إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اشتملت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على أحكام مهمة ذكرها الفقهاء في بيان ما ينبغي أن يلتزم به الخطباء، وبعضهم جعلها من أركان الخطبة، ومن ذلك: البدء بالحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع الصوت، والإرشاد إلى الهدي الصحيح، والتحذير من البدع والضلالات.

    1.   

    شرح حديث جابر في صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله..) ].

    ابتداء الخطبة بالحمد والثناء على الله

    كلام جابر فيه شيء من الإيجاز أو الاختصار، وقوله: (إذا خطب)، أي: إذا شرع في الخطبة. ويتفق العلماء على أن الخطبة ينبغي أن تبدأ بحمد لله، ويقولون: إن الخطيب يبدأ بالسلام على المصلين، فإذا سلم عليهم جلس وقام المؤذن وأذن الأذان الذي هو إشعار بدخول الوقت، وقد يسبقه أذان آخر قبل الوقت -وهذا هو الغالب- للتنبيه، وهو أذان عثمان رضي الله عنه، وهو خليفة راشد أنشأ هذا الأذان إشعاراً لأهل السوق؛ لينتبهوا لدخول الوقت، فينقلبوا إلى بيوتهم ليتهيئوا، وليسعوا إلى الجمعة.

    وقد يقول قائل: وكيف أنشأ عثمان هذا الأذان ولم ينشئه أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهم أجمعين؟

    فيقال: سيأتي في باب الغسل يوم الجمعة أن عمر رضي الله عنه كان يخطب، فدخل رجل -وسماه في الموطأ أو غيره بأنه عثمان رضي الله عنه- فقال عمر : أية ساعةٍ هذه؟ يعني: لم تأخرت؟ وقد جاء في بعض الروايات: (لم تحبسون عن الصلاة؟)، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أن سمعت الأذان حتى توضأت وجئت، فقال: والوضوء أيضاً!

    فهنا رأى عثمان رضي الله عنه أن الاشتغال في السوق -كما وقع له- قد يشغل الناس، فيحتاجون إلى ما ينبههم قبل الوقت، فلما كانت الخلافة إليه أنشأ هذا الأذان قبل الوقت، وكان ينادى به على الزوراء، والزوراء كانت عندما يسمى اليوم بالباب المصري، وكان هناك مسجد صغير يقال له: مسجد الزهراء، وكان البعض يظن أنه لـفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن التحقيق أن (الزهراء) محرفة عن (الزوراء)، وكان -كما يقولون- عند مخازن الزيت أو أحجار الزيت.

    فهناك كان الزوراء، وقد وقفت على صكٍ لبعض الأشراف يحدد ملكاً بموقع الزوراء بهذا النص، وهو مكتوب في سنة ألف ومائتين، فالزوراء كانت في منتهى امتداد السوق وخارج السور الذي هدم أخيراً عند الباب المصري كما يسمونه، أو عند سوق الحراج القديم، فـعثمان رضي الله عنه جعل أذاناً هناك، وكان هناك سوق المدينة، فكان يؤذن في ذلك المكان إعلاماً للناس بقرب الوقت فينطلقون إلى بيوتهم يتهيئون ويسعون إلى الجمعة، فإذا ما صعد الإمام على المنبر جلس وقام المؤذن يؤذن.

    وقد جاء في صحيح البخاري في باب رجم الزاني: أن عمر رضي الله عنه جلس على المنبر حتى فرغ المؤذنون، فقام وحمد الله.

    فأول ما يفعله الإمام أو الخطيب أنه إذا جاء سلّم على من عند المنبر، ثم يصعد المنبر فيسلم على الناس من فوق المنبر، ثم يجلس ينتظر المؤذن حتى يفرغ من أذانه، فإذا أذن قام للخطبة.

    ويتفقون على أن الخطبة تبدأ بحمد لله، وهذا كما في الحديث: (كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ بحمد لله أو باسم الله فهو أبتر) ، فيبدأ فيحمد الله ويثني عليه سبحانه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يوصي بتقوى الله، ثم يأتي بآية من كتاب الله أو سورة قصيرة، والأولى أن تتناسب مع موضوع الخطبة.

