعتبر تكذيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم جميعاً أن الرسول عليه السلام ذكر أن {من تتطبب ولم يعلم منه طب فإنه يضمن ما أتلف} أي لو أن إنساناً ادعى أنه طبيب، فعالج إنساناً فقتله، وعالج آخر فأمرضه، فإنه يحاسب على هذه الأعمال التي يعملها، وهو غير جديرٍ بها، ولا متأهل لها.
فما بالك أن الرسول عليه السلام -فيما يزعم هذا الزاعم- أنه يتكلم في قضية وهو لا يعلم عنها شيئاً، حاشاه من ذلك! ومتى كانت الأمة العربية تعلم أن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء؟! ما كان العرب يعرفون ذلك، وهذا أمر دقيق لا يمكن أن يعلم إلا بأحد أمرين:
إما بالوحي الصادق عن الله جل وعلا، وإما بالعلم اليقيني التجريبي الذي يخضع الذباب للتحليل والدراسة، ثم يكتشف الداء والدواء.
ولما قطعنا بأن هذا العلم لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ عرفنا أنه عليه السلام لم يتكلم عن الهوى قال الله:إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5]
ومثالٌ ثالث: أحد العلماء يتكلم عن باب كبير في الطب النبوي، فيقول: إن هذا الطب كله مبناه على اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم، بحسب الخبرة الموجودة لديه والموجودة في مجتمعه، أشاعها بين أصحابه، ولا يلزم أن تكون كلها وصفات وعلاجات صحيحة ومناسبة!
هذا أيضاً يفتح الباب على مصراعيه؛ لأن يرفض الناس جميع تشريعات الإسلام، فيرفضون -مثلاً- أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الاقتصاد؛ بحجة أنها اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلزم أن تكون دقيقة، ثم يرفضون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السياسة؛ بحجة أنها اجتهادات قد لا تكون بالضرورة دقيقة، ثم يرفضون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال تنظيم شئون المجتمع، وبالتالي يرفضون الإسلام كله، ولا يبقى لهم منه شيء.
وهكذا يتبين لكم خطورة توسع بعض الناس في قولهم: إن هناك سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيها مجال للاقتداء. لا ثم لا!!
الأصل فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال وغيرها؛ أنها للتأسي والاقتداء به عليه الصلاة والسلام، ولا يخرج شيء عن الاقتداء والتأسي إلا بدليل واضح أو بحجة قائمة، وذلك ينحصر في الأمور الأربعة التي أسلفتها سابقاً، وكما أننا لا نقبل من أحد أن يقول بخصوصية شيء للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بدليل، كذلك لا نقبل منه أن يقول عن أمر من الأمور: إن هذا الأمر ليس فيه مجال للتشريع إلا بحجة واضحة قائمة لا لبس فيها.
وأمثلة التقرير كثيرة منها قصة الجارية كما في صحيح مسلم، التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: {أين الله؟ قالت: في السماء -وفي رواية- أشارت بأصبعها إلى السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة} فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على إشارتها إلى السماء، وعلى قولها: إن الله في السماء، فدل هذا على عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي أن الله تبارك وتعالى فوق سماواته، وهذه العقيدة موجودة أيضاً في القرآن الكريم، لكن هذا الحديث يزيدها إيضاحاً.
ومن أمثلة تقريراته صلى الله عليه وسلم: ما سبق في قصة الضب، فإن خالد بن الوليد أكل الضب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه؛ فدّل أن أكله مباح.
ومن أمثلة تقريراته صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو سعيد الخدري: {أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذهبا في سفر، فأدركتهما صلاة فلم يجدا الماء، فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأمّا أحدهما فتوضأ وأعاد الصلاة، وأما الآخر فلم يعد الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أعاد الصلاة: لك الأجر مرتين -أي مرة على صلاته الأولى ومرة على صلاته الثانية- وقال للذي لم يعد الصلاة: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك} فزكى النبي صلى الله عليه وسلم عمله، وبيّن أنه هو الموافق للسنة، وأن صلاته الأولى مجزئة له.
هذه نقطة في هذه المحاضرة وهي تعريف السنة، وخلاصة هذه النقطة أن السنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي تدل على الأحكام الشرعية.
بعض الناس يقول: نستغني بالقرآن! وفي هذا العصر بالذات ظهر في الهند والعراق ومصر جماعة من الضُّلَّال المرتدين يقولون: لا حاجة بنا إلى السنة، يكفينا القرآن، ويسمون أنفسهم -أو يسميهم الناس- بالقرآنيين وهم يرفضون السنة كلها جملة وتفصيلاً، وأذكر أحدهم يقول مخاطباً لغيره من الناس:
فاحمل أزوادك واتْبَعْني يا عبد الله يكفينا زاداً في الدنيا هذا القرآن |
يكفينا زاداً في الدنيا هذا القرآن، ولعل هذا يعني إنكار السنة النبوية ورفضها، وهؤلاء لا شك مرتدون لا إشكال في ردتهم وخروجهم عن دائرة الإسلام.
