إسلام ويب

قصة فتاةللشيخ : محمد بن عبد الرحمن العريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أعداء الإسلام يستهدفون المرأة المسلمة تارة بالطعن في عفتها وطهرها، وتارة بالدعوة إلى نزع الحجاب، وتارة بنشر الغناء والأزياء، راجين بذلك أن تصير المرأة لعبة سهلة لكل متلاعب. فاعتصمي أختي المسلمة بدينك وتأسَّي بنساءٍ مسلمات عفيفات مضحيات، ولا تستوحشي من قلة السالكات، وها هي قصص تلك المؤمنات، فخذي منهن الصبر والعظات، والنصائح والتوجيهات؛ كي تثبتي في عصر الشهوات، وتفوزي بعدها بالجنات.

    1.   

    عائشة العفيفة وحادثة الإفك

    الحمد لله يختص من يشاء برحمته، ويوفق أحبابه لأسباب عنايته، ويتابع الإحسان إلى العباد بفضله ومنته، ويصرف الأحكام في العبيد فمنهم شقي وسعيد، ومقرب وطريد، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وصلاة الله وسلامه على سيد أنبيائه وأول أوليائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مُحدث الأكوان والأعيان، ومبدع الأركان والأزمان، ومنشئ الألباب والأبدان، ومنتخب الأحباب والخلان.

    الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، حمداً إذا قابل النعم وفى، وسلاماً إذا بلغ خاتم النبيين شفى، وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره.

    أما بعد:

    فهذه جلسة مع الصالحات، القانتات التقيات، اللاتي سمع الليل بكاءهن في الأسحار، ورأى النهار صومهن والأذكار.

    هذه كلمات عابرات أبعثها مع كل نبضة أمل في عصر تكاثرت فيه الفتن إلى الفتاة المسلمة الراكعة الساجدة، أبعثها إلى جوهرة المجتمع وأمل الأمة.

    إنها جلسة مع المؤمنات اللاتي لم تهتك إحداهن عرضها، ولم تدنس شرفها، وإنما صلت خمسها وأدامت سترها لتدخل جنة ربها.

    إنها قصة فتاة.. بل فتيات قانتات صالحات، ليست قصة عشق فاتنة، ولا رواية ماجنة.

    نعم! قصة أحكيها لك أنتِ -أيتها الأخت العفيفة العزيزة الشريفة- فأنتِ أعز ما لدينا، أنتِ الأم والأخت والزوجة والبنت، أنتِ نصف المجتمع، وأنتِ التي تلدين النصف الآخر، نعم.. تلدين الخطيب البارع، والإمام النافع، وتربين المجاهد المؤيد والقائد المسدد، فلك مني قصص وكلمات، وأحاديث وهمسات؛ لعلها تبلغ محبة قلبك، وتصل إلى شغاف نفسك.

    إنها قصة فتاة لم يتجاوز عمرها خمسة عشر عاماً، عاشت من عمرها زمناً عظم فيه الابتلاء، وأحاط بها الكرب والبلاء، عاشتها في أول شبابها وعانت من ويلاتها وعذابها، فكانت إذا جنت عليها الظلماء قرعت أبواب السماء بأنواع الدعاء، فاستغاثت وبكت، وسجدت، وتعبدت، قالت -وهي تدافع عبراتها وتكتم زفراتها-: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، قالت: فلما أراد الخروج إلى غزوة بني المصطلق أقرع بينهن فخرج سهمي) أي: خرج سهم عائشة رضي الله عنها.

    حادثة الإفك كما روتها عائشة

    خرجت عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أنزل الله الحجاب، وكانت تحمل في هودج، والهودج: هو مركب يشد فوق البعير، له جدران من قماش تقعد فيه المرأة، فإذا نزلوا نزلت من هودجها وقضت حاجاتها، فإذا أرادوا الارتحال ركبت فيه.

    قالت: (فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته توجه قافلاً إلى المدينة ، حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً فبات فيه بعض الليل، ثم آذن الناس بالرحيل) فبدأ الناس يجمعون متاعهم للرحيل، فخرجت عائشة لبعض حاجتها، وفي عنقها عقد لها من جزع ظفار فيه خرزات، فلما فرغت من حاجتها انسل العقد من عنقها وهي لا تدري، فلما رجعت إلى العسكر وأرادت الدخول في هودجها لمست عنقها فلم تجد العقد -وقد بدأ الناس في الرحيل- فرجعت سريعاً إلى مكانها الذي قضت فيه حاجتها، أخذت تبحث عنه وتبحث فأبطأت، وجاء القوم فحملوا هودجها وهم يظنون أنها فيه لخفتها، فاحتملوه وشدوه فوق البعير، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، وسار الجيش، أما عائشة فبعد بحث طويل وجدت العقد، فعادت إلى مكان الجيش، قالت رضي الله عنها: (فجئت منازلهم، وليس فيها داع ولا مجيب، قد انطلق الناس، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي، فتلففت بجلبابي، فبينما أنا جالسة في منزلي إذ غلبتني عيني فنمت، فوالله إني لمضطجعة، إذ مر بي صفوان بن المعطل

    رضي الله عنه، وكان صفوان

    يتخلف عن العسكر لبعض حاجاته ولا يبيت مع الناس، قالت: فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت: فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي -غطت وجهها- قالت: فوالله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه غير استرجاعه حتى أناخ راحلته، وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس
    ).

    ظلت عائشة على البعير يقودها صفوان، حتى ما أدركوا الناس ولا افتقدهم الناس حتى الصباح، قالت: (فوجدناهم نازلين) فبينما الناس كذلك إذ أقبل الرجل عليهم يقود بـعائشة البعير، فدخل صفوان بالبعير بينهم، ودخلت عائشة إلى هودجها، فلما رآهما المنافقون خاليين اتهموهما، وقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج العسكر

    وعائشة بكل براءة في هودجها لم تعلم شيئاً من ذلك أبداً، قالت: (ثم قدمنا المدينة ، فما لبثت أن مرضت واشتكيت شكوى شديدة، وأنا لا يبلغني من كلام الناس شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أبوي، وهم لا يذكرون لي منه شيئاً قليلاً ولا كثيراً إلا أني أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي، كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك، بل كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال: كيف تيكم -أي: كيف ابنتكم-؟ لا يزيد على ذلك، حتى وجدت في نفسي.

    فلما رأيت جفاءه قلت: يا رسول الله! لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟ قال: لا عليك).

    قالت: [فانتقلت إلى أمي، ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة، فخرجت لبعض حاجاتي ومعي أم مسطح

    بنت خالة أبي بكر

    رضي الله عنه، فوالله إنها لتمشي معي إذ تعثرت في مرطها -أي: في عباءتها- وسقطت أو كادت، فلما كادت أن تسقط أم مسطح

    قالت: تعس مسطح

    -دعت على ولدها- قالت عائشة

    لها: بئس لعمر الله ما قلت، تسبين رجلاً قد شهد بدراً ! فقالت أم مسطح

    : أي هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر

    ؟ قالت عائشة

    : وما الخبر؟ فبدأت أم مسطح

    تحكي القصة لـعائشة

    ، وأن الناس يلغون في عرضها، ويتهمون شرفها، وقد انتشر بين الناس خبرها.

    فلما سمعت عائشة

    هذا الكلام فكأنما والله صب في أذنها نار لا كلام، فانتفضت وقالت: أوقد كان ذلك؟ قالت أم مسطح

    : نعم، والله قد كان ذلك.

    قالت عائشة

    : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. قالت: فوالله ما قدرت أن أقضي حاجتي، ورجعت فازددت مرضاً على مرضي، فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي، وعندما رجعت قلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما يتحدثون به ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً؟! فأخذت أمها المسكينة تدافع عبراتها، وتقول: أي بنية! خففي عليك الشأن، فوالله لقلَّ ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرنه وكثر الناس عليها. فلما سمعت عائشة

    قول أمها: (وكثر الناس عليها) قالت عائشة

    : سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ قالت أمها: نعم
    ] فجرت عائشة باكية تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، ثم أصبحت وهي تبكي..!

