إسلام ويب

ميلاد المسيحللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • انقسم أهل الكتاب قبل الإسلام في عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام إلى طرفين، كلاهما ضل السبيل، وفارق الحجة والدليل، فاليهود زعموا أنه ابن زنا وأنه مفتر كاذب، والنصارى زعموا أنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وعبدوه مع الله جل وعلا! فجاء الإسلام بالحق في قضية عيسى عليه السلام، وكذب كلتا الطائفتين، وبين أن عيسى هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وبرأ مريم عليها السلام، وبين أن ولادتها عيسى من غير أب كانت معجزة، ومثله عند الله كمثل آدم عليه السلام.

    1.   

    عيسى بن مريم والميلاد المعجز

    الحمد لله القائل: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45]، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء ، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! عيسى بن مريم والميلاد المعجز، خواطر مسلم يغار لعقيدة التوحيد التي تذبح الآن شر ذبحة، في زمان انتفخ فيه الباطل وانتفش كأنه غالب، وضعف فيه الحق وانزوى كأنه مغلوب، أقدم هذه الخواطر في هذه الأيام على وجه الخصوص التي اعتاد فيها العالم الغربي -بل والعالم الإسلام الهزيل المهزوم- على ما يسمونه باحتفالات أعياد الميلاد ، وأنا أرى أنه من الواجب على العلماء والدعاة ألا يكونوا بموضوعاتهم وخطبهم في واد وأحوال العالم بصفة عامة وأحوال الأمة بصفة خاصة في واد آخر، من هذا المنطلق أحببت في هذه المناسبة أن أقدم لحضراتكم هذا الموضوع عن (ميلاد المسيح) وسيتم تناوله إن شاء الله من خلال العناصر التالية: أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز. ثانياً: بل رفعه الله إليه. ثالثاً: نزوله من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة. فأعرني قلبك وسمعك، والله أسأل أن يجعلني وإياكم ممن وحد الله جل وعلا حق التوحيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    مريم بنت عمران العذراء البتول

    أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز. أيها الأحبة الكرام! لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل ينسب نبي إلى أمه، إنه عيسى بن مريم عليه السلام، وأمه مريم لها مكانة لم تنلها أنثى في الوجود كله، إنها العذراء التقية النقية التي اصطفاها الله من بين نساء العالمين؛ ليودعها هذا السر الكبير في أعظم ميلاد وأيسر حمل، إنها المرأة التي قد كملت بشهادة المصطفى، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، ليعلم الجميع أن مريم عليها السلام ما كرمت في منهج على ظهر الأرض، بل وفي كتاب من الكتب، بقدر ما كرمت في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن هي مريم؟ إنها مريم بنت عمران، أمها: حنى بنت فاخود، كانت عقيمة لا تلد، فسألت الله عز وجل أن يهبها الولد فاستجاب الله لها، وتحرك الحمل في بطنها بعدما كانت عقيمة، فلما تحرك الحمل، أرادت أن تفي بنذرها لله جل وعلا فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:35-36] أي: الطاهرة وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:36-37]. اختلفوا في بيت المقدس من الذي سيكفل مريم عليها السلام، فقالوا: اضربوا القرعة فيما بينكم، فعلى أي واحد منا وقعت القرعة فليكفل مريم عليها السلام، قالوا: فليأخذ كل واحد منا قلمه ولنخرج جميعاً إلى شاطئ النهر، ولنلقي الأقلام كلها في شاطئ النهر، فأي قلم جرى مع التيار لا يكفل صاحب هذا القلم مريم، أما القلم الذي يسير في عكس اتجاه التيار فهو الذي سيكفل صاحبه مريم عليها السلام. فرأوا قلماً يسير في عكس التيار، فلما أخرجوه وجدوا أنه قلم نبي الله زكريا، فتكفلها زكريا، وتولى تربيتها ورعايتها. ففي بيت المقدس في كفالة نبي ترعرعت هذه الزهرة الطيبة في بستان الورع والزهد والتقى، نشئت مريم عليها السلام، حتى وصلت إلى مكانة قريبة من الله، ونادتها الملائكة يوماً وهي تتعبد لله: بهذه البشارة: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:42-43] مكانة عظيمة، بل لقد وصلت إلى مكانة من القرب أنه دخل عليها نبي الله زكريا فوجد عندها فاكهةً في غير زمانها وأوانها كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37] درجة من اليقين، فما أحوج الأمة الآن إلى اليقين في الرزق ذو القوة المتين.

