إسلام ويب

وقفات مع فريضة الحج [2]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحج فريضة الله على عباده لمن استطاع إليه سبيلاً، وينعقد الحج بالنية والتلبية، ولشعائر الحج معان عظيمة، إذ إنها شرعت لإقامة ذكر الله، حتى الهدي والأضاحي ما شرعت إلا لذكر الله.

    1.   

    الحج فريضة لله على عباده

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    وبعد:

    فوقفات مع فريضة الحج التي هي لله سبحانه وتعالى على عباده، كما قال الله في كتابه الكريم: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] ، فهذه الآية الكريمة هي التي عول عليها جمهور العلماء في إيجاب الحج، فضلاً عن سائر الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية الكريمة عول عليها كافة أهل العلم في إيجابهم للحج، فلله عليك حق لا بد أن تؤديه إذا استطعت إليه سبيلاً.

    1.   

    التلبية

    فنقف وقفات مع هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام:

    تنعقد هذه الفريضة بقول القائل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وبعد ذلك إن شئت أن تضيف إليها بعض الإضافات فلتضف، وإن شئت أن تثبت عليها فاثبت عليها ولازمها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لازمها واستمر عليها من بداية حجه إلى أن رمى جمرة العقبة الكبرى، فلم يؤثر عنه أنه فارق هذه الصيغة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، أما أصحابه فكانوا يزيدون أحياناً، فمنهم من يقول: لبيك إله الحق!، ومنهم من يقول: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، ومنهم من يقول: لبيك ذا الفواضل! لبيك ذا المعارج! ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم.

    إنما أنكر صلى الله عليه وسلم على قوم من أهل الشرك زادوا ما لم ينزل الله به سلطاناً، فكان أهل الشرك يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فكانوا إذا بلغوا إلى قولهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يوقفهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا أيها الناس حسبكم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) فيعارضونه ويعاندونه ويزيدون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فيبطلون أعمالهم بهذه الصيغة، ويوردون أنفسهم النار -عياذاً بالله- خالدين فيها مخلدين بسبب زيادتهم: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. فهذا هو الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: تنعقد فريضة الحج بالتلبية، ويبدأ الإهلال بالنية المصحوبة بقوله: لبيك اللهم لبيك، أي: إجابة لك -يا رب- بعد إجابة، وسمعاً لك وطاعة يا ربي! ثم سمعاً لك وطاعة، سمعاً لك وطاعة -يا ربي- وحدك لا شريك لك، فطاعتنا لكل شخص إنما هي منبثقة من طاعتنا لله، فطاعتنا للوالدين؛ لأن الله أمرنا بها، وطاعتنا لأولي الأمر؛ لأن الله أمرنا بها، وطاعة الزوجة لزوجها؛ لأن الله أمرها بها، قال تعالى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].

    الشاهد من ذلك: أن كل طاعة تصدر منا، وكل توقير يصدر منا لأحد، فهو لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك، فامتثلنا أمره سبحانه، وإن حدث نزاع بيننا وبين شخص فالمرد إلى الله والمرجع إليه سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، وطاعتنا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام إنما هي منبثقة من طاعتنا لله عز وجل، قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64].

    معنى التلبية

    يحرم الحاج بقوله: لبيك اللهم لبيك أي: إجابة لك -يا رب- بعد إجابة، إذ دعانا خليلك صلى الله عليه وسلم، وإذ أذن فينا بالحج، فأتيناه رجالاً وعلى كل ضامر، أتيناه من كل فج عميق، أتينا يا ربي سامعين لك وملبين لنداء خليلك صلى الله عليه وسلم، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، الناس غير مبتغين وجهاً غير وجهك يا ربنا! لبيك لا شريك لك، كلمة التوحيد: لبيك اللهم لبيك، سمعاً وطاعة لك -يا رب- إذ ناديتنا، ثم بعد ذلك السمع والطاعة لرسول الله إذ الله أمرنا بطاعة رسوله محمد.