    فهنا جابر يقول: (ويقول: أما بعد)، و(أما بعد) يجب أن تكون بعد كلام، ولا تكون في افتتاح الكلام أبداً، فهي مشعرة بأن قبلها كلام، وهذا الكلام هو الذي اتفقوا على أن يبدأ به الخطيب، وهو حمد الله والثناء عليه.

    وهنا تظهر براعة الخطيب في حسن الاستهلال، فهو إذا قام حمد الله وأثنى عليه بواسع الرحمة، وأثنى عليه بواسع المغفرة، وأثنى عليه بواسع فضله، وأثنى عليه بجزيل نعمه، فينظر الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه فيأتي بالثناء على الله بما يشعر بذلك، وهذا -كما نبهنا عليه- هو براعة الاستهلال، وكلما كان الخطيب بليغاً كان أعلم بمداخل الكلام وإيجازه، فيجمع المعنى الكثير في القول القليل، وسيأتي الحديث بعد عن هذا المعنى.

    الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

    فإذا حمد الله وأثنى عليه صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر نفسه باسمه (محمد)، فما كان يقول: اللهم صل عليَّ، بل يقول: اللهم صل على محمد لأن ذلك تشريع؛ ليأتي بعد ذلك من يخطب مقامه ومكانه فيأتي بهذا الاسم، ويسمي النبي صلى الله عليه وسلم باسمه.

    فقوله: (أما بعد) أي: بعد تلك المقدمة وهي التي ينبغي أن يأتي بها الخطيب في أول خطبته.

    قوله: (خير الحديث كتاب الله)

    وقوله: (فإن خير الحديث كتاب الله) هذا هو نص القرآن الكريم، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23]، فهذا هو كتاب الله الذي تطمئن به قلوبهم: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فالقرآن هو أحسن الحديث.

    وهذه الآية الكريمة: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً [الزمر:23]، تفيد أنه لا ينبغي للعاقل أن يشتغل بغير كلام الله؛ لأن كلام الله هو خير الحديث، فإذا لم تكن لك حاجة في موضوع آخر فليكن شغلك بكلام الله تلاوة ودراسة وفهماً وتمعناً، بأي وجه من الوجوه؛ لأنه خير الحديث، ولأنه خير الكلام.

    قوله: (وخير الهدي هدي محمد)

    وأما قول الخطيب: (وخير الهدي هدي محمد) فقد ضبطه العلماء بوجهين:

    (خير الهَدْي)، و(خير الهُدَى)، والكتابة لا تختلف، فالهَدْيُ: هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهدى الناس إليه، والهُدَى: ما هَدى الله به عباده عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول كقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] .

    وقوله: ( هدي محمد).

    محمد هو رسول الله، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدي هديي)؛ لأن الخطيب الذي يجيء بعده إن قال (خير الهدي هديي)، فليس له حقٌ في ذلك، وهذا في أساليب البلاغة يسمى التجريد، كما قالوا في قول امرئ القيس :

    قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

    فهو يحدث نفسه وما عنده أحد، لكنه أوجد أو تخيل شخصية أخرى يخاطبها، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بالحقيقة فيقول: (خير الهدي هدي محمد)، ومحمد هو رسول الله كما نص القرآن الكريم، فخير الهدي الذي يهتدي به الإنسان في سلوكه واتباعه ومنهجه هدي محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

    وفي بعض الروايات: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) بذكر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وبعض الروايات بدون الصلاة، ونحن يجب علينا أن نصلي إذا ذكرنا اسمه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث: (رغم أنف امرئ ذكرتَ عنده فلم يصل عليك)، فإذا جاء اسمه صلوات الله وسلامه عليه في أي مناسبة باسم (نبيٍ) أو (رسولٍ) أو (محمد) فإنه يجب عليك أن تصلي وتسلم عليه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

    قوله: (وشر الأمور محدثاتها)

    قوله: (وشر الأمور محدثاتها).

    إذا جئنا إلى اللفظ الأول فإنه إذا كان خير الهدي هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فمفهومه أن شر الأمور ما خرج عن هدي محمد، كما جاء: (كل أمرٍ ليس عليه أمرنا فهو رد)، أي: مردود، ولكن هنا يأتي بالمعنى المفهوم صريحاً فيقول: (وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها).