    مريم بنت عمران ومفاجأة الملك

    وفي يوم من الأيام خلت مريم بنت عمران بنفسها لقضاء شأن من شئون الأنثى الخاصة، وفجأة! تفاجأ بمفاجئة عنيفة تهز فؤادها هزّاً، يا الله ما هذا؟! إنه بشر سوي في خلوة مريم العذراء الطاهرة البتول، ولك أن تتصور امرأة ترعرعت في بستان الحياء تقضي شأناً من شئونها الخاصة، فتفاجأ برجل سوي يقتحم عليها خلوتها -وأرجو أن لا تختلط الصور في ذهنك، في أن تقارن هذه العذراء بنساء هذا الزمان إلا من رحم ربك؛ لتكون المقارنة عادلة منصفة- يهتز فؤادها، إنه بشر سوي، وسرعان ما لجأت إلى الله العلي فقالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18] أي: إن كنت ممن يتقي الله ويخشى الله عز وجل. وقالت: ( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ ) لتستجلب الرحمة في قلبه، فتفاجأ البتول الطاهرة بمفاجئة أعلى، حينما يرد عليها هذا البشر السوي ليقول لها: لا تخافي ولا تحزني إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19]، قالت مريم التي تعلم سبيلاً واحداً للإنجاب والذرية، وهو أن يلتقي الرجل بزوجه قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]، أي: لم أتزوج ولم أعرف سبيل الزنا أو سبيل البغاء، وهنا يأتي الرد الحاسم القاطع على لسان هذا الملك الكريم: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21].

    القدرة الإلهية لا تحدها حدود

    أيها الشباب! أيها الأحباب! إن من يكلف عقله أن يصل إلى حدود قدرة الله جل وعلا كمن يكلف نملة أن تنقل جبلاً من مكان إلى آخر، أو كمن يكلف بعيراً ضخماً أن ينفذ من سم الخياط، وهذا مستحيل! إن قدرة الله لا تحدها حدود، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ [مريم:21] وإذا قال ربك فلا حدود لقدرة الملك جل وعلا، لأن أمر الله بين الكاف والنون، يقول للشيء إذا أراده كن فيكون، ما أحوجنا إلى أن نتعبد لله الآن باسم القدير، باسم القوي، باسم الملك! لأن الأمة قد ضعف يقينها، وضعفت عقيدتها، وتخلخل اليقين في قلبها، فيجب علينا أن نتعبد من جديد لله باسم القدير. إن قدرة الله وقوة الله لا تحدها حدود، فيد من التي خلقت السماء بغير عمد ترونها؟! يد من التي خلقت الأرض وثبتتها بالجبال، وزينتها بالأشجار، وشقت فيها البحار والأنهار؟! يد من التي امتدت إلى حبة القمح فغلفتها بهذه الأغلفة، وجعلت في نهاية كل حبة شوكة طويلة؛ لأنه قد قدر أن تكون حبة القمح غذاء لك أيها الإنسان؟! يد من التي امتدت إلى كوز الذرة فأخرجت هذه الحبات اللؤلؤية بهذا الجمال والإتقان والإبداع؟! يد من التي امتدت إلى رأسك أيها الإنسان فجعلت ماء العين مالحا، وماء الأنف حامضاً، وماء الأذن مرّاً، وماء الفم حلواً وعذباً؟! مع أن أصل هذه المياه واحد، وهو رأسك أيها الإنسان؟! يد من التي نجت الخليل إبراهيم من النيران؟! يد من التي حفظت يوسف من غيابات الجب؟! يد من التي نجت يونس في بطن الحوت؟! يد من التي نجت الحبيب المصطفى ليلة الهجرة! هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24]. قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من المنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطا وسط الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا ء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاك كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم:21] هو على قدرة الله هين، فقدرة الله لا تحدها حدود، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21]. قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12]، لا تسأل عن كيفية الحمل، والعلم الحديث الآن يبين لنا صوراً عجيبة، فهم يستطيعون بالحيوان المنوي للزوج وبويضة المرأة أن يجمعوهما، فإذا شاء الله عز وجل تخصبت فكان الولد، سبحان الله!، لا تسأل عن كيفية الحمل وأنت على يقين أن الله إذا أراد شيئاً كان. نفخ جبريل عليه السلام في درعها، والدرع هو أعلى الثوب، فحملت مريم عليها السلام، والراجح من أقوال المفسرين: أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، وإن كنا لا نشك أن الله كان قادراً ولا زال سبحانه على أن تحمل مريم بعيسى وأن تضعه في لحظة واحدة، لكن الراجح من أقوال المحققين من أهل التفسير: أنها حملت به حملاً عادياً تسعة أشهر.

