إسلام ويب

رحماتللشيخ : محمد عبد الله الهبدان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هذه بشائر تثلج صدور المؤمنين، وتثبتهم على هدي رب العالمين، وسنة سيد المرسلين، وتزيل اليأس من القانطين، وتبعث الأمل لليائسين، وتزرع النور في قلوب المذنبين، وتحرك أفئدة الغافلين، وتوقظ جذوة الإيمان في نفوس العاصين.

    1.   

    سعة رحمة الله سبحانه وتعالى

    الحمد لله، الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان، وعد المؤمنين جنته، وأعد لهم دار كرامته، وحذر العصاة من نقمته، وتوعَّدهم من حلول سخطه وبليته، وفتح للجميع أبواب رحمته، وهيأ لهم طريق طاعته.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، ومَحَجَّة للسالكين، صلى الله عليه، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين وأزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم المبارك إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذه بشائر أزفها لكم لتُثْلِج صدور المؤمنين، وتثبتهم على هدي رب العالمين، وسنة سيد المرسلين، وتزيل اليأس من القانطين، وتبعث الأمل لليائسين، وتزرع النور في قلوب المذنبين، وتحرك أفئدة الغافلين، وتوقظ جذوة الإيمان في نفوس العاصين.

    فلقد بشرنا الرحمن بواسع رحمته فقال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] ونحن من ذلك الشيء، فرحمة الله واسعة قد وسعت كل شيء، فهو سبحانه كثير الغفران، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا عبد ضعيف أن يرحمه، ولا طلب أن يلبيه، ولا حاجة أن يقضيها، ولا دعوة أن يستجيب لها.

    فهو سبحانه قاضي الحاجات، ومفرج الكربات، ومجيب الدعوات، ومقيل العثرات، ورافع الدرجات، ومنزل الرحمات.

    سامعاً لكل شكوى .. مجيباً لكل دعوى، فهو سبحانه أرحم بعباده من الأم الرءوم الحنون على طفلها الرضيع.

    لما قُدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَبْيٍ، فإذا امرأة تسعى، إذ وجدت صبياً لها في السَّبْي، فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم منبِّهاً أصحابه، ولافتاً نظرهم لهذا الموقف العظيم: (أتُرَون هذه طارحة ولدها في النار؟! فتفاعل الصحابة رضوان الله عليهم مع هذا المشهد الرهيب وقالوا بإجماع: لا، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال عليه الصلاة والسلام: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها).

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله: أن رجلاً رأى في بعض السكك باباً قد فُتِح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكراً، فلم يجد له مأوىً غير البيت الذي أُخْرِج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مُرْتَجاً، فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رَمَتْ نفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي! أين تذهب عني؟! من يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلْتُ عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادة الخير لك؟! ثم أخَذَتْه ودخلت.

    فتأمل قول الأم: لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلْتُ عليه من الرحمة والشفقة، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لَلَّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها)، وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟!

    فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به.

    فسبحانه! ما أعظم حلمه! وأجل كرمه! وأوسع رحمته! وأحسن بره، ومغفرته! وأكبر ستره! وأيسر لطفه! وأمَنَّ عطاءه، وعطفه!

    لما عاد حماد بن سلمة سفيان الثوري قال له سفيان : يا أبا سلمة ! أتُرى الله يغفر لمثلي؟! -هذا القول يقوله أمير المؤمنين في الحديث، فما حالنا نحن؟!-.

    فقال له حماد : والله لو خُيِّرتُ بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبويَّ لاخترتُ محاسبةَ الله؛ وذلك لأن الله أرحم بي من أبويَّ.

    وذكر الإمام الذهبي عن بقية قال: كنا مع إبراهيم بن أدهم رحمه الله في البحر، فهاجت ريحٌ واضطربت السفينة، وبكى الناس، فقلنا: يا أبا إسحاق ! ماذا ترى في هذا الموقف المهول؟

    فرفع يديه إلى السماء وقال: يا حي يا قيوم! قد أريتَنا قدرتَك، فأرِنا عفوَك، ورحمتَك، فهدأت السفينة من ساعتها.

    الله أكبر! من الذي سأله ولم يعطه؟!

    من الذي دعاه فلم يجبه؟!

    من الذي تاب إليه ولم يقبله؟!

    من الذي لاذ بجنابه واحتمى بحماه فلم يمنعه؟!

    رحمة الله عز وجل لا تَعز على طالب في أي مكان، ولا في أي حال:

    وجدها إبراهيم عليه السلام في النار.

    ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن.

    ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث.

    ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة، ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له، متربص به، يبحث عنه.

    ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16].

    ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبُه في الغار، والقوم يتعقبونهما، ويقصُّون الآثار.

    ووجدها كل من آوى إليها يائساً من كل ما سواها.

    1.   

    مظاهر تتمثل فيها رحمة الله

    أيها الفضلاء: إن رحمة الله تعالى تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها: في ذات نفسه، وتكريمه بما كرمه، وفيما سُخِّر له من حوله، ومن فوقه، ومن تحته، وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير.

    فالمال، والولد، والصحة، والقوة، والجاه، والسلطان، تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجُهد إذا أُمْسِكَت عنها رحمةُ الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن، والراحة، والسعادة، والاطمئنان.

    يبسط الله الرزق مع رحمته، فإذا هو متاع طيب ورخاء، وإذا هو رَغَد في الدنيا وزاد إلى الآخرة، ويُمْسِك الله رحمته فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.

    ويمنح الله الذرية مع رحمته، فإذا هي زينة الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء، ونكد، وعنت، وشقاء، وسهر بالليل، وتعب بالنهار.

    وهكذا أحبتي الكرام: ما من نعمة يُمْسِك الله معها رحمتَه حتى تنقلب هي بذاتها إلى نقمة، وما من محنة تَحُفُّها رحمةُ الله حتى تكون هي بذاتها نعمة، ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله عز وجل فإذا هو مهاد، وينام على الحرير وقد أُمْسِكَت عنه فإذا هو شوك القتاد، فهل يتنبه العباد إلى رحمة الله عز وجل التي يتقلبون فيها؟!

    تيسير الشريعة وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم

    أيها المؤمنون: هذه شوارد من رحمة الله في هذه الحياة، وهناك صور ونماذج من رحمة الله بالعباد، فالله تعالى من رحمته بهم يسر لهم شريعة الإسلام، وجعل أحكامها من خير الأحكام، وما جعل علينا في الدين من حرج، فبرحمة الله أرسل لنا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل علينا كتابه، علَّمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصَّرنا من العمى، وأرشدنا من الغي.

    إدخال سبعين ألفاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بغير حساب ولا عذاب

    من رحماته أن أدخل سبحانه سبعين ألفاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بلا سابقة عذاب، ولا مناقشة حساب، ومع كل ألفٍ سبعون ألفاً، ثم يُزاد عليهم تفضلاً وتكرماً ثلاثُ حثيات بكفي الرحمن الرحيم.

    فعندما عرضت الأمم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رأى سواداً عريضاً، فقيل: (هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ذلك فقال: هُم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).

    وعند أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فاستَزَدْتُ من ربي فزادني مع كل ألفٍ سبعين ألفاً).

    جعل أثقل شيء في الميزان شهادة أن لا إله إلا الله

    بل إن الله من رحمته جعل أثقل شيء في الميزان شهادة أن لا إله إلا الله، فلا يثقل معها شيء، يقول عليه الصلاة والسلام: (يُصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيُنْشَر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقال له: أتُنْكر من هذا شيئاً؟! أظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحافظون؟! فيقول: لا يا رب، لا يا رب، فيقول: ألَكَ عُذر أو حسنة؟! فيَهاب الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فيُخْرَج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظْلَم، قال: فتُوضَع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة).

    وأخرج سبحانه من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، بشفاعة الشافعين، حتى إذا لم يبق لأحد غاية في شفاعة، ولا مطمع من رجاء، أخرج الرحمن جل جلاله برحمته من لم يفعل خيراً قط من أهل التوحيد، فهم عُتَقاء الرحمن، يقول عليه الصلاة والسلام: (يُخْرَج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة) متفق عليه.

    وجاء في حديث آخر: (ما زلت أشفع إلى ربي عز وجل ويشفعني، وأشفع ويشفعني، حتى أقول: أي رب! شفعني فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: هذه ليست لك يا محمد، ولا لأحد، هذه لي، وعزتي وجلالي ورحمتي لا أدع في النار أحداً يقول: لا إله إلا الله).

    وقد جعل الله لرحمته أيسر الأعمال سبباً في النجاة غداً من العذاب الأليم، وسبيلاً إلى الفوز العظيم.

    رحمته عز وجل بالرحماء

    انظر -يا رعاك الله!- إلى تلك المرأة البغي التي بارزت الله بالمعاصي ليل نهار؛ لكنها كانت تحمل قلباً رحيماً، فكان ذلك سبباً في رحمة الله لها، فما قصتها؟!

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (غُفِر لامرأة مومسة مَرَّت بكلب يلهث، كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغُفِر لها بذلك) متفق عليه.

