إسلام ويب

مواضيع متنوعة في العقيدةللشيخ : محمد ناصر الدين الألباني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هذه المادة هي مجموعة من الأسئلة المختلفة في باب العقيدة، والتي أجاب عنها فضيلة الشيخ الألباني رحمه الله، فمنها ما يتعلق بالخلافة والاستخلاف ومعنى هاتين الكلمتين لغة وشرعاً، وحكم قول القائل: الإنسان خليفة الله في الأرض وغيرها من الأحكام التي تختص بهاتين الكلمتين، كما ألقيت عليه أسئلة أخرى مختلفة، ولكنها في باب واحد وهو باب العقيدة.

    1.   

    معنى الخلافة والاستخلاف لغة وشرعاً

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    السؤال: ما معنى الخلافة والاستخلاف لغة وشرعاً؟

    الجواب: السائل يسأل: ما معنى الخلافة والاستخلاف لغةً وشرعاً؟ ليس هناك فرق بين اللغة والشرع في هذه المسألة فكلاهما متحد فيها، لكن الشرع يؤكد التزام اللغة في ذلك.

    الخلافة هي مصدر، كما جاء في القاموس يقال: خلفه خلافةً، أي: كان خليفته -ولاحظوا تمام التعبير- وبقي بعده. ومما جاء في القاموس: الخليفة السلطان الأعظم كالخليف، أي: يقال بالتذكير والتأنيث، الخليف والخليفة، والجمع خلائف وخلفاء. هذا ما في القاموس، لكن الشيء البديع ما في النهاية في غريب الحديث والأثر لـابن الأثير، فقد ذكر أثراً فانتبهوا له! يقول: [جاء أعرابيٌ فقال لـأبي بكر : أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا. قال: فما أنت إذا كنت تقول لست خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا الخالفة بعده] أي: الذي يأتي بعده، أما أن يكون خليفة فلا، لماذا؟ لأن معنى الخليفة فيه معنى دقيق على ما كنا نعبر عنه إجمالاً ونستنكر في التعبير، بأن الإنسان خليفة الله في الأرض، من أجل ذلك المعنى الذي يوضحه لنا الآن الإمام ابن الأثير، يقول: فقال: [أنا الخالفة بعده] أبو بكر لم يرض لنفسه أن يقول: إنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: [أنا الخالفة بعده] أي: جاء من بعده فقط، يفسر ابن الأثير فيقول: الخليفة من يقوم مقام الذاهب ويسدُّ مسدَّه، والهاء فيه للمبالغة، وجمعه الخلفاء .. إلى آخره.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو بشر لم يرض أبو بكر الصديق أن يقول: إنه خليفته؛ لأن معنى الخلافة بهذه اللفظة: أنه ينوب مناب الذي خلف ومضى وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن لـأبي بكر مهما سما وعلا أن يداني كماله عليه الصلاة والسلام.

    ومن هنا نعرف بأنه لا ينبغي من باب أولى أن يقال: الإنسان هو خليفة الله في الأرض؛ لأن البون أكبر من أن يذكر بين الخالق والمخلوق، فإذا كان أبو بكر لم يرض أن يقول عن نفسه إنه خليفة الرسول، فنحن لا نرضى أن نقول: إن الإنسان خليفة الله في الأرض.

    السائل: إذاً: فما معنى قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة [البقرة:36]؟

    الشيخ: أنا كنت في صدد الإجابة عن مثل هذا السؤال؛ لأن الواقع أن هذا السؤال يكثر إيراده، والجواب عنه باختصار:

    جاء أنه في الأرض خليفة للعلماء، وهناك أكثر من قول في تفسير هذه الآية أو هذه اللفظة بخصوص هذه الآية، والقول الذي يجنح إليه ابن كثير وهو في ذلك تابع لـابن جرير، يقول ابن كثير في تفسير الآية نفسها: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]: ليس المراد هنا الخليفة آدم عليه السلام فقط، كما يقول طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى فلان وفلان، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره، والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً، إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك.. إلخ. ثم قال ابن كثير : قال ابن جرير : وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرنٍ بعد قرن، قال: والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلانٌ فلاناً في هذا الأثر، إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14] ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر، فكان منه خلفاً.

    هذا هو معنى الخلافة، فنحن يجب أن نستحضر هذا المعنى العربي حتى نستعظم التعبير بأن الإنسان لا سيما إذا أطلقنا فنقول: إنه خليفة الله عز وجل؛ لأن الذي يريد أن يخلف غيره يجب أن يكون أقلَّ ما يكون قريباً منه، وكما أقول دائماً وأبداً: لا يحسن مطلقاً أن يقول القائل: فلان الجاهل، فلان الزبال، هو خليفة العالم الفلاني؛ هذا مستهزئ كل الاستهزاء؛ لأنه لا يصلح أن يكون خليفةً لذلك العالم؛ لبعد الشقة بينهما في صفة الخلافة، فماذا يقال عن إنسان بالنسبة لخالق الأكوان سبحانه وتعالى؟!