    حوار مريم بنت عمران مع يوسف النجار

    وبدأت بوادر الحمل تظهر على بطن مريم، فالتفت إليها يوسف النجار الذي يخدم معها بيت المقدس، واتهم اليهود مريم بالزنا مع يوسف ، قال لها: يا مريم، إني سائلك عن شيء وأرجو أن لا تعجلي علي! فقالت له مريم: سل عما شئت يا يوسف وقل قولاً جميلاً، فقال لها يوسف معرضاً في القول: يا مريم هل يكون زرع بغير بذر؟! وهل يكون شجر بغير غيث أو مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟! فقالت مريم: (نعم يا يوسف )، قال: كيف يا مريم؟! قالت: يا يوسف ألم تعلم أن الله خلق الزرع يوم خلقه من غير بذر، وخلق الشجر يوم خلقه من غير غيث أو مطر، وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ومن غير أم؟ قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.

    مريم بنت عمران وحديث ابنها إليها وهو في المهد

    حملت مريم بعيسى فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ [مريم:22-23]، ففاجأها المخاض الذي يهد الأركان للأنثى، وأنا أرجو أن تتصور أنثى بمفردها تضع لأول مرة ليس معها من الناس أحد، وإلا فكفى أن معها الملك. فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-23]، أي: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، فتمسكت بهذا الجذع وهي تتألم، وفي وسط هذه الآلام التي تهد أركان الأنثى هدًّا، من مخاض وميلاد وليس معها أحد من الناس، وهي تتألم وتبكي، وفي وسط هذه الحالة النفسية المتراكبة: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]. لك الله يا مريم! لك الله أيتها العذراء الطاهرة! يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23] وهنا تفاجأ للمرة الثالثة بهذه المفاجئة الندية الرخية الرقيقة الرقراقة، إنها تسمع صوتاً، تسمع الحجة البالغة، تسمع الكلمات النيرة، يا إلهي، ما هذا؟! إنه المولود الذي نزل من أحشائها، إنه المولود يتكلم!! أنطقه الله الملك الذي هو على كل شيء قدير، ينادي على أمه بهذا النداء الحنون العذب الرقيق: يا أماه أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:24]، أي: انظري إلى هذه العين التي قدرها الله لك الآن، وانظري إلى هذه النخلة التي كانت شابة قد أنبت الله فيها الثمرة لك، فهزي بهذا الجذع، خذي بالأسباب وافعلي أي شيء: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:25-26]. يا الله.. يا الله.. يا الله! إنها الحجة البالغة، المولود ما زال في لفائفه، قدرة الملك ، عظمة الملك ، قوة الملك ، إرادة الملك جل وعلا!! لقنها الغلام الحجة البالغة فاطمأنت نفسها، واستراح قلبها، وسكن فؤادها ، وحملت رضيعها وطفلها في صدرها، بل إن شئت فقل: في حنايا قلبها.

    معجزة عيسى عليه السلام في حديثه لقومه وهو في المهد

    فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [مريم:27]فقابلها القوم بهذه التهم التي نزلت كالسياط: يا مريم ما هذا؟ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:27-28]، في العبادة (يَا أُخْتَ هَارُونَ) في الزهد والورع، (يَا أُخْتَ هَارُونَ) في التقى والتبتل والتضرع، ما هذا؟! لقد جئت شيئاً عظيماً منكراً، ما هذه الجرأة؟! ما هذه البجاحة؟! تحملين من الزنا، وتحملين الولد لتقابلينا به مرة أخرى بهذه الجرأة والسفور، (لقد جئت شيئاً فرياً)؛ كيف سمحت لنفسك بهذه الجريمة الشنعاء؟! مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]. فلما انقطع منها المقال أشارت إليه فأنطقه الله في الحال فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:29-36]. أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولود صغيراً ضعيفاً فاغراً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله ويقول القائل: فلو كان رباً كان يمنع نفسه فلا خير في رب نأته المطالب برئت من الأصنام في الأرض كلها وآمنت بالله الذي هو غالب قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي [مريم:30-32] ليست بغياً، ليست زانية، بل هي أمي وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ [مريم:32-33]، فهل هناك إله يولد؟! (وَيَوْمَ أَمُوتُ) فهل هناك إله يموت؟! وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ [مريم:33-34]، قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، بل إن خلق آدم أعجز من خلق عيسى؛ لأن عيسى خلق من أم، أما آدم فخلق من غير أب ومن غير أم، فخلق آدم أعجز: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

    براءة عيسى عليه السلام مما ينسب إليه المبطلون

    وجميل بنا أن نختم هذا العنصر الآن الذي أطلنا فيه الحديث -لتثبيت المعتقد الصافي في القلوب- بهذا الحوار الرباني الكريم، وإن شئت فقل: بهذه البراءة العظيمة من العلي الأعلى لنبي الله عيسى، اقرأ معي وتدبر في آخر سورة المائدة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117-118]، قال الله جل وعلا: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119].