    والأمور جمع أمرٍ، ويجمع على (أمور) لا على (أوامر)؛ لأن كلمة (أمر) تجمع على (أمور) وهي الآحاد من الأحداث والوقائع، وتجمع على (أوامر)، وهي صيغ (افعل): (اكتب واجلس واقرأ وأحفظ)، فكل هذه أوامر. فمعنى الأمور هنا: أحداث الحياة.

    و(محدثاتها): مأخوذة من أصل المادة: (حدث)، والحدث والإحداث يقال: شيء حادث، بمعنى: استجد بعد أن لم يكن، فشر الأمور بدون استثناء هي محدثاتها؛ ولكن يبنغي أن يعلم أن هذه الأمور المستحدثات التي هي شر كائنة في مقابل الهدي، أي: الأمر الديني الذي يترتب عليه ثوابٌ أو عقاب.

    فيقول هنا: (شر الأمور محدثاتها)، فلا يدخل تحت هذا الشر من المستحدثات ما كان من شئون الدنيا، وما كان لأهلها، فقد استحدثت صور عديدة في الحياة في المآكل والملابس والمشارب والمراكب وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] وجاءت أدوات ومستحدثات وصور أحدثها الإنسان استجابة لتطور الحياة، فلا يقال: تلك المستحدثات شرٌ لأنها داخلة في عموم (شر الأمور محدثاتها)! إذ ينبغي أن يراعى أنه جاء اللام في (الأمور) في مقابل قوله: (وخير الهدي هدي محمد)، أي: في الدين.

    وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك غاية الإيضاح، وذلك في قضية تأبير النخل لما رآهم يؤبرون النخل بقلع الذكر، وقال: (لمَ تفعلون؟ قالوا: لأن يلقح. قال: إن أراد الله لكم شيئاً جاء، فتركوا التلقيح في ذلك العام، فجاء النخل كله بثمرٍ شيص -أي: ليس ملقحاً- فلما قالوا له: يا رسول الله! تركنا وكان كذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم )، فأمور الدنيا لا تدخل في باب البدع، حتى اللباس، فلكل إنسان أن يلبس على طريقته ما لم يكن شعاراً خاصاً بغير المسلمين، كربط الزنار الأحمر الذي يشده أولئك الرهبان والقساوسة على وسطهم.

    وكذلك القبعة التي هي شعار للنصارى أو لغيرهم، فهذا شعارٌ لهم لا ينبغي لمسلم أن يتزين به، أما بقية أنواع الأزياء، أو أنواع المآكل أو المشارب فجائز ما لم يكن في محرم، كأن يستعمل أواني الذهب والفضة، فذلك ممنوع.

    وعلى أي طريقة جلس فلا مانع، سواءٌ جلس على مائدة أو على خوانٍ في الأرض، فكل ذلك لا حرج فيه، فقوله: (وشر الأمور محدثاتها) منصبٌ على من أحدث في الدين ما ليس فيه.

    ولهذا جاء عن إمام دار الهجرة رحمه الله مالك بن أنس قوله: (ما لم يكن ديناً في أول الإسلام لن يكون ديناً في آخره)، ويقول: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا على ما صلح عليه أولها).

    قوله: (وكل بدعة ضلالة)

    قوله: (وكل بدعة ضلالة):

    هناك جملة تأتي في بعض الروايات، وهي: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ليتم التركيب المنطقي كما يقولون، فتكون كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فينتج أن كل محدثة في النار، فهذا التركيب اختصره الراوي في هذه العبارة، وأسقط الجملة الوسطى: (كل محدثة بدعة)، وهذا يتوافق مع المعنى اللغوي؛ لأن الشيء الذي أحدث لم يكن موجوداً، أي: ابتدع.

    والبدعة مأخوذةٌ من الإبداع، والإبداع: إيجاد الشيء على غير هيئة سابقة، كما في قوله سبحانه: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]، أي: خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق حاكاه، ومنه قوله تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:9] أي: ما أنا أول من جاء بالرسالة، بل سبقني بالرسالات أنبياءٌ عديدون، وأنا جئت على أثرهم.