    ولذلك نجد التعابير في السنة الصحيحة تأتي لتضع الخليفة الحق، كما جاء في حديث في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر سفراً دعا قائلاً: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل) وفي رواية: (في الحضر)، فإذا غاب الزوج عن بيته فمن الخليفة من بعده؟ هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يحسن الخلافة، أما أن يكون العبد العاجز الجاهل، مهما كان قوياً وعالماً، أن يكون خليفة عن الله عز وجل في الأرض، فهذا تعبير مستهجن لغةً وشرعاً!!

    هذا ما عندنا بالنسبة لهذا السؤال.

    1.   

    الضابط في تمييز الأمور الاعتقادية عن التشريعية

    السؤال: ما هو الضابط الذي يميز الأمور الاعتقادية عن غيرها من الأمور التشريعية؟

    الجواب: قبل الإجابة عن هذا الضابط أقول: إن مما دخل في الإسلام ولا يعرفه السلف الصالح، هو تقسيم الدين إلى أقسام لم يأتِ عليها نص في الكتاب ولا في السنة، من ذلك تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ومن ذلك ما جاء السؤال حوله، وهو تقسيم الإسلام إلى أمور اعتقادية وأحكام شرعية، وبناءً على هذا الاصطلاح الحادث جاء هذا السؤال: ما هو الضابط في تمييز الأمور الاعتقادية عن الأمور التشريعية -أي: الأحكام الفقهية-؟

    من حيث اعتقادنا أن هذا التفريق لا أصل له، فأنا أنصح السائل بأنه لا يهتم بمعرفة هذا الضابط، بقدر ما يجب عليه أن يعرف أي شيءٍ كان هل هو من الإسلام أم ليس من الإسلام؟ ثم لا عليه بعد ذلك إذا عرف هذا الاصطلاح بقسميه، وأنه ينطبق على هذه الجزئية، القسم الأول أو القسم الآخر؛ لأن المهم عهو طاعة الله عز وجل في كل ما شرع، ولا يهمنا أبداً أن نعرف الأمور الاصطلاحية، لا سيما إذا كان يترتب من وراء هذه الأمور الاصطلاحية الاهتمام ببعضها دون الاهتمام بالبعض الآخر، أو تقويم -ويقولون اليوم: تقييم وهو خطأ- تقويم قسم منها ما يستحقه دون القسم الآخر وكله شرعي، ويترتب من وراء اصطلاح كهذا تنزيل قيمة بعض هذه الأحكام الشرعية عن البعض الآخر، فهذا اصطلاح يجب الإعراض عنه، بل يجب أن يضرب به عرض الحائط.

    الآن أجيب على السؤال مع ضرب المثال الذي يتفرع من هذا الاصطلاح.. يميزون الأمور الاعتقادية عن الأمور التشريعية: بأن كل خبرٍ جاء في الكتاب أو في السنة له علاقة بأمر غيبي وليس له علاقة بحكم شرعي عملي، فهذا هو الذي يعنون به أنه من الأمور الاعتقادية، وبالعكس إذا كان ذلك الأمر الذي جاء في الكتاب والسنة يترتب من ورائه حكم عملي فهو حكم شرعي، ويتبين من هذا التقرير بأن الأمور الغيبية هي الأمور الاعتقادية، فمثلاً: الاعتقاد بعذاب القبر لا يترتب وراءه عمل؛ لأنه يقف فقط عند العقيدة، وكذلك الاعتقاد بالملائكة، ووجود الجن، وأشراط الساعة، ونحو ذلك من أخبار بدء الخلق وقيام الساعة، فكل شيء ليس له علاقة إلا بالعقيدة فهو من الأمور الاعتقادية، وما يقابل هذا من الأمور العملية هي الأحكام الشرعية.

    وما حصيلة هذا التقرير؟ ذلك ما أشرت إليه أن بعضهم ابتدع فقال: إذا كانت الأمور الشرعية من القسم الأول -أي: لها علاقة بالأمور الغيبية الاعتقادية- وكان ذلك الأمر قد جاء في حديث صحيح فلا يؤخذ به؛ لأن له علاقة بالأمور الاعتقادية، أما إذا جاء هذا الحديث في القسم الثاني من الأحكام الشرعية فيجب الأخذ به؛ لأنه تضمن حكماً شرعياً، وهناك لا يؤخذ؛ لأنه تضمن أمراً اعتقادياً، هذا اصطلاح ليس له أصل في الكتاب والسنة مطلقاً، وإنما هو من علم الكلام والفلسفة الذي تسرب إلى المسلمين في صور شتى، فانحرف بهم عن كثيرٍ من دينهم وشريعتهم.

    ولنا رسالة في بيان أن هذا التفريق بين الأمور الاعتقادية والأمور التشريعية تفريق لا أصل له، وأنه مجرد أن يأتي الخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام صحيحاً يجب الإيمان والتصديق به؛ سواءً تضمن عقيدةً فقط أو تضمن حكماً شرعياً. وهذه الرسالة مطبوعة، وباستطاعة من كان حريصاً على التوسع في هذه المسألة أن يرجع إليها.