    لبيك لا شريك لك لبيك، سمعاً وطاعة لك يا ربنا! ثم سمعاً وطاعة لنبيك إبراهيم عليه السلام، ثم سمعاً وطاعة -يا ربنا- لنبيك محمد، لا شريك لك، لا نبي يشاركك، ولا ولي يشاركك في ملكك يا ربنا! أنت وحدك لا شريك لك، لبيك لا شريك لك لبيك، فلذلك لا نقول للسيد البدوي بعد موته: لبيك يا سيد يا بدوي أبداً، ولا نقول أبداً: لبيك يا حسن ويا حسين ، بعد موتهم، ولا لأي شخص كائناً من كان بعد أن مات، ولا نهل له بالحج أبداً، حتى الذين يزورون قبور الذين يزعمون أنهم أولياء لله، ويطوفون بها، عند حجهم لا يهلون لهم كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:67] فالذي يزور السيد البدوي ويتبرك به، في حجه لا يقول أبداً: لبيك يا سيد يا بدوي، لا يقول ذلك أبداً بحال من الأحوال، وقد ورد في حديث في إسناده كلام، أن النبي قال لوالد عمران بن حصين لما جاء يسلم: (كم تعبد من إله يا عمران ؟ قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال: من الذي تعد لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي أعده لرغبتي ورهبتي الذي في السماء) فمن هنا ألزمه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يسلم.

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم مناسك التوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ختمت التلبية أيضاً بلا شريك لك؛ لتأكيد التوحيد، وللتأكيد على كلمة التوحيد لأنها معقد الإسلام، وبها ينجو الشخص من الخلود في النار، وبها يحاجج لك رسولك محمد صلى الله عليه وسلم عند ربك. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي طالب: (يا عمي! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل) أي: بها تنال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام لما سُئل من أحق الناس وأولى الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).

    فأكثروا من قولها -يا عباد الله- حتى تكون سبباً في نجاتكم يوم القيامة، وتنالون بها رفعة الدرجات، فهي أعلى شعب الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) بين ذلك أعمال وأذكار وطاعات، وأعظم شعب الإيمان كلها قول: لا إله إلا الله، فأكثروا منها، فهي خير ما قاله النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وخير ما قاله النبيون من قبله.

    1.   

    فضائل الكعبة

    بعد التلبية تشد الرحال إلى بيت الله الحرام الذي قال الله فيه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96] فليس هو بيت المقدس كما زعم الإسرائيليون، إنما كما قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96] كي يعبدوا فيه ربهم ويتقربوا إليه، وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع للناس أول يا رسول الله؟ قال: (المسجد الحرام، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، وحيثما أدركتك الصلاة فصل) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.

    قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96] وجه البركة فيه: ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (اللهم إن إبراهيم دعا لمكة أن تبارك في مدها وفي صاعها، وأنا أدعوك للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة: أن تبارك لنا في صاعنا وفي مدنا وفي ثمرنا، وأن تجعل لنا ضعف ما لمكة من البركة) هذا وجه من البركة.

    ووجه آخر: أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد.

    ووجه ثالث: أن به زمزم، وهي: (طعام طعم وشفاء سقم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

    ووجه رابع: أن من دخله كان آمناً، فمكة لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يُختلى خلاها، ولا يقطع فيها الحشيش الذي ينبت على الأرض، وكل هذا من تحريم الله سبحانه وتعالى لمكة، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96] به تهتدي، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97]، أي: دلالات واضحات.

    ما هذه الدلالات؟ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] فيه مقام إبراهيم، ففي هذا المقام تتذكر أئمة الهدى الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، فلكل فريق إمام، سواءً كان كافراً أو مؤمناً، ونحن أهل الإيمان أئمتنا أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فعليهم نصلي ونسلم، وبهم نتأسى ونقتدي، وعلى دربهم ونهجهم ومعتقدهم نسير، قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:83-90]، هؤلاء الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، وهم سلفنا وأئمتنا، وأكبر أئمتنا هذا الرهط الكريم المبارك، ثم خاتمتهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أئمتنا نصلي عليهم ونسلم، وبهم نتأسى ونقتدي صلوات الله وسلامه عليهم.

    فنتذكر هذا الموكب الكريم الذي سبقنا بإحسان وببر وبصلاح، وختم حياته بخير، متجهاً إلى ربه، لقد ماتوا على التوحيد الذي اصطفاه الله لهم واختارهم له، وأوصونا جميعاً به، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، ونتذكر أئمتنا الذين حلوا ونزلوا بهذه المواطن الكريمة، والذين طافوا حول الكعبة، والذين سعوا بين الصفا والمروة، الذين فُجرت لهم زمزم، الذين صلوا في مسجد الخيف، فقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، نتذكر هؤلاء الأئمة، ومن ثم نقتدي بهم ونقتفي أثرهم، سائلين الله أن يجمعنا جميعاً بهم عليهم الصلاة والسلام.