    ويستوقفنا هنا مجيء الحديث الآخر: (من سنة سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فقالوا: كيف يسن إنسان سنة حسنة؛ إذ يمكن أن يسن سنة سيئة، ولكن كيف يسن سنة حسنة؟

    والجواب: إن معنى (سن سنة حسنة)، أحيا سنة تركها الناس، أو أتى بعملٍ له أصلٌ في الإسلام.

    وأصل هذا الحديث أنه لما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين ليتصدقوا على الذين جاءوا مجتابي النمار وعليهم أثر الفاقة، وكان يوم الجمعة، فندب الناس ليتصدقوا فجاء بعضهم بالسويق وجاء بعضهم بثوب، وجاء بعضهم بالدرهم، إلى أن جاء رجلٌ بكيس يحمله في يده وألقاه بين يدي رسول الله وقد كادت يده تعجز عن حمله، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وتتابع الناس بالمبالغ الكبيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة)، أي: صاحب هذا الكيس سن سنة حسنة للمتصدقين، ونقلهم عن السويق والثياب وغير ذلك إلى المبالغ الكبيرة، فهذا له أصل وهو الندب إلى الصدقة، والناس مشوا على القليل فسن لهم سنة حسنة، فكان ممن سن سنة حسنة.

    وقد جاء في الحديث أنه أحيلت الصلاة ثلاث مرات، ومما أحيلت فيه أنه كان المسبوق يأتي ويسأل الرجل في الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه أنهم قد صلوا واحدة أو اثنتين، فيأتي بالركعتين أو بالركعة التي فاتته، ويلحق الإمام في الصلاة، ويسلم مع الإمام؛ لأنه أتم صلاته، فما كان فاته فقد أتى به ثم أدرك الإمام ومشى معه، فقال معاذ : لن أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وتابعته عليها، فجاء وقد صلوا بعض الصلاة، فدخل حالاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف معاذ ما الذي بقي عليه من صلاته فقام وأتمه، فقال صلى الله عليه وسلم : (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فاتبعوها)، فهذه سنة أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهنا يأتينا خبر عمر رضي الله عنه لما رأى الناس يصلون التراويح أوزاعاً، فكل قارئ خلفه عدد من الناس، وكل قوم يتبعون أحسن الناس صوتاً وقراءة، فقال عمر رضي الله عنه : (أرى لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً)، فجمعهم على إمام واحد، ثم ذهب إلى المسجد بعد ذلك فرآهم مجتمعين على إمام واحد فقال: (نعمت البدعة)، فكيف يقول عمر: نعمت -وهو وصف مدح- لبدعة وفي الحديث: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)؟ فهل المعنى: نعمت الضلالة؟

    حاشا وكلا. ونقول: إن عمر رضي الله عنه سن سنة لها أصلٌ، وذلك أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة من العشر الأواخر في رمضان، وصلى في المسجد بعد أن انصرف الناس من صلاة العشاء، فكان يوجد بعض الناس فصلوا خلفه ثم انصرفوا، فسمع الناس بصلاة بعضهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا في الليلة الثانية عدداً كثيراً، فلما خرج صلى الله عليه وسلم صلى كما صلى في الليلة الأولى، فصلى وراءه العدد الكثير ثم انصرف، ثم في الليلة الثالثة تسامع أهل المدينة، فلما صلوا العشاء مكثوا في مكانهم، فقال صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (ما بال الناس؟ ألم يصلوا العشاء؟ قالت: بلى. قال: وما شأنهم؟ قالت: ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى الناس من قبل، قال: قومي واطوي عنا حصيرك) وكانت تفرش له حصيراً في الروضة، فما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حتى الصبح.

    فهنا وقعت صلاة التراويح جماعة بإمام واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما منعه من الاستمرار في ذلك إلا ما صرح به صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (ما خفي عليَّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً -لأنهم كانوا يتنحنحون، ويأخذون الحصباء ويرمون بها باب الحجرة، كأنهم يقولون: نحن هنا فاخرج إلينا- وما منعني إلا أني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم)، فترك الخروج من أجل العلة، وهي الشفقة عليهم من أن تفرض عليهم فلا يقدرون عليها.