    لكني قبل الانتقال إلى الإجابة عن سؤال آخر أريد أن أذكر بحقيقة هامة، قلت في تلك الرسالة وفي غيرها: إن هذا التفريق مع أنه لا أصل له، لو عكس ذلك رجلٌ مثلي لكان أقرب إلى الصواب، أي: أن يقول: لا يجوز الأخذ بالأحكام إلا بالحديث المتواتر القطعي الذي اشترطوه في العقيدة فقط، أنا أقول: لو عكسوا لكانوا أقرب إلى الصواب، ولا أقول: لأصابوا؛ لأن التفريق لا أصل له في الشريعة، لكن لو عكسوا لكانوا أقرب إلى الصواب؛ لأن كل حكم شرعي يتضمن عقيدةً، وليس كل عقيدة تتضمن حكماً شرعياً، فمثلاً: الإيمان بعذاب القبر قضية اعتقادية محضة، لكن اعتقادك بأنه يجب كذا، أو يستحب كذا، أو يحرم كذا، فهذا يتضمن عقيدة، لو أن رجلاً صلى ركعتين والناس نيام بغير قصد التقرب إلى الله فلا يستفيد من ذلك شيئاً إطلاقاً، ولو صلاهما بقصد الفرض لا يستفيد من ذلك شيئاً؛ لأنه تضمن عقيدة عملها لكنه تضمن عقيدة غير مشروعة، عندما صلاهما بنية الفرض، لكن لما صلاهما بنية النفل صارت عبادة.

    فكل أحكام الشريعة لا يمكن أن نفصل فيها بين الحكم وبين الاعتقاد بمضمونه، فالأحكام الخمسة التي تعرفونها: الفرض والسنة والحرام والمباح والمكروه، هذه كلها لا تنفصل عنها العقيدة، وإذا تصورنا حكماً عملياً قام به مسلم وفصلنا عنه الاعتقاد به لم يكن حكماً شرعياً مطلقاً.

    لذلك فاشتراط الحيطة والحذر في الأحكام الشرعية التي تتضمن عقيدة وعملاً، أولى من اشتراط الحيطة والحذر في الأمور التي لا يقترنها حكم عملي، كالإيمان بعذاب القبر مثلاً، لكننا نقول: لا يجوز التفريق بين هذا وهذا مطلقاً.

    عرفنا إذاً أننا بصفتنا مسلمين نتمسك بما كان عليه السلف الصالح من مفاهيم الكتاب والسنة، ونمشي على آثارهم، أننا لا نفرق بين الأمور الاعتقادية وبين الأحكام الشرعية، فكل ذلك دين يجب أن نتعبد الله به، لا نفرق بين العقيدة وبين الحكم الشرعي والعبادة، فإذا ثبت حديث وتضمن حكماً شرعياً سلمنا تسليماً، وإذا جاء حديث صحيح -أيضاً- وتضمن أمراً غيبياً سلمنا تسليماً، لا نفرق بين هذا وهذا؛ لأن السلف ما فرقوا بين هذا وهذا، وكذلك الأئمة الأربعة لا يصح عن أحدٍ منهم التفريق بين العقيدة وبين الأحكام الشرعية، وإنما حدث التفريق -كما أشرنا آنفاً- من بعض المتأخرين من علماء الكلام.

    الذي نريد أن نذكر به مرة أخرى: موضوع الكفر الاعتقادي والكفر العملي، الذي تخبط فيه الشباب في العصر الحاضر تخبطاً خطيراً جداً، حتى وقع ألوف منهم في مذهب الخوارج، فكفَّروا المسلمين بسبب عدم تفريقهم بين الكفر الاعتقادي والعملي.. نحن نقول: الكفر الاعتقادي مقره القلب، وهذا لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، والكفر اللساني نحن نعرفه؛ لأننا نسمع، وإنما ندين الناس مما يظهر لنا منهم من أعمالهم ومن أقوالهم، فعندما نفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي لا نريد أن نقول: فلان عند الله مؤمن، أو هو عند الله كافر، بل أمره إلى الله تبارك وتعالى، فإذا ظهر لنا منه ما يدلنا على أنه كافر بقلبه، فنحن نعامله على ما ظهر لنا منه وحسابه إلى الله تبارك وتعالى، لكن المشكلة التي هي نقطة الدقة في الموضوع، أننا نجد في العصر الحاضر أناساً يظهر منهم ما يدل على إسلامهم وإيمانهم، ومن جهة أخرى يظهر منهم ما يدل على كفرهم، فما هو الشيء الذي نغلبه على هذا الجنس من البشر؟

    هنا يقع الخبط والخوض، فمجرد أن نرى في الإنسان -مثلاً- تركاً للصلاة حكمنا عليه بأنه مرتد عن دينه، وهو لم ينكر مشروعية الصلاة، فضلاً عن أن يكون موظفاً -مثلاً- في دولة لا تحكم بما أنزل الله، فنقول: إنه كافر مرتد عن دينه.