    أما أئمة الضلال فأئمتهم: فرعون، وهامان ، وقارون ، وأُبي بن خلف ، وأبو جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة، وقوم تبع، وأصحاب الأيكة، وثمود، وعاد، وإخوان لوط، فهؤلاء هم أئمة أهل الكفر، فهم يتلاعنون فيما بينهم، أما نحن أهل الإيمان فبيننا تراحم، ونترحم على سلفنا، ونصلي على أنبياء الله ونسلم، ويستغفر لنا بعد موتنا من تبعونا بإحسان إلى يوم الدين، قال نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28] وهذا من محاسن هذا الدين القيم، فمن سبقونا نصلي عليهم ونترحم، ومن يأتون بعدنا يصلون علينا ويترحمون علينا، ثم يوم القيامة نحمد الله على هذا الصنيع، نحمد الله الذي هدانا له وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا إليه، ثم نحمده لإخواننا الذين كانوا سبباً في هدايتنا.

    أما أهل الغواية فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].

    1.   

    عبرة وعظة من استسلام إبراهيم عليه السلام لربه

    عند توجهنا إلى بيت الله الحرام نتذكر أئمتنا كيف كان استسلامهم لربهم وخالقهم سبحانه؟ وكيف كان استسلام إبراهيم عليه السلام إذ أمر أن يطرح ولده إسماعيل، وهو طفل رضيع لا يجري ولا يسعى، وأمه هاجر امرأة ضعيفة مستضعف، فيلقيهما إبراهيم عليه السلام في أرض موحشة قفر، ليس لهم فيها أنيس ولا جليس، وينصرف عنهم صلى الله عليه وسلم، فتقول هاجر: يا إبراهيم! إلى أين تذهب وتتركنا في هذا المكان؟ ولم يكن ثم بيت لله ظاهر، ولم تكن الكعبة قد بنيت، فمعالم الحرم مندثرة تماماً، فتركهم إبراهيم في جبال مكة عند ماء زمزم الآن، وليس ثم ماء، وليس ثم أنيس، ولا جليس، وتركهم إبراهيم عليه السلام على هذا النحو وعلى هذا المنوال، فنظرت هاجر المرأة الضعيفة إلى إبراهيم وهو ينصرف عنها وعن ولدها الرضيع الصغير فقالت: يا إبراهيم! إلى أين تنصرف؟ ولمن تتركنا؟ قال: أترككم لله، فقالت: آلله أمرك أن تنزلنا هذا المكان وتنصرف؟ قال: نعم، ومضى متجلداً أمامها، ثم لما اختفى عن عينيها رفع يديه إلى السماء: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37] فاستجاب الله دعاءه، وعطشت هاجر عطشاً شديداً هي ووليدها، فطفقت تسعى بين الصفا والمروة ذاهبة وعائدة، تبحث عن الماء ولا تجد ماءً، حتى ضرب ولدها الأرض برجله فتفجرت زمزم ينبوعاً.

    قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. وتفجر الماء المبارك ماء زمزم، فأتاها الناس إذ رأوا الطير تحوم حول الماء، وأنزلوها منزلاً كريماً، وكفاها الله وولدها شر ما أهمها، وأزال الله عنها الحزن بعد أن كادت أن تهلك، فرحمها الله، عليها سلام الله هي وولدها وزوجها.

    فانظر إلى امتثال إبراهيم عليه السلام لأمر الله سبحانه وتعالى، فقد ترك ولده وأم ولده ممتثلاً لأمر الله، ولتلتمس نساؤنا هدياً من هاجر إذ سألت زوجها: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا! فما ضيعها الله بعد أن أحسنت الظن بالله سبحانه.

    نمتثل هدياً، نمتثل استسلاماً لله، إذ يؤمر إبراهيم الشيخ الكبير بأن يذبح ولده، وقد رزقه الله إياه بعد زمن طويل، ثم يؤمر بذبح الولد، قائلاً: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] لم يكن إسماعيل عاقاً أبداً فقد قال: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، هكذا قال إسماعيل، ففداه الله سبحانه بذبح عظيم، فلنحيي سنة الأضاحي امتثالاً لأمر نبينا واتباعاً لسنة إبراهيم عليه السلام، إذ فدى الله ولده بذبح عظيم.

    1.   