    فلما انتهى عهد الفرض ونزول الوحي والتشريع من جديد وأمن ذلك، جاء عمر ، فما زاد على أن جمعهم على إمام واحد كما صلوا خلف إمامٍ واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فهي سنة، ولكن عمر سماها بدعة من حيث اللغة، أي أنه أول من جمع الناس على إمامٍ واحد، فكانت صورة مبتكرة، وإن شئت قل: مبتدعة، أي: لا نظير لها من قبل، فلم ينصب رسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً للناس فيها، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وكذلك عمر في أول خلافته، ولكنها في تلك اللحظات وجدت، لعدم وجود نظيرها من قبل.

    ومن هنا قيل: إن عمر حينما قال: (نعمت البدعة) أراد المعنى اللغوي، أي: العمل الجديد الذي وجد، ولا يريد معنى البدعة التي استحدثت في الدين.

    إذاً: كل محدثة أو كل أمرٍ محدثٍ بدعة، وتنصب على البدعة التي تقابل هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهناك مبحث طويل تكلم عنه صاحب الاعتصام وغيره في درجات البدع، فهناك بدع مكفرة وهي التي تتعلق بالعقائد، وهناك بدع مفسقة وهي التي تتعلق بالعبادات، وهناك بدع مخلة بالمروءة وهي ما كانت مغايرة للمندوب؛ فهي متفاوتة عند الفقهاء بحسب موضوعها الذي يتعلق بها، فمن أراد التوسع في ذلك فليرجع إليه.

    1.   

    خلاف العلماء فيما لو أتى الخطيب بمقدمة فيها معنى الحمد والثناء

    قال رحمه الله تعالى: [ وفي رواية له: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه) ].

    يقولون: إن عبارات النحت هي التحميد والتسبيح والتهليل والحوقلة، فالتسبيح: سبحان الله، والتحميد: الحمد لله، والتهليل: لا إله إلا الله، والحوقلة: لا حول ولا قوة إلا بالله.

    ويبحث الفقهاء فيما لو أن الخطيب أتى بلفظ سوى الحمد يؤدي معناه الشكر لله والثناء عليه، فالأئمة الثلاثة على أنه لا يجزئ، وعند الإمام أبي حنفية رحمه الله أن أي عبارة تفيد الثناء فهي مجزئة، كالحال في تكبيرة الإحرام (الله أكبر) حيث لا تنعقد الصلاة إلا بهذا اللفظ، عند الثلاثة خلافاً له.

    فقوله: (يحمد الله)، أي: يقول: (الحمد لله)، وأحب أن أنبه على شيء كثر استعماله، حيث نسمع كثيراً من الخطباء يقولون: (إن الحمدَ لله)، وهنا ورد: (الحمدُ لله)، فهل جاء في القرآن (إن الحمدَ لله) أم أن كل الصيغ (الحمدُ لله) كالتي في الفاتحة والكهف ونظائرهما؟

    يقول العلماء: إن (أل) في (الحمد) للاستغراق، فاستغرقت جميع المحامد، وحينما تقول: (الحمد لله) فهي إنشاء منك بحمدك لله، وحينما تقول: (إن الحمدَ لله) فإن (إن) تدخل على الجملة الخبرية، فالمبتدأ اسمها والخبر خبرها، فكأنك حين تقول: (إن الحمدَ لله) تخبر بأن الحمد لله، فهل الذي يخبر بأن الحمد لله يثبت له أنه حمد الله أم أن ذلك مجرد إخبار فلا يتناسب مع تقديس المولى سبحانه ولا مع أداء المعنى المطلوب، فكونهم يجدون هذا اللفظ مستجداً ويستسيغونه لا يخرجه عن أن يكون مغاير للمعنى الأصلي المراد بحمد الله سبحانه.

    فقول: (إن الحمدَ لله) لا تؤدي المعنى الذي جاء في كتاب الله والذي جاء في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو (الحمدُ لله).

    وبجانب الحمد يأتي بذكر الثناء والشكر، فهن ثلاث كلمات، أما الشكر فهو في مقابل النعمة، وفي الحديث: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، وفي الحديث: (من صنع لكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى ترون أنكم كافأتموه).