    هذه الظواهر لا تدل على ما في قلب هذا الإنسان يقيناً حتى نتبنى الحكم عليه بالظاهر، لا سيما -كما قلت آنفاً- أن هناك ظواهر أخرى تدلنا على إسلامه، ولست أريد الخوض في هذه المسألة إلا بمقدار ما أنبه السائل أننا حينما نقول: الكفر الاعتقادي والكفر القلبي؛ لنحكم بالعدل بالنسبة للمكلفين أمام الله يوم القيامة، أما هنا في الدنيا فقد يظهر لنا إنسان كافر وهو ليس بكافر عند الله، وبالعكس؛ يظهر لنا أنه مسلم وهو منافق كبير عند الله تبارك وتعالى، وهذا معروف في التاريخ الإسلامي الأول فضلاً عن تاريخنا الحاضر.

    أضرب لكم مثالاً نبهتكم عليه مراراً: أكثر أئمة المسلمين يقولون بالنسبة لتارك الصلاة: إنه يقتل حداً ويدفن بمقابر المسلمين، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا يتصور إنسان يؤثر القتل على أن يصلي، فهو يقتل كفراً؛ لوجود القرينة على أن هذا رجل كما يقال اليوم في لغة العصر الحاضر: عقائدي؛ لأنه لو كان لا ينكر الصلاة لما أثر القتل عليها وصلى ولو نفاقاً.

    أما هذا السؤال الذي أنت تسأل عنه، تريد قرينة ظاهرة تستند إليها، تقول: يقتل حداً أو كفراً، ما دام أنك ما استطعت أن تصل إلى قرينة ظاهرة، وتدل قطعاً أنه منافق بقوله، فحينئذٍ حسبك أن الشارع أعطاك صلاحية استئصال شره من وجه الأرض، ثم حكمه إلى الله عز وجل، فهو يعلم السر وأخفى.

    1.   

    إثبات صفة العلو لله عز وجل

    السؤال: ما القول في الحديث الذي رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمطرت السماء حسر عن منكبيه حتى يصيبه المطر ويقول: إنه حديث عهدٍ بربه) مع العلم أن السحابة مصدر المطر قريب من الأرض وهو في السماء الدنيا؟

    الجواب: كأن السائل يفرق بين العلو القريب والعلو البعيد، وهناك فرق بين ما يتعلق بصفة العلي الأعلى.. المطر صحيح أنه ينزل من السحاب، لكن السحاب من السماء، وكل ما علاك فهو سماء، فهو ينزل من مكان يوصف بالعلو، فحينما رئي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد نزل المطر وخرج يتوقاه بصدره، فاستغرب منه ذلك بعض أصحابه وسألوه عن السبب، فقال: (إنه حديث عهدٍ بربه) في ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل له صفة العلو، لكن نحن كما نقول دائماً وأبداً: علو الله عز وجل صفة من صفاته كأي صفةٍ أخرى، ومجموعة صفاته كذاته، كما أن ذاته لا تشبه شيئاً من الذوات، كذلك صفاته لا تشبه شيئاً من الصفات، فإذا كان الكتاب والسنة متواردين في آيات وأحاديث كثيرة جداً على إثبات صفة العلو للعلي الغفار؛ فهذا الحديث من تلك الأحاديث التي تشير إلى صفة العلو، لكن الحديث لا يعني أن الله في السحاب، وإنما يعني أن هذا المطر نزل من جهة العلو الذي هو صفة من صفات الله عز وجل، لكن العلو باعتباره صفة من صفات الله، فهو عالٍ على جميع مخلوقاته تبارك وتعالى، ونحن مجرد أن نتصور هذه الصفة بدون أي تكلف؛ لأن الأمر كما يقول العلماء: كل ما خطر في بالك فالله خلاف ذلك، لكن مجرد أن نتصور أنه عالٍ على جميع مخلوقاته يكفي أن نقنع أنفسنا؛ لأن هذه الصفة لا تشبه صفات المخلوقات، وأي مخلوق يكون فوق المخلوقات كلها؟!

    فالله عز وجل الذي له هذه الصفات المطلقة أن يكون عالياً على جميع مخلوقاته، فنزول المطر من السماء، وتلقي نبينا إياه بصدره وقوله: (إنه حديث عهدٍ بربه) أي: حديث عهد لانصبابه من الجهة التي تشترك في صفة العلو، ونحن دائماً وأبداً نقول: إن المخلوقات تشترك مع الله في الصفات اسماً لا حقيقةً، فنحن نقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... [البقرة:255] ونحن أحياء ولسنا أمواتاً، لكن سنقول: حياة الله ليست كحياتنا، إذاً انتهت المشكلة، فردوا هذه القاعدة واستريحوا من فلسفة علم الكلام، كل صفة ثبتت في الكتاب والسنة فاحملوها على آية التنزيه والإثبات: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )[الشورى:11] .

    الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إنه حديث عهدٍ بربه) أي: انفصاله من الجهة العليا، والجهة العليا هي صفة من صفات ربنا تبارك وتعالى، لكن هل هذه الصفة كهذه الصفة؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .

    1.   