    1.   

    بل رفعه الله إليه

    ثانياً: بل رفعه الله إليه، لقد زعم اليهود عليهم لعائن الله المتتالية أنهم قتلوا عيسى عبد الله ورسوله!! وزعم النصارى بجهل فاضح أنه صلب ودفن ، وفي اليوم الثالث خرج من قبره ثم صعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأحياء والأموات. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]؛ فكذب الله هؤلاء وهؤلاء، فقال سبحانه: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:157-158]، آيات صريحة: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)، والأخرى: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) والثالثة: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، رفع نبي الله عيسى إلى السماء لحكمة عظيمة، ألا وهي أن الله جل وعلا قد قدر أن نزوله من السماء بعد ذلك من علامات الساعة الكبرى!

    كيفية رفعه عليه السلام

    ولكن كيف رفع؟ انطلق اليهود وهم يبحثون عن نبي الله عيسى ليقتلوه، فألقى الله عز وجل شبه عيسى على يهوذا الأسخريوطي الذي دل اليهود على مكان نبي الله عيسى، فهذا قول. القول الثاني: ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم والنسائي من حديث ابن عباس موقوفاً عليه بسند صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة النساء، قال: (لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج عيسى يوماً على أصحابه وهم يجلسون في البيت، وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فقال لهم نبي الله عيسى: إن منكم من يكفر بي بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهي ليقتل مكاني ليكون معي في درجتي في الجنة، فقام شاب من أحدثهم سناً قال: أنا يا نبي الله! فقال له عيسى: اجلس -كأنه أشفق عليه لصغر سنه- فجلس الشاب. ثم قال عيسى قولته مرة ثانية: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهي ليقتل مكاني ليكون معي في درجتي في الجنة، فقام نفس الشاب، فقال له نبي الله عيسى: اجلس، فردد عيسى المقولة للمرة الثالثة، فقام نفس الشاب، فقال له عيسى: هو أنت. يقول ابن عباس : فجاء الطلب، أي: من اليهود ليأخذوا نبي الله عيسى، فألقى الله شبهه على هذا الشاب، وألقى على عيسى سنة من النوم ثم رفعه إليه، فأخذ اليهود هذا الشاب الذي ألقي عليه الشبه، فقتلوه وصلبوه وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء:157] قال ابن عباس : فانقسم الناس فيه إلى ثلاث فرق: الفرقة الأولى قالت: كان فينا الله، أي: في الأرض -عياذاً بالله- ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء هم اليعقوبية. وقالت الفرقة الثانية: كان فينا ابن الله ثم رفعه أبوه إلى السماء، وهذه هي النسطورية. ثم قالت الفرقة الثالثة: كان فينا عبد الله ورسوله، ثم رفعه الله إليه، ثم ينزله إلى الأرض إذا شاء، وهؤلاء هم الموحدون المسلمون. يقول ابن عباس : (فقامت الفرقتان الأولى والثانية على الثالثة فقتلوا أهلها، فظل الإسلام صامتاً حتى بعث الله نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم). فجاء الحبيب المحبوب فبين لنا كيف أن الله عز وجل قد ألقى الشبه على فلان أو فلان، وكيف أن الله عز وجل قد رفع عيسى إليه، بل وصرح القرآن بذلك، قال الله تعالى: قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55] تدبر معي قول الله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) فهذه دارت حولها الإشكالات، والوفاة في الآية كما قال جمهور المحققين من أهل التفسير: الوفاة في الآية بمعنى النوم، والدليل على ذلك قول الله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60] فسمى الله النوم في الليل وفاة. وكما في كلام الحبيب المحبوب محمد صلى الله عليه وسلم، كان إذا استيقظ من نومه قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، فالنوم وفاة صغرى، والموت وفاة كبرى، فألقى الله على عيسى سنة من النوم، ثم رفعه إليه للحكمة الجليلة التي ذكرت، ولحكم قد لا نعلمها، يعلمها الملك جل جلاله. أيها الأحبة الكرام: وشاء الله سبحانه أن يكون نزول عيسى عليه السلام علامة كبرى من علامات الساعة وهذا ما سوف نتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    نزول عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! ثالثاً: نزول عيسى من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة، فنحن الآن ننتظر نزول نبي الله عيسى، وقد بيّن القرآن والسنة الصحيحة ذلك، فمثل هذه الأمور الغيبية لا يجوز البتة لأحد أن يتكلم فيها إلا بصريح القرآن أو صحيح السنة، فأنا لم آت بكلمة واحدة من عندي أبداً، بل من القرآن والسنة الصحيحة وأقوال المفسرين المعتبرين من أهل العلم، يقول الله تعالى في سورة الزخرف وهو يخاطب حبيبه المصطفى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف:57] إلى قوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61]، وفي قراءة ابن عباس : (وإنه لعَلَم للساعة) أي: علامة وأمارة على قرب الساعة، فنزول عيسى عليه السلام من علامات الساعة الكبرى.