    مقام إبراهيم عليه السلام

    هذه المعالم كلها نستمدها من الذهاب إلى هذه الأماكن المباركة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:96-97] أي: واضحات، منها: مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومقام إبراهيم هو: صخرة كان إبراهيم عليه السلام يقف عليها ليبني عالي الكعبة بعد أن ارتفع البناء، فكان يقف عليها ويناوله إسماعيل الحجارة، وكان المقام ملصقاً بالكعبة، وكان فيه أثر قدم إبراهيم، وربنا على كل شيء قدير، فأثرت قدم إبراهيم في الحجر، ثم بقي هذا الأثر إلى زمن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طالب يستشهد به على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت قدم النبي محمد مماثلة تمام التماثل لقدم إبراهيم عليه السلام، فكان أبو طالب يستشهد بذلك على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (ورأيت إبراهيم فإذا أشبه الناس به صاحبكم) يعني: نفسه صلى الله عليه وسلم.

    فلما جاء عمر أخر المقام أمتاراً عن الكعبة، وهي المسافة التي ترونها بين المقام وبين الكعبة الآن، فإذا ذهبنا إلى هذه الأماكن نصلي خلف المقام، ونتذكر نبي الله إبراهيم.

    أما أهل الغواية فإلى أين يذهبون؟ يذهبون إلى مقابر الفراعنة، وإلى أهرامات الكفار المتسمون بـ(خوفو وحفرع ومنقرع) هؤلاء أهل كفر وضلال وغواية، فأي ذكرى تنفع من زيارة هؤلاء الكفار الذي ماتوا على الكفر؟ وقد قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في شأن قوم ثمود: (لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم) .

    إن رؤية أماكن الخير تذكرنا بالخير، وإن رؤية أهل الفضل تذكرنا بالفضل، وإن رؤية أهل القرآن تذكرنا بالقرآن، أما رؤية أهل الكفر فماذا عساها أن تذكر؟ وما عسانا أن نتذكر إذا رأينا صنماً لأبي الهول أو هرماً لخوفو؟ ماذا عسانا إن اللبيب يتذكر أن هؤلاء أئمة ضلال، ماتوا على الكفر إلى غير رحمة الله، فصاروا إلى الجحيم عياذاً بالله منها.

    1.   

    تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج

    نستشغر في هذه المواطن التواضع لله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة، ويقول بعض أصحابه: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يرمي جمرة العقبة، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. أي: لا توسع له الطرق، ولا يضرب الناس ولا يطردون الناس من أجله صلى الله عليه وسلم، بل كان يمشي عليه الصلاة والسلام متواضعاً مع الماشين، لا يطرد الناس من حوله، ولا يضرب الناس من أجله، إنما يأتي وقوراً متواضعاً لله خاشعاً له، يرمي الجمرة كما يرميها الناس، منه يتعلم الناس وبه يقتدون، ويلتمسون منه التواضع، يلتمسون منه صحيح العبادة والنسك، فيمتثلون أمره، ويقتفون أثره عليه الصلاة والسلام.

    فنلتمس من رسولنا التواضع، وعدم الزحام، وعدم أذى العباد، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يطوف بالبيت، فإن استطاع أن يستلم الحجر بيده فعل ولا يزاحم، وإن لم يستطع أشار إليه بمحجنه ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، لا يزاحم الناس ولا يؤذيهم، وعند دفعه صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى مزدلفة كان الناس يتسارعون ويتسابقون فعلمنا صلوات الله وسلامه عليه هدياً في ذلك فقال: (أيها الناس! عليكم هدياً قاصداً، أيها الناس! السكينة السكينة -أي: الزموا السكينة- ليس البر بالإيضاع) أي: ليس البر بالإسراع وإنما الزموا السكينة، (كان يمشي بوقار وإذا وجد فجوة من الفجوات أسرع ونط) أي: قفز عليه الصلاة والسلام، فلم يكن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يزاحم ولا يلقي بيديه إلى التهلكة.

    وقف صلى الله عليه وسلم في عرفات الصخرات وقال: (وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف)، ووقف عند المشعر الحرام بمزدلفة وقال: (وقفت هاهنا، وجمع كلها موقف)، مر عليه الصلاة والسلام في طريقه من مزدلفة إلى منى بوادي محسر فأمر أصحابه بالإسراع وعدم التباطؤ عند هذا الوادي، فلماذا ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن المكث في وادي محسر، ويأمرهم بالإسراع عند المرور به؟

    قال علماء السير: إن وادي محسر هو: الوادي الذي عذب عنده أبرهة الحبشي ، ومنع من دخول الحرم، وهنالك أرسلت عليه طيراً أبابيل، ترميه وأصحابه بحجارة من سجيل، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف في هذا الوادي وهذا الوادي يقع على مشارف منى من ناحية مزدلفة.