بقي أن نسأل: ما موقع السنة من هذا القرآن الذي أطبق الناس -حتى هؤلاء- على الإيمان به والاعتراف بثبوته وتواتره؟
السنة هي قرينة القرآن الكريم في كتاب الله تعالى وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله - عز وجل - مخاطباً نساء النبي صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34] ويقول: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] أما آيات الله فهي القرآن وهي الكتاب، لكن ما الحكمة؟ يقول الشافعي رحمه الله سمعت غير واحدٍ ممن أرضى من العلماء يقول: الحكمة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً الحكمة هي السنة وهي قرينة القرآن، وفي كتاب الله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] أي القرآن والسنة وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] أي من القرآن ومن السنة.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً.. كتاب الله وسنتي} فقرن السنة مع القرآن الكريم.
ولذلك فالسنة مصدر تشريعي كالقرآن الكريم.
ويعجبني في هذا المقال الكلمة التي يقولها الإمام محمد بن علي الشوكاني.. يقول: إن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتقرير الأحكام الشرعية ضرورة دينية لا ينكرها إلا من لا حظَّ له في الإسلام!
فاعتبر أن ثبوت حجية السنة، وأن السنة تؤخذ منها الأحكام كما تؤخذ من القرآن ضرورة دينية لا يمكن أن ينكرها أحد إلا من لا حظَّ له في الإسلام.
قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: {بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا إله الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان} فهذا الحديث موافق لما في القرآن الكريم، فإن الله تعالى يقول:فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] ويقول: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] فهذا تضمن الشهادتين.
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة جاء فيها قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43].
والصوم جاء فيه قوله تعالى:كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183].
والحج جاء فيه قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97].
فلم يأت هذا الحديث بشيء غير ما جاء في القرآن الكريم، من جعل هذه الأشياء أركاناً يقوم عليها بنيان الإسلام، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، لما سأله عن الإيمان قال:{أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر} والحديث متفق عليه.
فهذا أيضاً جاء في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً [النساء:136].
وكما في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] إلى غير ذلك من الآيات، والقدر كما في قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر [القمر:49] إذاً هذا الحديث معناه موجودٌ في القرآن.
أيضاً الحديث المتفق عليه {عن
وكذلك يقول يحيى بن أبي كثير، ويقول الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام يقولان -كما ذكر البيهقي في كتاب المدخل-: السنة تقضي على القرآن، والقرآن لا يقضي على السنة.
وهذه الكلمة لها معنى لا بد من فهمه قبل أن يسارع الإنسان بقبولها أو ردها، فإن معنى قولهم: السنة تقضي على القرآن، معناه -كما ذكر الإمام البيهقي رحمه الله: أن السنة جعلها الله تعالى للقرآن مبينة له وموضحة مراد الله تعالى فيه، وليس المعنى أن شيئاً من السنن يأتي على خلاف ما في القرآن الكريم.
وزاد الإمام السيوطي الأمر بياناً فقال: إن القرآن يحتاج إلى توضيح وبيان، بخلاف السنة فهي بينة بنفسها فلا تحتاج إلى أن تبين بالقرآن؛ وذلك لأن السنة كالشرح للقرآن، والعادة أن الشرح يكون أبسط وأوضح من المشروح.
فهذا معنى قولهم: السنة تقضي على القرآن أي أن السنة النبوية تبين وتوضح مراد الله تعالى في القرآن، فقد يفهم الإنسان من الآية معنى، فإذا درس السنة تبين له أن هذا المعنى الذي فهمه غير صحيح، وسيأتي أمثلة عديدة لذلك، لكن لا بأس أن أعجل بمثال منها حتى يتضح المقصود:
يقول الله تعالى في محكم تنـزيله: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] فظاهر الآية يدل على أن قصر الصلاة مشروط بحال الخوف؛ لأنه قال: فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] فهذا المعنى يسبق إلى ذهن أي إنسان يسمع الآية، لكن إذا درس السنة وعرفها علم بالسنة القطعية المتواترة العملية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يقصرون في السفر، ولو لم يكونوا خائفين.
ولذلك جاء في صحيح مسلم، عن عمر رضي الله عنه [[أنه سئل فقيل له: كيف وقد أمن الناس؟ -أي: كيف نقصر وقد أمن الناس؟- فقال للسائل: عجبت مما عجبت منه، فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته]]أي أن قصر الصلاة في السفر صدقة تصدق الله بها عليكم في حال الأمن وفي حال الخوف، فاقبلوا صدقته واقصروا الصلاة ولو كنتم آمنين إذا كنتم مسافرين، هذا يوضح معنى أن السنة قاضية على القرآن.