    نزول عيسى حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم

    وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً، فيُكسَر الصليب أو فيكسِر الصليب -واللغتان صحيحتان-، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد). تدبر كلام الصادق: (ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً)، أي: عادلاً، وأول ما يفعله أنه يكسر الصليب المقدس، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبلها من أحد، فإما الإسلام وإما القتال. ويفيض المال، وتحل البركات حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الضياء المقدسي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة قال المصطفى: (طوبى لعيش بعد المسيح، طوبى لعيش بعد المسيح، تؤمر الأرض أن تخرج بركتها وأن تخرج زرعها ، حتى أنك لو زرعت أو بذرت زرعك على الصفا -أي على الحجر- لنبت)، فالبركات تتنزل إلى الأرض، بل ترعى الذئاب مع الغنم، والأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، كما قال الصادق صلى الله عليه وسلم، ويمسك الصبي الحية فلا تؤذيه، يعيش الناس حالة من الأمن والاستقرار والأمان، بصورة لا يستطيع بليغ أن يعبر عنها على الإطلاق.

    صفة عيسى عليه السلام عند نزوله

    روى مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: (اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال الصادق: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات وهي: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ، ونزول عيسى بن مريم) آية وعلامة من علامات الساعة الكبرى. بل لقد حدد الصادق المصدوق شكله ووجهه وهو ينزل من السماء، والحديث رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس بيني وبين عيسى نبي، وإنه نازل فيكم، فإذا رأيتموه تعرفونه، إنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، ينزل بين مهرودتين أو بين ممصرتين -وفي رواية النواس بن سمعان-: ينزل بين مهرودتين) أي : ثوبين مصبوغين ، ورواية النواس في صحيح مسلم (ينزل عيسى بين مهرودتين) أي: ثوبين مصبوغين مائلين إلى الصفرة الخفيفة كما قال النووي وغيره، (واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ قطر رأسه، وإذا رفع تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ).

    مكان نزوله عليه السلام وقتله للدجال

    يتجه نبي الله عيسى مباشرة إلى بيت المقدس، فلقد حدد النبي موطن نزوله، قال كما في رواية النواس في صحيح مسلم : (فينزل نبي الله عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق) هذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، حتى المكان الذي سينزل فيه حدده: ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيتجه إلى بيت المقدس، فيدرك نبي الله عيسى المسلمين وهم يصلون صلاة الصبح -وفي رواية: وهم يعدون الصفوف لقتال الدجال- فإذا رأى إمام المسلمين نبي الله عيسى تقهقر ليخلي المكان لنبي الله ليصلي النبي بالأمة، فيدفع عيسى في كتف إمامنا نحن المسلمين ويقول له: تقدم صل أنت فلك الصلاة أقيمت. وفي رواية أخرى في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله يقول: (إمامكم منكم؛ تكرمة الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيتقدم إمام المسلمين ليصلي خلفه مأموماً نبي الله عيسى)، انظر إلى كرامة الأمة، نبي الله عيسى يصلي خلف إمام من أئمة المسلمين، وهناك بعض الروايات التي ذكرت: أن هذا الإمام هو المهدي عليه السلام، (فإذا ما أنهى صلاة الصبح أمرهم أن يفتحوا باب بيت المقدس، فيرى الدجال خلفه سبعون ألف يهودي بالسيوف، فإذا نظر نبي الله عيسى إلى الدجال ذاب الدجال كما يذوب الملح في الماء، فيقوم حينئذ نبي الله عيسى حتى يدركه عند باب لُدٍّ فيقتله) و(لُدٌ) مدينة معروفة الآن بفلسطين.