    هذا حال عائشة ، تتهم بذلك، وهي الفتاة التي لم يتجاوز عمرها خمس عشرة سنة، تتهم بالزنا وهي العفيفة الشريفة، بل هي زوجة أطهر الناس التي ما كشفت سترها، ولا هتكت عرضها، هذا حالها: تبكي في بيت أبويها.

    موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حادثة الإفك

    أما حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبعد حزناً وهماً عن عائشة ، فلا جبريل يرسل، ولا القرآن ينزل، ويبقى صلى الله عليه وسلم متحيراً في أمره وقد كبر عليه اتهام المنافقين، وكلام الناس في عرضه وزوجه.. فلما طال الأمر عليه قام صلى الله عليه وسلم في الناس فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟! والله ما علمت عليهم إلا خيراً، ويقولون ذلك: لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، ولا يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي).

    فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة قام أمير الأوس سعد بن معاذ فقال: [يا رسول الله! إن يكونوا من الأوس -أي: من قومي- نكفك إياهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا أمرك، ثم قال: فوالله إنهم -أي: هؤلاء الذين اتهموك- لأهل أن تضرب أعناقهم]. فلما سمع ذلك أمير الخزرج سعد بن عبادة -وكان رجلاً صالحاً لكن أخذته الحمية- قام فقال: [كذبت لعمر الله، ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك عرفت أنهم من الخزرج ولو كانوا من قومك ما قلت هذا] عندها قام أُسيد بن الحضير وكان من الأوس فقال: [كذبت لعمر الله أنت، والله لنقتلنه، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين]، ثم ثار الناس بعضهم إلى بعض حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت.

    ثم نزل من على منبره، ومشى حتى دخل بيته، وبقي صلى الله عليه وسلم متفكراً، فلما رأى أن الأمر لا يمكن حله من جهة عموم الناس أراد أن يجد حلاً من جهة أهل بيته وأخص الناس به، فدعا علياً وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، ثم استشارهما، فأما أسامة فأثنى على عائشة خيراً وقال: (يا رسول الله! أهلك وما نعلم منهم إلا خيراً، وهذا كذب وباطل). وأما علي فإنه قال: (يا رسول الله! إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف -أي: أن تتزوج أخرى- ثم قال: وسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة

    خادمة عائشة

    ، قال: أي بريرة

    ! هل رأيت من شيء يريبك من عائشة

    ؟ قالت بريرة

    : لا والذي بعثك بالحق نبياً، والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة

    شيئاً إلا شيئاً واحداً، قالوا: وما هو؟ قالت: إنها جارية حديثة السن، فكنت أعجن عجيني ثم آمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الداجن فتأكله
    ) يعني: تأتي الشاة فتأكل هذا الطعام.

    نعم.. كيف ترى الجارية على عائشة ريبة وهي الفتاة الصالحة التي رباها صِدَّيقُ الأمة أبو بكر ، وتزوجها سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم؟! بل بالله عليكم كيف تقع في ريبة وهي أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان يحب إلا طيباً؟! فهي والله البريئة المبرأة، لكن الله يبتليها ليعظم أجرها ويرفع ذكرها.

    وتمضي على عائشة الأيام، والآلام ترث الآلام، وهي تتقلب على فراش مرضها لا تهنأ بطعامها ولا بشرابها، وقد حاول النبي عليه الصلاة والسلام أن يحل المشكلة بخطبةٍ على رءوس الناس فكادت أن تقع الحرب بين المسلمين، وحاول أن يحلها في بيته وأن يسأل علياً وزيداً فلم يخرج بشيء.

    نزول الوحي بتبرئة عائشة رضي الله عنها

    أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهي الأمر من جهة عائشة ، فأتت اللحظة الحاسمة! فبينما عائشة رضي الله عنها في بيت أبويها لا تجف لها دمعة، ولا تخف عنها لوعة، تبكي الليل والنهار، وأمها وأبوها عندها يظنان أن البكاء فالق كبدها، بينما هي على ذلك إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام يحث الخطا إلى بيت أبي بكر ، فاستأذن ودخل عليها، وعندها أبوها وأمها وامرأة من الأنصار، وهي أول مرة يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم بيت أبي بكر منذ قال الناس ما قالوا، وما رأى عائشة منذ قرابة شهر، وقد لبث شهراً كاملاً لا يوحى إليه شيء في شأن عائشة .

    دخل على عائشة فإذا هي طريحة الفراش وكأنها فرخ منتوف من شدة البكاء والهم، وإذا هي تبكي والمرأة عندها تبكي، لا يملكان من الأمر شيئاً، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد يا عائشة

    ! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئةً فسوف يبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله عز وجل وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تابَ الله عليه).

    فلما سمعت عائشة ذلك وقع في قلبها الوجل، هل يمكن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق ما قال الناس فجاء ينصحها بأن تتوب؟! لما سمعت ذلك انتفضت وجفَّ دمعها من هول ما سمعت، وهي الجارية الصغيرة، وانتظرت من أبويها أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما، فلما رأت ذلك التفتت إلى أبيها ثم قالت: (يا أبت! أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. فقال أبو بكر

    : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت لأمها: يا أماه! أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم عما قال. قالت: والله لا أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟)

    قالت: (فلما استعجما علي استعبرت فبكيت، ثم قلت: لا. والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، إني والله قد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئة، والله عز وجل يعلم أني بريئة لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة تصدقوني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: ((فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ))[يوسف:18])

    قالت: (ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله عزَّ وجل مبرئي ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحياً يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله عز وجل بها، فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أهل حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، وأنزل الله على نبيه.

    فأما أنا حين رأيته يوحى إليه، فوالله ما فزعت وما باليت، قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة

    بيده ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس، قالت: فلما سري عنه صلى الله عليه وسلم فإذا هو يضحك، فجعل يمسح العرق عن وجهه، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة

    ! قد أنزل الله عز وجل براءتك. قلت: الحمد لله. وأنزل الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
    * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ))[النور:11-13] وتوعد الله أولئك بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))[النور:19]).

    ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك، ثم أقام حد القذف على من قذف.

    منافقو اليوم ودورهم في إشاعة الفاحشة

    نعم. ابتلى الله عز وجل عائشة ليظهر فضلها، ويعظم أجرها، فصبرت واحتسبت، ودعت واستغفرت حتى ظهرت براءتها، ولا زالت براءة أمنا تتلى قصتها في المساجد، ويعرفها كل راكع وساجد، وأخزى الله المنافقين الذين يظهرون أنهم يريدون رقي المجتمع، ونشر الفضيلة وهم أهل الفسق والرذيلة، ألا ترين رأس المنافقين ابن أُبي يتهمها بالزنا، ويزعم أنه يريد نشر العفاف, وهو الذي كان يطوف سراً في الأسواق ويشتري الإماء الجميلات ثم يخرجهن بالليل في الطرقات, ويأمرهن بالبغاء والزنا ليجمع المال والخنا، حتى فضحه الله في القرآن بقوله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النور:33] فكان يتظاهر بالفضيلة لكنه هو والله رأس الرذيلة.

    لا يزال اليوم أحفاد المنافقين يسعون جاهدين لإشاعة الفاحشة في المؤمنين، ويرددون: العباءة على الرأس تضايقك، والثوب الطويل يثقل عليك، والبنطال أسهل لمشيك، وتغطية الوجه تكتم أنفاسك. يستميتون لتحقيق غاياتهم، ينفقون من أموالهم، ويبذلون من أوقاتهم! فهذه مجلة سافرة، وتلك مقالة فاجرة، وهذا برنامج يشكك في الحجاب، يريدون التمتع بزينتك في أسواقهم، ورقصك في مسارحهم، وجسدك على فرشهم، وخدمتك في طائراتهم، فهم في الحقيقة يطالبون بحقوق شهواتهم لا بحقوقك.. عجباً لهم! لم يعرفوا من حقوق المرأة إلا حق التبرج ونزع الحجاب، وقيادة السيارة، والسفر بلا محرم، والعمل ومخالطة الرجال، والخروج في وسائل الإعلام.. إلى آخر تلك الحماقات التي يسمونها حقوقاً!

    تباً لهم.. لم نسمع يوماً إنهم يطالبون بحقوق الأرامل والمعوقات، أو يطالبون الأبناء بحقوق الأمهات، قوم أعجبوا بحضارة الكفار فظنوا أن الطريق إليها نزع الحجاب وتشمير الثياب!