ومن العجب أن أحد المرموقين وهو يناقش رسالة ماجستير في إحدى الجامعات مر بموضع نقل فيه الطالب هذه الكلمة، وقال الطالب: إن السنة تقضي على القرآن، فقال هذا الأستاذ للطالب -وقد سمعته في شريط مسجل بأذني- قال له الأستاذ: كيف تقول إن السنة تقضي على القرآن؟! هذه عبارة فيها سوء أدب مع القرآن الكريم، ثم استدرك الأستاذ قائلاً: مع أن العبارة ليست صحيحة، إلا أن الطالب هذا لم يأت العبارة من عند نفسه؛ بل هو ناقلٌ عن غيره، وناقل الكفر ليس بكافر! هكذا يقول: وناقل الكفر ليس بكافر.!!
يا سبحان الله! وهل صار قولنا: "إن السنة تقضي على القرآن" كفراً حتى نقول: ناقل الكفر ليس بكافر. صحيح أنه قد يقصد أن الكلمة هذه: "ناقل الكفر ليس بكافر" تجري مجرى المثل، لكن حتى وضعها في هذا الموضع ركيك جداً.
بل هي كلمة صحيحة:أن السنة تقضي على القرآن بالمعنى الذي بينت، وإذا كان هذا حكم الأستاذ على الطالب؛ أن ناقل الكفر ليس بكافر، فما حكم الأستاذ على يحيى بن أبي كثير وعلى الأوزاعي اللذين قالا هذه الكلمة وقالا: "السنة تقضي على القرآن، والقرآن لا يقضي على السنة"؟!
إننا نواجه في هذا العصر -أيها الإخوة- خصومة مفتعلة بين القرآن والسنة! عدد غير قليل؛ بل كثير من الكتاب والمؤلفين والمصنفين والمتحدثين، يفتعلون دائماً خصومة بين القرآن الكريم وبين السنة النبوية؛ ليتوصلوا من وراء ذلك إلى رد السنة بالقرآن الكريم.
ولم يعد هذا الأمر مقصوراً على المنسوبين إلى العلم، وإلى الدعوة وإلى الفقه؛ بل تعدى الأمر إلى كل من هب ودب، حتى إنني أحدثكم عن شاعرة لا تورد أمور الدين ولا تُصْدُرها، ولكنها كتبت مقالاً في إحدى الصحف، وذكرت فيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، في قصة الأعمى الذي جاء وقال: {يا رسول الله! إنني ليس لي قائد يلازمني، وأنا رجل بعيد الدار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب} والحديث في صحيح مسلم، فقالت هذه الشاعرة: هذا الحديث في متنه علة. الله أكبر! في متنه علة!! كأنك أمام أبي حاتم، أو أبي زرعة الرازي، أو الدارقطني، أو البخاري.
ما هذه العلة؟ والعلة في الواقع هي في عقلها! ما هذه العلة؟ قالت: إن هذا الحديث يعارض القرآن الكريم! كيف يعارض القرآن الكريم؟ قالت: لأن الله يقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] وهذا الحديث فيه مشقة وكلفة وحرج على الناس، فهذا الحديث ليس بصحيح! بهذه السهولة يرفض عدد ممن يتكلمون اليوم دون أن يحاسبهم أحد في قضايا الإسلام، يرفضون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد سمعت أيضاً بأذني شخصاً، وقد عرض مجموعة من الأحاديث في صحيح البخاري، ومجموعة أخرى من الأحاديث في صحيح مسلم، لكن هذه الأحاديث لم ترق له ولم تدخل مزاجه -كما يقال-! فرفض هذه الأحاديث، ولما راجعه أحد الحضور فيها، قال بالحرف الواحد: كل حديث يعارض القرآن ضعه تحت رجلك؛ الله أكبر! وقاحة، جراءة، قلة أدب، قلة حياء...!
افتعال الخصومة بين القرآن وبين السنة، ثم يرفض السنة بحجة أنها تعارض القرآن، والمعارضة هي في عقولهم القاصرة، وليست في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والغريب أن بعضهم يحتجون بحديث نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الحديث سيفشو عني، فما آتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني} وهذا الحديث غير صحيح، بل هو ضعيف فإن في إسناده خالد بن أبي كريمة، وهو ضعيف، وهو أيضاً منقطع لأن الحديث ينتهي إلى أبي جعفر وليس بصحابي وجميع طرق الحديث ضعيفة لا تصح.
ولا يحتج كذلك بحديث{إن ما أتاكم يوافق القرآن فاقبلوه، وما أتاكم يعارض القرآن فردوه} ولا يعتبر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث ليس يخالف القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين معنى ما أراد الله تعالى، خاصاً أو عاماً، ناسخاً أو منسوخاً، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبل.