    الإيمان يزيد وينقص

    السؤال: يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويخلعه أخرى)، وعنه مرفوعاً: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)، وقال أحمد: عن ابن عباس أنه قال لـابن مالك : [من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زانٍ إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه] الأحاديث السابقة تدل حسب ما بدا لي على أن الإيمان يخلع مرة واحدة أو ينفى مرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين الآيات التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه؟ وما تعليق فضيلتكم على مذهب الأحناف في موضوع أن الإيمان يكون أو لا يكون في حديث إيمان الزاني، هذا مع أنه يوافق مذهبهم كما يبدو وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: الحديث الأول لا أذكر إذا كان ثابتاً أو لا، وهو: (إن الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويخلعه أخرى).

    الذي يستحق التعليق في ظني على هذا السؤال هو الحديث المرفوع الذي ذكره السائل بعد الحديث المروي عن أبي هريرة المرفوع في الأول، هذا على أنه موقوف، فأنا لا أذكر إذا كان ثابتاً عن أبي هريرة أم لا.

    أما الحديث الثاني وهو قوله عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)، هذا الحديث متمسك به لمن ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأرجو من السائل والسامع في آن واحد أن يكونوا أو يحاولوا أن يكونوا ممن تحدث رسولنا صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فهو ينبغي أن ينظر في الحديث نظرة صادقة عن تأييد مذهب على مذهب، فإذا كان هذا الحديث -كما يتوهم السائل- يؤيد مذهب الحنفية، فهل الحنفية يقولون: إن الزاني إذا زنى كفر؟ فالحديث نفسه لا يكون للحنفية خلافاً لما توهم السائل؛ (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، هم الأحناف أنفسهم، وهذا في الواقع مما يقيم الحجة عليهم بكلامهم، لا يجدون تفسيراً لهذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وهو مفسر لهذا الحديث إلا على طريقة الجمهور من السلف الصالح الذين يقولون: إن الإيمان لا يعني الاعتقاد فقط، بل وفيه يدخل -أيضاً- العمل الصالح. ومن هنا جاء اعتقادهم الآخر الصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا صريح في القرآن الكريم، ولذلك فقوله عليه السلام في الحديث المذكور: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) كيف تأوله الأحناف؟ قالوا: وهو مؤمن كامل الإيمان.

    إذاً: الإيمان له مراتب وله درجات، يدخل فيه نقص وزيادة، فتأويلهم للحديث هو تأييد لرأي الجمهور الذين يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، وإن الإيمان من معناه العمل الصالح، إذا عرفنا هذه الحقيقة ورجعنا إلى هذا الحديث فلا يمكن أن يفسر هذا الحديث لا على مذهب الجمهور الذين يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، ولا على مذهب الحنفية الذين يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإنما هو حقيقة واحدة.

    فقوله: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة) نحن إذا نظرنا هنا إلى لفظتين: أولاً: الإيمان، وثانياً: الظلة، فهل نأخذ لفظ الإيمان بالمعنى الجامد الذي لا يقبل الزيادة والنقص؟ وهذا لا يقوله علماء السلف قاطبةً، وهنا بالذات لا يقوله الحنفية أيضاً؛ لأنهم لو قالوا: خرج منه الإيمان، معناها أنهم قالوا بقول الخوارج، وهو أن ارتكاب الذنب الكبير هو خروج من الدين، وهذا -والحمد لله- لا يقوله الحنفية، لذلك فهم سيضطرون إلى تأويل الإيمان مثلما أولوا الحديث الآخر: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي: وهو مؤمن كامل الإيمان، فهنا يخرج منه الإيمان كله، أو الإيمان الثاني الذي يستلزم ألا يقع في مثل هذه المعصية.

    هذا التأويل الأول، أن نقول: الإيمان يعني الإيمان الثاني، أما الإيمان المنجي من الخلود يوم القيامة فأقل منه بكثير ينجي، هذه اللفظة ينبغي النظر إليها -أولاً- لفهم الحديث على الوجه الصحيح.

    اللفظة الأخرى: (فكان عليه كالظلة) هذا لا يعني أن الإيمان خرج منه خروجاً، حتى لو فسرنا الإيمان بالإيمان المطلق، أي: خرج الإيمان الكامل والناقص بحيث لم يبق في قلبه شيء من الإيمان، لو فسرنا هذا التفسير -أيضاً- فلا يعني الحديث أن هذا الرجل خرج منه الإيمان وانفصل عنه بالكلية، أي: إنه مات موتاً معنوياً، صار كافراً، لا؛ لأنه خرج منه وصار متعلقاً به تعلق الظلة بالمستظل بها، وأقرب شيء نستطيع أن نفسر تعلق الإيمان والحالة هذه بصاحب هذه الجريمة، خروج الروح من الإنسان وهو نائم، وفرق بين خروج الروح من الإنسان وهو نائم فهو لا يزال حياً، لكن حياته غير الحياة الطبيعية وهو يقظ، وعلى العكس من ذلك خروج الروح من بدن الإنسان نهائياً، فيصبح بدنه كالخشبة، هكذا نستطيع أن نفرق بين خروج الإيمان كله من الإنسان فيموت موتاً معنوياً كما يموت الجسد في انفصال الروح منه انفصالاً كلياً، وبين أن يموت نصف موتة، أو بعض موتة -إذا صح التعبير- أن يخرج من الإنسان هذا الإيمان الكامل الذي لا يليق بهذا المجرم الذي ارتكب الزنا.