    1.   

    حال المرأة في الغرب وقصة واقعية

    إن جولةً واحدة في مجتمعات الانحلال تكفي لإدراك ذلة النساء للرجال، فالمرأة هناك تشتغل حمالة حقائب في المطار، وعاملة نظافة في الطريق، ومنظفة حمام في الشركة. وإن كانت جميلة اشتغلت في مرقص أو بار، فهذا سكير يعربد بها، وذاك فاجر يعبث بجسدها، والثالث يتخذها سلعةً يتكسب منها.. فإذا قضوا حاجتهم منها صفعوا وجهها، أو ركلوها بأقدامهم، وإذا كبرت ألقيت في دار العجزة التي هي أشبه بالسجون أو المقابر!

    عجباً.. أهذه هي الحرية التي يعنونها؟! والله لئن كنا نتألم لمصاب مسلمة في الفلبين ، وأخرى في كشمير ، فإن المرأة هناك لا تجد من يتألم لها.

    يقول أحد الأطباء: كنت أدرس في بريطانيا ، وكانت جارتنا عجوزاً يزيد عمرها على السبعين عاماً، كانت تستثير شفقة كل من رآها، قد احدودب ظهرها، ورق عظمها، ويبس جلدها، ومع ذلك فهي وحيدة بين جدران أربعة، تطبخ طعامها، وتغسل ثيابها، منزلها كأنه مقبرة، ولا يقرع أحد بابها، دعتها زوجتي لزيارتنا ذات يوم فأخبرتها زوجتي بأن الإسلام يجعل الرجل مسئولاً عن زوجته، يعمل من أجلها، يبتاع طعامها ولباسها، يعالجها من مرضها، ويساعدها إذا اشتكت، وهي تجلس في بيتها، تجب عليه نفقتها ورعايتها، بل وحماية عرضها ونفسها، فإذا رزقت بأولاد وجب عليهم هم أيضاً برها والذلة لها، فإن لم تكن المرأة ذات زوج, وجب على أبيها أو أخيها أو وليها أن يرعاها ويصونها.

    كانت تلك العجوز تستمع إلى زوجتي بكل دهشة وإعجاب، بل كانت تدافع عبراتها وهي تتذكر أولادها وأحفادها الذين لم ترهم منذ سنوات ولا يزورها أحد منهم، بل لا تعرف أين هم، وقد تموت أو تدفن أو تحرق وهم لا يعلمون؛ لأنها لا قيمة لها عندهم.

    أنهت زوجتي حديثها فبقيت العجوز واجمةً قليلاً ثم قالت: في الحقيقة إن المرأة في بلادكم ملكة..!

    نعم والله أنتِ عندنا ملكة، نعم ملكة، تسفك من أجلك الدماء (فمن قتل دون عرضه فهو شهيد)، وترخص لأجلك الأرواح وتنفق الأموال. والنساء شقائق الرجال، فكما أن في الرجال عالماً جليلاً وداعية نبيلاً ففي النساء كذلك، وكما أن في الرجال صوامين في النهار بكائين في الأسحار ففي النساء كذلك، وكم من امرأة سابقت الرجال في صالح الأقوال والأعمال فسبقتهم في عبادتها لربها، ونصرتها لدينها، وإنفاقها وعلمها.

    1.   

    نساء مؤمنات في قصصهن عبر وعظات

    إنك إذا قلبت صفحات التاريخ رأيت أن أعظم الفضائل إنما سبقت إليها النساء، فأول من سكن الحرم وشرب من ماء زمزم، وسعى بين الصفا و المروة هي امرأة هاجر أم إسماعيل وأول من دخل في الإسلام وناصر النبي عليه الصلاة والسلام هي امرأة أم المؤمنين خديجة وأول من عذب في مولاه حتى قتل في سبيل الله هي امرأة سمية أم عمار بن ياسر.

    قصة هاجر مع إبراهيم وولدها إسماعيل

    فعند البخاري أن إبراهيم عليه السلام انطلق من الشام إلى البيت الحرام، معه زوجه هاجر وولدها إسماعيل، وهو طفل صغير في مهده وهي ترضعه، حتى وضعهما عند مكان البيت الحرام، وليس بـمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، وضعهما هناك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاءً فيه ماء، ثم قفل عليه السلام راجعاً إلى الشام .

    تلفتت أم إسماعيل حولها في هذه الصحراء الموحشة فإذا جبال صماء وصخور سوداء، وما رأت حولها من أنيس ولا جليس، وهي التي نشأت في قصور مصر ، وسكنت في الشام في مروجها الخضراء وحدائقها الغناء، فاستوحشت مما حولها فقامت وتبعت زوجها، قالت: يا إبراهيم! فلم يلتفت إليها، قالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟! فما رد عليها، بل ولا التفت إليها، فأعادت عليه قالت: أين تذهب وتتركنا؟ فما رد عليها، فأعادت عليه فما أجابها، فلما رأت أنه لا يلتفت إليها قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: حسبي الله، قد رضيت بالله، إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت.

    فانطلق إبراهيم الشيخ الكبير وقد فارق زوجه وولده وتركهما، حتى إذا كان عند ثنية جبل حيث لا يرونه استقبل بوجهه جهة الباب ثم رفع يديه إلى الله داعياً مبتهلاً راجياً، وأخذ يدعو ويقول: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].

    ثم ذهب إبراهيم إلى الشام ، ورجعت أم إسماعيل إلى ولدها، فجعلت ترضعه وتشرب من ذلك الماء، فلم تلبث أن نفد ما في السقاء فعطشت وعطش ابنها، وجعل من شدة العطش يتلوى ويتلمض بشفتيه ويضرب الأرض بيديه وقدميه، وأمه تنظر إليه، كأنه يصارع الموت! فتلفتت حولها: هل من معين أو مغيث؟ فلم تر أحداً، فقامت من عنده وانطلقت كراهية أن تنظر إليه يموت، احتارت أين تذهب؟ فرأت جبل الصفا أقرب جبل إليها، فصعدت عليه وهي المجهدة الضعيفة، لعلها ترى أعراباً نازلين أو قافلةً مارين، فلما وصلت إلى أعلاه استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً.

    فهبطت من الصفا وسعت حتى أتت جبل المروة ، فقامت عليه ونظرت فلم تر أحداً، فعادت إلى الصفا فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما كانت في المرة السابعة سمعت صوتاً فقالت: قد أسمعت، إن كان عندك غواث فأغثني. فلم تسمع جواباً، فالتفتت إلى ولدها فإذا بالملك عند موضع زمزم فضرب الأرض بعقبه أو بجناحه حتى تفجر الماء، فنزلت إلى الماء سريعاً، وجعلت تحوضه بيدها وتجمعه، وتغرف بيدها من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، فقال لها جبريل: لا تخافوا الضيعة، إن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه.

    فلله درها ما أصبرها! وما أعجب حالها وأعظم بلاءها!

    هذا خبر هاجر التي صبرت وبذلت حتى سطر الله في القرآن ذكرها، وجعل خاتم الأنبياء من ولدها، فهي أم الأنبياء وقدوة الأولياء، هذا حالها وعاقبة أمرها.. نعم! تغربت وخافت، وعطشت وجاعت، لكنها راضية بذلك ما دام أن في ذلك رضا ربها، عاشت غريبةً في سبيل الله، سهرت والناس نائمون، وخافت وهم آمنون، ونصرت الدين وهم متقاعسون.

    فهل تصبرين أنت اليوم على مثل غربتها؛ فتقومين الليل والناس نيام، وتصومين النهار وهم في شراب وطعام، بل تفخرين بعباءتك وحجابك يوم تنازل عنها من تنازل، وتهجرين الأفلام والمسرحيات والفواحش والأغنيات في سبيل رضا رب الأرض والسماوات؟! فهذا الصبر من أعظم الجهاد، وأنت عليه في الدنيا عزيزة مشكورة، وفي الآخرة كريمة مأجورة، بل طوبى لك إن فعلت ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) نعم. طوبى للغرباء!

    فمن هم الغرباء؟!