    أما الثناء فهو امتداح شخص فعل خيراً ولو لم يكن للذي يثني عليه، كما لو سمعت بطبيب ماهر أجرى عملية جيدة لإنسان لا يتصل بك بصلة من الرحم ولا من القرابة ولا غيرها، فإنك تثني على هذا الطبيب لمهارته في فنه بأنه أجاد العمل، فأنت تثني عليه لمهارته في عمله.

    أما الحمد فإنه امتداح لكمال ذات المحمود، لا لخيرٍ جاءك منه ولا لضرٍ دفعه عنك، ولا مقابل جميل أو معروف أسداه لغيرك ومهر فيه، إنما هو لكمال الذات ولو لم يصدر منها شيء، ولا يكون كمال الذات إلا لله سبحانه، ومن هنا قيل: إن (أل) في الحمد للاستغراق، وتستغرق جميع المحامد التي تحتويها لغات العالم، وتدركها قلوب الناس، فكلها مجموعة لله سبحانه، لكمال ذاته وتنزهه سبحانه وتعالى.

    1.   

    ارتفاع صوت الخطيب وعلاقته باتخاذ المبلغين

    قوله: (ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته) وفي رواية له: (من يهد الله فلا مضل له).

    حكم اتخاذ المبلغين في المساجد

    قوله: (وقد علا صوته) صوت الإنسان مهما علا له حدود، فاتخاذ مكبرات الصوت ليعلو الصوت تابعٌ لهذا، وإلا فيحتاج إلى تأمل!

    فإن كان في حدود صوت المتكلم فهذا مطلوب، ولا مانع من ذلك، وله أصلٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في مرضه الأخير وجلس على يسار أبي بكر كان يصلي، ولما لم يكن صوت النبي صلى الله عليه وسلم يسمع الناس كان أبو بكر يرفع صوته مبلغاً عن رسول الله.

    ومن هنا اتخذ المبلغ، وسميت المبلغة أو المكبر في المسجد النبوي بذلك؛ لأن المبلغ يصعد عليها ويكبر تكبيرات الانتقال ليتابع المأموم حركات الإمام في صلاته.

    وكان في المسجد النبوي مكبرتان وكانت الثانية في مؤخرته، وتستعمل المكبرتان وقت الموسم إذا كثر الناس، فإذا سمع من في المكبرة المتأخرة صوت المكبر في المقدمة يبلغ الناس عن الإمام، وكان العلماء رحمهم الله في دروسهم إذا كبرت الحلقة يتخذون مبلغين، فيقف شخص في الوسط من هنا ومن هنا ومن هناك، والشيخ أو العالم يقرأ الحديث، والذين حوله يأخذون منه مشافهة ويكتبون أو يسمعون، والمبلغون يعيدون لفظ الحديث لمن وراءهم فيأخذون الحديث بواسطة المبلغ.

    قيام مكبرات الصوت مقام المبلغ

    وقد يقول قائل: لقد وجدت هذه الأجهزة وهي مبلغة عن الإمام في قراءته وفي تنقله وحركات انتقاله، فلماذا نحتاج إلى المبلغ؟

    ونقول: في بادئ الأمر كان يقع في الموسم أنه قد ينقطع التيار، وقد يتعطل الجهاز فيقع ارتباك في الصلاة في هذا المسجد بالذات، فوجود المبلغ أقل ما يقال فيه: إنه سنة سابقة، وإذا وجد هذا الجهاز فيكون عن طريقه أيضاً وقع هذا التبليغ، وعدم تغيير الشيء الثابت وعدم تغيير ما عليه الناس هو الأولى، كما قال مالك رحمه الله: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، وكلٌ قد ذهب بما سمع من رسول الله، وتغيير أو انتقال الناس عما كانوا عليه ثقيل، فلا بأس بإمرار ذلك.

