إسلام ويب

النساء الطيباتللشيخ : خلف العنزي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تكلم الشيخ حفظه الله: عن مفهوم الطيبة، فالله جل شأنه طيبٌ، وقد خصنا بنبي طيب، وجعل ديننا الإسلامي طيباً. وحتى نكون من الطيبين، فيجب علينا أن نمتثل شرع الله في أقوالنا وأفعالنا وسلوكنا، وعلينا كذلك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبسلفنا الصالح رضوان الله عليهم، وهذا الأمر يتعلق بالنساء أيضاً، فلكي تكون من الطيبات فعليها تتبع مواطن الخير واستغلالها، وعليها أن تقوم بحفظ بيتها وزوجها.

    1.   

    فضل مجالس الذكر

    الحمد لله رب العالمين،وصلى الله وسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

    ثم أما بعد:

    فإنه من عظيم نعمة الله عز وجل علينا أن يهيئ لنا سبحانه وتعالى مجلس ذكر نجلس فيه سوياً، نحمد الله ونقدسه، ونعظمه ونمجده سبحانه وتعالى أعظم تمجيد، وأجل تقديس، والله سبحانه وتعالى يقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].

    ونبيه صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه أنه يقول: (مَن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومَن ذكرني في ملأ ذكرتُه في مَلَأٍ خيرٍ منه).

    بل إنه يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والورِق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله تعالى) وفي الحديث الصحيح: قول النبي الفصيح صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده).

    ولقد أطل المصطفى صلى الله عليه وسلم بوجهه الوضاء على بعض الصحابة وهم جلوس في المسجد النبـوي فقال صلى الله عليه وسلم: (ما أجلسكم هاهنا؟ قالوا: يا رسول الله! جلسنا نذكر الله، ونحمده على نعمة الإسلام، وأن جعلك لنا نبياً ورسولاً، فقال لهم: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: والله ما جلسنا إلا لذلك يا رسول الله! ثم استحلفهم ثانية، فحلفوا له، ثم استحلفهم ثالثة: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: والله ما جلسنا إلا لذلك يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكن أتاني جبريل آنفاً وأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة) يباهي بهم الملائكة الذين قالوا يوماً ما: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30].

    الحمد لله الذي هيأ لنا مجلس ذكر في هذا اليوم العظيم المبارك، وفي هذا المكان الطيب.

    أخواتي الكريمات: يقول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    طمأنينة القلب مقصدٌ عظيمٌ شريف نبيل، سعى لتطلابه نبيٌ جليل، فقال لربه جل وعلا: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] أدركها إبراهيم بهذا الدعاء، وبما أجراه الله بين يديه، ونحن إن شاء الله ندرك من هذه الطمأنينة شيئاً في مجالس الذكر هذه، فحَيَّهَلا على مجلس ذكرٍٍِ نذكر الله فيه.

    1.   

    إن الله طيب

    وإن كان لنا من حديث نتحدث عنه، فإن بين عينيَّ الآن كلامٌ، خرج من فم النبي صلى الله عليه وسلم -من لا ينطق عن الهوى، إنه هو إلا وحيٌ يوحى- حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: (أيها الناس! إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [المؤمنون:51] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب له؟!).

    والله الذي لا إله غيره! لو أردنا أن نعطي هذا الحديث حقه من التفسير والتوضيح والبيان؛ لاحتجنا إلى عدة أيام، ولما نستخرج كل مكنون، ولما يستبن لنا مكنوزه، حيث وإن المتكلم به من أوتي جوامع الكلم -بأبي هو وأمي ونفسي له الفداء- محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن حسبنا في هذه العجالة العجلى أن نتحدث عن قوله: (إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً) فهو إخبارٌ أن الله العظيم طيب.

    فالحمد لله حيث تكلم أعلم العالمين برب العالمين، مخبراً الناس أجمعين أن لهم رباً خالقاً، مالكاً مدبراً، وأنه طيبٌ سبحانه وتعالى.

    ولقد ظهر طيبه، واستبان للعلماء والعارفين في ذاته، فهو طيبٌ في ذاته، وفي أسمائه، وصفاته، وأقواله، وأفعاله، والخير بين يديه، والشر ليس إليه.