وهؤلاء الذين يعترضون ويفتعلون الخصومة بين القرآن والسنة؛ يتهمون الأمة بأنها لم تكن تفقه كتاب الله تعالى، يتهمون الأمة وبالذات العلماء الذين دونوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم لم يكونوا يفقهون القرآن، ولذلك أثبتوا هذه الأحاديث المعارضة للقرآن، حتى جاء هؤلاء في القرن العشرين بعدما غلب الجهل وقل العلم، وغلب على الناس الهوى، فبدءوا يفهمون القرآن، ويرفضون السنة بمقتضى هذا الفهم الذي فهموه من كتاب الله تعالى، وهذه تهمة للأمة كلها في جميع أجيالها السابقة.
وأمرنا بالصوم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] لكن هل نجد في القرآن الكريم صفة الصلاة، أو مقادير الزكاة، أو صفة الحج، أو صفة الصوم؟ كلا! لا نجد ذلك، لكننا نجد في السنة تفصيلاً للصلاة حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه صلاةً تامةً، وقال لهم:{صلوا كما رأيتموني أصلي}.
وتفصيل حج النبي عليه الصلاة والسلام ومعه عشرات الألوف من أصحابه، ينتقلون معه من مكة إلى منى إلى عرفة إلى مزدلفة إلى الجمرات، إلى الطواف إلى السعي وهو يقول لهم: {خذوا عني مناسككم} فنقلوا تفاصيل أفعاله صلى الله عليه وسلم، وهكذا نقلوا مقادير الزكاة، وأحكام الصيام.
ولذلك لعل من الطريف أن أذكر القصة التي رواها البيهقي عن شبيب بن أبي فضالة: [[أنه كان جالساً عند
يقول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فقد وعد الله المؤمنين الذين لم يخلطوا إيمانهم بشيء من الظلم؛ أن لهم الأمن يوم القيامة وهم مهتدون في الدنيا، ولو أردنا أن نأخذ الآية بمقتضى اللغة العربية البحتة فقط، لقلنا: يدخل في ذلك كل ظلم، ظلم الإنسان لنفسه، وظلم الإنسان لغيره، فمن ظلم ولو قضيباً من أراك فليس من أهل هذه الآية، لكن جاء الحديث النبوي مبيناً لمعنى هذه الآية كما في الصحيحين: {أن الصحابة لما سمعوا هذه الآية شق ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس كذلك، إنه الشرك، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم؟!} فبين صلى الله عليه وسلم أن قوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] معناه: لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
مثال آخر- وإن كان قد سبق- وهو قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101] فقد بينت السنة أن شرط الخوف غير معتبر للقصر.
كذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] فهذه الآية عامة تدل على وجوب الإنفاق من جميع الطيبات، لكن بينت السنة أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كما في حديث أبي سعيد في الصحيحين: {ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة} إذاً فمعنى الآية: أنفقوا من طيبات ما كسبتم، مما كان خمسة أوسق فصاعداً، أما ما كان دون خمسة أوسق فلا زكاة ولا صدقة فيه.
ومثله آيات المواريث، خصصها قوله صلى الله عليه وسلم: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركنا صدقة} فالمواريث لا تجري على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل ما تركوه وراءهم فإنه لا يرثه أقاربهم بل هو صدقة.
ومثله: قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] فقد بينت السنة أن من الميتات ما هو مباح، وهي ميتة الحوت والجراد، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عند أصحاب السنن والبيهقي وسنده صحيح موقوفاً قال: {أحل لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت}.
وكذلك قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] هذا دليل على تحريم جميع الدماء، لكن الحديث السابق نفسه دل على أن من الدماء دماء مباحة حلال، وهي الكبد والطحال.
قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] دلت السنة النبوية على تحريم كل ذي نابٍ من السباع، كما في الحديث في الصحيحين:{كل ذي ناب من السباع فأكله حرام}.
ومثله قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32] هذه الآية دليل على إباحة جميع الزينة، فظاهر الآية يدل على إباحة جميع الزينة، لكن دلت السنة على أن هناك زينة محرمة، وهي الحرير والذهب للرجال، كما في قوله صلى الله عليه وسلم وقد خرج وبيده قطعة من الذهب وقطعة من الحرير، فقال:{هذان حرام على ذكور أمتي حلٌ لإناثها}.
والأمثلة كثيرة، لكن من خلال سرد هذه الأمثلة؛ يتبين لكم أن القرآن لا يمكن أن يستغنى به عن السنة بحال من الأحوال، وأن الاستغناء بالقرآن عن السنة ضلالٌ أي ضلال.
وكذلك بينت أن اليد في قوله: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] إنما تقطع من مفصل الكف، كما ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه رضي الله عنهم، وإلا لما كنا نعلم المقصود باليد.
ومثله قوله تعالى في التيمم: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43] لا ندري ما المقصود باليد؟ هل اليد إلى مفصل الكف، أم اليد إلى المرفق، أم هي اليد إلى الكتف؟ لا ندري، القرآن قال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43] لكن جاءت السنة لتبين أنه يمسح بالكف أي إلى الرسغ، كما في حديث عمار المتفق عليه: {أنه صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر كفيه ووجهه} واليتيم ضربة للوجه والكفين.
