إسلام ويب

الإيمان بالقدرللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان بالقدر ركن من الأركان التي لا يتحقق الإيمان إلا بها، وهو من الأمور التي ظهر التشكيك فيها من قبل بعض الطوائف منذ العصور المتقدمة من عمر الأمة المحمدية. فقد أوردت هذه الفرق الكثير من الشبهات فتصدى لها أعلام أهل السنة في كل عصر ومن أشهرهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وكما في العصور المتقدمة فقد ظهر من ينكر القدر في العصور المتأخرة، وإمامهم في ذلك من سبقهم ممن طبع الله على قلبه وصده عن السبيل.

    1.   

    أهمية الإيمان بالقدر

    الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، الذي أوضح الله تعالى به المحجة وأقام الحجة وأبان الدين، فلم يبق من أحد بلغته دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا آمن أو قامت عليه حجة رب العالمين، ولله الحجة البالغة على خلقه أجمعين.

    أما بعد:

    فإن موضوع القدر موضوع عظيم، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، ونحن في عصر كثُرت فيه الشبهات، والتساؤلات عن القدر، وهي قديمة في الحقيقة، ولكن في هذا الزمان اجتمعت شبهات الماضين مع شبهات المعاصرين، وما استجد عند الناس مما تلقيه شياطين الإنس والجن؛ فأصبح الناس في حاجة إلى تجلية هذه القضية، كما هو الشأن في بقية أركان الإيمان وقضايا العقيدة.

    والذي دفعني -في الحقيقة- إلى اختيار هذا الموضوع هو كثرة الأسئلة عن القدر، فأحببنا أن يكون هذا الموضوع عن هذا الركن المهم من أركان الإيمان، وبإذن الله تعالى سوف نجيب على أسئلة وإشكالات حول هذا الموضوع؛ لأنه موضوع دقيق وشائك، ونحاول بما يعيننا الله تبارك وتعالى ويفتح علينا به أن نأتي على ما نستطيع أن نأتي عليه من الشبهات في هذا الموضوع، بإذن الله تبارك وتعالى.

    1.   

    مراتب الإيمان بالقدر

    ونبدأ لنعرف ما معنى الإيمان بالقدر؟

    فإذا قلنا أننا نؤمن بالقدر -ونحن ولله الحمد مؤمنين بالقدر- فلا بد أن نعرف معناه، وهذا الإيمان كما جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقسّم على أربع درجات، ويمكن أن تختصر إلى درجتين؛ فما هي درجات الإيمان بالقدر؟ أي: ما هي مراتب القدر عامة؟

    المرتبة الأولى: العلم

    أول مرتبة من مراتب القدر، أي: أول ما يجب علينا أن نؤمن به فيما يتعلق بالقدر هو: أن نعلم ونوقن ونؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بكل شيء، علم بما كان وعلم بما سيكون وعلم بما لم يكن لو كان كيف يكون؛ فهو يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، ويعلم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل حركة في هذا الوجود وكل قطرة من المطر تنزل ويعلم متى تنزل، وأين تنزل، وكل لحظة عين وخائنة أعين وهمسة، وكل خاطرة تخطر على بال أي مخلوق؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمها، وعلمه بها قبل أن يوجد هذا الكون، وقبل أن يوجد هذا الإنسان؛ فعلمه لم يزل أزلاً وما يزال أبداً، لا تخفى عليه خافية، يستوي في علمه عز وجل السر والعلن بالنسبة لنا نحن المخلوقين.

    ولا يخفى على أحد الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذه القضية، أي: قضية العلم ومرتبة العلم، فنؤمن بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم؛ ولذلك فإن كل ما نعمله من طاعات ومن معاصٍ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بها، ولم يستجد له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم بها بعد أن فعلناها؛ بل هو يعلمها قبل أن يخلقنا، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض والكون أجمعين، ولا يزال بذلك عليماً.

    وهو محصٍ لذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويجازينا به عز وجل، وكذلك المصائب التي تقع وما يحدث في الكون من خير أو شر، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به عليم.

    فعلى المؤمن بالله عز وجل أن يؤمن بالقدر، وأول شيء يؤمن به هو أن يؤمن بالله وبعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    المرتبة الثانية: الكتابة

    الدرجة الثانية بعد العلم هي: مرتبة الكتابة.

    فنؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكتب كل شيء؛ كتب ما كان وما سيكون، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ -أم الكتاب- الذي كتبه الله تبارك وتعالى عنده أول ما خلق القلم.

    فأول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم أمره أن يكتب؛ فكتب مقادير كل شيء، وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فكان عرشه على الماء في ذلك الزمن الذي لم يكن هذا العالم الموجود المشهود قد وجد بعد! بل كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يكن قبله شيء، ولم يكن غيره شيء، ولم يكن معه شيء، كما ورد في الروايات.

    وأول شيء خلقه الله عز وجل من العالم الذي نعرفه وبلغنا الخبر عنه هو العرش والماء، ثم خلق بعد ذلك القلم، وأول ما خلق القلم أمره أن يكتب؛ فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وهذا كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

    فإذاً: هذا أمر قد قُضي وفرغ منه، وقد كتب إن كان خيراً وإن كان شراً.

    أنواع الكتابة

    وهذه الكتابة لها تفصيلات وأقسام، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدّر هذه الأقدار المعلومة المكتوبة بتقديرات مختلفة، بعضها لا يطابق بعضاً.

    فقبل أن يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكون كتب ماذا سيكون فيه، وهذه الكتابة نستطيع أن نسميها الكتابة الكونية. فكل الكون وما سيقع فيه مكتوب، ولما خلق الله تبارك وتعالى آدم واستخرج ذريته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صلبه في عالم الذر، وجعل طائفة منهم من أهل الجنة، وطائفة منهم من أهل النار.

    فكتب للنار أهلاً، وكتب للجنة أهلاً قبل أن يخلق الخليقة، وإنما قد خُلق في ذلك الوقت الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره ذريته وجعلوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وهذه كتابة تتعلق بالنوع الإنساني، ونستطيع أن نسميها الكتابة النوعية، أي: لنوع الإنسان، فوضع منهم الشقي، ومنهم السعيد، بحسب علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما سوف يعملون.

    ثم هنالك كتابة تتعلق بكل فرد من مخلوقات الله من بني آدم؛ فالكون كله له كتابة، والجنس البشري كله -النوع الإنساني- له كتابة، وكل إنسان له كتابة أيضاً.

    فمتى تكون هذه الكتابة؟

    هذه الكتابة هي ما أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأنس بن مالك في الصحيحين في الحديث المتفق عليه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق : (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ونحو ذلك ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه.

    والمقصود هنا أن هناك كتابة عمرية تتعلق بكل إنسان، فما من نفس منفوسة، وما من نسمة مخلوقة إلا وكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ماذا سيكون لها، فكتب لها هذه الكلمات الأربع أول ما نفخ الروح في هذا الإنسان، وهو مضغة في الظلمات الثلاث -في الرحم- فكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة أو السعادة؛ فهذا نوع من أنواع الكتابة.

    ثم بعد ذلك الكتابة الحولية -تقديراً حولياً سنوياً- في الحول والسنة، وفي أي ليلة سيكون هذا التقدير؟

    إنه يكون في ليلة القدر، التي فيها يفرق كل أمر حكيم.

    فيكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك الليلة ما هو واقع في عالم الوجود هذا إلى مثلها من السنة القادمة، حتى إنه كما ورد في الحديث: (إن الرجل ليرى في الأسواق ماشياً، وهو مكتوب عند الله تعالى من الأموات) أي: أن هذا الإنسان يمشي ويتحرك ويضحك، وموعده لن يصل إلى ليلة القدر القادمة، بل سيموت في هذه السنة، وفي الوقت الذي كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو أعلم بما كان وما سيكون.

    ثم بعد التقدير السنوي يكون التقدير اليومي، وهذا التقدير اليومي هو ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه بقوله: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يعز ويذل ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ويخفض ويضع، كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذه المقادير التي يقدرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يومياً وينفذها، وفق ما اقتضت إرادته ومشيئته، ووفق ما سبقت به الكتابة في اللوح من قبل.

    فهذه الدرجة الأولى من درجات القدر، ونستطيع أن نجعلها درجتين إذا قلنا: إن العلم درجة والكتابة درجة، ونستطيع أن نجعلهما درجة واحدة، فنقول: مرتبة العلم والكتابة؛ فما علمه عز وجل كتبه أيضاً في ذلك اللوح المحفوظ وهو الإمام المبين.

    المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة

    والمرتبة الثالثة من مراتب القدر : هي مرتبة المشيئة والإرادة، وهي: أن نؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له مشيئة وله إرادة، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويقدر ما يشاء كما يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو رب العالمين وهو خالقهم، وهو الذي يصرفهم ويدبرهم كما يشاء، فمشيئته مطلقة، وأما العبد فله مشيئة مقيدة: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان:30].

    فمشيئة العبد وإرادته واختياره هي جزء من قدر الله عز وجل الذي كتبه ليجازيه ويحاسبه عليها، ولكنها لا تكون إلا بعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبداً، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته لـابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

    فهذه أمور قد قضيت وانتهت، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي له المشيئة، ولا يكون إلا ما شاء ولو أطبق الثقلان الإنس والجن كافة، وكل القوى جميعاً على أن تعمل شيئاً أو توجده أو تنفع به أو تضر ولم يشأ الله عز وجل أن يقع؛ فلن يقع ذلك على الإطلاق.

    وأيضاً لو اجتمعوا جميعاً على أن يردوا شيئاً مما كتبه الله وقدره وقضاه من خير أو شر؛ لا يستطيعون ذلك أبداً؛ لأنهم مقهورون مربوبون بقدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبمشيئته التي لا يردها شيء، ولا يحدها شيء.

    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الفعال لما يريد ولا يكون في خلقه إلا ما يريد وما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    المرتبة الرابعة: الخلق

    المرتبة الرابعة من مراتب القدر: مرتبة الخلق، فنحن نؤمن بالعلم، ونؤمن بالكتابة، ونؤمن بالمشيئة ثم نؤمن بعد ذلك بالخلق؛ لأن ما في هذه الدنيا هو خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى أعمالنا نحن بني آدم مخلوقة لله، حتى ما نخلقه -أي: ما نصنعه- وما نركبه ونفعله أو نبنيه ونهدمه؛ فهو مخلوق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما نطق بذلك صريح القرآن: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وفي آية أخرى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62] وجاء في الحديث الذي صححه العلماء، ومنهم العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الله خالق كل صانع وصنعته}.

    فمهما عمل الإنسان.. إن بنى أو صنع أو عمل من طاعة أو معصية فكل ذلك من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكلها مخلوقة له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ إذاً فما دور العبد في هذا الموضوع؟

    العبد فاعل، يفعل بمشيئته وباختياره ما يفعل من الأفعال الإرادية والأفعال الاختيارية.

    1.   

    الشبهات الواردة في مراتب القدر

    وهذه النقطة وعند هذه المرتبة نلاحظ أن الإشكالات بدأت تتوارد، وما يثيره الشياطين والمنحرفون والملحدون قديماً وحديثاً عند درجة الخلق والمشيئة.

    والذي أشكل على كثير من الناس أنهم قالوا: كيف يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الإنسان، وكتب عليه أنه يفعل الخير ويفعل الشر، وقدّر عليه ذلك قبل أن يخلقه، ثم بعد ذلك يجازيه ويحاسبه عليه؟

    وهذا السؤال الذي يظن الكثير من الناس أنه محير وأنه لا جواب له وأنه مشكل ومعضل؛ فبنوا عليه مذاهب باطلة، وما خرجت القدرية التي ظهرت في عهد صغار الصحابة -رضوان الله عليهم- وأنكرت القدر؛ إلا من أجل الشبهة التي يثيرها هذا السؤال! لكن هل تُركنا لتساؤلات المتسائلين أو لشبهات الملحدين؟

    إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوضح لنا هذا الدين مثل الشمس في رابعة النهار، فقد تركنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً -كما أخبر بذلك الصحابة الكرام- فهذه القضية هل تركت ولم تبين؟ لا. فأعظم الناس عقلاً وأعظمهم فهماً وأكثرهم يقيناً وإيماناً وفكراً وعلماً وعملاً هم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فهم الذين سمعوا هذه الأحاديث وتدبروها وعقلوها، وهم أنفسهم الذين سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عدة أحاديث عن هذه القضية، وكان يجيبهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعظم جواب، وهو الجواب الذي لو ظل الناس يبحثون وينقبون؛ فلن يجدوا جواباً أبلغ ولا أبين منه، وأنا لا أذكر لكم إلا بعضاً منها، فأذكر لكم حديثاً فيه قصة تنطبق على هذه الشبهة.

    : ( كان عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه يجالس أبا الأسود الدؤلي، وفي أحد الأيام قال عمران لـأبي الأسود يا أبا الأسود! أرأيت ما يعمله الناس، وما يكدحون فيه؛ أهو في أمر قد قُضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلغهم نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟).

    فهذا الصحابي يمتحن التابعي، ويقول: هذه الأعمال التي يعملها الناس الآن من طاعات أو معاصي هل هي أمر قد قُضي ومضى وكتب عليهم قبل أن يوجدوا أم فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلّغهم إياه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فوضعه موضع الامتحان.

    قال أبو الأسود: (قلت: لا. بل فيما قد قُضي ومضى، فقال له عمران: وكيف يجازيهم على ذلك؟) أي: إذا كان قد قضى ذلك وكتبه فكيف يجازيهم على ذلك.

    (فقال أبو الأسود: ففزعت لذلك فزعاً شديداً، وقلت: سبحان الله! لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] هو ربهم وهو خالقهم! فطمأنه عمران رضي الله عنه وقال: إنما سألتك لأحزر عقلك)، أي: لأختبرك، هل أنت متمكن من الإيمان وقوي أم أنه لو جاءتك شبهة لذهبت بك يميناً أو شمالاً؟ ثم قال عمران: (أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلان -وفي رواية رجل من مزينة- فقال له: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل فيه الناس ويكدحون، أفيما قد قُضي ومضى، أم فيما يستقبلون به مما قامت عليهم به الحجة وبلغه نبيهم؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل فيما قد قضي ومضى).

    وورد مثل ذلك في الحديث المتفق عليه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن غيره من الصحابة، أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا السؤال، فقالوا: (يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟

    فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل السعادة يسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]).

    من نتائج الإيمان بالقدر

    هذا هو الفهم الصحيح الذي فهمه الصحابة الكرام، وكان من أشد الأمور التي دفعتهم للاجتهاد، والحرص على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    فإنسان يعلم أن من كان من أهل السعادة وأهل الجنة فهو ميسر لعمل أهل السعادة، ماذا تكون النتيجة؟ سيجتهد ويكدح ويحرص على أن يستكثر من الخيرات؛ ليكون من أهل السعادة ومن أصحاب الجنة. وأما المعرضون المنحرفون فإنهم يعارضون أمر الله، ودينه بمشيئته وبقضائه ويعجزون، بخلاف ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن أصابك أمر فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) فيجب على الإنسان أن يسعى، وأن يحرص على الطاعات وعلى ما ينفعه ويقربه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    فاحرص واجتنب واجتهد، فإن كنت مؤمناً قوياً؛ فاعلم أنك خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف.

    والمؤمن الحريص على كل ما يقربه من الله، والعامل المجتهد في طاعة الله أحب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخير عنده من المؤمن الضعيف والعاجز الذي يُلقي كل ما يأتيه من الخير والشر على القدر ولا يعمل، فهذا شأنه، وهو أنه يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا؛ فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وقال: (فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) فهكذا يرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر الناس حرصاً واجتهاداً في طاعة الله وفي عبادة الله، لماذا؟! لأنهم يعلمون هذه الحقيقة الواضحة النيرة، فهم حريصون على الأخذ بها.

    ومثال ذلك الرؤيا الصالحة: إنسان بحالة حسنة طيبة، فرأى رؤية صالحة بأنه سيكون له ذرية كثيرة، فإنها جزءٌ من ست وأربعين جزءاً من النبوة؛ أو شيء يطلع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإنسان عليه من الغيب الذي سيقع، فرأى في المنام هذا، واستبشر بهذه الرؤيا، وفرح وسر بها فإن ذلك يدفعه إلى أن يبادر إلى أن يتزوج الزوجة الصالحة، وإلى ألا يتخذ أي مانع مما قد يمنع الحمل من الأسباب المعروفة لتتحقق له تلك الذرية. وكذلك لو أنه بشر من عند الله عز وجل -كما في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو جاءته مبشرات -كرؤيا مثلاً- أنه سوف يكون لديه من هذه المزرعة ثمر ورزق ونخل كثير.. فما الذي يفعله الإنسان العاقل عادة؟ سيجتهد ويحرص أن يكسب أكثر ما يستطيع لتتحقق له تلك البشرى.

    لكن لو قال: أنا سيكون لي أولاد، ولم يأخذ بالأسباب، فهذا يكون إنساناً غير عاقل.

    فالقدر علم علمه الله عز وجل وكتابة كتبها، ثم شاء ذلك، ولا بد أن تقع مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم خلق ذلك فينا؛ فمعنى ذلك أنه يجب أن نتسابق، ونحرص على طاعة الله، ونجتهد في الطريق الموصل إلى مرضاة الله وإلى جنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكي نكون من أهل السعادة الميسرون لها، كما أن أهل الشقاوة ميسرون لها، أجارنا الله وإياكم، وأعاذنا من الشقاوة وأهلها.

    شبهة القدرية والرد عليها

    و القدرية الذين من أجلهم روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو حديث جبريل المشهور لما جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر فيه أركان الإيمان، وأركان الإسلام، ومن أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، وقد ذكر ذلك عبد الله بن عمر لما أن جاءه ركب العراق وأخبروه أن معبداً الجهني ومن معه ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف.

    فقال عبد الله: [[أبلغوهم أنني منهم بريء، وأنهم مني برآء، والله لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبل منه إلا أن يؤمن بالقدر]] ونقل مثل ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه بل إنه قال: ''لو مكنت من أحد منهم لدققت عنقه''.

    فهذا أول شرك يقع في هذه الأمة، وأول نقض يقع لعرى التوحيد، وكان أول ما وقع في مسألة الإيمان بالغيب هو إنكار الإيمان بالقدر؛ فقالوا: الأمر مستأنف، والعبد هو الذي يخلق ما يفعله من طاعة أو معصية.

    وحتى نعرف مذهب القدرية نذكر مذهب أهل السنة والجماعة؛ فالضد بالضد يعرف.

    فما هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي تدل عليه الآيات والأحاديث؟

    أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو: أن كل عمل من أعمالنا نحن بني آدم من طاعات أو معاصٍ نحن نعمله ونحن نفعله، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نسب لنا العمل ووصفنا به: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] وفي القرآن يتكرر كثيراً: وتعملون، تفعلون، وكذلك يقيمون الصلاة، يؤتون الزكاة.. وكل الطاعات؛ وكذلك المحرمات.. يشركون، يزنون، وما أشبه ذلك، فقد ورد في القرآن جميع الأفعال منسوبة إلى الإنسان.

    إذاً فالإنسان فاعل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان وخلق عمله؛ ولكن العبد هو الذي فعل ذلك.

    والقدرية الذين أنكروا القدر قالوا: لا، إن الإنسان هو الخالق -هو الذي يخلق فعل نفسه- تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

    وقالوا: لو قلنا: إن الله هو الخالق، فكيف يخلق الفعل في الإنسان ثم يجازيه عليه؟

    فهذه هي الشبهة التي أثيرت. فيقول لهم أهل السنة والجماعة: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الفعل، ولكن الإنسان هو الذي فعله. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي شاء ذلك، فشاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعصيه من عصى وأن يكفر به من كفر، وأن يشرك به من أشرك، ولكن هل كل ما خلقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكل ما شاءه رضيه؟ لا.

    إذاً لا بد أن نسلط الضوء على هذه القضية، حتى نعرف لماذا وقع اللبس عند المشركين؟ ولماذا وقع اللبس حتى عند كثير من الناس في مسألة القضاء والقدر؟

    أنواع الإرادة

    يظن الذين لديهم شبهات في هذا الموضوع أن ما شاءه الله عز وجل وقدره فقد رضيه، وهذا لا يصح! لا على مقتضى القرآن ولا السنة، ولا على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شاء الإيمان، وشاء الكفر، شاء الطاعة، وشاء المعصية، وهذه مشيئة كونية وإرادة كونية. فأراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمقتضى الحكمة العظيمة الجليلة أن يكون في الناس مؤمن وكافر: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2].

    فحكمته عز وجل اقتضت أن يجعلهم فريقين، فهذه مشيئته الكونية وإرادته الكونية؛ ولكن رضاه لا يتعلق بهذه المشيئة؛ بل رضاه عز وجل يتعلق بمشيئته الشرعية وبإرادته الشرعية؛ فأرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب لتبين للناس ما الذي يرضاه الله، وما الذي يحبه الله عز وجل، وما الذي يبغضه الله عز وجل، وما الذي يسخط الله، وما الذي لا يريده الله.

    ولهذا لو سألك أحدهم عن رجل لم يصلِّ أو فجر أو كذب أو زنا أو سرق، فقال لك: هل أراد الله عز وجل أن يفعل هذا الرجل هذا الفعل؟

    فإن قلت : نعم أراد الله -هكذا بالإطلاق- فقد أخطأت، وإن قلت: لا، لم يرد الله أخطأت أيضاً.

    فلابد أن نفصل في الكلام، فنقول: ماذا تريد: بأراد؟ فإن كنت تقصد بأراد، أي: أن الله شاء ذلك وعلمه وكتبه وقدره عليه؛ فنعم، فإن الله تعالى شاء ذلك حتى ولو كان شراً أو كفراً أو فجوراً أو معصية فهو الذي شاءه، فلا يقع شيء في الكون إلا أن يشاء الله، وبما يريد الله.

    وإن أردت بقولك: هل أراد الله من هذا أن يزني وأن يسرق؛ أن الله تعالى يرضى بذلك ويحبه؟ فلا، بل نقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد أن يزني الزاني، ولم يرد أن يسرق السارق، أي: لم يحب ذلك.

    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يحب ذلك، ولم يشرعه، ولم يأمر به ولم ينزله في كتاب، ولم يرسل به رسول.

    إذاً: الإرادة هنا لها معنيان: إن أردنا بها الإرادة الكونية التي هي مطلق المشيئة - مجرد المشيئة - فنعم، فإن الطاعة والمعصية كلها أرداها الله ووقعت، لكن إن أردنا بالإرادة المحبة، فلا يريد الله -أي لا يحب الله- إلا ما شرع، وإلا ما أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب.

    شبهة القدرية المشركية

    ولهذا عندما احتج المشركون بالمشيئة، واعترضوا بالمشيئة، أبطل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجتهم في أربعة مواضع من كتاب الله، في سورة الأنعام: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] وأكد ذلك بعد أن وقع في سورة النحل: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35] فهذين موضعين احتج المشركون فيهما بالمشيئة، أي: في مضمون كلامهم: لو شاء الله تعالى ما أشركنا.

    وقال في سورة الزخرف: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف:20] فما معنى ذلك؟

    يقولون: الله عز وجل شاء لنا أن نعبد هذه الأصنام، أي: أنه راضٍ بذلك، ولو شاء ما عبدناها، وهذا الكلام قالوه في موضع رد الرسالة وتكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماذا تريد منا يا محمد؟ أن نترك عبادة الأصنام؟ لا، لو شاء الله ما عبدناها، ولو شاء الله ما أشركنا.

    وقالوا: ذلك في الموضع الرابع، في موضع الأمر بالإحسان: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47] فلو شاء الله أطعمهم فكيف نحن نطعمهم؟

    إذاً هم يريدون ألا يؤمنوا؛ لأن الله شاء الكفر، ويريدون ألا يحسنوا؛ لأن الله لو شاء الإطعام لأطعمهم.

    فالمقام هنا مقام الاعتراض والتكذيب والرد لرسالة الرسل، ولهذا عقب الله تبارك وتعالى على قولهم هذا في سورة النحل، فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] أي فضلاً وعدلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو كان الأمر كما تقولون؛ فلماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، يقولون لكم: هذا يريده الله ويحبه، وهذا يكرهه؟!

    فالمشركون إذاً لم يكونوا يثبتون القضاء والقدر، بل جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الحديث الصحيح في صحيح مسلم- يجادلونه في القدر؛ فأنزل الله تبارك وتعالى عليهم: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] فهم لا يؤمنون بالقدر؛ وإنما قالوا: نحن نؤمن بمشيئة الله؛ لأنهم قالوها معترضين بها على الشرع، ويريدون أن تكون لهم حجة في ترك الأمر والنهي؛ ولهذا قال عز وجل عنهم في سورة الأنعام: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] سبحان الله يكذبهم في قولهم: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148] ثم يقول: وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل:9].

    فقليل البصيرة قد يقول لك:كأن بعض الكلام متناقض مع بعض -عياذاً بالله- وهذا خطأ، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو شاء (كوناً وقدراً) لهدى الناس أجمعين، وفي هذه الحالة فلا يحتاج إلى رسل ولا يحتاج إلى كتب، فقد هداهم أجمعين؛ لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لهم المشيئة فقال سبحانه: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] وقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] لكنه عز وجل أقام الحجة عليهم بالرسل؛ فليس لأحد حجة على الله كما قال سبحانه: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149].

    إذاً: فهذا النوع الأول من أنواع الاعتراض، وهو اعتراض القدرية التي تسمى القدرية المشركية الذين اعترضوا بمشيئة الله واحتجوا بها على رد أوامره ونواهيه، ورد دينه وشرعه، وتكذيب أنبيائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    شبهة القدرية الإبليسية

    والنوع الثاني من أنواع المعترضين -وهو واقع في الناس اليوم- هم: القدرية الإبليسية -نسبة إلى إبليس- الذي حكى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39] فإبليس أبى أن يسجد لآدم واستكبر وكان من الكافرين، فكتب الله عليه اللعنة إلى يوم الدين، وأخرجه وطرده من رحمته، وعندئذٍ اتخذ هذا الموقف من آدم وذريته -موقف العداوة والإضلال والإغراء- إلى أن تقوم الساعة؛ فأراد إبليس أن يحتج على فعله هذا، فلم يقل: فبعصياني وبكفري وبإلحادي وباستكباري سأغويهم، بل قال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39].

    فإبليس يقول: ما دام أنك يا رب أغويتني؛ فسوف أستمر في إغواء بني آدم.

    وهذا النوع واقع في حياة الناس اليوم، فـالقدرية تقول لأحدهم صلِّ، فيقول: لم يرد الله ولم يكتب لي أن أصلي -فيستمر في ترك الصلاة- ولو شاء الله ذلك لصليت؛ لكن لم يكتب الله ذلك لي؛ فلن أصلي. فهو يستمر في الغواية ويستمر في المعصية، ويقول: إن الله ما شاء وهو الذي عصى، ولو شاء هذا الإنسان لقام وتوضأ وصلى؛ لكن الشيطان ألقى الشبهة الإبليسية هذه في أتباعه من شياطين الإنس، ومن المتبعين له الذين وقعوا في حبائله فأصبحوا يحتجون بهذه الشبهة: ما دام أن الله أغواني وما هداني فسأستمر، وما دمت قد أغويتني فسوف أستمر في إغواء الناس، فالشبهة المشركية -أو الشبهة الشركية- والشبهة الإبليسية واقعتان في الناس اليوم.

    شبهة القدرية المجوسية

    والشبهة المجوسية في القدر هي شبهة الذين قالوا: كيف يخلق الله عز وجل الخلق، وكيف يخلق الأفعال في الإنسان ثم يحاسبه ويجازيه عليها؟

    فقالوا: إذاً ننكر ما سبق، ونقول: الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه؛ وهؤلاء قد كذبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها في قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] وفي قوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلقهم.

    وهؤلاء القدرية من النوع المجوسي- القدرية المجوسية- يثبتون خالقين: إله النور (خالق الخير)، وإله الظلمة (خالق الشر) قالوا: فعل العبد من الطاعات خلق الله، وأما المعاصي فهي من خلق العبد حتى لا ننسبها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فماذا قال فيهم السلف ومنهم الإمام أحمد رحمه الله؟

    وعلم الصحابة وعلم السلف علم كلماته قليلة لكن تحتها علم كثير غزير، فكيف ناظروهم، وكيف جادلوهم؟ هل بكتابة أربع أو خمس مجلدات في فلسفات طويلة في القدر؟! لا، بل على نفس منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فناظروهم بجواب شاف كافٍ بأوجز الكلمات، قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من السلف: ''ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا''.

    فأول ما نبدأ معه أن نقول له: ماذا تقول في العلم؟ هل علم الله عز وجل أنك تفعل هذا أم لا؟ فإن أقر به خُصم وقُطع، فتقول: هل علمه؟ فيقول: نعم. فهل كتبه؟ يقول: نعم. فهل شاءه؟ يقول: نعم. فهل خلقه؟ يقول: لا. فنقول: لا. أنت مخصوم ومحجوج، لأنه علمه وكتبه وشاءه وخلقه! فما هو المانع؟ لماذا تؤمن بثلاث مراتب والرابعة تتركها؟ لا يمكن هذا.

    إذاً: فهم إن أقروا بالعلم خُصموا، وإن أنكروه وقالوا: لم يعلمه -عياذاً بالله- فهذا كفر، فبعد ذلك ليس هنالك حاجة أن تتناقش معهم؛ فكون الله عز وجل يعلم كل شيء، هذه حقيقة بديهة يعلمها جميع المؤمنين بل حتى من الأمم الكافرة يعلمون أن الله يعلم بكل شيء، وكل من يقر بوجود الله يعلم أنه يعلم بكل شيء.

    فمن يقول لك: لا. لم يعلم الله كل شيء! ولم يعلم أفعالي! فهذا بدون جدال هو كفر، ونكفره على أمر بين، لا على أمر قد تدخله الشبهة، فنكفره بأمر بين واضح، وهو إنكار العلم الذي لا يخفى على أي مؤمن، ولهذا نجد أن السلف الصالح ذكروا في كتبهم عن القدر حقائق وقصصاً ووقائع مما يوضح المراد، ولتعرف الفرق بين المؤمنين بالقدر وبين القدرية بأنواعهم.

    فقد ذكروا أن رجلاً جاء إلى عمرو بن عبيد وهو زعيم القدرية المعتزلة الأولين، وهو الذي أظهر مقالة معبد الجهني؛ لأن -كما تعلمون- أول من أظهر القدرية بعد معبد الجهني في البصرة هو غيلان الدمشقي الذي كان في المدينة ثم انتقل إلى دمشق، فتلقفها عمرو بن عبيد.

    وعمرو بن عبيد كان من النوع الذي يؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد الشر، فليس عنده إرادة، إلا إرادة واحدة، وليس كما قلنا: إن الإرادة إذا كانت بمعنى المشيئة المطلقة فلها حكم، وإن كانت بمعنى المحبة فلها حكم آخر، فعنده إرادة واحدة، وكان من العباد الزهاد جداً، فجاءه أعرابي بدوي لا يعرف شيئاً من الدين، وقال: دلوني على رجل صالح، وكان هذا الأعرابي قد ضاعت منه ناقته، فجاء يبحث عن رجل صالح يدعو الله له أن يعيد له ناقته، فدلوه على عمرو بن عبيد، وقالوا: هذا رجل زاهد وعابد فاطلب منه أن يدعو الله لك، فجاء إلى عمرو فقال له: مالك؟ قال يا عمرو: إن ناقتي قد ضاعت وفقدت ولا أدري من الذي أخذها فادع الله لي؟ فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته، فردها عليه! فالأعرابي بفطنته رأساً قال: لا حاجة لي في دعائك، فقالوا له لماذا؟ قال: ما دام أنه قد أراد ألا تسرق فسرقت، فأخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع!

    فالإرادة عند عمرو بن عبيد إرادة واحدة فقط.

    ولهذا يقال: إن مجوسياً وقدرياً أيضاً ركبا في سفينة، وأخذا يتجاذبان في القدر، فقال المجوسي للقدري: الشيطان لما فعل وعصى هل فعل ذلك بقدر من الله؟ فقال القدري: لا. قال: إذاً غلبه. -عياذاً بالله- فقال له: لم لا تسلم؟ قال: أنا مع أقواهم. أي: على كلامك أن الله لم يرد أن يكفر الشيطان وكفر فاتركني أكون مع القوي!

    1.   

    الآثار السيئة للانحراف في القدر

    فانظروا كيف تحدث هذه الشبهات طعناً في الدين وثلمةً فيه؛ فيفضي ذلك القول بالطرف الآخر إلى ردة الفعل، فمن هو الطرف الآخر؟

    الطرف الآخر هو الذي يقول: إن الله عز وجل هو فاعل كل شيء كما قال بذلك الجهمية ومن اقتفاهم، كالكسب عند الأشعرية، والكسب أصلاً كان عند النظام عند المعتزلة، ثم أخذه منهم الأشعرية.

    فـالشيعة قدرية ينكرون القدر، والأشعرية جبرية، أي يقولون: إن الله هو الفاعل، ولا يقولون: إن الله هو الخالق، وتبعهم على ذلك غلاة الصوفية الذين يقولون: إن أي فعل يقع يجب عليك أن تعتقد أن الله هو الفاعل -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فالناس يفعلون الزنا، وشرب الخمر، والمحرمات الكثيرة، فهل نقول: إن الله هو الفاعل؟! لا. ولكن الله شاء ذلك وأراده كوناً ولكنه لم يحبه ولا يحبه شرعاً؛ خلقه فيهم؛ لكن ليس هو الفاعل له؛ وإنما الله خالق، والعبد هو الفاعل.

    والشبهة الأخيرة هي قولهم: كيف يجازيهم الله عز وجل؟

    فنقول: هل يجازي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العباد على ما يعلم؟ وهل يبعثهم يوم القيامة ويقول: أنا أعلم أنك تفعل المعاصي فأجازيك عليها، أو أعلم أنك تفعل الطاعات فأثيبك عليها، أم يجازيهم على ما فعلوا؟ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجازيهم على ما فعلوا؛ ولهذا يسترسل الإنسان: وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54] ولا يصدق بما يقرره عليه ربه، ويتهم الملائكة الكاتبين الكرام، ويقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، فيختم الله عز وجل على أفواه أولئك العصاة وتتكلم أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، وتنطق جلودهم بأنها عملت المعاصي.

    إذاً: فهذا الإنسان عندما يحاسب ويدخل الجنة أو يدخل النار فهو نتيجة للأسباب التي اتخذها، والأعمال التي عملها، وإلا لو كان الحساب على مجرد العلم؛ لكان أوّل ما خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آدم واستخرج من ظهره ذريته وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، انتهى الأمر ولا حاجة إلى أن يخلقوا، وأن يأتوا إلى هذه الدنيا، لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجازيهم على أعمالهم، وهذه الأعمال التي يعملها الناس منها ما هو غير اختياري فلا يحاسب عليه الإنسان.

    فهل يحاسب الله تعالى المجانين؟ بل ورد أن أربعة من الناس يتظلمون إلى الله عز وجل يوم القيامة: المجنون، والهرم، والصغير، والزّمِن أصحاب العاهات- كل منهم يوم القيامة يقول: يا رب! لما جاء الرسول كنت مجنوناً أو كنت هرماً أو كنت صغيرا،ً فكيف تحاسبني يا رب! وأنت الذي لا تظلم أحداً شيئاً؟!

    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمتحنهم ويختبرهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يونس:44] فالله غني عن الناس، وغني عن ظلمهم: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فالذين يقولون: إن الله قدّر ذلك وكتبه علينا فكيف يحاسبنا؟

    نقول: أنت جعلت نفسك كالمجنون أو الصغير أو الزمن الذي لم يدرك شيئاً من الدين، وهذا لا يصح أبداً. فأنت قد جاءك الدين والإيمان وبلغك، فلو أن هذا الأمر خفي عليك كحكم من الأحكام لم تعلمه، فتقول كما قال سبحانه: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] فيقول عز وجل: قد فعلت. وهذا الأمر فيما بلغك وأخطأت فيه أو نسيته، لكن في أمر تعمدته كعلمك بأن الله عز وجل أمرك بالصلاة ولم تصلِّ، فهل ينفعك يوم القيامة أن تقول : يا رب! قدّرت هذا علي أو قضيت؟ هذا لا ينفع أبداً! فاعلم أن الله عز وجل أمرك أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، وأن تطيع الله ورسوله فيجب عليك أن تحقق ذلك.

    1.   

    الأسئلة

    الإنسان مخير أم مسير

    السؤال: هل الإنسان مخير أم مسير؟

    الجواب: الذي يجب أن نعلمه أن السؤال إذا كان خطأً؛ فهذا لا نجيب عليه إجابة مباشرة؛ لكن نبين خطأ السؤال.

    وهذا مثلما سأل بعضهم فقال: يقول الملحدون الغربيون: إذا كان الله على كل شيء قدير فهل يقدر أن يخلق مثل نفسه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

    وأيضاً السؤال هنا خطأ؛ فلا نجيب عليه إجابة مباشرة، ولكن نبين خطأ السؤال؛ فمن الخطأ أن يقال: إن الإنسان مخير أو يقال: إنه مسير؛ بل من الخطأ أن يُسأل هذا السؤال، فمن الخطأ أن تسأل فتقول: الإنسان مخير أو مسير؟ وتتوقع أن يجيبك المجيب بأن يقول: مسير، أو يقول: مخير؛ فلو أجابك وقال: مسير، لقلت: إذا كان مسيراً فكيف يحاسبه الله عز وجل، وهناك أمور هو مخير فيها، وإذا قال لك: هو مخير، قلت له: كيف مخير ولم يأت إلى هذه الدنيا بإرادته، ولم يفعل الأفعال التي يشاء، فهو يشاء أحياناً أموراً كثيرة ولا تقع، وأحياناً لا يشاء الأشياء وتقع، فكيف تقول: إنه مخير، ففي مثل هذه الحالة نعرف أن السؤال نفسه خطأ.

    فهذا السؤال لم يرد عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولا عند السلف الصالح؛ لأنهم قوم أعقل من أن تخطر عليهم هذه الأسئلة، وهذا السؤال إنما يرد في كتب الفلسفة عند المتفلسفين الذين يخوضون في قضايا عميقة ودقيقة ونظرية لا أساس لها في الشرع، ولا حتى في العقل الصريح.

    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال وليس هناك أوضح من هذا القول ومن هذه العبارة: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] فأثبت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا مشيئة، ولكنها لا تكون إلا بعد مشيئة الله، ووفق ما أراد الله، فإذا عملنا عملاً من الأعمال باختيارنا؛ فإن الله عز وجل يكون قد أراده، وإذا أردنا أن نعمل عملاً من الأعمال، ولكن الله عز وجل لم يشأه؛ فإنه لا يكون ولا يقع مهما اجتهدنا في تحصيله.

    ويقول لك أحدهم: أنا مخير وأنا حر، وأريد أن أعمل هذا العمل! ولكنه لا يقع ذلك -حتى في واقع الحياة- والقصص على هذا كثيرة جداً.

    فمما ذكره بعض العلماء: أنه كان رجلان في طائرة -مسلم والآخر كافر- والرحلة كانت إلى لندن فقال الكافر للمسلم: كم تبقى من الوقت لنصل إلى لندن؟ قال: تبقى ساعة إن شاء الله -قالها هكذا عادية مثل أي مسلم- فضحك الرجل وقال: لماذا تقول: إن شاء الله، فالطائرة ذاهبة والمطار موجود؟! بل قل: بعد ساعة ولا تقل: إن شاء الله، فقال له: لا. أنا مسلم، وأقول إن شاء الله؛ لأننا قد نشاء أشياء نسعى لها والأسباب متوفرة، ولا يقع ذلك فأبى الكافر أن يقتنع، فيقول الرجل المسلم: فقدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه عندما وصلنا قريباً من لندن وإذا بالمطار مقفل؛ فهناك ضباب والهبوط ممنوع، ولا بد أن يكون الهبوط في باريس، ولا أعرف كم تبعد باريس عن لندن فقلت له: كم بقي حتى نصل إلى باريس، فقال: ساعة إن شاء الله؛ فعرف أن هناك إلهاً فعلاً بعد أن قال: لماذا تقول: إن شاء الله؟ فهو لا يدري لعل باريس تكون مقفلة أيضاً.

    فالقصد أن الإنسان مهما كابر ومهما قال: لا. كل الأسباب موجودة، وأنا أقدر فلماذا تقول لي: إن شاء الله؟! فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي إذا شاء وقع ما شاء، لا ما خططت أنت.. وأحياناً لا تخطط لشيء فيحدث ويكون قد شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لك.. وهكذا.

    وبهذا نعرف قدرة الله وعظمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه هو الذي يدبر الكون ويصرفه، ونعرف أن الإيمان بالقدر يولد الطمأنينة في نفس الإنسان: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] فالإيمان بالقدر يعطي الإنسان طمأنينة، وراحة فلا يندم ولا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما أوتي كما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك في كتابه.

    فإذاً الإنسان له مشيئة وله اختيار؛ ولكنه اختيار محدود وفي حيز مشيئة الله له، ولا تكون مشيئة الإنسان ولا تنفذ إلا إذا شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك.

    فلو كان الإنسان مجبوراً بإطلاق؛ لكان مثل الحجر أو الشجر في مهب الريح.. وليس الإنسان كذلك، ولو كان مخيراً بإطلاق؛ لكان يفعل ما يشاء، دون أن يقع له أي عارض أو أي مانع إلا تحصيل الأسباب؛ لكننا إذا نظرنا فسنجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو خالق الأسباب، وأنه إذا شاء أبطل الأسباب وأبطل أفعالها. فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي شاء وجعل المطر سبباً في إخراج الزروع: فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل:60] أنبتنا به أي: أن الله عز وجل جعل المطر والغيث سبباً في الإنبات، ولو شاء الله عز وجل لكان كما ورد في الحديث في آخر الزمان: {يصبح المطر قيظاً} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: {ليس الجدب ألا تمطر السماء ولكن أن تمطر السماء ولا تنبت الأرض شيئاً}.

    فهل لاحظتم كيف جعله الله سبباً؟ ولو شاء الله عز وجل لجرَّد هذا السبب من الفعل كما يشاء؛ وما الآيات والبراهين والبينات التي جعلها الله تبارك وتعالى للأنبياء إلا جزء من ذلك؛ فالنار عادة تحرق، وكل ما يقع في النار فإن النار تحرقه، وهذا أمر خلقه الله تعالى هكذا؛ لكنه لما شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى الخليل عليه السلام فيها، قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فما أحرقته.

    وكذلك ليس من الأسباب العادية المعروفة أن البحر بضربة العصا ينفلق حتى يكون كل فرق كالطود العظيم، ولا يمكن ذلك بالأسباب العادية؛ لكن الله جعله لموسى وقلب تلك العصا حيه، وهكذا...

    فهذه إرادة الله، ومشيئته، فالإنسان له مشيئة لكنها ليست حرة، ومطلقة.

    حديث "فحج آدم موسى" والاحتجاج به على المعاصي

    السؤال: حديث: {فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} اشرح لنا هذا الحديث؟

    وآخر يقول: هل للعصاة حجة فيه للاحتجاج على المعاصي؟

    الجواب: هذا الحديث أولاً: هو حديث صحيح لا شك في صحته عند علماء السنة.

    يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة} هكذا في بعض الروايات وكلها متقاربة، وهكذ احتج موسى على أبينا آدم عليهما السلام: {فقال له أبونا آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وخط لك التوارة بيده، تلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} أي: غلبه بالحجة.

    فآدم غلب موسى، وهنا وقع الإشكال؛ فـ القدرية المعتزلة وأشباههم قالوا: هذا الحديث لا يثبت وردوه، وإذا قيل لهم: كيف تردونه وهو صحيح؟! قالوا: هذا فيه حجة لأهل المعاصي، فيعصي الإنسان ويقول: قدَّر الله عليَّ؛ لأن آدم قال: قدر الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، فنحن نرد هذا الحديث، فردوه وهو حديث صحيح.

    وأما القدرية المرجئة -والكل يسمون القدرية لكن الأخص يطلق على النفاة- فقالت: لا. بل هذا الذي نريده، فاحتجاج العاصي بذلك جائز له؛ لأنه في الحقيقة لا فاعل إلا الله، وكما يقول غلاة الصوفية:

    أصبحت منفعلاً لما تختاره     مني ففعلي كله طاعات

    أي كل أعمالي من الله.

    فهذا الحديث يدل عندهم على أن للعاصي أو لأي مذنب أو مجرم أن يحتج بالقدر، وهذا أيضاً باطل.

    وقد وقع في هذا الحديث خصومة شديدة بين المعتزلة الذين أنكروا الحديث، والأشعرية والصوفية الذين أثبتوه؛ ولكن على غير الوجه الصحيح، حتى قال الشيخ المقبلي رحمه الله: من يقرأ في مجادلة الفريقين يظن أن آدم أشعري وموسى معتزلي.

    فجعلوا آدم أشعرياً، وجعلوا موسى معتزلياً، سبحان الله! من كثرة ما تجادل الطرفان، وكلاهما أخطأ في الفهم.

    والفهم الصحيح للحديث هو كما فهمه الصحابة الكرام، فلم يقع عندهم أي تعارض، وهم أفقه الناس وأعلمهم وأذكاهم، وهو أن موسى عليه السلام لم يعتب ويلم آدم على الذنب، ولم يقل لآدم كيف تذنب وتعصي أو كيف تأكل من الشجرة، وهذا هو الفهم الذي تفهمه الجبرية.

    وهنا إشكالات يكفي أن نذكر منها إشكالين بالنسبة لكل واحد من هذين الرسولين:

    أولاً: أما بالنسبة لآدم عليه السلام فالجواب سهل جداً، فإذا قال له: لماذا تعصي؟ فسوف يقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد غفر لي ذنبي، ولست أنت ربي حتى تحاسبني؛ ومن هذا الذي يلوم أحداً على ذنب قد فعله، وعنده علم من الله أنه قد غفر له؟

    ومثلاً الكافر إذا أسلم؛ نحن نعلم -وإن كان ليس بنفس اليقين- أن هذا الإنسان ما دام أسلم فإن الإسلام يجب ويهدم ما قبله، فعندما أقول له: لماذا كفرت؟ فهو يقول: لا داعي للسؤال فأنا قد أسلمت، واعتراضك هذا ليس له وجه.

    فالجواب إذاً سهل بالنسبة لآدم، فيقول: إن الله قد غفر لي ذنبي، ولست أنت بربي، وأيضاً موسى عليه السلام أعلم بالله وبآدم وبالحق من أن يلوم أباه آدم على ذنب يعلم أن الله قد غفر له.

    إذاً إلى أي شيء يتوجه اللوم؟ إنما يتوجه موضع اللوم؛ إلى الإخراج فاللوم أنك خيبتنا وأخرجتنا، فموسى عليه السلام ينظر كيف كنا، وأين كنا، كما قال ابن القيم:

    فحي على جنات عدنٍ      فإنها     منازلك الأولى وفيها المخيم

    ولكننا أسرى العدو فهل ترى     نعود إلى أوطاننا ونسلم

    فنحن نزلنا إلى هذه الدنيا وهذا التراب حتى يقال: إن آدم عليه السلام بكى طيله ثلاثمائة سنة، ولا بد أن يبكي عليه السلام لما أنزل إلى التراب، فهي مصيبة كبيرة أن يخرج من الجنة وينزل إلى التراب.

    فموسى عليه السلام يلومه على هذه المصيبة، فيقول: يا أبانا آدم! خيبتنا وأخرجتنا من الجنة.

    إذاً هذا اللوم يتوجه إلى هذه المصيبة، وهي الخروج من دار النعيم، ومن دار القرار إلى دار الشقاء والنكد والمصائب، فآدم عليه السلام يقول: أنا ليس لي ذنب في الإنزال، بل هي مصيبة ليس لي ذنب فيها؛ لأنه أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، وهذا صريح القرآن: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] أي: أن هذا قبل أن يخلقه: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30].

    إذاً فالله قدر قبل أن يخلق آدم في الفترة التي لم يكن فيها آدم شيئاً مذكوراً، كما قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1] وهي أربعون سنة.

    فيقول آدم عليه السلام: يا موسى! الإنزال في الأرض ليس له علاقة بي، عصيت أو لم أعص فالنزول واقع واقع، لأنه قُدر وكُتب قبل أن أخلق بأربعين سنة بأنني أنزل إلى الأرض فلماذا تلومني؟ أتلومني على أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة؟!

    إذاً انتهى الجواب: {فحج آدم موسى} وفي رواية أخرى: {ألم تقرأ في التوراة أن الله تعالى كتب أنه سوف ينـزلني إلى الأرض وأنه سيجعلني خليفة في الأرض}.

    إذاً ليس هناك مجال للاحتجاج بالقدر على المعاصي؛ ولكن نحتج بالقدر على المصائب، كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22] وهذا ما أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نقول: { قل قدر الله وما شاء فعل }.

    فإذا وقعت المصيبة ووقع الشيء خلاف ما تريد؛ فإنك حينئذ تحتج بالقدر وتقول: قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أخذ ولله ما أعطى، فهذه أقدار الله عز وجل؛ فالقدر يحتج به على المصائب، ولا يحتج به على المعائب والذنوب.

    أما أخطاؤنا التي نرتكبها عصياناً لله، فلا نحتج بها إلا في حالة واحدة! حالة أن يكون الاحتجاج بالقدر على المعصية مجرد إخبارٍ عن أمر قد مضى أو أمر واقع وليس فيه معارضة على القضاء والقدر.

    فالمشركون احتجوا بالقدر على الشرك، فقالوا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام:107] لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35] لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20] أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47] فاحتج المشركون به في مقام الاعتراض على الرسل؛ لكن لو أن أحداً من الصحابة أسلم، فقيل له: لماذا لم تسلم إلا في السنة السابعة من الهجرة؟ فقال: لو شاء الله لأسلمت قبل ذلك، فإننا نقول: الاحتجاج هنا صحيح؛ لأن هذه مصيبة، فيحتج بالقدر على المصيبة، أو يحتج به على ما ظاهره أنه معصية، لكنه بمنزلة المصيبة.

    وأما إذا قال لك أحد: هؤلاء جيرانك محتاجون -وهم مسلمون- فأطعمهم، فقلت: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47] فهذا لا يجوز؛ لأنه يعتبر رداً لأمر الله وشرعه الله بمشيئته، لا يجوز.

    ولو قيل لك: يا أخي! يوجد في أمريكا الوسطى أناس فقراء، وفي الصين كل يوم يموت من الجوع ألف؛ فما هو رأيك؟ فقلت: يا أخي! لو شاء الله أطعمهم، وهذه مشيئة الله، فكلامك هنا صحيح، فإنه لو شاء الله ما ماتوا في إفريقيا ولا في أمريكا الوسطى ولا في الصين ففي هذا الموضع لا يكون الاحتجاج دافعاً لعدم الإنفاق ولا منعاً للإحسان؛ وإنما تقول هذا من باب الإخبار المجرد؛ فهو في هذه الحالة يتحول إلى كلام على المصيبة وليس على المعصية.

    وقد ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لما ذهب يتفقد علياً وفاطمة وحضهما على قيام الليل، فقال علي: إن أنفسنا بيد الله فمتى شاء بعثنا، فولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يضرب على فخذه، ويقول: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54]} وهذا ليس من باب قول أحدهم: أنا أنام ولا آخذ بالأسباب، وإذا قدر الله لي أن أستيقظ استيقظت! فهذا احتجاج بقدر الله -بأنه هو الذي يحيي ويوقظ النفس- لترك الطاعة، وهذا لا يجوز، لكن علياً فطن إلى المحاجة والمجادلة مثلما فطن آدم في محاجة موسى، أي أنه إذا وقع النوم بعد أخذ الأسباب فهو من الله.

    ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بني المصطلق لما نام هو وأصحابه ولم يوقظهم إلا حر الشمس، قال: {إن أرواحنا بيد الله فمتى شاء بعثها} وهذا استدلال بقدر الله على المصيبة، فأنت إذا تحريت واجتهدت ونمت في الوقت المناسب، وقد تكون وضعت المنبه،وكل شيء؛ ثم استيقظت وإذا بالناس قد صلوا الفجر؛ فهنا تقول: أرواحنا بيد الله.

    لكن أحدنا ينام ولا يبالي ولا يستعد ولا يريد أن يصلي الفجر جماعة، ثم يقول: أرواحنا بيد الله، فالفرق كبير بينهما، فهذه معصية وتلك مصيبة، وهناك فرق بين المعصية والمصيبة من حيث الاحتجاج.

    محو الله للقدر ورد القدر بالدعاء

    السؤال: هل يمحو ويغير الله ما يكتبه على العباد ويكتب غيره، وهل يرد الدعاء شيئاً من القدر؟

    الجواب: نعم، فالله تبارك وتعالى يقول: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: ( لا يرد القضاء إلا الدعاء) وهذا يحفزنا ويدفعنا للاجتهاد في طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باستمرار، وأن نكثر من دعاء الله ونجتهد في طاعته، وندعوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من السعداء، وأن نعمل بعمل أهل السعادة.

    جواز الدعاء بطلب السعادة

    السؤال: هل يجوز أن يقول الإنسان: اللهم إن كتبتني شقياً فامحني واكتبني من السعداء؟

    الجواب: مثل هذا جائز، وقد ورد عن السلف؛ لأنك لا تعلم الغيب، ولا تدري ما حالك عند الله، وهذا -كما قلنا- من أكبر الأسباب التي جعلت السلف الصالح يجتهدون في طاعة الله، وكذلك يجتهدون لأن يكونوا من المقربين ومن أصحاب السعادة؛ فاجتهد وادع الله أن يجعلك من أهل السعادة؛ فحينئذٍ تكون قد بذلت الأسباب، والله يوفق من دعاه ولا يخيبه، كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    لكن أم الكتاب لا نقض فيها ولا تغيير ولا تبديل، لأنها كتبت حسبما سيكون عليه الحال كما علمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    خلق القلم وكتب الأقدار قبل خمسين ألف سنة

    السؤال: يقول السائل: إن الله خلق القلم، وكتب الأقدار قبل خمسين ألف سنة فما هو الدليل على ذلك؟

    الجواب: الدليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) رواه مسلم.

    فقد كتب الله عز وجل مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء، في الوقت الذي لم تكن السماوات والأرض قد وجدت، بل بينهما خمسين ألف سنة.

    فيجب أن يكون الإنسان على إيمان ويقين بأن كل ما يصيبه من خير أو شر فأمر قد قضي وانتهى؛ فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولم يبق إلا ما كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فليجتهد العبد في الطاعة وفي فعل الخير، وفي دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعله عنده من أصحاب اليمين، ومن المقربين، ومن المتقين، ومن الميسرين لليسرى.

    حكم استخدام كلمة (لو) في الرد على القدر

    السؤال: حصل لرجل حادث، فقال له رجل آخر: لو أنك لم تذهب، فهل يجوز هذا القول؟

    الجواب: قوله: لو أنك لم تذهب لما وقع الحادث لا يجوز؛ لأن هذا ما قاله المنافقون: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156] فرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] أي: لو كان الإنسان في بيته، والله عز وجل كتب أنه يذبح هنا، فإنه يخرج إلى مضجعه ويضطجع ويذبح؛ فهذا شيء لا بد منه.

    فأمر كتبه الله لا بد أن يقع، ولا يجوز الاعتراض بكلمة (لو) هذه؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث السابق: (استعن بالله واحرص على ما ينفعك ولا تعجز، وإن أصابك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) وهذه لا يستخدمها المؤمن في القدر، في مثل هذا الموضع.

    أنواع كتابة القدر

    السؤال: هل الكتابة الكونية ليس فيها الكتابة النوعية؟ وهل الكتابة النوعية ليس فيها الكتابة الحولية؟ وهل الكتابة الحولية ليس فيها الكتابة العمرية؟ وما فائدة هذه الأنواع من الكتابة إذا كانت متضمنة مكتوباً واحداً؟

    الجواب: هي في الحقيقة تقدير بعد تقدير، فالكتابة الكونية في اللوح المحفوظ هي وفق علم الله، ومن الممكن أن نعتبر أن العلم والكتابة مرتبة واحدة، لكن الكتابة النوعية والكتابة العمرية والكتابة الحولية والتقدير اليومي، هذا تقدير بعد تقدير، وكتابة بعد كتابة، ولله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك حكمة، فلما خلق الإنسان؛ جعل الله له قدراً خاصاً وهو موافق للقدر الأول، ولما خلق كل إنسان منا في ذاته -أيضاً- كتب قدره، فهو من نفس القدر الأول، وكذلك كل عام، وكل يوم يفعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يشاء، فهذه أخبرنا الله بها، حتى يزداد إيماننا ويقيننا، ونعلم أن الكون كله بقدر، فجنس الإنسان كله بقدر، وعمرك كله بقدر، وسنتك هذه بقدر، ويومك هذا بقدر.

    إذاً فكل شيء بهذا الترتيب العجيب الذي لا يمكن أن يعلم إلا عن طريق الوحي، فهل تتخيلون أن العقل وحده يستطيع أن يعرف أنواع هذه التقديرات؟

    إن هذا لا يمكن على الإطلاق؛ وهذا فيه فائدة عظيمة لنؤمن بالغيب، ولنعرف قيمة الوحي، ولنزداد يقيناً بأقدار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلا فكلها مُتضمَنة ومكتوبة بالقدر الأول الذي هو أم الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير.

    الحث على تعلم القدر

    السؤال: يقول السائل: قال بعض السلف: ''رأيت أعلم الناس بالقدر أجهلهم به، وأجهل الناس به أعلمهم به'' ما رأي فضيلتكم في هذه العبارة؟

    ثم اذكر موقف السلف حول الإيمان بالقضاء والقدر؟

    وهل حرص العبد على الادخار لذريته ينافي القدر؟ وهل عرض قضايا القدر تفصيلاً بحضرة العوام يتعارض مع قول الإمام علي: [حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله

    الجواب: نبدأ أولاً بهذه العبارة ''رأيت أعلم الناس بالقدر أجهلهم به, وأجهل الناس به أعلمهم به'' فهذه العبارة ليست عامة، وليس المقصود بهذه العبارة أحكام الخبر المنصوص عليها وما جاء في القدر من آيات وأحاديث وكلام السلف؛ لأن هذا من زيادة العلم الذي يزيد الإنسان يقيناً وإيماناً بهذا الركن العظيم من أركان الإيمان؛ لكن الذي يبحث في الدقائق ويتعمق في أسرار القدر؛ فمهما تعمق فإنه يرجع إلى الأساس الأول، وهذا هو الذي لو جهله لكان خيراً له.

    فالقدَر المتعمق فيه هو الذي سلكه أهل الكلام وأمثالهم، وقد وردت عبارة عن السلف مثل هذه تماماً وهي تفسر هذه كما يقول أبو يوسف أو غيره: ''العلم بالكلام هو الجهل، والجهل به هو العلم'' وعلم الكلام هو التعمق والتدقيق في أمور غيبية بالعقل المجرد، كالتدقيق في صفات الله وفي القدر وما أشبه ذلك؛ فهذا هو الجهل، لأن الإنسان يتكلف ما لا يمكن أن يصل إليه وما لا يطيقه، وهذا ينتج عنه الضلال والانحراف عافانا الله وإياكم.

    أما العلم الذي هو في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة المتعلق بهما -أي الكتاب والسنة- فليس داخلاً في ذلك.

    وأما حرص العبد على الادخار لذريته فإنه لا يتنافى مع القدر؛ لأن الجوع قدر وإذا أكلت وشبعت أذهبت الجوع، وهذا أيضاً بقدر؛ ولهذا المؤمن مطالب بأن يدفع القدر بالقدر، فالقدر ينازع بالقدر، وهذه كلها أقدار أو أسباب جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنا لا أعلم بالمكتوب عند الله؛ وإنما المطلوب مني أن أدفع قدراً بقدر، فأدفع المعصية بالطاعة، وأدفع الغفلة في القلب بذكر الله عز وجل وقراءة القرآن وبتذكر الموت والآخرة، وأدفع الداء بالدواء والعلاج وهكذا، فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـسعد: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) وهذا من الأخذ بالأسباب والقدر، ولا شيء في ذلك.

    أما الحرص الذي يجعل الإنسان يمنع حق الله من المال، ويخاف على أولاده، ويقول: كيف يعيشون؟ وكيف يطعمون من بعدي؟! ويجزع ويهلع؛ فهذا هو الذي لا يجوز.

    أما أن يدخر شيئاً مما أعطاه الله؛ ليصلح حال أبنائه من بعده؛ فهذا مأمور به ومطلوب شرعاً؛ ولهذا لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثلث -كما ثبت ذلك في حديث سعد الصحيح الذي أشرنا إليه-.

    أما عرض قضايا القدر في حياة العوام تفصيلاً.. فليس كل شيء ينبغي أن يعرض أمام العوام تفصيلاً، لكن بالنسبة لطلبة العلم ينبغي أن يتعلموا ما يحتاجون من علمه؛ حتى إذا سأل العوام يجيبونهم.

    فمن لديه استعداد للعلم فليتعلم، وإن كان هو يجهل ذلك؛ لأنه ليس كل شخص يولد عالماً.

    وأما إذا قلنا: هذا لا يعلم شيئاً فلا نعلمه شيئاً في القدر؛ فسيظل جاهلاً.

    لكن ليتعلم شيئاً، ومن عنده استعداد أن يتعلم أكثر من ذلك فليعلّم ذلك، كما في الحديث الصحيح عن عمران بن حصين حين امتحن واختبر أبا الأسود الدؤلي في القدر.

    فإذاً: هذا مما يدل على أن من الناس من يُعلَّمون ذلك، ولكن ليس كل واحد يعلَّم.

    سبب الالتباس في مسألة القدر

    السؤال: إنني أرى كثيراً من الناس يصلون ويصومون، ولكنهم مع ذلك لديهم التباس في مسألة القدر، فما السبب في ذلك؟

    الجواب: السبب هو أن الشيطان حريص، فإما أن يأتينا بالمعاصي الظاهرة، وإما أن يأتينا بالمعاصي الباطنة -وهذا أشد- ولهذا قال الله تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] فالمعاصي الظاهرة هي نتيجة للشهوات، كترك الصلوات أو الزنا أو الخمر أو ما أشبه ذلك -عافنا الله وإياكم منها- لكن المعاصي الباطنة تكون نتيجة الشبهات -في الغالب- فيأتي الشيطان بالشبهة فيفسد على الإنسان دينه، فيضل بالقدر أقوام، وكم كفر من أناس نتيجة القدر! نسأل الله العفو والعافية.

    فهذا عمرو بن عبيد كان عابداً زاهداً لا يكاد يملك من الدنيا شيئاً، لكنه كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [[لو أنفق مثل أحد ذهباً ولم يؤمن بالقدر لم ينفعه أبداً]].

    إذاً هذا هو الذي يريده الشيطان؛ فلقد عجز أن يأتي إلى بعض الناس من باب الشهوات والمعاصي؛ فأتاهم من باب الشكوك، ومن باب فساد الإرادة والإخلاص -عافانا الله وإياكم من ذلك- ولذلك هو حريص إما أن يجعلك لا تعمل، أو أن يجعل عملك فاسداً حابطاً.. وإن اجتهدت واستكثرت منه؛ ولهذا يجب أن نحذر هذا العدو، فهو عدو لديه تجارب طويلة، ولديه نفس ثابتة تعينه، ولديه -خاصة في هذا العصر- من الوسائل من مكر الليل والنهار والسيطرة على قلوب البشر والغفلة عن ذكر الله، الشيء الكثير جداً؛ حتى أصبحت هذه الشبهات تتلاحق على الناس.

    فشبهات في القدر وشبهات في الصفات وفي الإيمان بالله وفي نشأة الكون، وفي سبب وجود الإنسان، وفي نهاية الإنسان، شبهات متلاحقة لا تكاد ترى كتاباً من هذه النوعيات أو مجلة أو فيلماً أو مقالة إلا وفيها شبهة فسبحان الله!!

    ولولا ثقتنا بنصر الله ووعده والإيمان به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن الأمة فيها صحوة طيبة، وفيها فئة ثابتة؛ لقلنا انتهى الإسلام من كثرة ما تجد من مكر الليل والنهار بهذه الشبهات.

    فقد كان الطفل ينشأ إلى أن يبلغ الحلم لا يسمع شبهة؛ أما الآن فإن الطفل تصب الشبهات في ذهنه صباً -كل يوم تقريباً- ولهذا ننصح بضرورة التربية على الإيمان وعلى العقيدة الصحيحة وعلى العلم الصحيح، ولا يكفي مجرد العواطف أو مجرد الاستثارة.

    بل يجب أن نكون على علم ويقين، وإلا فسوف تصبح الشبهات مستعصية، وهذه ما يريده الشيطان، نسأل الله أن يكفينا وإياكم وإخواننا المسلمين من شره.

    الرؤيا المبشرة

    السؤال: يقول السائل: إذا رأى الإنسان رؤيا مبشرة فما الذي يجب عليه أن يعمله؟

    الجواب: عليه أن يعمل لتحقيقها.

    مثلاً: افرض أنك رأيت رؤيا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يهدي بك طائفة من الناس أسلموا واهتدوا على يديك! فعليك أن تتسلح بالعلم، وأن تستعد وأن تذهب إليهم، وأن تبذل الدعوة لهم؛ حتى تتحقق لك هذه البشرى، وكذلك لو رأى أو بُشِّر بأنه سيكون له أبناء كثيرون، فعليه أن يسعى ليتزوج المرأة الصالحة، ويسعى لأن يكسب هذه الذرية الصالحة الطيبة، أي: أنه يبذل الأسباب التي تجعل هذه البشرى حقيقة -إن شاء الله- كما أنه لو رأى أو ظن أو توقع ما يسيء إليه، فإنه يسعى إلى اجتنابه، ولو توقع أي شر فإنه يبذل الأسباب لاجتنابه، مع الفارق -طبعاً- بين البشرى وبين الفعل السيئ.

    اختلاف الناس إلى طريقة الخير والشر

    السؤال: قد يقول قائل: أنا أومن بأن الله بعلمه الأزلي قد علم ما سيكون من اختلاف الناس، وتفرقهم لطريق الخير أو الشر، فما السر الذي من أجله ذهب فلان إلى طريق الخير وفلان ذهب إلى طريق الشر؟ وقد تقول: إن هذا راجع إلى إرادة الإنسان، وحسن امتثاله وصبره، والتزامه بطريق الخير، فنقول: لماذا لم يخلق الله هذين الرجلين بإرادة واحدة متساوية؟ ولماذا استطاع هذا أن يتحكم في إرادته ويوجه همته نحو الخير، وذاك لم يستطع أن يفعل ذلك؟

    الجواب: أنا معك أنني سأجيبك كما قلت، وسأقول لك: إن سألتني: لماذا اختار هذا طريق الخير، والآخر اختار طريق الشر؟ ولماذا ذهب هذا إلى طريق أهل اليمين، وهذا إلى طريق أهل الشمال؟ فسأجيبك بأنه فعل ذلك باختياره، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قدر ذلك عليه وشاءه، لكنه ذهب وفعل ذلك بكامل إرادته واختياره.

    وإن قلت: لِمَ لمْ يخلق هذان الرجلان بإرادة واحدة متساوية؟

    فسأقول لك: هذا السؤال لم يعد متوجهاً إليَّ؛ فالسؤال الأول من حقك أن توجهه إليَّ؛ لكن إذا وصلنا إلى أنه لماذا كان اختياره هكذا؟ ولماذا أعطي هذا الاختيار؟ فهذا السؤال لا يتوجه إلا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن ذا الذي يستطيع أن يسأل الله: لماذا يا رب جعلت هذا يتوجه إلى الخير وهذا يتوجه إلى الشر؟ قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] كما قال عمران لـأبي الأسود.

    فإذا جاء هذا الإنسان يوم القيامة وقال: يا رب! لم اسمع بنبي ولا برسول قط، وقد قال الله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] فلا يظلمه الله ولا يؤاخذه، مع أن الفطرة موجودة لكن الله لا يؤاخذه إلا بما بلغه.

    ولو جاء يوم القيامة، وقال: كنت مجنوناً، أو كنت صغيراً، أو كنت هرماً، أو كنت أبكم، فلم أسمع شيئاً من الدين؛ فكيف تحاسبني يا رب؟! فإن الله لا يظلم الناس شيئاً أبداً.

    إذاً: لو جاء في يوم القيامة هذا الذي اختار طريق الشر فهل يستطيع أن يسأل هذا السؤال، ويقول: ظلمتني يا رب!

    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاك القدرة وأعطاك الاختيار وأنت اخترت؛ فلهذا لا يقول ذلك أحد؛ إنما الفلاسفة والمتكلمون استشكلوا هذا في رءوسهم، ولقنوا ذلك لغيرهم وهذه من شبهات الشيطان.

    ونوضح المسألة أكثر: إذا قلت لأحد من الكفار لم يسمع بهذه الشبهة، ولم يلقنه إياها الفلاسفة: يا أخي في الإنسانية! هل أنت مسلم أم كافر؟ فسيقول لك: كافر. فإذا قلت: ولماذا لم تسلم؟ يقول: لا أريد أن أسلم، تقول له: الإسلام هو الدين وهو طريق الجنة، والكفر يؤدي إلى النار، فيقول: لا. أنا لا أريد الإسلام، فإذا قلت له: أنت مجبور على الكفر وإلا لكنت الآن مسلماً، عند ذلك يضحك منك، ويقول: لا. لم يجبرني أحد! -وهو يضحك منك- ومن الذي يجبرني؟

    فلو أريد الآن أن أسلم لأسلمت.

    فإذا سألته: هل تتحمل مسئولية هذا الكفر الاختياري؟ فسيقول: نعم. هو كافر باختياره وهي مسئوليته؛ وهذا ما قاله كفار قريش ويقوله كل كافر: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ [الأنفال:32] أي: ليس ذلك عندهم قضية أنهم مجبورون بل يقولون: لا يمكن أن يكون حقاً؛ وإن كان حقاً فأمطر علينا حجارة.

    فهذا الكافر يقول: نعم. أنا مستعد أن أتحمل تبعة هذا الكفر حتى ولو كان إلى النار؛ فهذا ليس مجبوراً أبداً؛ ولهذا فهو محاسب يوم القيامة على كلامه، وهو فعلاً مختار، وأنه لو شاء لأسلم في هذه اللحظة.

    وليس لنا وراء الخوض في هذا الموضوع إلا الاعتراض على الله عز وجل، ولا يمكن أن تصل العقول البشرية إلى إدراك ذلك، والتحدث والخوض في هذا الموضوع يؤدي إلى الضلال عن الصراط المستقيم.

    القدر الإبليسي

    السؤال: إن هناك شاباً يقول لي: إني أحس أن هناك يوماً سوف أهتدي فيه، ولا يزال على عصيانه، فهل هذا من القدرية الإبليسية؟

    الجواب: نعم. هذا نوع من القدرية الإبليسية، فالذي يقول: أنا أحس أنه سيأتي يوم أهتدي فيه، وهو ما يزال -الآن- على المعصية ما موقفه لو جاءه الموت الآن؟! ومن أين جاء هذا الإحساس، ومن قال له: إنك سوف تعيش، فضلاً عن أنك سوف تهتدي؟!

    فهذا من تسويف الشيطان -نسأل الله أن يعافينا وإياكم- فعلى العبد أن يبادر بالتوبة والعمل؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اعملوا فكل ميسر لما خلق له } فبادر بالتوبة، وبادر بالعمل.

    الأفكار الشيطانية

    السؤال: الإنسان تعتريه بعض الأفكار الشيطانية: في أنه كيف يعلم الله كل شيء في آن واحد؟ وهل علم -مثلاً- من في المملكة، ومن في أمريكا في وقت واحد؟

    الجواب: هذا أظنه لا إشكال فيه، والذي أنصح إخواني ونفسي أولاً: ألا نسترسل وراء الخواطر الشيطانية، فيأتيك الشيطان فيقول لك كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يأتي الشيطان أحدكم يقول: من خلق كذا، من خلق كذا حتى يقول له: من خلق الله؟ فقل: آمنت بالله).

    قال المتكلمون: إذا جاءك الشيطان وقال لك: كذا، فقل له: إن التسلسل ممنوع، وهذا من التسلسل الممنوع.

    ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: لا تسلسل -والتسلسل ممنوع أصلاً- لكنه قال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل: آمنت بالله.

    فالشيطان إذا جاءك بهذه الشبهة البسيطة، وأنت المؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنت المصلي والحاج والمعتمر المطيع لله ورسوله، وأنت ترى آثار علم الله عز وجل، وآثار حكمة الله، وآثار رحمة الله، وترى عجائب فعل الله بالعصاة، وعجائب نصرة الله وتوفيقه للطائعين؛ فكل هذه الحقائق عندك ملء السمع والبصر، ثم يضحك عليك الشيطان بشيء بسيط كهذا!

    ولهذا ما علينا عند هذه الخواطر إلا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ونقول: آمنا بالله، فلا نحتاج إلى أن نبحث ونرد أو نضع جواباً مقنعاً.

    فالذي ينكر الشمس، وينكر أن هذا الشعاع يأتي من الشمس وهذه الحرارة، هو يحس بها هذا لا يستحق الرد؛ والحرارة سببها الشعاع، والشعاع من الشمس وصحيح أنه لا يوجد دليل؛ لكنه في الحقيقة استدلال على شيء ظاهر وبارز.

    ولهذا السلف الصالح من الصحابة لم تأتهم مثل هذه الأسئلة؛ بل حتى الأعرابي الذي جاء وقال: من خلق الله؟ ثم جاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال له: صدق خليلي رسول الله، فهو أعرابي من الباديةوهذا هو حالهم: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97].

    فدرجة هذا الأعرابي من العلم مثل درجة أي واحد في آخر الزمان؛ لأن القضية ليست مجرد العصر، بل هو العلم.

    فالمقصود أن الإنسان الذي أنار الله تعالى قلبه لدلائل الإيمان، لا يسترسل وراء هذه الأفكار، ونحن نعيب على المتكلمين، وعلى غيرهم من المتفلسفين، ونقول لهم: كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينطق بالحق، وتريدون أن نتبعكم في أدلة عقلية قد تضعف وقد تقوى؟! فنحن عندنا براهين أقوى من ذلك، وأنتم تريدون إثبات أن الله تعالى موجود، وهذا الجهد لا نحتاج إليه؛ لأن هدفكم في غير طائل فمن الذي أنكر وجود الله؟ وهل نحتاج نحن المسلمين أن نكرر أن الله موجود؟! بل نحن نحتاج أن نكرر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده المعبود والمألوه والمطاع والمتبع، هذا هو الذي نحتاجه.

    وهكذا من أمثال هذا السؤال.

    قدرية اللون الأسود

    السؤال: أرجو ألا يُفهم كلامي خارجاً عن إطار المرجع، وأنا أعلم أن المقياس الرباني للعباد للكرم والمفاضلة هو التقوى، وحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا فضل لعربي ولا أعجمي إلا بالتقوى} إلى آخر الحديث، ونحن نعلم أن اللون الأسود مضطهد إلى يومنا هذا، وأنت تعلم ما يحدث في عالمنا اليوم من تفريق إلى سادة وعبيد، والسؤال: لماذا قدر هذا الاضطهاد على اللون الأسود؟ وهو سبحانه كما قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [لأنبياء:23]؟

    الجواب: الأخ جزاه الله خيراً قد أجاب، لا يسأل عما يفعل.

    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان من طين من الأرض، فقدَّر الرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدْر كل شخص في الأرض؛ فكان الناس معادن في طباعهم وفي ألوانهم وفي أصالتهم.

    فنجد أن الناس فيهم مثل الذهب نفيس جداً، ونجد أن فيهم مثل التراب والحجارة التي لا قيمة لها، ونجد أن فيهم الأبيض والأحمر والأسود، فيخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يشاء.

    ولما جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه المعايير -كما تفضل الأخ وأشار إليها- جعل هنالك ابتلاء، فالناس مبتلون؛ فهناك من يعيرون بألوانهم وهناك أناس يعيرون بنسبهم، ومنهم من يعير بجنسه وعنصره وكذلك بدينه.

    فالأنبياء والرسل الكرام عيروا بالإيمان، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66] أي نراك في ضلالة، إلى آخر ما عيّر به الأنبياء؛ فكيف نستغرب أن يعير الإنسان بنسبه أو بلونه أو منزلته الاجتماعية وغير ذلك.

    فهذه الأخطاء يقع فيها الناس إذا انحرفوا عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الانحراف الذي يقع من الناس لله تعالى فيه حكمة؛ فيكون هذا الذي عيّر -إن عير في نسبه أو لونه أو عنصره أو في حرفته، أو أي شيء- فصبر فإن له في ذلك أجراً.

    إذاً: هذا نوع من أنواع الابتلاء، ومن الأمور التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحكمته مكاناً لتغاير الأفهام، وليحكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، وفي اختلافهم في هذه المعايير.

    حديث السبعين ألفاً

    السؤال: حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وذكر منهم أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون، هل معنى هذا أن التداوي ينافي القضاء والقدر؟

    الجواب: التداوي لا ينافي القضاء والقدر، بل هو دفع للقدر بالقدر، فهو من القدر؛ لكن السبعين ألفاً هؤلاء ترفعوا عن نوع معين فقط؛ وهذا من كمال التوحيد؛ لكنه لم يقل: لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يتعالجون ولا يأخذون الدواء، ولم يأمر بالصبر مطلقاً في كل مرض.

    فالذهاب إلى الطبيب للتداوي والأخذ بالأسباب المشروعة لا يُنزل الإنسان عن تحقيق التوحيد؛ لكن طلب الرقية هو الذي يؤثر.

    فإذاً: النص محصور فقط فيمن ورد فيه النص، ولا يتعدى ذلك إلى غيره، جعلنا الله وإياكم من هؤلاء السبعين ألفاً.

    عمود القدر لكل ما يحدث

    السؤال: هل جميع ما يحدث للإنسان خيره وشره من القدر؟

    الجواب: نعم، علمه الله كله وكتبه، وشاءه، وخلقه، حسب المراتب الأربعة

    [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ]

    ما معنى قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]؟

    الجواب: هذه الآية مما أشكل على القدرية وضل فيها المتكلمون وتاهوا، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رد على المنافقين فقال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:78-79].

    فالآية بحمد الله ليس فيها إشكال على مذهب أهل السنة والجماعة، وكما فسرها علماء السلف؛ لكن الحيرة جاءت من أنه كيف ينكر الله عز وجل على المنافقين قولهم: إن ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة فهي من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ثم بعد ذلك يقول: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك.

    إذاً: كيف ينفي كلامهم بقوله قال تعالى: فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:78] ثم بعد ذلك هو يقول: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].

    والجواب: أن المقامين مختلفان، فالكافر والمنافق والعاصي والفاجر ما أصابه من حسنة فهي من الله فضلاً تفضل الله تعالى بها، وما أصابه من سيئة فهي من نفسه -أي: بسبب نفسه- أي: عقوبة، والحال أن الخير والشر كله من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    وكذلك -إذا نظرنا- لما قالوا: ما أصابنا من حسنة فمن الله، هذا حق، وما أصابنا من سيئة يقولون: هذه من عندك -يقصدون الرسول- أي: يا محمد! أنت السبب في هذه المصيبة، فنقول: لا. ما أصابكم من حسنة فهي فضل من الله؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو عن كثير، وإلا فالمصائب بسبب الذنوب، لكن يعفو عن كثير، وما أصابكم من سيئة فهي ليست بسبب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل بسبب معصيتكم وذنوبكم أنتم، فلذلك وضح الله ذلك في كتابه بما لا شبهة فيه، فقال: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] فلم يقل: إنها من المنافقين، لكنهم قالوا: من محمد وأصحابه.

    فإذاً ما يصيب الإنسان من خير، فمن الله فضلاً، وما يصيبه من شر فمن الله عدلاً، سواء كان هذا الإنسان صالحاً أو طالحاً.

    وأما أن يُجعل غير الله هو الذي يصيب فلا؛ لكن! حتى وإن كان السبب من غيرك؛ فبالحقيقة أنك أنت السبب؛ فمعصيتك هي التي جعلت هذا الإنسان يسلّط عليك.

    وهذه حقيقة واضحة عند المؤمنين جميعاً، فقد كان من السلف الصالح من يبتلون حتى من الكفار، ومع ذلك يؤمنون أن هذا من عند الله؛ حتى لما ابتلوا يوم أحد كما قال تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] فتسليط الكفار عليهم بالقتل هذا من عند أنفسهم، أي: بسبب ذنوبهم، وليس مجرد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أراد هذا لمجرد عذابهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756568043