    ومن ثم ينبغي ألا يمكث الحجيج في هذا الوادي الذي نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن المكث فيه، والإطالة فيه، فعنده أهلك أبرهة، وكان الفيل قد حبس فامتنع من دخول مكة، وكان أبرهة متجهاً إلى مكة من ناحية عرفات، فإنه قدم من اليمن ومر بالطائف، وكان يريد دخول مكة من ناحية عرفات، فامتنع الفيل عن الدخول، وكان الفيل يضرب بالحديد كي ينهض ويدخل مكة فيأبى إباءً شديداً أن يدخل مكة، وهذا من قضاء الله وتدبيره أن تمتنع هذه الدابة من دخول مكة.

    ولذلك لما قدم رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يريد دخول مكة، وعلا مشارف مكة امتنعت ناقته القصواء من دخول مكة، فكان الناس يضربون ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تسمى القصواء كي تدخل مكة، والناقة لا تتحرك! فقال المسلمون: خلأت القصواء وليس ذاك لها بخلق، أي: لا ينبغي أن تمتنع القصواء من دخول مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلا والله. والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) أي: حبسها الله من دخول مكة، ثم دخل عليه الصلاة والسلام مكة عليها، وأمر أن يدخل مكة من طريق معينة، وتذكر عليه الصلاة والسلام وهو داخل مكة مقولة حسان بن ثابت عندما أخرج من مكة، فقال أبياتاً من الشعر يتصبر بها:

    فقدت بنيتي إن لم تروها تثير النقع مطلعها كداء

    أي: فقدت ابنتي -يا معشر المشركين- إن لم تروا خيلنا ترجع إليكم غازية لكم، وتثير الغبار متجهة لكم من كداء، تذكر النبي صلى الله عليه وسلم مقولة حسان تلك فامتثلها ودخل من ناحية كداء فاتحاً مكة، صلوات الله وسلامه عليه.

    كل هذه المعاني نتذكرها ونحن داخلون إلى مكة، فهي معان ينبغي أن نتذكرها، ثم نهتدي بها، كما قال تعالى:فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، نأخذ من الحج الامتثال لأمر الله، فنحن نرمي الجمرات، وما ندري لماذا نرميها؟ وما ندري لماذا نرميها بسبع؟

    ورد أثر لذلك، أنه لرمي إبراهيم الشيطان، إلا أن الأثر ليس بمرفوع إلى الرسول عليه السلام، ونرمي الجمرات، ولا ندري لم نرم، ونطوف لا ندري لم نطوف سبعاً ولا نطوف تسعاً، والحكمة الامتثال لأمر الله، والامتثال لهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    الحكمة من تشريع الشرائع

    عباد الله: التمسوا من حجكم المتثال والسمع والطاعة لله ثم لرسول الله عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، فإن الأنساك والشعائر إنما شرعت لإقامة ذكر الله، وكذلك المواسم عند أهل الإسلام إنما شرعت لإقامة ذكر الله، وكذلك الأماكن إنما فضلت لذكر الله فيها، فالأزمنة والأمكنة ما فضلت لكبير شيء؛ إلا لأن الله يذكر فيها. قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:34] فالأنساك، والأعياد، والمواسم، والذبائح، والصلوات، والحج، والجهاد، والصيام؛ كل ذلك شرع لإقامة ذكر الله عز وجل، فالصلوات شرعت لإقامة ذكر الله، قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] أي: لتذكرني فيها، وقال تعالى في بيان حكمة شرعه للجهاد: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40] فالجهاد إنما شرع لإقامة ذكر الله، وكذلك الذبائح والأضاحي التي نتقرب بها إلى الله، نتقرب بها لذكره، لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، ولذلك قال فريق من أهل العلم في الآية الأخيرة: إذا نذرت أن تذبح كبشاً فلا يجزئ أن تشتري مائة كيلو لحم وتتصدق بها؛ لأن ذبح الكبش فيه ذكر الله.

    1.   