فجاءت السنة بأشياء كثيرة بينها النبي صلى الله عليه وسلم، تدخل تحت هذه الآية، ومن ذلك: ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله تعالى وسقاه} فكونه جعل الناسي إذا أكل أو شرب وهو صائم معذوراً يتم صومه، قد يكون مفهوماً فهمه النبي صلى الله عليه وسلم من الآية السابقة، وهذا البيان الذي ربما أكون أستطرد فيه بعض الاستطرات -بيان السنة للقرآن الكريم- كما يقولون: يضع النقاط على الحروف، بحيث لا يستطيع أحد أن يتلاعب بالقرآن الكريم إذا وجدت السنة، ولذلك كان السلف يعتمدون في جدال أهل البدع على السنة.
روى اللالكائي والدارمي عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: [[سيأتي أناسٌ يجادلونكم بمتشابهات القرآن فجادلوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]] فبين أن أهل البدعة سوف يجادلون بمتشابهات القرآن، وسبحان الله! هذا هو الذي وقع، فإن أهل البدع يتكئون كثيراً على عمومات موجودة في القرآن الكريم، جاء في السنة ما يبينها، أو يقيد مطلقها، أو يخصص عامها، أو ما أشبه ذلك.
ومثل ذلك: ما رواه ابن سعد في طبقاته من طريق عكرمة عن ابن عباس: [[أن
وكذلك روى سعيد بن منصور، والبيهقي في المدخل، عن إبراهيم التيمي: أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى ابن عباس يسأله يقول له: كيف تختلف هذه الأمة وربها واحد وكتابها واحد ونبيها واحد؟ يتعجب عمر رضي الله عنه من احتمال اختلاف الأمة مع أن ربها واحد وقرآنها ونبيها واحد.
فقال ابن عباس رضي الله عنه: [[يا أمير المؤمنين! إن القرآن نـزل علينا فعلمنا فيم نـزل، وسيأتي أقوام لا يعلمون فيم نـزل القرآن، فيختلفون في تفسيره، فإذا اختلفوا تنازعوا، فإذا تنازعوا اقتتلوا]].
وهذا هو الواقع اليوم! انظر كم من الناس مَنْ يفسرون القرآن الكريم، أعداد هائلة من الناس يفسرون القرآن! بل إنني ألحظ أن كثيراً من أهل البدع لهم تفاسير للقرآن الكريم، ويتكئون على القرآن الكريم، ويرفضون السنة؛ لأن القرآن أتى بأصول وقواعد وكليات عامة، يحاولون أن يفهموا منها ما شاءوا، وكم من إنسان صاحب بدعة حاول أن يستر بدعته بظاهرٍ فهمه من كتاب الله تعالى أو رد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى غير صحيح ألصقه بالقرآن الكريم! وهكذا.
فالوظيفة الأولى: أن السنة تأتي مقررةً لمعنى جاء في القرآن الكريم.
والوظيفة الثانية أن السنة تأتي مبينةً وشارحةً للقرآن الكريم!
وأمثلة ذلك كثيرة لعل منها حد الرجم للزاني المحصن، والذي أجمع عليه أهل العلم، فإنه لم يرد في القرآن الكريم، وكذلك النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، لم يرد في القرآن الكريم، وكذلك النهي عن كل ذي نابٍ من السباع وكل ذي مخلب من الطير، لم يرد في القرآن الكريم... إلى غير ذلك.
ولذلك قال الله عز وجل لرسوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] أي: تدربهم على الفضائل، وتنقيهم من الرذائل. هذه هي الوظيفة الثانية: ويزكيهم.
الجواب: قد يكون في النية شيءٌ من ذلك، لكن متى؟ قل عسى أن يكون قريباً.
الجواب: أما كونه زواجه صلى الله عليه وسلم لحكمه، فلا شك أنه لحكمة، أما أن تعدد الزوجات خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ينقضه القرآن يقول الله عز وجل: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] فبين أنه يجوز للإنسان أن يتزوج بواحدة واثنتين وثلاث وأربع، أي أن أقصى حد أربع (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3].
الجواب: في الواقع أنا لم يكن حديثي عن مسألة الإعجاز العددي في القرآن بذاتها، كان حديثي عن استغلال رشاد خليفة للإعجاز، أو لجوانب من الإعجاز العددي؛ ليدعم به دعواه الكاذبة في أنه نبي يوحى إليه، نعم يوحى إليه من قبل الشيطان، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].
الجواب: هناك دراسات كثيرة في عدد من البلاد الغربية، وفي هذه البلاد في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وقد توصلوا إلى أن في أحد جناحي الذباب داء، وفي الجناح الآخر دواء يقاوم الداء الموجود في الجناح الآخر.