    الله أكبر! الله أكبر! ما أعظم سعة رحمة الله جل في علاه! فهذه الرحمة لتلك المومسة كان سببها الرحمة بالحيوان.

    فيا من أعرضت عن الله! اقترب من رحمات الله، فالله واسع المغفرة، كريم العطايا، كثير الهبات، ويا من أغرق نفسه بالذنوب والمعاصي! لا تقنط من رحمة الله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

    إن الله جل في علاه رحم عبداً من عباده وأدخله الجنة بماذا؟

    أكان من المجاهدين في سبيل الله؟!

    كلا.

    أكان من القائمين الذاكرين الله كثيراً؟!

    كلا.

    أكان من المتصدقين في السر والعلن؟!

    كلا.

    أكان من العُبَّاد الزُّهَّاد، الصائمين القائمين؟!

    كلا.

    إذاً: مَن هو؟ وما هي مؤهلاته؟

    إنه رجل معدوم، يسير في صحراء قفراء، قد بلغ به العطش مبلغاً، كاد أن يقضي عليه؛ ولكنه كان يحمل بين جنبيه قلباً رحيماً، عطوفاً باراً بالضعفاء، فهل أتاك خبره؟ وهل سمعت نبأه؟

    إن خبره لَعَظِيم، وإن نبأه لَجَلِيل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بَيْنا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بَلَغَ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفَّه ثم أمسكه بفيه، ثم رَقَى فسَقَى الكلب، فشكر الله له، فغُفر له، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) متفق عليه.

    ومن أشد طغياناً وظلماً وكفراً ممن قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]، ومع ذلك خشي جبريل عليه السلام أن تدركه رحمة الله تعالى!

    لما خرج موسى عليه السلام ومن معه من البحر، ودخل فيه فرعون ومن معه، أطبق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته ما رأى: أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90].

    يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! لقد رأيتُني وأنا أدسُّ من حمأ البحر في فم فرعون مخافةَ أن تدركه الرحمة).

    فلماذا ييئس أناس من رحمة الرحيم الرحمن؟ ولماذا يقنط أقوام من الرحيم المنان؟!

    ما عليك يا أُخَيَّ إلا أن تقف ببابه، وتسبل الأدمع الغزار، وتنادي في الأسحار: يا عزيز! يا غفار! قد أقبلتُ إليك تائباً، ومن ذنوبي نادماً، فاغفر لي ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    يا رب! إن عظُمَت ذنوبي كثرةً     فلقد علمتُ بأن عفوك أعظمُ

    إن كان لا يرجوك إلا محسـنٌ     فمن الذي يرجو ويدعو المجرمُ

    ما لي إليك وسيلة إلا الرجـا     وجميلُ عفوك ثم إني مُسْلمُ

    وهنا يحسن التنبيه إلى أقوام يتألَّون على الله فيقول قائلهم: والله لا يغفر الله لفلان، ولا يرحم فلاناً، ولقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرتُ لفلان وأحبطتُ عملك) رواه مسلم .

    فليحذر المسلم من تقنيط العباد من رحمة الله عز وجل.

    أحبتي في الله: أتدرون أن هذه الرحمة التي يتراحم بها العباد في الدنيا فيما بينهم أنها جزء من مائة جزء من الرحمة التي خلقها الله جل وعلا يوم أن خلقها؟!

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمِن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى تَرفع الفرسُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) متفق عليه.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس، والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم الله بها عباده يوم القيامة) رواه مسلم .

    الله أكبر! فكل هذا التراحم والتعاطف بين الخلائق في هذه الحياة، إنما هو جزء من مائة جزء من رحمة الله عز وجل، فكيف بتسع وتسعين رحمة؟!

    اللهم تغمدنا بواسع رحمتك، اللهم تغمدنا بواسع رحمتك.

    1.   

    مفاتيح الرحمة

    فإذا عرفتَ -يا عبد الله!- سعة رحمة الله تعالى حَسُن بك أن تتعرف على المفاتيح التي تتنـزل بها الرحمات، وتُرفع بها الدرجات، وتقال بها العثرات؛ لتفوز برحمة رب البريات.

    طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

    فمن مفاتيح الرحمات: طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم :-

    فكلما كان الإنسان أقرب إلى الله كانت رحمة الله أولى به، أي: كلما كان العبد طائعاً لله ولرسوله، عاملاً بما أمره به الله ورسوله، منتهياً عما نهاه الله ورسوله عنه كان استحقاقُه للرحمة أعظم، يقول الله جل الله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].

    إقامة الصلاة والمحافظة عليها

    ومن مفاتيح الرحمات: إقامة الصلاة، والمحافظة عليها :-

    يقول سبحانه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، وكن على بال من أن ملائكة الرحمن تدعو لك ما دمت في مصلاك، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يُحْدِث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) رواه البخاري ومسلم .

    فاحتسب بقاءك في المسجد، واستشعر دعاء الملائكة الكرام لك.

    رحمة العباد والشفقة عليهم والإحسان إليهم

    ومن مفاتيح الرحمات: رحمة العباد، والشفقة عليهم، والإحسان بهم :-

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) أخرجه الترمذي .

    فمن كان مشتاقاً إلى رحمة الله فينبغي أن يكون رحيماً لنفسه ولغيره، وألا يستبد بخيره، وألا يبخل بعطائه ونواله عن غيره، وينبغي أن يرحم الجاهل بعلمه، والذليل بجاهه، والفقير بماله، والكبير بتقديره، والصغير بشفقته ورأفته، والعصاة بدعوته، والبهائم بعطفه ورحمته، ورفع غضبه، وكف أذاه عنهم.

    بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنماً     ولا تكن عن قليل الخير محتشما

    واشكر لمولاك ما أولاك من نعمٍ     فالشكر يستوجب الإفضال والكرما

    وارحم بقلبك خلق الله وارعهمُ     فإنما يرحم الرحمنُ مَن رحما

    واعلم يا رعاك الله! أن من المنح الربانية والعطايا الإلهية أن يمنحك الله الرحمة، ولذا كان أكمل المؤمنين إيماناً أعظمهم رحمة كما قال تعالى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].

    وكان الصديق رضي الله عنه مِن أرحم الأمة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ).

    ولما قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (أَتُقَبِّلون صبيانكم؟! قالوا: نعم، فقال الأعراب: لكنا والله ما نُقَبِّل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو أَمْلِكُ إن كان الله نزع منكم الرحمة؟!).

    بل إن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق كمال الإيمان على تراحم المؤمنين فيما بينهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا، قالوا: بلى يا رسول الله، كلنا رحيم، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبَه، ولكن رحمة العامة) رواه الطبراني .

    فيا من أراد الجنان، واشتاق إلى الحور الحسان! ها هو الطريق بين يديك، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، والجزاء من جنس العمل.

    عيادة المرضى

    مجالس العلم

    ومن مفاتيح الرحمات: مجالس العلم، وحِلَق القرآن الكريم :-

    فهي مجالس الرحمات، ومحط البركات، فيها تُزاد الحسنات، وتُرفع الدرجات، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).

    وفي يوم من الأيام كان سلمان رضي الله عنه في عصابة يذكرون الله، فمرَّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءهم قاصداً حتى دنا منهم، فكفوا عن الحديث إعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما كنتم تقولون؛ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم، فأحببت أن أشارككم فيها؟) رواه الحاكم وصححه .

    فما أحلى المجالس إذا عُمِرَت بذكر الله! وما أطيب المجالس إذا عُطِّرت بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما أعظم فرح أهل الثناء بمجلس يُتَدارس فيه القرآن، أو سنة النبي العدنان، أو يُبَيَّن فيه شيء من الحلال والحرام.

    قيام الليل

    ومن مفاتيح الرحمات: قيام الليل، وإيقاظ الزوج لزوجته، أو الزوجة لزوجها :-

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي وأيقظ امرأته؛ فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل وأيقظت زوجها؛ فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه أحمد .

    التكلم بالخير والدعوة إلى الله

    ومن مفاتيح الرحمات: التكلم بالخير من أمر بمعروف ونهي عن منكر، ودعوة إلى الله، وذكر، وقرآن، وتسبيح، ومناجاة للرحمن، والسكوت عن الشر من غيبة، ونميمة، وكذب، وبهتان:-

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرءاً تكلم فغَنِم، أو سكت فسَلِِم)رواه البيهقي في شعب الإيمان .

    خشية الله تعالى

    استحلال الإنسان من إخوانه المظالم التي عليه

    ومن تلك المفاتيح أيضاً: أن يستحل الإنسان من إخوانه المظالِم التي عليه :-

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبداً كانت لأخيه عنده مظلمة في نفس أو مال فأتاه فاستحل منه قبل أن يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه، فتوضع في سيئاته) رواه ابن حبان .

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    الجهاد في سبيل الله والإنفاق

    المسامحة في البيع والشراء والاقتضاء

    ولم تقتصر مفاتيح الرحمات على الأمور التعبدية المحضة، بل من فضل الله ورحمته أن جعل من مفاتيحها: المسامحة في البيع، والمسامحة في الشراء، والمسامحة في الاقتضاء :-

    فلا يماطل، ولا ينقص، بل يؤدي ما عليه كاملاً، وهذا كله من فضل الله ورحمته بالعباد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبداً، سَمْحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) رواه البخاري .

    1.   

    أوقات وأماكن تكثر فيها الرحمات

    أيها الفضلاء: وهناك أوقات وأماكن فاضلة تكثر فيها الرحمات، وتعمُّ فيها الخيرات.

    ليالي رمضان

    فمن تلك المواسم: ليالي رمضان عامة، والعشر الأواخر منه خاصة :-

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية للبخاري : (إذا دخل شهر رمضان غُلِّقت أبواب جهنم، وفُتِّحت أبواب الرحمة) شهر كامل تُفَتَّح فيه أبواب الرحمات، فيا خسارة من ضيع ليالي رمضان بمشاهدة الأفلام، أو التجوُّل في الأسواق لمعاكسة النساء والفتيات! ويا فداحةَ من فرَّط في قيام رمضان!

    يوم عرفة

    ومن الأوقات التي تتنـزل فيها الرحمات: يوم عرفة :-

    فهو من أعظم أيام الله، ذلك اليوم العظيم الذي يقول الله فيه: (اذهبوا مغفوراً لكم)، روى مالك في الموطأ مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رُئِي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لِمَا يرى من تنـزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام؛ إلا ما رُئِي يوم بدر).

    فاحرص -يا رعاك الله!- على أن يكون لك النصيب الأوفر، والحظ الأكبر من هذه الرحمات، وإن أخطأك سبب فتعرَّض لغيره، ولا تعرض عن تلك الأسباب فتشقى.

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم.

    1.   

    موانع الرحمة وعوائقها

    الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وصلى الله وسلم على النبي المصطفى، والهادي المجتبى، وعلى من سار على نهجه واقتفى.

    أما بعد:

    فاعلم -أخي الحبيب- كما أن لرحمة الله مفاتيح تتنزل بها فهناك موانع لتلك الرحمة وعوائق تحول بين المرء ورحمة الله.

    الكفر بالله والشرك

    فمن أعظم هذه العوائق وأشدها خطراً: الكفر بالله والشرك به -عياذاً بالله من ذلك- :-

    فقد جاء الوعيد الشديد من الرب جل في علاه مخبراً عن حال الكفار والمشركين بأنهم في النار خالدين فيها، يقول الله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72].

    الفسق والفجور

    ومن عوائق رحمة الله تعالى: الفسق، والفجور، وفعل المنكرات، وارتكاب المحرمات، وعصيان رب الأرض والسماوات:-

    يقول الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، فدلت الآية الكريمة أن الذين لا يتقون الله، ولا يعظمون شعائر الله، وينتهكون محارم الله، ويبارزونه بكل أنواع المعاصي وألوان الذنوب - بعيدون كل البعد عن رحمة الله عز وجل.

    القسوة على العباد

    وكذلك من العوائق: القسوة على العباد، وعدم الرحمة بهم :-

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) متفق عليه.

    ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَن لا يَرحم لا يُرحم) متفق عليه.

    فكن -يا رعاك الله!- رحيماً بالخلق؛ يرحمك الخالق، ارحم الضعفاء، وواسِ الفقراء .. ارفقْ بالمساكين .. تحمل الجاهل .. اصبر على أذى السفيه، واعفُ عمن ظلمك، وإياك -أخي الحبيب!- أن تتعرض لموانع الرحمة فتكون قاسي القلب، غليظ الطبع، لا ترحم صغيراً، ولا توقر كبيراً، ولا تعطف على فقير، ولا تواسي مسكيناً.

    اللهم ارحمنا رحمة واسعة، اللهم ارحمنا رحمة واسعة، اللهم ارحمنا رحمة واسعة، لا نُعَذَّب بعدها أبداً.

    اللهم اجعلنا من عبادك الرحماء بخلقك؛ فتنالنا رحمتك.

    اللهم هيئ لنا أسباب رحمتك، اللهم هيئ لنا أسباب رحمتك، اللهم هيئ لنا أسباب رحمتك، وجنبنا موانعها، برحمتك يا أرحم الراحمين! برحمتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم إن لم نكن أهلاً أن نبلغ رحمتك فإن رحمتك أهلٌ أن تَبْلُغَنا، رحمتك وسعت كل شيء، ونحن شيء، فلْتَسَعْنا رحمتك، يا أرحم الراحمين! يا أكرم الأكرمين!

    اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.

    اللهم إنا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى.

    اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم تجاوز عنا يا رب العالمين.

    اللهم تب على التائبين، اللهم تب على التائبين، واغفر ذنوب المستغفرين، يا رب العالمين!

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756352485