    إنهم قوم صالحون بين قوم سوء كثير، إنهم رجال ونساء عاهدوا رب الأرض والسماء، يقبضون على الجمر، ويمشون على الصخر، ويبيتون على الرماد، ويهربون من الفساد، صادقة ألسنتهم، عفيفة فروجهم، محفوظة أبصارهم، كلماتهم عفيفة، وجلساتهم شريفة، فإذا وقفوا بين يدي الله وشهدت الأيدي والأرجل وتكلمت الآذان والأعين فرحوا واستبشروا، فلم تشهد عليهم عين بنظر إلى محرمات، ولا أذن بسماع أغنيات، بل شهدت لهم بالبكاء في الأسحار، والعفة في النهار.

    أما غيرهم فتحيط بهم الفضائح، وتهلكهم القبائح، قال الله: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ[النمل:83] .. حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:20-24] هذا خبر هاجر .

    أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مع بداية الوحي

    أما خبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فعند البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يوحى إليه بالنبوة كان يذهب إلى غار حراء بجوار مكة فيتعبد فيه، فبينما هو في هدوء الغار يوماً إذ جاءه جبريل فجأة، فقال: (اقرأ. ففزع النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: ما قرأت كتاباً قط، ولا أحسنه وما أكتب وما أقرأ. فأخذه جبريل فضمه إليه حتى بلغ منه الجهد، ثم تركه فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، فأخذه فضمه إليه الثانية حتى بلغ منه الجهد، ثم تركه فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذه فضمه إليه الثالثة حتى بلغ منه الجهد، ثم تركه فقال: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))[العلق:1-5] فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام كلام العلي العلام، ورأى هذا المنظر اشتد فزعه، ورجف فؤاده، ثم رجع إلى مكة فدخل على خديجة

    فقال: زملوني.. زملوني -أي: غطوني بالفرش- ثم اضطجع وغطوه).

    وأم المؤمنين تنظر إليه، لا تدري ما الذي أفزعه، فلبث عليه الصلاة والسلام على فراشه حتى سكن روعه، ثم التفت إلى خديجة فأخبرها الخبر، وقال: (يا خديجة

    ! لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة

    رضي الله عنها: كلا. والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق
    ). ثم لم ينقطع خيرها، ولم يقف حماسها، وإنما أخذت بيده صلى الله عليه وسلم فانطلقت به حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن عمها، وكان شيخاً كبيراً أعمى، بل وكان امرأً قد تنصر في الجاهلية، وكان يقرأ الإنجيل ويكتبه ويعرف أخبار الأنبياء.

    فلما دخلت عليه خديجة جلست إليه ومعها النبي عليه الصلاة والسلام، قالت له: (يا ابن عمي! اسمع من ابن أخيك. قال له ورقة

    : يا ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره خبر ما رأى، وما سمع من القرآن، فقال ورقة

    : سبوح سبوح! أبشر ثم أبشر.. هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك -أي: شاباً قوياً- ففزع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً
    ).

    ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع زوجه خديجة وقد أيقنت خديجة أن عهد النوم قد ولَّى، وأنها مع زوج سيبتلى، وقد تخرج من بيتها وتؤذى في نفسها، وهي المرأة التي نشأت غنية منعمة، حسيبةً مكرمة، وهاهي تستقبل البلاء، فهل تخاذلت عن نصرة الدين؟ أو خلطت الشك باليقين؟ كلا، بل آمنت بربها، ونصرت نبيها بمالها ورأيها وجهدها، ولم يزل هذا حالها حتى لقيت ربها.

    وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: (يا رسول الله! هذه خديجة

    قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام - ممن؟- من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب).

    هذا خبر خديجة أول من دخل في الإسلام، ونبذ عبادة الأصنام، سبقت الرجال، وخلفت الأبطال، حتى ضرب التاريخ ببذلها الأمثال، ودعانا إلى الاقتداء بفعلها، لم تلتفت إلى توهينٍ من كافر أو شبهة من فاجر، فكان جزاؤها أن أعدَّ الله نزلها وبنى بيتها، فاستبشرت وفرحت، وزادت وتعبدت حتى لقيت ربها وهو راضٍ عنها.

    فهلا اقتدت بها بناتها ليكون لهن في الجنة بيوت من قصب لا صخب فيها ولا نصب.

    ثبات أم عمار سمية بنت خياط

    أما خبر أم عمار سمية بنت خياط فهو عجب! كانت أمةً مملوكة لـأبي جهل ، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت هي وزوجها وولدها، فجعل أبو جهل يفتنهم ويعذبهم، كان يربطهم في الشمس حتى يشرفوا على الهلاك حراً وعطشاً، فكان صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهم يعذبون، ودماؤهم تسيل على أجسادهم، وقد تشققت من العطش شفاهُهُم، وتقرحت من السياط جلودهم، وحرِّ الشمس يصهرهم من فوقهم، فيتألم لحالهم ويقول: (صبراً آل ياسر، صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة). فتلامس هذه الكلمات أسماعهم فترقص أفئدتهم، وتطير قلوبهم فرحاً بهذه البشرى.

    وفجأةً إذا بفرعون هذه الأمة أبي جهل يأتيهم، فيزداد غيظه عليهم، فيسومهم عذاباً ويقول: سبوا محمداً وربه. فلا يزدادون إلا ثباتاً وصبراً، عندها يندفع الخبيث إلى سمية ، ثم يستل حربته يهددها بها، ثم يثور غضبه فيطعن بها في فرجها؛ فتتفجر دماؤها، ويتناثر لحمها فتصيح وتستغيث، وزوجها وولدها إلى جانبيها مربوطان يلتفتان إليها وأبو جهل يسب ويكفر، وهي تحتضر وتكبر، فلم يزل يقطع جسدها المتهالك بحربته حتى تقطعت أشلاء وماتت.

    نعم.. ماتت، فلله درها ما أحسن مشهد موتها! ماتت وقد أرضت ربها وثبتت على دينها، ماتت ولم تعبأ بجلد جلاد، ولا إغراء فساد، فآهٍ لفتيات اليوم! تضل إحداهن بأقل من ذلك، نعم تنحرف عن الصراط وهي لم تجلد بسياط، ولم تخوف بعذاب، ومع ذلك تهتك سمعها بسماع المحرمات، وبصرها بالنظر إلى المحرمات، وعرضها بالغزل والمكالمات، وحجابها بتلاعب أصحاب الشهوات.

    نعم.. كانت النساء يصبرن على البلاء، كنَّ يصبرن على العذاب الشديد والكي بالحديد، وفراق الزوج والأولاد، يصبرن على ذلك كله حباً للدين، وتعظيماً لرب العالمين، لا تتنازل إحداهن عن شيء من دينها، ولا تهتك حجابها، ولا تدنس شرفها ولو كان ثمن ذلك حياتها.

    أم أنس بن مالك وأثرها في حياة الزوج والابن

    نساء خالدات، تعيش إحداهن لقضية واحدة: كيف تخدم الإسلام؟ تبذل للدين مالها ووقتها بل وروحها، حملن هم الدين وحققن اليقين، فانظري إلى أم أنس بن مالك الرميصاء ، التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري : (دخلت الجنة فسمعت خشفةً بين يدي، فإذا هي الرميصاء بنت ملحان

    ).

    امرأة من أعجب النساء، عاشت في بداية حياتها كغيرها من الفتيات، وتزوجت مالك بن النضر ، فلما جاء الله بالإسلام استجابت وفود الأنصار، وأسلمت أم سليم مع السابقين إلى الإسلام، عرضت الإسلام على زوجها فأبى وغضب عليها، وأرادها على الخروج معه من المدينة إلى الشام فتمنعت عليه، فخرج وهلك هناك.

    وكانت امرأةً عاقلةً جميلة، فتسابق إليها الرجال، فخطبها أبو طلحة قبل أن يسلم، فقالت له: [يا أبا طلحة

    ! أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فذاك مهري لا أسألك غيره. قال: إني على دين.

    قالت: يا أبا طلحة

    ! ألست تعلم أن إلهك الذي تعبده خشبة نبتت من الأرض نجرها حبشي بني فلان؟

    قال: بلى.

    قالت: أفلا تستحي أن تعبد خشبة من نبات الأرض نجرها عبد حبشي؟! يا أبا طلحة

    ! إن أنت أسلمت فذاك مهري لا أريد من الصداق غيره.