الجواب: أحمد ومحمد كلاهما اسمان للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما مشتقان من الحمد، فهو في القرآن والسنة أحمد ومحمد، وهذان من أسمائه، وله صلى الله عليه وسلم أسماء أخرى غير هذه.
الجواب: لو كان هذا مجرد فعل من النبي صلى الله عليه وسلم، كان يمكن أن يقول مُشَبِّهٌ ومُلَبِّسٌ على الناس مثل هذا، لكن الرسول عليه السلام لم يكتف بمجرد الفعل حتى شفعه بالقول، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} وقال في الحديث الآخر: {من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه} وفي الحديث الثالث قال: {حد الإزار هكذا، فإن أبيت فهكذا، فإن أبيت فهكذا، ولاحظَّ للكعبين في الإزار}... إلى أحاديث كثيرة جداً قولية من قول النبي صلى الله عليه وسلم، تدل على تحريم إسبال الإزار: {وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة}.
الجواب: أما بالنسبة للأكل بثلاثة أصابع، وإن كان هذا -لا شك- يختلف بحسب نوع الطعام الذي يأكله الإنسان، لكن هذا من الآداب المتعلقة بالأكل، والتي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها أمته؛ لما في ذلك من البعد عن الجشع والنهم في أكل الطعام.
وكذلك التيامن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن، وقد أمر بذلك في قوله:{إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم، وإذا لبستم} وهو عند ابن حبان وسنده صحيح، فأمر بالبدء باليمين في اللباس، وكان يعجبه صلى الله عليه وسلم، وله في ذلك أحاديث كثيرة، فالبدء باليمين سنة مستحبة.
و استعمال الطيب كذلك هو من هديه صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من الرائحة الطيبة والتجمل للناس، وهو أمر محمود ومشروع في هديه عليه السلام قولاً وفعلاً.
ارتداء البياض كذلك ورد في سنة قولية من قوله صلى الله عليه وسلم:{البسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم} وقد ورد هذا الحديث من طرق.
وكذلك الإسراع في المشي، فإنه يدل على القوة والبعد عن التماوت والذل، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يفعلونه من بعده، فهو سنة مستحبة مأثورة.
الجواب: أولاً: أخطر شيء أن يرفض الإنسان السنة بأكملها، فهذا الذي يعتبر مرتداً خارجاً عن الإسلام، واحد يقول: أنا لا أقبل السنة، يكفيني القرآن هذا مرتد، لكن واحد يقبل السنة، وإنما هناك أشياء لضعف إيمانه، وقلة علمه، وقلة فقهه، يمكن أن يتوقف فيها أو يردها، فهذا لا نقول: إنه يكفر بهذا الأمر، كما سأل الأخ عن حكمه لكن لا شك أنه ناقص الإيمان، وقد يكون عاصياً بحسب ما وقع فيه.
وأما أن السنة لم تسلم من التحريف، فصحيح أن هناك من وضع على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، ولعلني أفرد محاضرة خاصة بالوضع في السنة النبوية، ولكن هذه الأحاديث التي وضعها الوضاعون يعيش لها الجهابذة، فما من حديث وضع إلا وتكلم العلماء فيه، وبينوا أنه موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان العلماء يسافرون الأيام الطوال إلى مصر والشام والحجاز والعراق وخراسان ومرو وغيرها، بحثاً عن حديث واحد، أو للقاء راوٍ واحدٍ والتأكد من روايه، والأخذ عنه مباشرة.
الجواب: في الواقع أن ما يتعلق بتقصير الثوب إلى منتصف الساقين أمر ورد به أحاديث في السنة، وورد من فعل بعض الصحابة، ومن فعله لا يمكن أن يلام على هذا الأمر أو يَثَّربَ عليه؛ لأن من فعل سنة واردة فليس لنا حق أن نلومه، لكن إن كان يسأل عما نعتقد أنه أحسن في هذه الظروف فقط، فهو ألا يقصر الإنسان ثوبه تقصيراً يلفت إليه النظر، بل عليه أن يكون ثوبه فوق الكعبين، ولا يكون مرتفعاً ارتفاعاً يلفت إليه النظر، ويكون مدعاةً إلى أن يقع الناس في عرضه، ويرفضوا ما لديه من الخير والدعوة؛ لأنه داعية يريد أن يدعو الناس إلى صلاة الجماعة، وتربية الأولاد، ترك الربا وترك الحرام وإلى تجنب آلات الملاهي، له أغراض كثيرة مع الناس، فإذا تمسك بهذه السنة حرم الناس من خير كثير، نقول: ترك الأولى تحصيلاً لأمور ومصالح عظيمة قد يكون هو الأفضل، وهذا أمر يدرك بالعقل والحساب، خاصةً أننا نجد في السنن أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتة وصحيحة، تدل على أن تقصير الثوب إلى ما فوق منتصف الساقين لم يكن أمراً مطرداً موجوداً بين الصحابة في جميع الظروف.