    ولكن إذا كان الصوت مزعجاً، ومعنى الإزعاج أن يصدر فيه تشويش، فيعالج، وقد جاء عن أحمد رحمه الله وعند المالكية تعدد المؤذنين للأذان الواحد للفريضة الواحدة، وقد أنشأ عثمان رضي الله عنه الأذان الأول للجمعة لحاجة الناس إليه، كما كان قد شرع أذان أول في صلاة الفجر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يرجع القائم ويتسحر الصائم، فكأن الأذان الأول في الفجر وجد بعد أن لم يكن؛ لحاجة الناس إليه، وعثمان رضي الله عنه خليفة راشد، وفي الحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، فرأى من المصلحة أن يزيد أذاناً قبل الوقت وفي السوق؛ ليعلم الناس بقرب الوقت.

    فإذا دعت الحاجة إلى تعدد المؤذنين للوقت الواحد في المسجد الواحد فلا مانع، حتى قيل: يجوز التعدد إلى سبعة أشخاص يؤذنون.

    وأما كيف يؤذنون فقالوا: إن كان المسجد فسيحاً والبلدة منتشرة وقف كل واحد في جانب، ويؤذن كل واحد إلى الجهة التي تليه.

    وبعضهم يقول: يؤذن الأول، ثم الثاني ثم الثالث، إلا إذا كانت صلاة المغرب فإنهم يؤذنون في وقت واحد ما لم يكن فيه تشويش، فإذا لم يكن تشويش فلا مانع.

    ونحن نقول أيضاً: إذا نظمت هذه الأجهزة بحيث لا يقع منها تشويش بعضها على بعض، أو فيما كان مداه أبعد، فلا مانع في هذا.

    وما يوجد الآن من بعض المساجد التي لها أجهزة تبليغ -وفي يوم الجمعة بالذات- فلا ينبغي رفع الأصوات في تلك المساجد حتى تصل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأصل، وبها يقع التشويش على الناس.

    فاتخاذ هذه الأجهزة له أصل في السنة، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته.

    وأما إذا كان المستمعون لا يبلغهم صوت الإمام لكثرتهم، فالقول بأن عليه أن يبلغ الجميع فوق طاقته.

    وأما هل يتخذ مبلغين، فإنه لا يتخذ مبلغين، وما حدث ذلك في إبلاغ الخطبة قط، ولكن: من كان يستمع فعليه الإنصات إلى ما يسمع، ومن لم يبلغه صوت الخطيب فلم يسمع شيئاً فهناك من يقول: يصغي حتى لا يشوش على غيره. وهناك من يقول: له أن يشتغل بالتلاوة بدلاً من ضياع الوقت.

    فهناك حاجة إلى إبلاغ الصوت لجميع المستمعين، فاتخاذ هذه الأجهزة إنما هو لإسماع وإبلاغ جميع الحاضرين خطبة الإمام، ولأن الخطبة إنما هي إبلاغ وبيان لما ينبغي عليه بيانه، وفيها تلقي الموعظة والإرشاد في أمر ديني أو دنيوي من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكان ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم أم في أي منبر في العالم؛ فإنه تابع لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: امتدادٌ لسنته في بقاع الأرض.

    فإن الإنسان إذا سمع الموعظة، وسمع التوجيه من بيت من بيوت الله، وعلى منبر يحكي سنة رسول الله، كان أدعى إلى قبولها، وكان أرجى إلى سماعها وتنفيذها، والله تعالى أعلم.

    1.   

    الهداية وتعلقها بإرادة الله سبحانه وتعالى

    قال المصنف رحمه الله: [وفي رواية: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)، وللنسائي : (وكل ضلالة في النار)].

    يؤيد قوله: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:28-29]، فمن هداه الله سبحانه وتعالى فلا مضل له، ومن أراد الله إضلاله فلا هادي له. فإن هداه فبحكمته وفضله، وإن ضله فبحكمته وعدله، وليس لإنسان أن يقف يتساءل لماذا فعل هذا؟ ولماذا فعل هذا؟

    فهذه قضية منتهية في أمر العقائد؛ لأنه إن هدى إنساناً فذلك فضل منه عليه، وإذا حرم إنساناً من الهداية فإنما أمسك عنه حقه، أي: حق الله سبحانه، وليس لمخلوق أن يعترض على الله، وليس لك حق في هذا، فالمسألة تبقى على عمومها: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له).

    فـأبو جهل وأبو لهب ما أراد الله هدايتهما، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـأبي طالب : (يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله )، ولو بذل كل جهده ما وسعه ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755903190