    فإذاً: هذا خروج لا يزال الإيمان متعلقاً بصاحبه، كما لا تزال الروح متعلقة بصاحبها في حالة نوم الجسد ولا تزال الروح متعلقة، فإذاً خرج منه الإيمان الكامل ولم يخرج منه خروجاً مطلقاً بحيث لم يبق له علاقة، فإذا انقلع -هكذا جاء في اللفظ وأظن أنه أقلع- رجع إليه الإيمان.

    وأخذ الحديث ودراسته دراسة سطحية ظاهرية، هذا أولاً: ليس من طريقة العلماء إطلاقاً، لا فرق بين الماتريدية والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الإيمان زيادته وعدم زيادته، وماذا يقول السائل في مثل الحديث الصحيح وهو أصح من هذا: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) هل نفسره هكذا على الظاهر، لا إيمان مطلقاً؟ لا أحد يقول هذا، لا حنفي ولا شافعي.

    إذاً: لا إيمان كامل ولا دين كامل، كذلك هذا الحديث الذي يفسر ملاحظاً فيه الإيمان الكامل أولاً، وشيء زائد وهو أن يكون عليه كالظلة ليس منفصلاً عنه كلياً، لذلك إذا ما أقلع عن الذنب عاد هذا الإيمان إلى صاحبه؛ لأنه لم ينفصل عنه كلياً.

    ومن هذا البيان والشبه أظن يؤخذ الجواب عن سؤال السائل حين أتبع ما سبق بقوله: وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: [من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زانٍ إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه] فهنا نزع الله منه نور الإيمان بُين المنزوع وليس هو الإيمان نفسه، وإنما نوره، وهذا بدل.

    السائل: الأحاديث السابقة تدل حسب ما بدا لي على أن الإيمان يسقط مرة، أو ينفى مرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين الآيات التي تدل على زيادة الإيمان؟

    الشيخ: قد عرفنا يا أخي الجواب! ما دام الإيمان يزداد وينقص فالمنفي هو الإيمان بالكامل، وليس أصل الإيمان، وقد ضربت مثلاً آنفاً واضحاً جداً: (لا إيمان لمن لا أمانة له) ومثله أحاديث كثيرة، لا إيمان كاملاً، وإذا أخذنا الأحاديث وفسرناها على ما يريد السائل تركنا مذهب أهل السنة جميعاً على ما بينهم من اختلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، والتحقنا بـالخوارج الذين يكفرون المسلمين لمجرد وقوعهم في بعض المعاصي الكبيرة.

    السائل: وما تعليل استشهادكم على مذهب الأحناف في موضوع أن الإيمان يكون مرة أو لا يكون بحديث إيمان الزاني، مع أنه يوافق مذهبهم، كيف يوافق مذهبهم؟ وهل الأحناف يقولون: الزاني يكفر؟

    الشيخ: لا. وقد فسرت ماذا يقول الأحناف، مما يؤيد أن الصواب في موضوع الإيمان هو ما يرجفون، ويكفي تنبيهاً للسائل أن الآيات التي أشار الشارع إليها صريحة في زيادة الإيمان، ولذلك إذا جاءنا الحديث الذي سأل عنه، أو حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فلابد من تفسير هذه الأحاديث تفسيراً يتفق مع النصوص الأخرى من الكتاب والسنة، حتى نكون في حرزٍ وفي حصن من الانحراف يميناً أو يساراً، وأننا لسنا من الخوارج أو من المعتزلة والعياذ بالله تعالى!

    1.   

    رأي الشيخ في أصول قررها أحد الكتاب الإسلاميين وتعليقه عليها

    السؤال: ما رأيكم في هذه الأصول التي قررها كاتب إسلاميٌ كبير:

    آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يلحق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من اختلافٍ بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]؟

    الجواب: هذا كلام سليم وجميل، لولا أن فيه غموضاً في ناحية واحدة، فلا بد من توضيحها وبيانها، وهي قوله في آخر بيانه: وإنما يسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو كما قال.. نقول: نعم. ولكن آيات الصفات هذه وأحاديث الصفات حينما لم يتأولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعطلها، يرد سؤال هنا: هل فهمها، أم لم يفهمها؟ إن قيل: فهمها، إذاً لا بد لنا من فهمها اقتداءً بالنبي عليه السلام؛ لأن الكاتب يقول: يسعنا ما وسع الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا كلام حق. وإن قيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فهمها ولا بحث عنها، فهذا صدم وضرب لأعز شيء في الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أنه قد أنزل القرآن عليه، وكلف ببيانه للناس، فإذا قيل بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفهم هذه الآيات، فهو بطبيعة الحال لم يبينها للناس؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والقول بأنه لم يبين ذلك منافٍ لعديدٍ من النصوص، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] إلى آخر الآية، وإن قيل: لا. حاشا لله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد فهم هذه الآيات كما فهم القرآن كله، تجاوباً منه مع مثل قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82] فحينئذٍ لا بد للخلاص من التأويل والتعطيل، من الفهم لنصوص آيات الصفات وأحاديث الصفات بدون تعطيل وبدون تشكيك.

    الأصل في هذا أن في مسألة آيات الصفات وأحاديث الصفات مذاهب ثلاثة: مذهب السلف، وهو فهم النصوص كما جاءت بدون تشبيه وبدون تأويل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] لا نقول: الله أعلم بمراده. المراد مفهوم من قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، لكن في الوقت الذي نفهم هاتين الصفتين بالأسلوب العربي لا نشبه ربنا عز وجل بشيءٍ من عباده، جمعاً بين التنزيه والإثبات المذكورين في هذه الآية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] هذا مذهب السلف.

    مذهب الخلف: هو المذهب الثاني، وهو تأويل آيات الصفات -زعموا- خشية التشبيه، فوقعوا -مع الأسف الشديد- في التعطيل، أي: أنكروا كثيراً من الصفات، والمذاهب هنا منها المؤولة المتعمقة في التأويل، حتى لتكاد تنكر وجود الله بسبب إنكارهم لصفات الله، ولا شك أن بعض الفلاسفة الإسلاميين وقعوا في هذا الجحد المطلق، يقولون: لا نصفه بأنه حي، ولا نقول: إنه حي أو ليس بحي، لماذا؟ لأنه لو قلت: إن الله حي، فأنا متكلم وأنا حي وأنت حي، وهذا تشبيه، ولا نقول: ليس بحي؛ لأننا حكمنا عليه بالعدم، وهكذا وقعوا في (حيص بيص) وفي حيرة، أدت بهم في الواقع إلى الجحد المطلق.

    لذلك أحسن التعبير عن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ثم تبعه بعد ذلك ابن القيم فقال: المعطل يعبد عدماً. لا شك، لكن قلت: إن المؤولة يتفاوتون في التأويل، فمنهم من أغرق في التأويل حتى وصل به الأمر إلى الجحد المطلق، ومنهم دون ذلك، ومنهم أقل وأقل، ومن هؤلاء الأشاعرة والماتريدية مع الأسف؛ فهؤلاء -والكلام يهمنا بالنسبة إليهم؛ لأن جماهير المسلمين اليوم من أهل السنة يتمذهبون بمذهب هذين المذهبين- فهؤلاء -مثلاً- في الآية السابقة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] لا يتأولون السمع والبصر، لا يقولون كما تقول المعتزلة (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: عالم، فـالمعتزلة أشد إغراقاً في تعطيل آيات الصفات بطريق التأويل، فهم لا يقولون: نصف ربنا بأن له سمعاً وله بصراً، لكن: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، والمعتزلة يقولون: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] أي: العليم. فنقول: الله وصف نفسه في غير ما آية بأنه عليم، فكيف تعطلون هذه الآية أو هاتين الصفتين؟

    الماتريدية والأشاعرة سلكوا هنا على الجادة، قالوا: نقول كما قال ربنا: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] لكن: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] بينما أولوا آيات أخرى وأحاديث أخرى في صفات، لماذا؟ قالوا: نخشى من التشبيه، أي: إما أن تطردوا هذه الخشية فيصل بكم الأمر إلى الجحد المطلق، وإما أن تقفوا موقف السلف عند هذه الآية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] هذان مذهبان: مذهب السلف: الفهم، وما يجب على ذلك من القواعد العربية مع التنزيه، ومذهب الخلف: التأويل خشية التشبيه، فوقعوا في كثيرٍ من التعطيل.

    ووجدت طائفة ثالثة، وهم الذين -زعموا- يريدون أن يقفوا وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، وهؤلاء يسمون بـالمفوضة، هم لا يفسرون تفسير السلف، ولا يؤولون تأويل الخلف، فإذا قيل لهم: ما معنى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؟ قالوا: الله أعلم بمراده.. وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22] قالوا: الله أعلم بمراده.. وهكذا كل آيات الصفات لسان حالهم يقول: لا نعلم، لا نعلم، لماذا لا تعلمون؟ الآيات واضحة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .. وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] .. الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4] .. إلخ، ويقولون: نحن إذا أردنا أن نفصل نريد أن نؤول، وإذا أولنا خالفنا السلف، إذاً نقف بين هؤلاء وهؤلاء.

    وأنا أعرف من تجربتي وقراءتي للبحوث التي تقع في هذا العصر، أن أكثر الكتاب الإسلاميين اليوم من غير السلفيين مذهبهم التفويض، لا يأخذون بمذهب السلف وهو واضح جداً؛ لأن الخلف هونوا وقللوا من قيمة مذهب السلف حينما قالوا: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحسن. بئس ما قالوا! معنى هذا الكلام: أن السلف ومن بينهم محمد صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهم، لم يفهموا الفهم الصحيح لهذه الآيات، لماذا؟ قالوا: لأن الولوج في تفسيرها قد يورط المفسر فيقع في شيء من التعطيل أو التشبيه، أما الخلف فقد ابتعدوا عن هذا وهذا، وجاءوا بالعلم الدقيق الصحيح بتفسير هذه الآيات.. كيف يمكن أن يعقل هذا؟!