أرأيت ما في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس، خرج فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة} لو كان إزار النبي صلى الله عليه وسلم فوق منتصف الساق؛ لما كان يعقل أن ينـزل إلى حد أن يجره من العجلة، كذلك حديث أبي بكر في البخاري {لما قال: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي -أي ينـزل دون الكعب- إلا أن أتعاهده، فقال: لست ممن يصنعه خيلاء} لا يعقل أن يكون إزار أبي بكر فوق منتصف الساق، ثم ينـزل بالاسترخاء إلى أن يكون دون الكعبين.
لكن هذه الأشياء لا تمنع من القول بأن رفع الإزار إلى ما فوق منتصف الساق سنة، لا تمنع من أن نقرر أن هذا سنة حسب ما يظهر لي الآن، ولا مانع أن يترك الإنسان الأولى إلى أمر مباح وجائز بلا خلاف، وهو أن يرسل ثوبه فوق الكعبين لتحصيل مصالح كبيرة لا تخفى على إنسان يعيش في هذا العصر.
الجواب: ملحظ جيد، فليست الحكمة في الدعوة تعني دائماً الضعف، بل الحكمة هي وضع الأمر في موضعه، ولذلك يقول الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى |
فوضع الضعف في موضع القوة ليس من الحكمة، ووضع القوة في موضع الضعف ليس من الحكمة، هناك شخص لا يصلح له إلا القوة، والحكمة أن تأخذه بالشدة، وهناك شخص لا يصلح له إلا اللين، والحكمة أن تأخذه باللين، وهناك وقت لا يصلح له إلا اللين، وهناك وقت آخر لا يصلح له إلا الشدة.
الجواب: الشيعة باعتبارهم طائفة، والمقصود بـالشيعة الإثني عشرية الجعفرية؛ حكم جماعة من العلماء بأنهم ليسوا مسلمين، وهذا مذهب الأئمة الأربعة؛ بل نقل الإجماع عليه عدد من العلماء كـالسمعاني في الأنساب والملا علي القاري وغيرهم، نقلوا الإجماع على أن الشيعة غير مسلمين، لكن هذا لا يعني تكفير أعيانهم وأفرادهم، فقد يكون الواحد منهم شيعياً، لكن لا يدري ما عقيدة الشيعة، ولا يؤمن بالخرافات والأباطيل الموجودة في كتبهم.
الجواب: التشريع يشمل الواجب والمستحب، وفعل الواجب وفعل المستحب، ويشمل ترك المحرم وترك المكروه، وهذا ما جاءت به السنة، أما المباح فإن الإنسان ليس ملزماً به، وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة والجبلة أو ما أشبه ذلك، فليس موضع قدوة واتباع.
الجواب: لا شك أن هذا السؤال سبقت الإجابة عليه في عدد من الدروس، وطبعت في كتاب بعنوان" حوار هادئ مع الغزالي" يمكن للسائل أن يطلع عليه.
الجواب: سؤال جيد، في الواقع الكتب التي دافعت عن السنة كثيرة، أذكر منها: كتاب"السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للشيخ مصطفى السباعي، وأذكر منها كتاب"السنة قبل التدوين" لـمحمد عجاج الخطيب، وكتاب"دفاع عن أبي هريرة" لـعبد المنعم صالح العلي، وكتاب" معنى السنة وبيان الحاجة إليها" للشيخ سليمان الندوي، وكتب أخرى كثيرة، وهناك كتاب "الحديث النبوي" للصباغ، و"دفاع عن الحديث النبوي" نسيت مؤلفه الآن.
الجواب: هذا الحديث له قصة، كما في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أهل المدينة مهاجراً من مكة، ومكة كما تعلمون ليس فيها نخل، فلما جاء إلى أهل المدينة، وكانت بلداً فيه نخل كثير، رأى أنهم يلقحون النخيل، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما أظن أن هذا يغني عنه شيئاً -أي ما أظن أن هذا التلقيح ينفع شيئاً أو أنه ضروري- فلما سمع بعض الأنصار كلام النبي صلى الله عليه وسلم تركوا تلقيح النخل، فخرج شيصاً، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ماله؟ قالوا: سمعناك تقول كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما ظننت ظناً فإذا حدثتكم عن الله فخذوه، وإذا حدثتكم عن الدنيا فأنتم أعلم بأمور دنياكم}.
وهذا من الأشياء التي تعلم -كما ذكرت - بمقتضى الخبرة والتجربة، وليس لها مدخل في التشريع، فإن المزارع أدرى من غيره في أن النخل يحتاج إلى تلقيح كما يحتاج إلى سقي، وكذلك التاجر أعرف بكيفية إدارة الصفقات التجارية من الناحية العادية البحتة، وليس من الناحية الشرعية، ولذلك الرسول عليه السلام في أول الحديث قال: {ما أظن يغني شيئاً} فبين أن هذا مجرد ظن سبق إلى ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس وحياً من عند الله تبارك وتعالى.