    قال: تمهلي حتى أنظر في أمري. فذهب؛ ثم جاء إليها وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    فاستبشرت وقالت: يا أنس

    ! زوج أبا طلحة

    ] فتزوجها، فما كان هناك مهر قط أكرم ولا أعلى ولا أجل من مهر أم سليم : الإسلام.

    انظري! كيف أرخصت نفسها في سبيل دينها، وأسقطت من أجل الإسلام حقها؟! فهي فتاة تعيش لأجل قضية واحدة هي الإسلام، كيف ترفع شأنه وتعلي قدره وتهدي الناس إليه؟!

    بل حينما قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، استقبله الأنصار والمهاجرون فرحين مستبشرين، ونزل صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب ، فأقبلت الأفواج إلى بيته لزيارته، فخرجت أم سليم الأنصارية مع هذه الجموع، وأرادت أن تقدم للنبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، فلم تجد أحب إليها من فلذة كبدها، فأقبلت بـأنس ولدها، ثم أقبلت بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: [يا رسول الله! هذا أنس

    يكون معك دائماً يخدمك]. ثم مضت وبقي أنس يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صباحاً ومساءً.

    ولم تكن أم سليم تتصنع البذل أمام الناس وتنساه في نفسها، وإنما العجب من حالها في بيتها من عنايتها بزوجها، ورضاها بقسمة ربها.

    تزوجت أم سليم أبا طلحة ، ورزقت بغلام صبيح، وفي يوم من الأيام مرض الغلام فحزن أبو طلحة عليه، واشتد المرض بالغلام حتى مات، وأمه عنده وأبو طلحة خارج البيت.. بكى أهل البيت، فهدأتهم وقالت: [لا تحدثوا أبا طلحة

    بابنه حتى أكون أنا أول من يحدثه. فوضعت الغلام في ناحيةٍ من البيت وغطته، ثم أعدت لزوجها طعامه.

    فلما عاد أبو طلحة

    إلى بيته سألها: كيف الغلام؟ قالت: هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح. فتوجه إليه ليراه فمنعته وقالت: هو ساكن فلا تحركه. ثم قربت إليه عشاءه فأكل وشرب، ثم أصاب منها ما يصيب الرجل من امرأته، فلما رأت أنه قد شبع واستقر قالت له بهدوء: يا أبا طلحة

    ! أرأيت لو أن قوماً أعاروا متاعهم لجيرانهم، وبعد زمن طلبوا متاعهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: ألا تعجب من جيراننا؟ قال: وما لهم؟ قالت: أعارهم قوم متاعاً وطال بقاؤه عندهم حتى رأوا أنهم قد ملكوه، فلما جاء أصحابه يطلبونه جزعوا أن يعطوهم إياه. فما رأيك؟ قال: بئس والله ما صنعوا! قالت: هذا ابنك كان عاريةً من الله، وقد قبضه إليه، فاحتسب ولدك عند الله. ففزع وقال: تركتني حتى إذا قارفت ما قارفت -أي: أصابتني الجنابة- أخبرتني! ثم قال: والله ما تغلبيني على الصبر الليلة، لأصبرن، فقام وجهز ولده، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر؛ فدعا لهما بالبركة -أي: في الذرية- قال راوي الحديث: فلقد رأيت لهما بعد ذلك في المسجد سبعة أولاد كلهم قد حفظ القرآن
    ].

    ومثل أم سليم ينتشر خيرها، وتعم بركة فعلها على أهل بيتها، يصلح أولادها، وتستقيم بناتها، بل ويتأثر زوجها بصلاحها، فلا عجب من أن يرتفع شأن أبي طلحة بعد زواجه منها.

    كانت أم سليم تحثه على الدعوة والجهاد، وطاعة رب العباد، حتى إذا كانت معركة أحد خرج أبو طلحة مجاهداً، فاشتد على المسلمين البلاء فاضطربوا وقتِّلوا وتفرقوا، وأقبل المشركون على النبي عليه الصلاة والسلام يريدون قتله، فأقبل إليه أصحابه الأخيار وهم جرحى وجوعى، دماؤهم تسيل على دروعهم، ولحومهم تتناثر من أجسادهم، أقبلوا عليه فأحاطوه بأجسادهم يصدون عنه الرماح، وضربات السيوف تقع عليهم دونه، وكان أبو طلحة يرفع صدره ويقول: (يا رسول الله! لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك) وهو يقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحامي، والكفار يضربونه من كل جانب، هذا يرميه بسهم، وذاك يضربه بسيف، والثالث يطعنه بخنجر، فلم يلبث أن صرع ووقع من كثرة الضرب عليه، فأقبل أبو عبيدة يشتد مسرعاً فإذا أبو طلحة صريع، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (دونكم أخاكم، فقد أوجب) فحملوه فإذا بجسده بضع عشرة ضربة وطعنة.

    نعم.. كان أبو طلحة بعدها يرفع راية الدين، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لصوت أبي طلحة

    في الجيش خير من ألف فارس) هذا صوته في الجيش، فما بالك بقوته وقتاله؟ هذا حال أبي طلحة زوج أم سليم ، وهذا تأثيرها في صلاحه وجهاده.

    أما ولدها أنس فقد كان آية في العلم والعبادة، فهل تنشطين لتقدمي مثل ما قدمت؟ فقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام النساء كما دعا الرجال، وبايع النساء كما بايع الرجال، وحدث النساء كما حدث الرجال، والنساء والرجال متساوون في الجزاء والعقاب، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] وهما متساويان في الحقوق الإنسانية، فلكل من الزوجين حق على الآخر، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً) بل الميزان الوحيد عند الله للمفاضلة بين الرجل والمرأة هو: التقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].

    وجعل الله للمرأة حقها في تقرير حياتها، فلا تُزوج إلا بإذنها، ولا يُؤخذ من مالها إلا باختيارها، وإن اتهمت في عرضها عُوقب متهمها، وإن احتاجت ألزم وليها بسد حاجتها، أبوها مأمور بالإحسان إليها، ولدها مأمور ببرها، أخوها مأمور بصلتها.

    بل طالما قدم الدين المرأة على الرجل، قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ[العنكبوت:8] فبدأ بالأم قبل الأب، وفي الصحيحين قال رجل (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك).

    ورأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يطوف حول الكعبة يحمل عجوزاً على ظهره، فسأله: [من هذه؟ قال الرجل: هذه أمي مقعدة، وأنا أحملها على ظهري منذ عشرين سنة، أتراني يا ابن عمر

    وفيتها حقها؟ فقال ابن عمر

    : ولا بزفرة من زفراتها
    ].

    ومع هذا التبجيل والتكريم، والاحترام والتقديم كيف تتقاعس فتياتنا اليوم عن نصرة الدين؟ بل كيف ترى المنكرات ظاهرة بصور فاجرة، أو علاقات سافرة، وترى محرمات في اللباس والحجاب مؤذنةً بقرب نزول العذاب، ترى نزول هذه المنكرات بين قريباتها وأخواتها وزميلاتها، ثم لا تنشط للإنكار، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره..) فهل غيرت ما استطعت من منكرات؟!

    ليت شعري كيف يكون حالك يوم القيامة إذا تعلقت بك الصديقة والزميلة، والحبيبة والخليلة، وبكين وانتحبن: لم رأيتينا على المنكرات ومقارفة المحرمات ولم تنهي أو تنصحي أو تعظي وتذكري؟ ماذا تقولين؟ وبماذا تعتذرين؟ ألست تعلمين أن هذه منكرات؟!

    1.   

    التضحية لإعلاء راية الدين

    من العجب أن بعض الصالحات تقول: لا أجرؤ على الدعوة إلى الخيرات، ولا إنكار المنكرات. عجباً..! كيف تجرؤ مغنية فاجرة أن تغني أمام عشرة آلاف يلتهمونها بأعينهم قبل آذانهم ولم تقل: إني خائفة خجلة؟ وكيف تجرؤ راقصة داعرة أن تعرض جسدها أمام الآلاف ولا تفزع ولا توجل؟! وأنتِ إذا أردنا منك مناصحة أو دعوة خذلك الشيطان؟!