    1.   

    أبيات شعرية توضح العقيدة السلفية

    عقيدتنا سلفية الأفكار والإيمان     أصل الصواب على مدى الأزمان

    تفنى العقائد والشعوب وتمتحي     وتظل دعوتنا بكل مكان

    حفظ الإله لنا عقيدة أحمدٍ     بالحفظ من مكلوم والقرآن

    لا زيغ فيها لا انحراف يمسهـا     سلمت من التحريف والنقصان

    خلبت على الأيام دعوة أحمدٍ     عمت جميع الأرض والعمران

    هي للبرايا رحمةٌ من ربهم     جلت وعزت رحمة الرحمن

    أخذ الصحابة ما أتاهم من هدى     واستسلموا لعقيدة الفرقان

    ما أولوا أو عطلوا أو شبهـوا     بل صدقوا ما جاء في إذعان

    لم يعملوا أفكـارهم في ذاتـه     أو في صفات الخالق الحنَّان

    فهموا من الأوصـاف معنىً واضحـاً     في الوهلة الأولى مدى الأذهان

    مرت كما جاءت على أفهامهم     من دونما لفٍ ولا دوران

    قالوا: سميع ذاك سمعٌ لائقٌ      بجلاله لا السمع بالآذان

    فالذات ليست كالذوات وسمعها      لا يشبه الأسماع في الإنسان

    وله يدٌ لا بل يـدان وأعيـنٌ     ليست كعين الخلق والأعيان

    من قال إن العين تعني حفظه     أو قال إعطاء العطاء يدان

    مبسوطتان يداه جـل جلالـه     بالخير والإكرام والإحسان

    الله فوق العرش فـوق عبـاده     هو مستوٍ لا كاستوا إنسان

    قالوا بل استولى لتأويل استوى     قلنا: أكان العرش غير مصان

    أم كان مملوكاً لربٍ غيره     فأتى الإله منافساً للثاني

    قالوا: استوى جهةٌ وحصـرٌ عندهـا     والله موجودٌ بكل مكان

    جعلوا المكان لمن بغاه حاويـاً     والله فوق مكانهم وزمان

    ليس العلو لربنـا كجهاتهـم     هو ظاهرٌ فوق العباد وداني

    الله خالق كل شـيءٍ عالـمٌ     وهو المحيط بكل خلقٍ ثان

    الأمر أمر الله حكمٌ نافذٌ     لا يكره الإنسان في الأديان

    أقداره خيرٌ ولا يرضـى لنـا     كفراً وكسب الشر فعلٌ جاني

    أفكارنا من أعطيـات كتابنـا     ليست بتأويلٍ ولا هذيان

    من فهم أحمد ثم فهم صحابـه     فلك الهدى والخير في الأكوان

    من منهج الأصحاب نهج حياتنا     في الفكر والأخلاق والإيمان

    لا نرتضي بدعاً فكل ضلالـة     في النار صاحبها مع الشيطان

    من شرع الأحكام كان منافساً     لله في التشريع والتبيان

    لا نأخذ الأحكام من زيدٍ ولا     من أي إنسان بلا برهان

    قال الإله وقال خاتـم رسلـه     برهاننا فالوزن بالميزان

    بالحق نعرف قائلاً فنجله     لا نعصم الإنسان عن نسيان

    ما كثرة تعطي الصواب لكثرة     لا توزن الأفكار بالقبان

    لا نعبد الأشخاص في تقليدهم     من دون فكرٍ مشية العميان

    فإطاعة الأشخاص نوع عبادةٍ     إن خالفوا هدياً من العدنان

    ما طاعة مفروضة في شرعنـا     إلا لرب العرش والأكوان

    وله العبادة لا شريك لـه بهـا     هو وحده المخصوص بالإذعان

    لا نستغيث بغيره أو نرتـدي     شيئاً من الطاغوت والكهان

    كل التضرع والتذلل والرجا          والخوف والإشفاق للديان

    إن العبادة لا تجوز لغيره     إن جوزت كانت إلى الأوثان

    إن التوكل والخضوع عبـادةٌ     وكذا الدعاء وطلبة الغفران

    ثم الذبائح والنذور تقرباً     بالأولياء وكل صاحب شان

    من يسأل المقبور يشرك عامداً     ما الشرك والإيمان يجتمعان

    كل الذنوب يجوز غفران لهـا     لا يغفر الإشراك بالرحمن

    الشرك يخفى عن كثيرٍ أمـره     أخفى دبيباً من دم الشريان

    هذي عقيدتنا وهذا شأنها     وبها نواجه منزل القرآن

    في الله لا نخشى ملامـة لائـمٍ     فاللوم بعض مصائب الشيطان

    ندعو لكثرتنا ولا نخشى الردى     لا يرهب الآجال غير جبان

    لكننا لا ننثني عن عزمنا     والله يعصمنا من الطغيان

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755988379