    فضيلة عشر ذي الحجة

    أيها الأحبة: المواسم والأعياد شرعت لإقامة ذكر الله، وهذه العشر من ذي الحجة يوشك هلالها أن يرى الليلة أو في الغد، فهي عشرة أيام من أشرف أيام السنة كلها، بالنص من سنة رسول الله، ........ أو قول راجح عند جمهور المفسرين في الآية، أما الآية فإن الله أقسم بها: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2] يقسم الله بعظائم الأمور في كتابه الكريم، وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر -يعني: العشر الأول من ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله ؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يخرج أحدكم بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء).

    هل هلال هذه العشر أو كاد أن يهل، ونسأل الله أن يهله علينا جميعاً بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحب ويرضى من صالح القول وصالح العمل وصالح النوايا، فهي نعمة من الله أن يبلغك مواسم تتقرب ففيها إليه، فيها تغفر الذنوب وتحط الخطايا، وهذه نعمة من الله أن يبلغك هذه العشر، ويفتح لك فيها أبواباً للطاعات، ويضاعف لك الثواب، فإذا كان ثواب التسبيحة في يوم من الأيام بحسنة أو بعشر حسنات، فثواب التسبيحة في هذه العشر أضعاف مضاعفة، وثواب التهليل أضعاف مضاعفة، وثواب التكبير كذلك، ولا يعلم قدر تضاعف للثواب في هذه الأيام إلا الله سبحانه وتعالى.

    فلا ينبغي أبداً أن تغبن وتبخس في هذه الأيام، ولا ينبغي أن تغفل عن الذكر فيها، فقد كان أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام يكبرون ويهللون، ويحمدون ويسبحون، فقد أخرج البخاري تعليقاً عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا في هذه العشر يخرجان إلى الأسواق يكبران ويهللان ويذكران الله سبحانه وتعالى، وهذا معروف عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى الأسواق يذكر الله ويذكر به على مدار السنة، لكنه كان يكثر الخروج في هذه الأيام، وكان يخرج في بعض أوقات السنة إلى الأسواق أحياناً لمجرد إلقاء السلام على الناس، فيغنم الحسنات، ويغنم من رد عليه السلام الحسنات.

    فيا عباد الله! كان سلفكم الصالح يكثرون من التحميد والتهليل، والتكبير والتمجيد، والتسبيح، وعموم الذكر في هذه الأيام، وكذلك تلاوة القرآن، فإن كان لك من كتاب الله ورداً تقرأ مثلاً جزءاً، فلتقرأ في هذه العشر جزأين، إن كان لك في يومك مائة تسبيحة فلتجعلها مائتين أو ثلاثمائة، وما تفعل من خير فلن تكفره.

    أدب اللسان بعض الشيء في هذه الأيام، قل: كفاك أيها اللسان لغواً، وخوضاً في القيل والقال، كفاك أيها اللسان طول العام خوضاً في الأعراض، فلتكثر أيها اللسان من ذكر الله فإنك مسئول وناطق أمام الله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24].

    فيا عبد الله! كفاك لغواً، وقيلاً وقال، وكفاك مزاحاً وكثرة كلام طول العام، فهذه الأيام أجمع فيها القلب والعقل والفؤاد على ذكر الله عز وجل، كفاك مزاحاً وجلوساً في الطرقات، فاغتنم هذه الأيام بما تكفر به ذنوبك وتحط به خطاياك، فهذه الأيام ستنصرم، بل ستنصرم الدنيا كلها، فلا تخرج منها وأنت مغبون، فالخاسر من خسر نفسه، والهالك من نسي نفسه، فزك نفسك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10] زك نفسك في هذه الأيام، زك لسانك وبصرك، ووزكِ فؤادك وخطاك فإن هذه الأيام سترد ثم ستنصرم غداً.

    أما الصيام في هذه العشر فلأهل العلم فيه قولان:

    ورد عن أمنا عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم أنها قالت: (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم العشر قط) فاستدل به على أنه لا يسن صيام العشر، وورد حديث آخر من طريق راو يقال له هنيدة عن بضع أزواج النبي أنها قالت: (ما ترك رسول الله صيام العشر)، ومن ناحية الإسناد فحديث عائشة أصح، ومن العلماء من جمع بين الحديثين وقال: فلتصم أحياناً ولتترك أحياناً، هذا إذا سلمنا بصحة الخبرين معاً، فنقول: إن كل زوجة أخبرت بما علمت، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام أحياناً وترك أحياناً، وهذا جمع ممكن وحسن، والله تبارك وتعالى أعلم.

    1.   