الجواب: المذاهب تختلف في الأعمال المسنونة بل وفي الواجبات، فقد يكون العمل واجباً في مذهب ومحرماً في مذهب آخر، كمواقيت الصلوات؛ صلاة الظهر مع صلاة العصر، كذلك ما يتعلق بالحيض قد تكون المرأة حائضاً عند مذهب وطاهراً عند مذهب آخر، فمن يقول حائض يحرم عليها الصلاة، ومن يقول طاهر يوجب عليها الصلاة... وهكذا، لكن على الإنسان أن يجتهد في معرفة الحق، فإن كان طالب علم بحث في المسألة، وما ترجح عليه أخذ به، وإن كان عامياً مقلداً فإنه يقلد من يثق بدينه من الأحياء أو من الأموات، يقلد أحمد، أو الشافعي، أو أبا حنيفة، أو مالكاً، أو يقلد عالماً من العلماء المعاصرين كـابن باز، أو ابن جبرين، أو ابن عثيمين، أو غيرهم من علماء المسلمين الموثوقين، وهو مأجور إن شاء الله فيما أخذ به في ذلك.
الجواب: ليس بواجب، بل على الإنسان إن كان قادراً على الأخذ بالدليل أن يأخذ به، وإلا اتبع من يثق بعلمه كما سبق، من الأحياء أو من الأموات، وله أن يترك المذهب الذي يتمذهب به في أي مسألة إذا عرف أن الحق في خلافها، فحتى لو كنت عامياً وأنت مقلد -مثلاً- للشافعي، ثم سمعت أحد العلماء يقرر مسألة على خلاف مذهب الشافعي، واقتنعت بتقريره، فإنه يجب عليك أن تأخذ بقول هذا العالم، وتترك مذهبك في هذه المسألة.
الجواب: لا شك أن لعن الإنسان العادي؛ بل لعن الفاسق المعين لا يجوز، فلا يجوز أن تقول: لعن الله فلاناً لأنه يشرب الخمر، فكيف بالمسلم العادي؟! فكيف بالعالم من العلماء كالأئمة الأربعة الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم؟! لا شك أن الذي يلعنهم هو أحق باللعن، ويجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، ويجب على من يسمع منه هذا أن ينهاه ويزجره، فإن ازدجر وإلا فيرفع أمره إلى ولاة الأمر ليعزر هذا الإنسان ويؤدب.
الجواب: الإلهام نوع من الوحي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب} ومثل ذلك أحاديث كثيرة، فالإلهام نوعٌ من الوحي.
الجواب: ترد عليه بردود منها: أن تقول: قد كفيت المؤنة، فعندك صحيح البخاري وصحيح مسلم، كل ما فيهما صحيح، وقد اتفقت الأمة على تلقيهما بالقبول، ولهما من الجلالة والمكانة والمهابة ما هو معروف، فعليك بـالصحيحين فكل ما فيهما صحيح، ثم ما عدا الصحيحين فإنك تأخذ بأقوال أهل العلم في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وكل عصر له علماؤه الذين يسهلون للناس هذه الأشياء، فبإمكانك مثلاً أن تستفيد من كتب الشيخ الألباني باعتبارها كتباً مرتبةً وميسرة، وإن كان حكمه لا يلغي حكم غيره فتنتفع بذلك، أما كونك تترك الأحاديث كلها باحتمال أن يوجد من بينها ضعيف فهذا ليس بصحيح.
هل هناك أحد يترك أكل الطعام لأن هناك طعام قد يكون مسموماً؟! إذاً لمات جوعاً..!
الجواب: مرتد زنديق لا يستتاب، بل يجب أن يقتل حتى ولو تاب، ومن أراد المزيد من ذلك فعليه مراجعة الكتاب القيم" الصارم المسلول على شاتم الرسول" للإمام ابن تيمية.
الجواب: إن كان يكذب الأحاديث بناءً على دراسة، يكذب أحاديث معلومة لأن هذا الحديث فيه فلان وهو كذاب، وفيه فلان وهو وضاع فهذا لا بأس، أما إن كان يكذب الأحاديث بمجرد رغبته وشهوته، فهذا من أهل البدع المفتونين عن دينهم نسأل الله لنا ولهم الهداية.
الجواب: هذا حديث صحيح، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي رافع، في سنن أبي داود والبيهقي، وسنده صحيح، وجاء عن غيره من الصحابة، وهو علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، ونحوه جاء عن المقدام بن معد يكرب عند أصحاب السنن والبيهقي وأحمد.
خاتمة:
جزاكم الله خيراً على صبركم على هذه المحاضرة، التي قد يكون فيها شيء من الجفاف بحكم أن موضوعها -كما ذكرت لكم في البداية- موضوع علمي، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب مجلسنا هذا في ميزان حسناتنا، إنه على كل شيء قدير، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر