إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. محمد المنجد
  5. الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم [1]

الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم [1]للشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الظلم من شيم النفوس، وهو فساد في الأرض، وتعدٍ لحدود الله، وله صور ومجالات، وأشكال شتى تزل فيها الأقدام، ولذا يجب على كل مسلم أن يعرف الظلم ليتجنبه، وفي هذه المادة ذكر للظلم مع ذكر صور له مشهورة، فاقرأ لتعرف وتلزم.

    1.   

    تحريم الظلم وعاقبته الوخيمة

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعد: فإن الظلم حرامٌ؛ حرمه الله تعالى على نفسه، وحرمه بين الخلق، فقال عز وجل في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم، فلا تظالموا) وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي؛ ألا فلا تظالموا).

    والظلم من طبيعة الإنسان، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] وقال تعالى: إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، فمن طبيعة الإنسان الظلم؛ يظلم في المجالات المختلفة، يظلم دائماً إلا من عصمه الله تعالى:

    والظلم من شيم النفوس فإن تجد     ذا عفةٍ فلعلة لا يظلمُ

    عاقبة الظالم في الدنيا والآخرة

    وعاقبة الظالم أليمة في الدنيا وفي الآخرة، فأما في الدنيا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته؛ ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).

    فيملي له تعالى ليزداد إثماً، ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، ولذلك فإن مصير الظالم في الدنيا الهوان والعذاب قبل الآخرة، ومن تعذيب الظالمين ما ذكره ربنا عز وجل: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، أي: نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم ببعضهم من بعض، جزاءً على ظلمهم وبغيهم؛ كما قال ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسير هذه الآية، فيسلط الله على الظالم ظالماً آخر، فيظلمه ويقهره جزاء ظلمه، والجزاء من جنس العمل.

    أما في الآخرة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلماتٌ يوم القيامة) وقال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه:111] أي: خضعت لجبارها الحي الذي لا يموت، وحصلت الخيبة لأهل الظلم يوم القيامة: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه:111] وقال تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] فيكون القصاص ويكون الجزاء في الآخرة بعد الدنيا.

    نصرة الله سبحانه وتعالى للمظلوم

    وأما المظلوم فإن الله عز وجل قد جعل له في الدنيا دعوةً مستجابة ترفع على الغمام إلى الله عز وجل، تفتح لها أبواب السماء ويقول الله: (لأنصرنك ولو بعد حين) لأن الله لا يحب الظلم، ولذلك يستجيب دعوة المظلوم ولو بعد حين، فقد يقف المظلوم أمام الظالم يدعو عليه، ولا يحدث للظالم شيء في الموقف نفسه، ولكن الاستجابة آتية.

    وربما يكون أحياناً من التخفيف على الظالم أن يُستجاب للمظلوم في الحال، كما حدث في الذي ذهب يشهد زوراً فلم يرجع من المحكمة إلى بيته إلا وقد أصيب بالشلل، نقمة عاجلة من الله تعالى، وقد يُعَجِّلُ سبحانه العقوبة وقد يؤخرها لحكمةٍ يعلمها في خلقه.

    وكذلك فإن الله يجعل لولي المظلوم سلطاناً وقوة؛ كما قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً [الإسراء:33] أي: جعلنا له قوة واقتداراً، وجعلنا له خياراً، وجعلنا الأمر إليه في العفو أو أخذ الدية أو طلب القصاص: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:33] فلا يمثل ويشوهْ الجثة، ولا يقتل غير القاتل، ولا يتعد على أقرباء القاتل، كما فعل بعض الناس: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً [الإسراء:33].

    النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون من أمته يتجنبون ما يمكن أن يؤدي إلى الظلم

    ولأجل خطورة الظلم كان الصالحون يخشونه على أنفسهم، ويبتعد الكثير منهم عن القضاء؛ فرفض كثيرٌ من العلماء تولي القضاء خشية أن يظلم أحد الخصمين، فيبوء بالإثم والانتقام من الله تعالى، مع أنه ربما يكون مجتهداً مخطئاً، ولكن حتى لا يحيف أو يداخله الهوى.

    أعرض كثيرٌ من الصالحين والعلماء عن تولي القضاء لأجل خشية الظلم؛ لأنه يخاف أن يظلم، ويعلم ما هي عقوبة الظالم في الدنيا والآخرة.

    وعن أنسٍ قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -ارتفعت الأسعار- فقالوا: يا رسول الله! سَعِّرْ لنا -افرض تسعيرةً للبضائع- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مال) رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.

    هذا النبي عليه الصلاة والسلام يرفض التسعير خشية أن يكون قد ظلم البائع الذي يجوز له أصلاً أن يبيع كيف يشاء وبالسعر الذي يريد، ولذلك رفض التسعير خشية أن يظلم الباعة، وقال لأصحابه وهو النبي عليه الصلاة والسلام: (وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مال).

    وأما التسعير فقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه إذا حصل احتكارٌ وظلمٌ، واجتمع الباعة على رفع الأسعار في الأشياء التي يحتاج إليها الناس كالأقوات، جاز التسعير عليهم لمنع ظلمهم، وأما في الأحوال العادية فلا تسعير؛ لأنه في الأصل منعٌ للبائع من حقه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يرفض ذلك خوفاً من أن يلقى الله وفي عنقه مظلمة لأحد.

    1.   

    أنواع الظلم: بحسب من يقع عليه

    والظلم -أيها المسلمون- على أنواعٍ ثلاثة:

    الأول: ظلم العبد لربه؛ كما قال تعالى: إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] يرزقهم ويعافيهم ثم يشركون به، ويجعلون له صاحبةً وولداً، أو يحلفون بغيره، أو يشركون الشرك الخفي، فيقولون: لولا الله وفلان فالشرك هو أعظم الظلم على الإطلاق.

    الثاني: ظلم العبد لنفسه؛ ويكون بسائر المعاصي، قال عز وجل: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].

    وثالثاً: ظلم العبد لغيره، والله تعالى قد يسامح ويغفر، ولكن في ظلم العبد للعبد لا بد من القصاص، لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً.

    منع الناس من العبادة من أقبح الظلم

    ومن الظلم العظيم منع الناس من العبادة والحيلولة بينهم وبين أماكنها، كما قال عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].

    وقد عَدَّ الله عز وجل الذين يبقون في دار الشرك ولا يهاجرون إلى بلاد الإسلام ظَلَمةً، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ [النساء:97] هذه الحجة التي قالوها عند قبض أرواحهم.

    لماذا أنتم في بلاد الكفر؟ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97] أي: ما دام لكم مجالٌ وفسحة في الذهاب إلى بلاد الإسلام، فلماذا لم تهاجروا إليها؟

    فسر هذه الآية ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فقال: (إن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين، وتكثير سواد المشركين حرام، ونفعهم وتقويتهم وهبة عصارة الأذهان إليهم حرام، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم فيُصيب أحدهم فيقتله أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء:97]) رواه البخاري رحمه الله.

    فالذي يختار الذهاب إلى بلاد الكفر دون حاجةٍ ولا إلجاء، يختار الذهاب إلى بلاد الكفر لمزيدٍ من زينة الحياة الدنيا، للمال وليعيش بين الكفار، فينشأ أولاده بينهم دون إلجاءٍ أو خوفٍ أو ضرورة أو تضييق، يذهب إلى بلاد الكفار مختاراً، فلا شك أنه ظالمٌ لنفسه، وكثيرٌ من الناس يتوسعون هذه الأيام في الهجرة إلى بلاد الكفر، مع ما في ذلك من المخاطر العظيمة عليهم وعلى أولادهم.

    ولو كان أحدهم ملجأً مضطراً فالله سبحانه وتعالى يعلم ظرفه، بخلاف ما لو كان مختاراً فإنه ظالمٌ لنفسه.

    الوسوسة في الطهارة ظلم وتعدٍّ

    وقد وصف الشارع صاحب الوسوسة بأنه ظالم، وعددٌ من الناس يقعون في هذا المرض العظيم يُهلكون أنفسهم، ألا ترى أنه قد وصفهم بالظلم كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه عليه الصلاة والسلام الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (هكذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) الذي يزيد على الثلاث مسيءٌ ومتعدٍ وظالم، وبعضهم يمكث في دورة المياه ساعات يعيد الوضوء ويزيد، لا ينفك عن هذه الفعلة وهو ظالم، فلو تأمل الموسوسون هذا الحديث لكفاهم.

    1.   

    من صور الظلم

    فإذا جئنا -أيها الإخوة- إلى ظلم العباد بعضهم لبعض، فلنعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم ظلم المسلم لأخيه المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) الحديث رواه البخاري .

    وظلم العباد لبعضهم في هذا الزمان منتشرٌ وشائعٌ للغاية، حتى صارت الجلطات وأمراض الضغط وما يحصل من الأزمات النفسية والقلبية شعاراً في هذا العصر ودليلاً على كثرة الظلم وانتشاره، وانعكس الظلم في شكل أمراضٍ خطيرة تصيب الناس لما يقع عليهم من حرمانهم حقوقهم ومن ظلمهم.

    الظلم بأخذ أرض الغير

    ومن أوجه الظلم: الظلم بأخذ أرض الغير: عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ظلم من الأرض قيد شبر طُوقه من سبع أرضين) رواه البخاري رحمه الله.

    وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن -وكانت وبينه وبين أناسٍ خصومة في أرضٍ- فدخل على عائشة فذكر لها ذلك، فقالت: يا أبا سلمة ! اجتنب الأرض؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبرٍ طوقه من سبع أرضين) رواه البخاري .

    وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه خاصمته أروى في حقٍ لها زعمت أنه انتقصه، فخاصمته إلى مروان ، فقال سعيد : أنا أنتقص من حقها شيئاً؟! أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين).

    وعن يعلى بن مرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجلٍ ظلم شبراً من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس) رواه الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح.

    فيحفره إلى أعمق سبع أرضين ثم يجعل حول رقبته بثقله العظيم طيلة خمسين ألف سنة -يوم القيامة- ولو كان شبراً واحداً.

    وترى الواحد اليوم إذا أراد أن يبني على أرضه أخذ شبراً سوراً للبيت من أرض جاره؛ يأخذ جدار بيته من أرض جاره ، ليعلم إذاً أن من يأخذ شبراً فهذا مصيره؛ يطوق به يوم القيامة، فكيف إذا استولى على الأرض كلها؟!

    أكل أموال اليتامى ظلم عظيم

    ومن الظلم أكل مال اليتيم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10].

    لقد بلغ الظلم والانحراف عن الشريعة حداً جعل أقرب الأقربين يأكلون أموال اليتامى، فهذا يأخذ أموالَه عمُّه، وآخر يستولي على مخصصاته خالُه، فأقرب الأقرباء لم يمتنعوا من ظلم اليتامى إلا من رحم الله، يأكلون أموال اليتامى ظلماً.

    الإرث الذي تركه لهم أبوهم يأكلونه، أو يتولى أحدهم عليه فيأكل منه، أو يأخذ مخصصات الدولة التي جُعلت لهؤلاء اليتامى فيأكلها، أو يأكل الضمان الاجتماعي ونحو ذلك، وهذا ظلمٌ حرامٌ وشنيع، كيف لو أن أولاده صاروا هم اليتامى؟! هل يرضى بأن تُؤكل أموالهم وحقوقهم ويبقون يتكففون الناس، أو يُعطى لهم الفتات ويأخذ الناس الباقي؟! فليرع حق الله في اليتامى.

    ولذلك ترى بعض المنصفين، ينفقون من جيوبهم على اليتامى، ويبقون أموال اليتامى سليمة، يسلمونهم إياها إذا كبروا، ألا فليبشروا بأجر من الله تعالى.

    مطل الغني ظلم

    ومن جوانب ظلم العباد تأخير رد الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري كالمقتدر الذي عنده ما يؤدي به، ومع ذلك لا يؤدي حقوق الناس، وهذا كثيرٌ اليوم في عالم التجارة والاقتراض، يأخذون البضائع بالدين، ولا يسددون وعندهم مال، يقول أحدهم: سأتوسع!

    أتتوسع من مال الغير؟! يقترض ليتاجر ثم يقول للشخص: ليس عندي مال، ويقول: دعه ينتظر وأنا أنتظر الأرباح، مع أن أجل الدين قد حل، لكنهم ظلمة، يؤخر أحدهم ويماطل وعنده ما يسدد به الدين، والأموال موجودة، ولكن يقول: هكذا درجت العادة في السوق.

    وقريبٌ من هذا ظلم التاجر للأُجراء والموظفين والعُمال بتأخير الرواتب وعنده مالٌ يدفعه إليهم.

    عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم ولم يكن يظلم أحداً أجره) حديثٌ صحيح.

    حتى الحجام يعطيه أجره كاملاً، يعطيه ديناراً، ومعلوم أن الدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يظلم أحداً أجره حتى الحجام.

    وهؤلاء يؤخر أحدهم الرواتب بالأشهر عن العمال والموظفين، وعنده ما يدفع، فإذا نوقش قال: كل الشركات هكذا، كل السوق هكذا، أنا أحسن من غيري، هل تريد إذا ظلم الناس أن تظلم مثلهم؟ لماذا نمشي على العادة السيئة الموجودة بين بعض الناس ونقول: نظلم مثلما ظلم الآخرون؟!

    ثم يقول: سأعطيهم قبل السفر، يمنع الخادمة ويقول: سأعطيها قبل السفر، وهل المستحق عليك قبل السفر أم المستحق عليك في آخر الشهر؟ هذا ظلم وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].. أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18].

    تحريف الوصية ظلم

    ومن أنواع الظلم: الظلم بتحريف الوصية، كأن يُدخل فيها من لم يكتب ولم يشأ الموصي، ويخرج منها من أدخله الموصي، أو يجحد بالكلية، وتغير وتحرف؛ ولذلك قال الله: وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [المائدة:107] في آخر آية الوصية التي يشهد عليها.

    اليمين الكاذبة لاقتطاع مال امرئ مسلم ظلم عظيم

    ومن الظلم العظيم أن يحلف كذباً لأخذ مال أخيه المسلم، عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: (جاء رجلٌ من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرضٍ لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه -يحلف- قال: يا رسول الله إن الرجل فاجرٌ لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، فقال: ليس لك منه إلا ذلك -لا بينة إذاً يحلف المدعى عليه- فانطلق المدعى عليه ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: أما لئن حلف على على مال صحابه ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض) رواه الإمام مسلم رحمه الله.

    وفي رواية لـمسلم في شأن هذه القصة: (من اقتطع أرضاً ظالماً لقي الله وهو عليه غضبان) أي يلقى الله سبحانه وتعالى وهو معرض عنه.

    كم الذين يحلفون في المحاكم ظلماً؟ كم الذين يجحدون أموال الغير؟ كم الذين يتركون العامل يعمل ويمنونه بالمشاركة ويمنونه بالأرباح، فإذا كبرت المؤسسة وقام العمل على سوقه، وبدأت الأرباح تدر، قالوا: اذهب فليس لك شيء، ويخرجونه بثيابه.

    أين يكون من يفعل ذلك يوم الدين؟ وما هو حاله يوم الدين؟ ولكن الناس لا يفكرون بيوم الدين، مثل هؤلاء البشر لا يقيمون ليوم القيامة وزناً، فلا وزن لهم عند الله يوم القيامة.

    ظلم الشريك لشريكه

    ومن أنواع الظلم: أن يظلم الشريك شريكه، كما قال داود عليه السلام: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24].

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يباعد بيننا وبين الظلم، وأن يجعلنا برآء من الظلم، اللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو نُظلم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.

    ظلم الرجل لزوجته

    الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين.

    أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الحكمُ العدْلُ: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

    وأشهد أن محمداً رسول الله.. صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    عباد الله! إن من الظلم العظيم أن يظلم الرجل زوجته التي هي عانية عنده وأسيرة وضعيفةٌ، ومحتاجةٌ إلى نفقته وحمايته، فيعمد كثيرٌ من الأزواج إلى ظلم زوجاتهم، فيمنع النفقة عن زوجته أو يضربها ضرباً مبرحاً غير الذي أمر به الشارع، أو يضربها مع أنه هو الظالم وهي المظلومة.

    ويُرى آثار الضرب في جلدها اخضراراً وازرقاقاً، وربما أسال الدم، وهكذا يفعل بعض الظلمة من الأزواج الذين لا يخافون الله؛ يضرب الرجل بكل قوته على جنب المرأة وجسدها في ضعفها؛ بكل قوته على ضعف جسدها ينهال عليها ضرباً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجلدها جلد العبد) وهذا من الظلم، وستأخذ من حسناته يوم القيامة.

    ومن الظلم لها أن يمنع عنها النفقة، أو يأخذ أموالها إذا كانت موظفة، ثم يقول لها: إذا أردت أن تقترضي مني فاقترضي وسددي، والمال مالها، وقد أخذ أحدهم من أموال زوجته فوق مائتي ألف لينفقها على نفسه وقرناء السوء في الخمر والحرام، فلما قالت له: اختر أنا أو قرين السوء صاحبك، قال: أختار صاحبي وأنتِ اخرجي من البيت، هكذا يتبجح بعضهم، وهذا من ضمن المآسي الاجتماعية التي تعيشها بُيوتنا.

    الزوجة لا تُحس بالأمان لأنها معرضة للطرد في أي لحظة، ولو في جوف الليل، ربما يضربها وهي حامل، تقي جنينها من الضرب، وهو لا يرحم الولد ولا أمه، فهذا ظلم والله لا يحب الظالمين، فكيف يلقى الله تعالى؟!

    من الظلم الذي وصفه الله من ظلم النساء أن يمسكها بعد طلاقها ليزيد عليها العدة، كما قال الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا [البقرة:231] فهذا ظلم، يمسكها ضراراً إلى آخر العدة وقبيل أن تنتهي يردها بعد الطلقة الأولى، ثم يطلق ويمسكها إلى قبيل انتهاء العدة في الطلاق الثاني، ويردها لتطول عليه العدة ولا تذهب إلى غيره، وليس له فيها حاجة.

    ولذلك لما لاعن عويمر زوجته في قصة الملاعنة المشهورة قال بعدما تمت الملاعنة: يا رسول الله إن حبستها فقد ظلمتها، فهو يقول: بعدما رأيتها في الفجور والزنا وتمت الملاعنة، فقد كذبتها، وإن أبقيتها عندي -ولا يمكن أن أطيقها- فقد ظلمتها، فهي طالقٌ طالقٌ طالق، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت سنةً لمن كان بعدهما من المتلاعنين الانفصال التام والنهائي إلى آخر العمر، لا يردها ولو بعد زوج، وتلك هي التفرقة الكبرى؛ بين الملاعن والملاعنة، فالزوجة تخرج إلى الأبد ولا تبقى عنده وهو لا يريدها.

    قطع الشجرة التي يستظل بها الناس ظلم

    وبعض الناس يتصور أن الظلم مع الأحياء أو مع أهل الحياة، ولكن الظلم حتى مع الجمادات، وحتى مع البهائم، ومن قطع شجرة ليضر بالناس فلا يستظلون بها عبثاً ظلماً صوب الله رأسه في النار، كما حمل عليه أبو داود حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: (من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار).

    من ظلم المسلم لأخيه سوء ظنه به

    وصور ظلم الأخ لأخيه المسلم كثيرة، ومن ذلك ظلمه في تفسير مواقفه، وبناء ذلك على سوء الظن، وهذا مثالٌ من السنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزكاة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب -أي: منعوا زكاة أموالهم فلم يؤدوها- فقال صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله -وهذا ذمٌ له وتأكيدٌ للتهمة عليه- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً ، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله -خالد كيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله ثم لا زكاة في الوقف وقد جعل خيله وسلاحه وقفاً على المجاهدين في سبيل الله، فأنتم تظلمون خالداً ، لأنه جعل أمواله التي عنده وقفاً على المجاهدين في سبيل الله- وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقه ومثلها معها) رواه البخاري .

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعجل من العباس زكاة سنتين أخذها مقدماً للحاجة مقدماً، فلما جاء وقت الزكاة ولم يعط العباسُ زكاتَه، لأنه كان قد أعطاها من قبل، ولما ظلمه بعض الناس، أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أداها من قبل، وأنه لو كان عليه فرقٌ فإنه سيتحمله هو من جيبه صلى الله عليه وسلم، لأنه عمه، وعم الرجل صنو أبيه.

    والشاهد من هذه القصة التي رواها البخاري رحمه الله أن بعض الإخوان يظلمون أخاهم المسلم بتفسير مواقفه بناءً على سوء الظن تفسيراً غير صحيح، إذاً فليتقوا الله في أخيهم، وليحملوا أمره على أحسنه، نسأل الله السلامة والعافية.

    اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ونجنا من القوم الظالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الظلم وأهله، اللهم لا تجعلنا من الذين يظلمون الناس يا رب العالمين.

    اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تُذل الشرك والمشركين، وتهزم أعداء الدين، اللهم إنا نسألك الأمن والرخاء لبلادنا وبلاد المسلمين يا رب العالمين.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956308