    قصة من الواقع في تضحية كافرة من أجل دينها

    وانظري إلى تضحية الكافرات لدينهن.. يقول أحد الدعاة: كنت في رحلة دعوية إلى اللاجئين في أفريقيا ، كان الطريق وعراً موحشاً، أصابنا فيه شدة وتعب، ولا نرى أمامنا إلا أمواجاً من الرمال، ولا نصل إلى قرية في الطريق إلَّا ويحذرون من قطاع الطريق.

    ثم يسر الله الوصول إلى اللاجئين ليلاً، فرحوا بمقدمي، وأعدوا خيمةً فيها فراش بال، ألقيت بنفسي على الفراش من شدة التعب، ثم رحت أتأمل رحلتي هذه، أتدري ما الذي خطر في نفسي؟ شعرت بشيء من الاعتزاز والفخر، من الذي سبقني إلى هذا المكان؟ من الذي يصنع مثل ما صنعت؟! من الذي يستطيع أن يتحمل هذا الهمَّ الدعوي الذي أتحمله؟! أجلس هاهنا أسبوعين كاملين، من مثلي؟! ولا زال الشيطان ينفخ في قلبي حتى كدت أتيه كبراً وغروراً.

    فلما جاء الصباح خرجت مع بعضهم أتجول بين هؤلاء اللاجئين حتى وصلنا إلى البئر الوحيد بينهم، فلما أقبلت إليه رأيت مجموعة من النساء يحملن على رءوسهن قدور الماء، وكلهن من الأفارقة السود، ولفت نظري من بينهن امرأة بيضاء شقراء كأنها في الثلاثين من عمرها! سألت صاحبي: من هذه؟ فالتفت إلي ثم قال: أنت تتكاثر علينا أن تجلس عندنا أسبوعين، هذه منصِّرة نرويجية تقيم هنا منذ ستة أشهر، تلبس لباسنا، وتأكل طعامنا، وترافقنا في أعمالنا، وهي تجمع الفتيات كل ليلة تتحدث معهن، وأحياناً ترقص بهن، وكم من يتيم مسحت على رأسه، ومريض خففت من ألمه، وقد تنصر على يدها المئات!

    قال صاحبي: عندها عرفت أني ما قدمت شيئاً لهذا الدين.

    تأملي في حال هذه الفتاة: ما الذي دعاها إلى هذه القفار النائية وهي على ضلالها؟

    وما الذي دفعها لتترك حضارة أوروبا ومروجها الخضراء؟!

    وما الذي قوى عزمها على البقاء مع هؤلاء العجزة المحاويج وهي في قمة شبابها؟! أفلا تتصاغرين نفسك؟!

    هذه منصرة ضالة تصبر وتكابد وهي على الباطل، بل في أدغال أفريقيا ، تأتي المنصرة الشابة من أمريكا وبريطانيا وفرنسا ، تأتي لتعيش في كوخ من خشب أو بيت من طين، وتأكل من أردأ الطعام كما يأكلون، وتشرب من النهر كما يشربون، ترعى الأطفال وتطبب النساء، فإذا رأيتها بعد عودتها إلى بلدها فإذا هي قد شحب لونها وخشن جلدها، وضعف جسدها، لكنها تنسى كل هذه المصاعب لخدمة دينها.

    عجباً! هذا ما تبذله تلك النصرانيات الكافرات ليعبد غير الله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].

    وقفة مع التضحيات لدين الله

    أختاه! أفلا تساءلت يوماً ماذا قدمت للإسلام؟! كم فتاة تابت على يدك؟! كم تنفقين لهداية الفتيات إلى ربك؟ بل بعض الفتيات تزين لغيرها المنكرات.. نعم، تتبادل معهن مجلات الفحشاء وأشرطة الغناء، أو تدعوهن إلى مجالس منكر وبلاء، وهذا من التعاون على الإثم والعدوان والدخول في حزب الشيطان، ووالله لتنقلبن هذه المحبة إلى عداوة وبغضاء، قال الله عز وجل: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] هذا حالهن في عرصات القيامة، يلبسن لباس الخزي والندامة.

    أما في النار فلعلها كما قال الله عن بعض العصاة: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25] يلعن بعضهن بعضاً، تقول لصاحبتها التي طالما جالستها في الدنيا، وضاحكتها وقبلتها، تقول لها يوم القيامة: لعنك الله.. أنت التي أوقعتني في الغزل والفحشاء، فتصيح بها الأخرى فتقول: بل لعنك الله أنت، فأنت التي أعطيتني أشرطة الغناء. فتجيبها: بل لعنك الله أنتِ، أنتِ التي زينت لي التسكع والسفور. فترد عليها: بل لعنك الله أنتِ، أنتِ التي دللتني على طرق الفجور..

    عجباً كيف غابت تلك الضحكات والهمسات واللمسات؟ طالما طفتما في الأسواق وضاحكتما الرفاق، واليوم يكفر بعضكن ببعض، ويلعن بعضكن بعضاً.! -نعم- لأنهن ما اجتمعن يوماً على نصيحة أو خير: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ[المؤمنون:115].

    1.   

    الحجاب ستر وعفاف، لا زينة وإسراف

    كم من الفتيات المؤمنات انجرفت إحداهن مع الأمواج؟ فصارت دميةً للمفسدين يلبسونها ما شاءوا، فهذه عباءة مطرزة، وتلك مخصرة، والثالثة على الكتفين، والرابعة واسعة الكمين، عباءات تظهر الزينة بدل أن تسترها!

    والحجاب إنما شرع لستر الزينة عن الرجال، فإذا كان الحجاب في نفسه زينة فما الحاجة إليه وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : (صنفان من أهل النار لم أرهما، وذكر منهما: نساء كاسيات عاريات.. لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) أفلا تريدين ولو رائحة الجنة؟!

    أتدرين أنك إذا لبست عباءة متبرجة، ثم رأتك فتاة فاشترت مثلها فلبستها, أتعلمين أن عليك وزرها ووزر من قلدها هي أيضاً إلى يوم القيامة؟! أيسرك أن تكوني داعيةً إلى الشر؟!

    ولو سألت امرأة تزينت بعباءةً من هذه الأنواع لماذا تلبسين هذه العباءة؟ لقالت لك: هذه أجمل. فاسأليها عند ذلك: بصراحة لمن تتجملين؟ لخاطب شريف أو زوج عفيف؟ كلا! إنها تتزين لينظر إليها سفلة الناس ممن لا يلتفتون لمراقبة الله لهم، ممن لا يهمهم شرفها ولا عفتها ولا كرامتها، يسعى أحدهم لشهوة فرجه ولذة عينه، ثم إذا قضى حاجته منها ركلها بقدمه، وبحث عن فريسة أخرى.

    هلا تفكرت يوماً لماذا أمرك الله بالحجاب؟ نعم لماذا قال الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]؟ لماذا أمرك الله بستر زينتك: وجهك وشعرك وسائر جسدك؟ لماذا أمرك الله بهذا؟ هل بينه وبينك خصام أو ثأر وانتقام؟ كلا..! فهو الغني عن عباده الذي لا يظلم مثقال ذرة، ولكنها سنة الله الباقية، وشريعته الماضية، وقوله الذي لا يُبدل، وحكمه الذي لا يغير، قضى على الرجل بأحكام، وعلى المرأة بأحكام، ولا يمكن أن تستقيم الدنيا إلا بطاعته، والمرأة الصالحة تسلم لربها في أمره.

    وتأملي فيما رواه مسلم من خبر تلك المرأة التي جاءت إلى عائشة رضي الله عنها يوماً فسألتها: (يا أم المؤمنين! ما بال الحائض إذا طهرت من حيضها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فعجبت عائشة من سؤالها، وقالت: أحرورية أنت؟ -أي: من الخوارج- قالت: لست بحرورية ولكني أسأل؟ فقالت عائشة : كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) انتهى. تسليم تام لأوامر الله عز وجل كما قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51-52] نعم الفائزون هم الذين يسلمون لله في أمره.

    1.   

    خافت، فتابت، ففازت.. إنها الغامدية

    كلما كانت المرأة بربها أعرف كانت منه أخوف، فإذا قارفت ذنباً أو معصية رجعت إلى ربها تائبةً مقضية، تخاف من ويلات الذنوب، وتترك لذة عيشها في سبيل أن تلقى ربها وهو راض عنها، فيغفر الله ذنبها، ويستر عيبها، وهو الذي يفرح بتوبة عباده إذا تابوا إليه.