    الأضاحي

    أيها الأحبة: أنتم على مشارف العشر، وقد قال الله في يوم منها وهو يوم النحر: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، والخطاب وإن كان موجهاً لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن المسلمين أخذوا من ذلك سنة متبعة عامة، وهي سنة الأضاحي: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] أي: وانحر لربك، فإذا كنت موسراً فأنفق في هذه السبل، والقربات فهي خير ما تنفق فيه الأموال، والله لأن تنفق مالاً في أضحية خير من أن تنفقه في بدلة وفي كرفته، ولأن تنفق مالاً في أضحية خيرٌ من أن تنفق مالاً في غير قربة، ولأن تنفق مالاً في حج خير لك من أن تنفقه في سيارة فخمة، وقد تغني عنك سيارة تقوم بالغرض، فلتؤجل شراء السيارة الفخمة، فإنفاقك في الأضاحي -إن كنت موسراً ووسع الله عليك- إحياء لسنة إبراهيم عليه السلام، وإحياء لسنة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام.

    وفي هذه الأضاحي ذكر لله، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] فغيرك يهل بآلهة أخرى، فليس المراد فقط أنك تقول عند الذبح: باسم الله والله أكبر، وفي هذا ثواب بلا شك، ولكن الإهلال نفسه لله فيه أجر، ففيه إقرار بالتوحيد، وبالذبح لله وحده، فعندما تقول: باسم الله والله أكبر على الذبيحة فأنت مأجور أجراً أعظم ثم أعظم ثم أعظم من رجل يقول: باسم الله والله أكبر، في موطن آخر، وقد يقول قائل: أنا أقول: (باسم الله والله أكبر) في أي وقت فما الفضل الزائد في كوني أقول: (باسم الله والله أكبر) على الذبيحة؟ نقول: إن هذا إقرار بتوحيدك وإخلاصك لله، فإن أهل الكفر يسمون باسم اللات أو العزى أو مناة الثالثة الأخرى، والنصارى يهلون لغير الله، وكذلك عموم أهل الكفر، أما قولك عند الذبح: باسم الله والله أكبر، فهو دال على توحيدك وإخلاصك لله، فالأجر في ذلك أعظم.

    ثم إن الله قال: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا [الحج:37] أي: الله ليس في حاجة إلى طعامكم ولا إلى شرابكم أبداً سبحانه، فهو الغني له ما في السماوات وما في الأرض، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37] هذا كلام ربنا، فإذا قست الأمور بالمقاييس المادية خبت وخسرت، فعموم الناس -إلا من رحم الله- يزنون الأمور بميزان المال والدنيا، لكن إذا وقفنا مع ربنا ومع آيات ربنا علمنا أن الميزان هو التقوى، ماذا فعل ابني آدم؟ كلاهما قرب قرباناً، فهذا تقرب إلى الله بقربان، وهذا تقرب إلى الله بقربان، لكن التقي الذي استعظم القربان، وطاب نفساً به، فأخرجه غير شحيح به، بل أخرجه متقرباً به إلى الله محباً لذلك، وُقِي شح نفسه، وأخلص لله في ذلك كله، ورجا بالقربان التقرب إلى الله كما هو مفهوم القربان؛ فتقبل منه، أما الذي قرب وهو شحيح، وذبح وهو شحيح، يمد رجلاً ويؤخر الأخرى، يمد يداً ويؤخر الأخرى، يقول: أنا أولى، زوجتي أولى، ثم قد يمتنع، فهذا الله غني عنه وعن قربانه.

    إذا قست الأمور بالمقاييس الشرعية تجد أن الأمم من قبلنا كان إذا غنم نبيها غنيمة يجمع كل الغنائم التي غنمها من الكفار في مكان واحد، فتنزل نار من السماء تلتهم الغنيمة كلها، فماذا يكون حال ذلك النبي حينئذٍ؟ يسعد أيما سعادة هو وأصحابه، ويفرحون أشد الفرح إذا نزلت النار وأكلت هذه الغنائم، فهذا دليل على قبولها، ومن ثم قال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] جاءت أنبياء اليهود بهذا ومع ذلك قتلتهم اليهود، فاليهود قوم بهت، وفي بعض الآثار أن اليهود قتلوا ثلاثمائة نبي في صبيحة واحدة، ثم قاموا إلى السوق آخر النهار يبيعون العدس والفول ولم يبالوا بما فعلوا!!