    وقد قال جل وعلا عن أسمائه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180] .. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8] .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فإن لنا رباً طيباً، إذ أنه عليم، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم سبحانه وتعالى كل شيء، قال جل ثناؤه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] ويقول تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97] فإنه عليمٌ جل وعلا، وصفته العلم.

    ولقد أمر يوماً بكتب بعض معلومه، فكُتِب في اللوح المحفوظ ما هو كائنٌ من مقادير الخلائق قبل أن يخلق الله السماوات والأرضين بخمسين ألف سنة، كُتِب ثَمَّ، ووالله إن مما كتب: أسماؤنا وآباؤنا وقبائلنا ومجلسُنا هذا، وما يتكلم فيه متكلمنا، حتى كلمة (كلمة) التي قلتها الآن مرتين، قد كُتِبَت في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرضين بخمسين ألف سنة، ومما كُتِبَ أيضاً: أين نحن غداً؛ في باطن الأرض أم على ظهرها؟ وإلى أين سنصير؛ أإلى نارٍ تلظى لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [الليل:15]؟! أو إلى جنة المأوى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55] هذا وإنه هو السميع البصير، والعظيم الجليل.

    ولقد حدَّثنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن السماء: (إنه ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك راكعٌ أو ساجد، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون!)، بل حدَّث عن ملك من حملة العرش: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام من خفقان الطير) لا إله إلا الله! الطير يسافر من العاتق إلى شحمة الأذن سبعمائة سنة، فما ظنكم بضخامة وعظمة هذا الملك إذا ما سافر الطير من عاتقه إلى أعلاه، أو من أعلاه إلى أدناه؟! وليس له من عمل إلا عبادة الله، وقوله لله: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك.

    هو طيبٌ في سمعه وبصره، تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله ما كان في حجرتي إلا المجادِلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ...)، وحجرة عائشة ليست كحُجَرِنا هذه، وإنما إذا أراد المصطفى أن يصلي الليل وعائشة نائمة، جاء فسجد وهي قد مدت قدميها في قبلته -وليس ثَمَّة أماكن أخرى للمنام- فإذا أراد السجود غَمَزَ رجلها، فتَكُفَّها فيسجد محلها، فإذا رفع رأسه تمدها، ثم إذا سجد غَمَزَها فتَكُفَّها، هكذا مساحة الغرفة. أما ارتفاعها فلقد كان الحسن البصري يقول: [عندما كنت صبياً كنت أمد يدي في حُجَر أزواج النبي، فأَجِدُ] أي: إنه كان يلمس السقف، فالارتفاع قريب في هذه الحجرة.

    خولة بنت حكيم تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشتكي إلى الله، وتحاور رسول الله في أمر زوجها أوس بن الصامت رضي الله تعالى عنه وقد ظاهَرَ منها، (... يا رسول الله! إن أوساً قد أخذني لحماً ولفظني عظماً، وهي تشتكي وتحاور، وهو يقول لها: ما أراكِ إلا حرمت عليه، تقول عائشة : وإنه ليخفى عليَّ بعضُ قولها، وبينما هي في ذلك المكان وعندها نبيها، والمجادِلة في مجلسها، وينزل من السماء قرآنٌ يقول الله جل وعلا: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1]).

    سبحان الله! عائشة أقرب إليهم من الباب، وربُّ الأرباب فوق سمائه، مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، يسمع المحاوَرة، ويسمع المجادِلة! نعم. هو السميع البصير، الذي يسمع سرنا وجهرنا، وهو الذي يرانا في تقلبنا، في ليلنا ونهارنا، في مجلسنا هذا، والله إن الله الآن يرانا، بل لقد صح الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسادكم ...) أن تكون الأجسام طويلة أو قصيرة، جميلةً أو قبيحة، بيضاء أو حمراء، سوداء أو سمراء، (... إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

    خسةٌ ودناءةٌ، لؤمٌ وقبحٌ أن ينظر الله الآن إلى قلوبنا فيرى جل وعلا في قلبي أو في قلبكِ يا رعاكِ الله! أنكِ تحبين أموراً الله يكرهها، أو أنك تكرهين أشياء هو سبحانه وتعالى يحبها، هذا والله من اللؤم، وقلة الأدب والحياء مع الله العظيم الطيب جل وعلا، هو سبحانه وتعالى طيبٌ في أسمائه وصفاته.

    انتهت معركة حامية الوطيس، جُنْدِلت فيها الرءوس، وبُقِرت البطون، وجُدِّعت الأطراف، وتناثرت الأشلاء، وأهريقت الدماء، وكثر في الأرض القتلى، وغربت الشمس أو كادت، وإذا بنصر الله نازل على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ورضي الله عنهم، وإذا بالصحابة يجمعون الأسرى، ويجمعون السبي رجالاً ونساءً وصبياناً في مكانٍ واحد، تحيط بهم خيل الله المنتصرة، في يومٍ أعز الله فيه الإسلام، وأذل فيه الشرك والمشركين.

    وبينما نبينا ينظر إلى أرض المعركة، وإلى السبي وإذ به يبصر هناك امرأةً ثكلى، رائحة جائية، مقبلةً مدبرة، تفتش عن شيء، وتبحث عن غرض، وإذا بها تنكب على الأرض بكلكلها، وتأخذ من الأرض قطعة قماش، تفتشها وتنظر في جنباتها، وإذا بوجه صبي يبزغ لها من بين طيات القماش، إنه طفلها وليدها الذي افتقدته منذ الصباح الباكر، أخذت الأم فرحةً وإن كانت في أرض المعركة التي فيها قُتِل الآباء والأزواج، وانتشرت الدماء؛ ولكنها وجدت الصبي لا يزال حياً، ضمته إلى صدرها، وألصقته على كبدها، ثم أخرجت ثديها وأخذ الصبي يرتضع من حليبها، ونبينا والصحابة ينظرون إليها، وقال المصطفى: (أتظنون هذه المرأة تلقي وليدها في النار وهي تستطيع ألا تلقيه؟ قالوا: لا والله يا رسول الله! ما كانت لتلقيه في النار وهي تستطيع ألا تلقيه، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لله أرحم بعباده من هذه بولدها).

    احمدن الله يا أخواتي! أن لنا رباً طيباً، غيرُنا له رب خبيث، رب حجر، ولربما شجر، بل والله بقر، أما نحن فربنا الله الرحيم العظيم الكريم السميع العليم، إن لنا رباً طيباً.

    1.   

    النبي صلى الله عليه وسلم وصفة الطيبة

    ومن طيب الله جل وعلا أنه أرسل لنا نبياً طيباً هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، هو طيبٌ -بأبي هو وأمي- في خِلْقة في صورته، طيبٌ في أقواله وأفعاله، ودعوته وعلمه، ودعائه، وليله ونهاره وبلائه، وللمسلمين وللكافرين على حدٍ سواء، هو طيبٌ.

    وانظرن معي إلى شيءٍ من طيب الحبيب صلى الله عليه وسلم، فلقد خلقه الله خِلْقةً جميلة جليلة، من رآه من بُعْدٍ هابه، ومن رآه من قربٍ أحبه، كان ربعةً من الرجال، لا هو بالطويل المُمَغَّط، ولا بالقصير المكَلْثم، كان بعيد ما بين المنكبين، كان صلى الله عليه وسلم أبيض مُشْرَباً بحمرة، وفيه شيءٌ من أُدْمَة العرب يسيرة، وجهه إلى الاستدارة أقرب، واسع العينين، كث اللحية، كان أنفه دقيقاً وفيه طول وبه شمم -ارتفاع أرنبة الأنف إلى الأعلى يسيراً- أسيل الخدَّين، يحف شاربه ويجزه وينهكه، فيبدو الإطار الأعلى من الشفة العليا، إذا تكلم أسْمَعَ، وإذا أطعم أشْبَعَ، وإذا مشى تكفأ، كان صلى الله عليه وسلم طيباً في أخلاقه، وفي بدنه، وفي خَلْقه.

    نام يوماً عند أم سُليم بنت ملحان على النطع وهو -الجلد إذا نُزِع شعره- في حر المدينة في القائلة، وأخذ جسده الطيب الطاهر ينزف عرقاً، وجاءته أم سُليم بقارورةٍ عندها وإذا بها تسلت العرق عن جسد النبي صلى الله عليه وسلم وتضعه في قارورةٍ عندها، فانتبهَ من نومه وأفاق من رقدته، وقال: (ما هذا يا أم سُليم ؟! قالت: عرقك يا رسول الله! نجعله في طيبناً) وهو أطيب الطيب، فلقد كان طيباً، حتى في عرقه صلى الله عليه وسلم.

    طيباً حتى يوم أن مات في حجرة عائشة بين الحاقنة منها والذاقنة، والصحابة في المسجد كأنهم الشياة في الليلة المطيرة، ويدخل الصديق المسجد، ومن المسجد إلى حجرة عائشة ، ونبيه على الأرض قد سُجي بشملة، فيتقدم ثم يرفع الغطاء عن وجهه قليلاً، وينظر إلى وجه المصطفى وقد مات -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ثم يتقدم الصديق ويقبله بين عينيه، ويقول: [بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما أطيبك حياً وميتاً] فلقد كان طيباً في حياته ومماته.

    طيباً في يده: ما ضرب بيده جارية أو غلاماً أو امرأةً أو أحداً قط، إلا أن يكون في سبيل الله.

    طيباً صلى الله عليه وسلم في كلامه: فلم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولم يكن صخاباً في الأسواق ولا لعاناً.

    كان طيباً -بأبي هو وأمي- في بصره: فقد كان يغض بصره عملاً بقول ربه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30].

    كان طيباً في يده، فما مست يدُه يد امرأة لا تحل له قط.

    كان طيباً صلى الله عليه وسلم في بطنه: فلم يكن يأكل الحرام؛ لا رباً ولا غشاً، ولا سرقةً ولا غلولاً، بل حتى الصدقة وهي غسالة أيدي الناس لم يكن يأكلها.

    دخل يوماً وهو جائعٌ إلى بيته، فوجد على فراشه تمرةً ملقاة، أمسكها بيده، ثم خاطبها بلسانه وقال: (والله لولا أني أخشى أن تكوني من تمر الصدقة لأكلتكِ) ثم وضعها ومضى.

    سار يوماً ومعه ابن عمر ، وإذا بهما يسمعان مزمار الراعي -الناي- فوضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعيه السبابتين في أذنيه، واتجه إلى اتجاهٍ مغاير لمصدر الصوت، وأخذ يمشي ويسأل ابن عمر : (أتسمع؟ نعم. أتسمع؟ نعم. أتسمع؟ نعم. أتسمع؟ لا. وينزع أصابعه) وذلك لئلا يدخل الخنا الغناء.. مزمار الشيطان الملعون في أذن الحبيب الطيب صلى الله عليه وسلم، وهو سماعٌ، ولقد فرَّق أهل العلم بين السماع والاستماع.

    كان طيباً ليس لأهل عصره وزمانه، بل ولنا أيضاً، فلقد جاء الخبر وصح عن سيد البشر أنه بات ليلةً يبكي، سبحان الله! ما الذي يبكيه يا تُرى وقد بلغ الستين أو نحوها؟! بكى، ثم بكى، ثم بكى، وازداد بالبكاء، حتى أرسل الله جبريل: سَلْ محمداً: ما الذي يبكيك؟ والله بهما أعلم منهما بأنفسهما، فقال جبريل: (يا محمد -صلى الله عليه وسلم- إن الله أرسلني إليك لأسألك: ما الذي يبكيك؟ قال: يا جبريل! أمتي .. أمتي ..! فيصعد جبريل لرب العالمين، إن محمداً يقول: أمتي .. أمتي ..! فيقول الله: قل له: إنا لن نسوءك في أمتك) لذلكم فكلكم يا أمة محمد تدخلون الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) طيبٌ صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الإسلام دين الطيبة

    يا أخواتي! إن الله طيب، وخصنا بنبي طيب، وجعل ديننا الإسلام طيباً وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

    كل الدين طيب بلا استثناء، وأقول متحدياً: أتحدى كائناً مَن كان أن يأتي بشيءٍ طيب وقد حرمه الله، أو يأتي بشيءٍ خبيث وقد أحله الله، والله لو بَحَثَ الباحث عمره كله، وأعطي مع عمره عمر نوح لما وجد، وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].

    اللهم إنا قد رضينا ما رضيت لنا.

    فديننا طيب للإنسان مع نفسه، ومع إخوانه، طيبٌ للمرأة في حالها، وخِلْقَة الله لها، طيبٌ للرجل في نفسه، وميدانه، وهو طيبٌ للصبيان، وطيبٌ للرجال، للحاضرة وللبادية، للعرب وللعجم، للكبار والصغار، فهو دينٌ شاملٌ كامل لهم جميعاً بلا استثناء، دينٌ طيب، رضيه رب العالمين لهذه الأمة الطيبة.

    1.   

    هل نحن من الطيبين؟

    وبقي السؤال: (إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً) فهل نحن من الطيبين فيقبلنا رب العالمين؟

    هذا سؤالٌ عظيم!

    إن كنا من الطيبين فغداً أو بعد غدٍ سيأتينا أمر الله، وتنزل الملائكة لنزع الروح، ويأتون للطيبين بوجوهٍ طيبة، فإذا أخرجوها ينادونها: (أيتها الروح الطيبة -كانت في الجسد الطيب- اخرجي إلى رحمة من ربك ورضوان، فتخرج الروح تسيل كما تسيل القطرة مِن فِيِّ السِّقاء، فيأخذونها ويصعدون بها إلى السماء، فيخرج منها كأطيب ريحِ مسكٍ وجدت على وجه الأرض، فيتساءل الملائكة: ما هذه الريح الطيبة؟! فيقولون: روح فلان بن فلان)-بأحب أسمائكِ في الدنيا يا رعاكِ الله!

    ثم إذا كان الأمر يوم القيامة: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73] ووصلوا إلى باب الجنة، وتجاوزا القنطرة، وها هم أولاء أمام الباب وقد فتحه رب الأرباب وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].

    والجنة -كما قال إبراهيم الخليل- طيبة، وهي قيعان، وغراسها: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.

    فهل نحن يا تُرى من الطيبين، فيقبلنا الله، لَنَكونن في الدنيا من السعداء إذا طيَّبنا أسماعنا، وطيَّبنا أبصارنا، وطيَّبنا أفواهنا؟! إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] .. وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:11].

    هل نحن طيبون في بطوننا وفروجنا، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة)!

    هل نحن من الطيبين فيقبلنا رب العالمين؟! ونسارع حيث النداء إلى الصلاة رجالاً؟! وإلى أول الوقت نساءً؟!

    كان الطيبون السابقون لنا قدوةً؛ ففي خديجة الطيبة قدوة وهي تحمل معها الداعية الذي يحمل الدعوة؛ تشد من أزره، وتحمي ظهره، وتدعوه لينطلق حيث أُمِر: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:1-2].

    هل نحن من الطيبين الذين اقتدوا بالصحابة الطيبين؛ بـعائشة رضي الله عنها، وهي تنهل من العلم الطيب، من النبي الطيب، وتعلم رجال الصحابة، ونساء الصحابة أيضاً؟!

    هل نحن من الطيبين فنقف مواقف المؤازرة، كمواقف أم سلمة وهي تقف الموقف الطيب لتنقذ الأمة من غضبة رب العالمين، حينما هَمَّ بعض القوم أن يخالفوا أمر النبي الأمين في الحديبية حينما أُمروا بالتحلل؟!

    هل نحن من الطيبين، كطِيْب حفصة بنت عمر رضي الله عنها وأرضاها، ومواقفها معلومة مشهورة، وأم حبيبة أخبارها في التاريخ مسطورة؟!

    هل نحن من الطيبين فندافع عن الدين كما دافعت أم حبيبة عن فراش النبي الأمين؟! ألا ندافع نحن عن ذاته العظيمة، بل عن ربه العظيم الجليل، ألا ندعو الله عز وجل أن يستعملنا لخدمة الدين، وقد جاءها أبوها أبو سفيان بن حرب من مكة يريد المدينة ، فيدخل عليها في بيتها، ويريد الجلوس، فتقول له: انتظر، وتطوي الفراش؛ ليجلس على التراب، ويقول لها: يا بنية! أطويتِ الفراش رغبةً به عني، أو رغبةَ أن لا أجلس عليه -لترفعي من مكاني، والفراش لا يساوي مقداري أم رفعت الفراش لأن له مقداراً أعظم من أن يجلس عليه أمثالي؟ هذا معنى كلامه- فقالت له: بل أنت -وهو أبوها- رجلٌ مشرك، وهذا فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان لك أن تجلس عليه، فيقول: يا بنية! لقد أصابكِ بعدي شر.

    هكذا يظن مَن كان له فكرٌ سقيم، وعقلٌ مريض، وقلبٌ ميت أن تصرفات الصالحين من الشر، وهكذا قال الله عنهم من قبل!

    هل نحن من الطيبين فيكون لنا أثرٌ في الأرض ينفع، ودعاءٌ إلى السماء يُرفع؟

    هل نحن من الطيبين فيستعملنا الله عز وجل في الأرض، لنعبِّد الناس لعبادة رب الناس؟!

    هل نحن من الطيبين في مظهرنا، وفي ملبسنا، نأتمر بأمر الله، نساءً بالحجاب، ورجالاً بما أمروا من لباس، ورفع الثياب حيث أمروا برفعها، والنساء ينزلنها حيث أمرن بإنزالها؟!

    هل نحن من الطيبين الذين يختلفون عن أهل الأرض، ويتميزون بإسلامهم وبدينهم وبعقيدتهم، كما ميز الله في الآخرة مستقبلهم؟! فثمة دار الكرامة، دار الطيبين، حيث النعيم الذي لا ينفذ، ولذة العين التي لا تنقطع، والشهوة التي لا تفنى، حيث قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

    أختي: أعلمتِ -يا رعاكِ الله- أن البقاء في الجنة خلودٌ أبدي، وبقاءٌ سرمدي، كما قال ربي: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:122]؟!

    أعلمتِ -يا رعاكِ الله- أنهم عند باب الجنة ينادَون: خلودٌ فلا موت، يا أهل الجنة! إن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبداً لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] خالدين فيها أبد الآبدين، في نعيمٍ قال عنه رب العالمين: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] هو نعيمٌ مقيمٌ، يأكلون ما لذ وطاب، ويشربون ما يشتهون، كما قال الله عز وجل عنهم وعما يأكلون: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:20-21]، وكما قال الله عز وجل: وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:31-33].

    وأعظم من ذلك قول الله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43] لا يوجد في الصدور غلٌ ولا حقدٌ ولا حسدٌ، ولا كراهية ولا شحناء ولا بغضاء، لهم فيها ما يشاءون؛ ما تريده يكون لك في الجنة، تريد زيارة النبي المختار، وخليل الرحمن إبراهيم، وكليم الله موسى أو عيسى، أو الصديق ، أو الفاروق ، أو خالد بن الوليد ، أو سعد بن أبي وقاص ، لك أن تزوره رجلاً، ولكِ أن تزوريه أنتِ، ولكِ أن تزوري عائشة ، وحفصة ، ولكِ أن تجالسي أم سلمة ، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] في هذه الجنة التي ما بيننا وبين أن نكون فيها إلا قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] فإن لم تكن الجنة فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابيات الطيبات في يوم عيد وفرحةٍ وسرور: (تصدقنَ فإني رأيتكن أكثر أهل النار).

    فاحذري -يا رعاكِ الله- فإن قعرها بعيد، وحرها شديد، ويأكلون الصديد، ويعذبون بالحديد تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ [المؤمنون:104] .. سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ [إبراهيم:50] .. وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً [محمد:15] .. إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46] يصيحون.. يصرخون، ثم لا تسمع لهم بعد ذلك إلا صرصرة السلاسل، كما قال الله عز وجل: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:71-72] لا يسمع ثَمَّ إلا أصوات العذاب، وصراخ المعذبين، وهم ينادون يريدون الغوث فلا يغاثون: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] محجوبون عن رحمة أرحم الراحمين، ومحجوبون عن رب العالمين.

    فيا إلهي.. يا رب العالمين، نسألك الثبات حتى الممات.

    ونسألك اللهم أن تهدينا إلى الحياة الطيبة، فنكون من عبادك الطيبين.

    اللهم اجعلنا من عبادك الطيبين، الطيبين في توحيدهم فلا يعبدون إلا الله، الطيبين في اتباعهم فيفردون الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بالاقتداء والاهتداء، وبالتشبه والاقتفاء، الطيبين في أقوالهم وأفعالهم.

    اللهم طيب قلوبنا،اللهم طيب دورنا وبيوتنا وبلادنا وديارنا وبلاد المسلمين، اللهم اجعلنا طيبين مُطَيَّبين.

    اللهم اجعلنا من الصالحين، يا رب العالمين!

    اللهم إنا نسألك أن تطيب خَلْقنا.

    اللهم طيب أخلاقنا.

    اللهم إنا نسألك العلم النافع والعمل الصالح.

    اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! اجمعنا أجمعين في جنات النعيم، مع سيد الأولين والآخرين، في الفردوس الأعلى، يا ذا الجلال والإكرام! عائذين بوجهك الكريم من عذابك يا ربنا يا عظيم!

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756283761