    وفي الصحيحين : أن امرأة من الصحابيات كانت في المدينة وسوس لها الشيطان يوماً وأغراها برجل، فخلا بها عن أعين الناس، وكان الشيطان ثالثهما، فلم يزل يزين كل واحد منهما لصاحبه حتى زنيا، فلما فرغت من جرمها تخلى الشيطان عنها فبكت وحاسبت نفسها، وضاقت عليها حياتها، وأحاطت بها خطيئتها حتى أحرق الذنب قلبها.

    جاءت إلى طبيب القلوب عليه الصلاة والسلام، وقفت بين يديه ثم صاحت -من حر ما تجد-: (يا رسول الله! زنيت فطهرني. فأعرض عنها صلى الله عليه وسلم والتفت، فجاءت بشقه الآخر قالت: يا رسول الله! زنيت فطهرني. فأعرض عنها لعلها أن تخرج فتتوب بينها وبين الله، فخرجت من عنده والذنب يأكل فؤادها فلم تطق صبراً، فلما جلس عليه الصلاة والسلام في مجلسه من الغد, فإذا بها تقبل إليه، قالت: يا رسول الله! طهِّرني. فأعرض عنها، فصاحت من حر فؤادها قالت: يا رسول الله! لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعزاً ، والله إني لحبلى من الزنا. فالتفت إليها ثم قال: أما لا فاذهبي حتى تلدي).

    فخرجت من المسجد، ومضت إلى بيتها تجر خطاها، قد كبر همها، وضعف جسدها، ودمعت عينها وامتلأ بطنها، ذهبت تعد الساعات والأيام والآلام تلد الآلام، فلما مضت تسعة أشهر ضربها المخاض فلم تزل تتلوى من الألم حتى ولدت، فلما ولدت لم تنتظر نفاسها، بل قامت من فراشها وحملت وليدها في خرقتها، ثم مضت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ثم وضعته بين يديه، قالت: (هأنذا قد ولدته يا رسول الله فطهِّرني. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها -فإذا هي في نفاسها وفي تعبها ونصبها، ونظر إلى وليدها فإذا هو صبي في مهده، يتلبط بين يدي أمه- فقال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه).

    فذهبت وغابت سنتين كاملتين، عاشتها مع فلذة كبدها، يتقلب في حضنها ويرضع من ثديها، تغسل وجهه بدمعاتها، وتودعه بنظراتها، فلما فطمته من الرضاع لفت عليها ثيابها ثم خرجت من بيتها بولدها، وناولته في يده كسرة خبز، ثم أتت به يمشي معها حتى وقفت بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام قالت: (يا نبي الله! هذا قد فطمته وقد أكل الطعام، فطهرني. فدفع النبي عليه الصلاة والسلام الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها حتى ماتت).

    نعم ماتت، لكنها غسلت وكفنت، وقام صلى الله عليه وسلم ليصلي عليها وهو يقول: (لقد تابت توبةً لو تابها سبعون من أهل المدينة لقبل منهم، هل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها؟!) ماتت وجادت بنفسها في سبيل الله! نعم ماتت فطوبى لها.

    وقعت في الزنا وهتكت ستر ربها، وشهدت الملائكة الكرام, واطلع الملك العلام، لكنها لما ذهبت اللذات، وبقيت الحسرات، تذكرت يوماً تشهد عليها أعضاؤها التي متعتها بالزنا، رجلها التي مشت بها، يدها التي لمست بها، لسانها الذي تكلمت به، بل تشهد عليها كل ذرة من ذراتها، وكل شعرة من شعراتها، فتذكرت حرارة النيران وعذاب الرحمن، يوم يعلق الزناة في النار ويضربون بسياط من حديد، فإذا استغاث أحدهم من الضرب نادته الملائكة تقول: أين كان هذا الصوت وأنت تضحك وتفرح وتمرح، ولا تراقب الله ولا تستحي منه؟!

    وفي الصحيحين : أن النبي عليه الصلاة والسلام خطب الناس فقال: (يا أمة محمد! والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً) فتابت توبةً لو قسمت بين أمة لوسعتهم:

    جـاءت إليه ونار الجوف تستعر     ودمعة العين لا تنفك تنهمر

    فأقبلت ورسول الله في حلق      من صحبه وفؤاد الدهر مفتخر

    قالت له: يا رسول الله! معذرة     ينوء ظهري بذنب كيف يغتفر؟

    فجال عنها وأغضى عـن مقالتها     وللتمعر في تقطيبه أثر

    قالت وللصدق في إقرارها شجن     والصمت يطبق والأحداث تختصر

    أصبت حداً فـطهر مهجة فنيت     وشاهدي في الحشا إن كذب الخبر

    فقال عودي وكـوني للجنين تقى     فللجنين حقوق ما لها وزر

    ما أودعت سجن سجانٍ وكافلها     تقوى الإله فلا سوط ولا أسر

    حتى إذا حان حين وانقضى أجل     وقد تقرح منها الخد والبصر

    حل المخاض فهاجت كل هائجة      مثل الأسير انتشى والقيد ينكسر

    فأقبلت يا رسول الله ذا أجلي     طال العناء وكسري ليس ينجبر

    فقال قولة إشفاق ومرحمة     والقلب منكسر والدمع ينهمر

    غذي الوليد إلى سن الفطـام فقد     جرت له بالحقوق الآي والسور

    حتى إذا ما انقضت أيام محنتهـا     تكاد لولا عرى الإيمان تنتحر

    جـاءت به ورغيف الخبز في يده     وليس يعلم ما الدنيا وما القدر

    قالت فديت رسول الله ذا أجـلي     قد ملني الصبر والعقبى لمن صبروا

    فقال: من يكفل المولود من سعة     أنا الرفيق له يا سعد من ظفروا

    فاستله صاحب الأنصار في فـرح     وحاز أفضل فوز حازه بشر

    كأنما الروح من وجدانها انتزعت     يا للأمومة والآهات تنفجر

    وكفكفت دمعة حراء مـودعةً     وللأسى صورة من خلفها صور

    واستبشرت بعبير التوب واغتسلت     كما ينقي صلاب الصخرة المطر

    سارت إلى جنة الفردوس فابتسمت     لها الربا والنعيم الخالد النضر

    وجنة الخلد تجلو كل بائسة     يحلو إليها الضنى والجوع والسهر

    إن غرها طائف الشيطان في زمن     فلم تزل بعدها تعلو وتنتصر

    هكذا كانت النساء رجاعات توابات، فهل لك أن تتأملي نساء اليوم، كم منهن انزلقت قدمها في المعصية؟ بل صال حولها الشيطان وجال, حتى أخرجها من الإسلام وألحقها بعباد الأصنام، فتركت الصلاة وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).

    وانتقلي معي إن شئتِ إلى هناك، انتقلي إلى الدار الآخرة، ثم تأملي ما قصه الله علينا من خبر أهل الجنة والنار، فبينما أهل الجنة فيها يتنعمون، وعلى أسرتها يتقلبون إذ تساءلوا عن أصحاب لهم كانوا في الدنيا على معصية الرحمن، ما حالهم وخبرهم؟ فتخبرهم الملائكة أنهم في النار يصطلون، ومن زقومها يتجرعون، ومع شياطينها يسلسلون، عند يشرأب أهل الجنة ينظرون إليهم ويسألونهم ويقولون: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42] اسمع إلى وصف الله لحال هؤلاء وأولئك، قال عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:38-42] فاسمع الجواب، ذكروا أربعة أسباب أدخلتهم النار، أولاً: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43] ثانياً: وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:44] ثالثاً: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:45] نعم نخوض مع الخائضين، نفعل ما يفعله الناس، إن تركوا الصلاة تركنا، وإن عصوا عصينا، وإن غنَّوا غنينا، وإن دخنوا دخنَّا، وإن ناموا عن الصلوات نمنا، وإن عقوا والديهم عققنا، نخوض مع الخائضين. رابعاً: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:46] ما كنا نؤمن به إيمان من يردعه خوف الآخرة عن معاصيه.

    فما النتيجة؟ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:47] قال الله: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] نعم والله، لو اجتمع الأنبياء عليهم السلام، ومعهم الملائكة الكرام، وشفعوا لكافر ليخرجوه من النار ما قبل منهم، فالكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين.

    1.   

    الغناء بريد الزنا

    بعض الفتيات قد يجرها الشيطان إلى سبيل الرذيلة بسماع الغناء، والتعلق بالفحشاء، وقد قال الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6] وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقسم بالله أن المراد به الغناء، وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَّ والحرير والخمر والمعازف) وصح عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف) ونص العلماء على تحريم آلات اللهو، والتحريم يشتد والذنب يعظم إذا رافق ذلك الموسيقى غناء، وتتفاقم المصيبة عندما تكون كلمات الأغاني عشقاً وحباً وغراماً ووصفاً للمحاسن، بل هي مزمار الشيطان الذي يزمر به فيتبعه أولياؤه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [الغناء رقية الزنا]. أي: هو طريقه ووسيلته.

    هذا كان يقوله ابن مسعود لما كان الغناء يقع من الجواري والإماء المملوكات، يوم أن كان الغناء بالدف والشعر الفصيح يقول: هو رقية الزنا، فماذا يقول ابن مسعود لو رأى زمانناً هذا وقد تنوعت الألحان وكثر أعوان الشيطان؟! لقد أصبحت الأغاني تسمع -والعياذ بالله- في كل مكان، والأغاني طريق لنشر الفاحشة، فما يكاد يذكر فيها إلا الحب والغرام، بالله عليك هل سمعت مغنياً غنى يوماً في التحذير من الزنا أو أكل الربا أو حتى عن صوم النهار وبكاء الأسحار وتعظيم الواحد القهار؟! كلا. ما سمعنا بشيء من ذلك، بل أكثرهم يدعو إلى العشق المحرم، وتعلق القلب بغير الله، بل قد يجر إلى الداهية العظمى وهو عشق الفتاة لفتاة مثلها، والإعجاب بها، ومصاحبتها.. نعم، أحبها.. لا لأنها قوامة ليل، ولا صوامة نهار، ولكن لجمال وجهها، وملاحة بسمتها، تعجبها حركاتها، وتثيرها ضحكاتها، تفتن بابتسامتها، وتأنس بمجالستها، بل وتعجب منها بكل شيء وإن كان قبيحاً.

    وبعض الفتيات قد تتساهل بمثل ذلك، بل قد يظهر منها ما يدل على استدعائها لذلك، كم يوجد من الفتيات المائعات في حركاتهن وضحكاتهن، بل وأسلوب الكلام وطريقة المشي، إضافةً إلى لبس الثياب الضيقة، والتغنج والدلال، وكثرة اللمسات والقبلات، وتبادل الرسائل العاطفية والهدايا الشيطانية، نرى أحياناً هذه المظاهر في بعض المدارس والكليات وفي غير ذلك.. فلماذا تفعل الفتاة ذلك؟ لماذا تفعله؟ بسبب الإعجاب والعشق والمحبة.. وهذا هو الشذوذ عن الفطرة، وهو مؤذن بنزول العذاب الذي نزل على قوم لوط، فماذا فعل قوم لوط؟ اكتفى رجالهم برجالهم، ونساؤهم بنسائهم، وقد ذكر الله خبر هؤلاء الفجار في كتابه، وأن لوطاً صاح بهم وقال: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80] وإذا وقعت هذه الفاحشة كادت الأرض تميد من جوانبها، والجبال تزول عن أماكنها، ولم يجمع الله على أمة من العذاب ما جمع على قوم لوط، فإنه طمس أبصارهم، وسود وجوههم، وأمر جبريل بقلع قراهم من أصلها ثم قلبها عليهم، ثم خسف بهم، ثم أمطر عليهم حجارةً من سجيل فجعلهم آية للعالمين، أخذهم على غرة وهم نائمون فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.!

    أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصح عنه فيما رواه الترمذي أنه قال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط) وصح فيما رواه ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط) وقال ابن عباس رضي الله عنه: [اللوطي إذا مات من غير توبة مسخ في قبره خنزيراً].

    ومن كانت قد أسرفت على نفسها ووقعت في شيء من ذلك، فلتسارع إلى التوبة والاستغفار، والإنابة إلى العزيز الغفار، فربنا جل وعلا رحيم. توبي إلى الله ومزقي ما عندك من رسائل وأرقام، وأتلفي الصور والأشرطة والأفلام، أثبتي أن حبك للرحمن أعظم من كل حب، أثبتي أنك تقدمين طاعة الله على طاعة الهوى والشيطان.

    1.   

    من اتباع الهوى: تكلف الفتاة في تزيين مظهرها

    وأخيراً: ومن اتباع الهوى والشيطان تكلف الفتاة في تزيين مظهرها، ولو كان في ذلك التعرض للعنة الله، ومن ذلك نمص الحواجب وترقيقها إما بالنتف أو الحلق، وهو تحقيق لوعيد الشيطان لما قال لربه: لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:118-119].

    والنمص تغيير لخلق الله، وهو تعرض للعنة الله، فقد صح عند أبي داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة، والمستوشمة، والنامصة، والمتنمصة، المغيرات لخلق الله).

    سبحان الله! كيف تفعلين ما يعرضك للعنة الله وأنت تسألين الله المغفرة والرحمة في الصلاة وخارجها؟! أليس هذا تناقضاً بين قولك وفعلك، تطلبين الرحمة وتفعلين ما يطردك منها.. إن هذا لشيء عجاب! بل أفتى العلماء الربانيون بتحريمه، وبين يدي أكثر من عشرين فتوى كلها تحرم نمص الحواجب، فمن مقتضى إيمانك بالله أن تطيعيه فيما أمر، وأن تجتنبي ما نهى عنه وزجر.

    بل إن النمص أيضاً من التشبه بالكافرات، و (من تشبه بقوم فهو منهم)، والله يوم القيامة يقول: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22] أزواجهم: أي شبهاؤهم ونظراؤهم، ومن أحب قوماً حشر معهم.

    ولا تقولي: كثيرات يفعلن ذلك. فأقول: نعم، العبرة ليست بالكثرة، فكثيرات أيضاً يعبدن الأصنام، هل تعبدين الأصنام معهن؟ كثيرات يعلقن الصليب هل تفعلين مثلهن؟! إن كثرة العاصيات لا تعذرك عند الله، فأنت مسئولة عن عملك، وكما كنت في ظهر أبيك وحدك، ثم في بطن أمك وحدك، ثم ولدت وحدك فإنك تموتين وحدك، وتبعثين يوم القيامة وحدك، وتمرين على الصراط وحدك، وتأخذين كتابك وحدك، وتسألين بين يدي الله وحدك، قال الله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95].

    1.   

    همسات من القلب إلى القلب

    وختاماً: أيتها الجوهرة المكنونة! والدرة المصونة! أهمس في أذنك بكلمات أرجو أن تصل إلى قلبك قبل أذنك:

    لا تغتري بكثرة العاصيات، ولا تغتري بكثرة من يتساهل بالحجاب ومغازلة الشباب، أو يتعلقن بالعشق والهيام ومقارفة الحرام، همهن المسرحيات والأفلام، يعشن بلا قضية، فنحن في زمن كثرت فيه الفتن وتنوعت المحن، فتن تفتن الأبصار، وأخرى تفتن الأسماع، وثالثة تسهل الفاحشة والحرام، ورابعة تدعو إلى المال الحرام؛ حتى صار حالنا قريباً من ذلك الزمان الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر) كما عند الترمذي وغيره، وعند مسلم (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، طوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس).

    فتوكلي على الله, إنكِ على الحق المبين، ولا تغتري بكثرة المتساقطات ولا ندرة الثابتات، ولا تستوحشي من قلة السالكات.

    أسأل الله أن يحفظك بحفظه، ويكلؤك برعايته، ويجعلك من المؤمنات التقيات الداعيات العاملات، ولسوف والله تبقين أختاً لنا وإن لم تستجيبي لنصحنا، نحب لك الخير، ولسوف ندعو الله لك آناء الليل وأطراف النهار، وما توفيقنا إلا بالله.

    والله تعالى أجل وأكرم وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756014319