    الشاهد: أن من قبلنا كان أحدهم يفرح إذا تقرب بقربان وقبل منه، قال نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (غزا نبي من الأنبياء -وفسر هذا النبي بأنه يوشع بن نون عليه السلام- فأوشكت الشمس على الغروب فقال: يا شمس! إنكِ مأمورة وأنا مأمور، أنتِ مأمورة بالغروب، وأنا مأمور أن افتح البلدة قبل غروبك، اللهم احبسها علينا، فحبست الشمس إلى أن فتح البلدة ثم قال: ائتوني بالغنائم، فأتوه بالغنائم، فجمعها في صعيد ولم تنزل النار لالتهامها وأكلها! فقال لأصحابه: أيها الناس! إن فيكم رجلاً قد غل -أي: سرق من الغنيمة- فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل، فبايعه رجلٌ رجلٌ من كل قبيلة، فلصقت يده بيد رجل منهم، فقال: في قبيلتك الغلول، فلتبايعني قبيلتك رجلاً رجلاً، فبايعوه، فلصقت يده بيد رجل منهم فقال: عندك الغلول؟ قال: نعم يا نبي الله! فذهب وأتى برأس بقرة من ذهب كان قد أخفاها من الغنيمة، فأخذها النبي ووضعها في الغنائم، فنزلت النار والتهمتها).

    فالشاهد من ذلك: أننا لا ينبغي أن نقيس الأمور بمقاييس الدنيا أبداً، فالمال مال الله، وما أنفقت من شيء فالله يخلفه، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] قد قال الله: (يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك، يا ابن آدم أنفق أنفق عليك).

    فإذا كان بوسعك أن تشتري أضحية تستعظم هذه الأضحية وتسمنها ثم تتقرب بها تقرباً جميلاً إلى الله؛ فلا تبخل عن نفسك، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38] ولتطعم منها الفقراء، والمحتاجين فكم من رجل لا يكاد يأكل اللحم إلا في هذه المواسم، وكم من رجل ينتظر صدقتك في مثل هذا الموسم؟! كم من رجل ينتظر اللحم الذي ما ذاقه طول العام هو وأولاده وينتظرون قطعة تسوقها إليهم؟ فلا تحرم نفسك الأجر، ولا تحرم الفقراء والمساكين الطعم، وكما تقدم فالله قال: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

    ما يسن لمن أراد أن يضحي

    معشر الإخوان! يسن لمن أراد أن يضحي ألا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً إذا دخلت هذه العشر، على المذهب الصحيح من أقوال العلماء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً)، وهل أهل بيت الرجل يلتحقون به في هذا الحكم؟ بمعنى: إذا كنت -يا رب البيت- تريد أن تضحي فهل أهلك أيضاً يمتنعون من أخذ شيء من الشعور والأظفار في هذه العشر؟

    يرى فريق من أهل العلم أنه كما أن الأضحية تجزئ عن الرجل وأهل بيته، فكذلك يلزم الرجل وأهل بيته جميعاً ألا يأخذوا منها شيئاً من باب المقابل والقياس، فقالوا: ينبغي ألا تأخذ من شعرك ولا من أظفارك شيئاً إذا كنت تريد أن تضحي، وأهل بيتك كذلك، هذا قول.

    والقول الآخر: أن أهل البيت يستثنون، والأول أحوط وأقرب إلى الأقيسة، والله تبارك وتعالى أعلم.

    وهذا الحكم استثني منه الحجيج بلا شك، إذ الرسول عليه الصلاة والسلام وصل إلى مكة الرابع من ذي الحجة، وأمر أصحابه الذين اعتمروا عمرة التمتع أن يتحللوا ويقصروا من شعورهم، فليعلم إخواننا الحجيج المتمتعين أن عمرة التمتع السنة فيها التقصير، وهذا بالنسبة لعمرة التمتع خاصة، لأنه سيأتي عليك الحلق في الحج، وحديث: (غفر الله للمحلقين ثلاثاً) هو في غير عمرة الحج.

    هذا، ونسأل الله سبحانه أن يلهمنا وإياكم ذكره وشكره وحسن عبادته في هذه الأيام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أهل علينا هلال ذي الحجة بأمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وتوفيق لما تحب وترضى.

    اللهم ارفع الضر عن المتضررين من المسلمين، وارفع البأساء عن البائسين من المسلمين يا رب العالمين!

    اللهم انصر المستضعفين من عبادك المسلمين في كل البقاع، وارحم أموات المسلمين، ونور قبورهم، وافسح لهم فيها يا رب العالمين! وغنمنا حياتنا قبل الممات، وتوفنا مسلمين.

    وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755954136