    عيسى بن مريم وأقوام يأجوج ومأجوج

    وفي حديث النواس يقول صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو كذلك إذ أتى عيسى قوماً قد عصمهم الله من الدجال، فيمسح عيسى على وجوههم، ويبشرهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هم كذلك إذ أوحى الله إلى نبيه عيسى أني قد بعثت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) -أي: لا قدرة لأحد ولا طاقة بقتالهم- فيبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، ثم يقول الله لنبيه عيسى: (فاحرز عبادي إلى الطور) اجمع عبادي من المؤمنين إلى جبل الطور (فيحصر نبي الله عيسى وأصحابه) من المؤمنين الموحدين من أمة محمد- فيخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمرون على بحيرة طبرية فيشرب أوائل يأجوج ومأجوج البحيرة بكاملها، فإذا ما جاء أواخرهم قالوا: كان بهذه البحيرة مرة ماء) أين ذهب الماء؟ وهم لا يعلمون ولا يدرون أن أوائل يأجوج ومأجوج هم الذي جففوا البحيرة تجفيفاً. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله) أي: يتضرعون إلى الله بالدعاء أن يهلك يأجوج ومأجوج- إذ إن الله قد أخبره أنه لا يدان لأحد بقتالهم، فيتضرع إلى الله أن يهلك يأجوج ومأجوج (فيستجيب الله عز وجل فيرسل عليهم النغف) والنغف: هو الدود الصغير، وأرجو أن لا تمر هذه الكلمة على الأذهان مروراً سريعاً، يأجوج ومأجوج الذين يجففون بحيرة، والذين يتجرءون بوقاحة حينما يقولون: لقد قهرنا أهل الأرض فهيا بنا لنقاتل أهل السماء، فيصوبون نشابهم أي: السهام إلى السماء، فيريد الله أن يبتليهم وأن يفتنهم، فتنزل السهام إليهم مرة أخرى وقد لطخت بالدماء، فيقول المجرمون الفجرة: لقد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، هؤلاء الفجرة يهلكهم الملك بالدود، فأين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلَّد الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] فيرسل الله عليهم النغف، وهو الدود الصغير: (فيصبحون؟ فرسى أي: قتلى كموت نفس واحدة) وهم يغطون وجه الأرض، ومع ذلك يصبحون قتلى كموت نفس واحدة (فتمتلأ الأرض بزهمهم) أي: بشحمهم ونتنهم، يقول المصطفى: (ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه، فلا يجدون شبراً من الأرض وإلا وقد ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى مرة ثانية وأصحابه إلى الله جل وعلا -أي: يتضرعون إليه بالدعاء- أن يطهر الأرض من هذا النجس والنتن، فيستجيب الله جل وعلا لهم، فيرسل طيراً كأعناق البخت -أي: كرقاب الإبل- فتأخذ يأجوج ومأجوج فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت ولا وبر، فيغسل هذا المطر الأرض، حتى تصبح الأرض كالزَّلقة، أو كالزُّلقة، أو كالزُّلفة، أو كالزَّلفة) والروايات كلها صحيحة، أي : تصبح الأرض كالمرآة في صفائها ونقائها. يقول المصطفى: (ثم يقال للأرض: انبتي ثمرتك وردي بركتك، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذ الناس تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن، وروح كل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر -أي: الحمير- وعليهم تقوم الساعة)، ثم يعيش الناس في هذه السعادة والرخاء مع نبي الله عيسى الذي يحكمهم بشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يموت ويصلي عليه الموحدون من أمة سيد النبيين . أسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بنبي الله عيسى ، وأن يجمعنا بإمام الأنبياء محمد وبإخوانه من النبيين والمرسلين في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم ارزقنا التوحيد الصحيح يا رب العالمين، اللهم ثبت التوحيد بشموله في قلوبنا، اللهم ثبت العقيدة التي ترضيك في قلوبنا، اللهم توفنا على التوحيد والإيمان، اللهم كما خلقتنا موحدين فثبتنا على التوحيد وتوفنا على التوحيد واحشرنا في زمرة الموحدين تحت لواء سيد النبيين، مع أخيه عيسى الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عن من سواك. اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل تدبيره في تدميره يا رب العالمين، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكل لنا ولا تكن علينا، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ، ولا مفرطين ولا مضيعين ، ولا مغيرين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم بلدنا مصر من الأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين. اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755780399