إسلام ويب

كيف نستقبل رمضان [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شهر رمضان شهر القرآن، شهر البر والصدقة والإحسان، شرع لنا فيه صيام نهاره، وقيام ليله، فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، فحري بنا أن نحسن استقباله وأن نهيئ أنفسنا للعبادة والطاعة فيه، فهو فرصة وموسم للتعرض للأجور والتزود من الحسنات.

    1.   

    من مزايا وفضائل شهر رمضان

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد: فقد أخرج النسائي في السنن بإسناد صحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه بمقدم رمضان، فيقول: قد أظلكم شهر كريم، تصفد فيه مردة الشياطين، وتوصد فيه أبواب النار، وتفتح فيه أبواب الجنة )، وفي رواية: ( تفتح فيه أبواب السماء )، وهذه البشارة النبوية الكريمة هي بشارة للمسلمين المستعدين لصيام رمضان وقيامه، وأداء الأعمال الصالحة فيه ليستقبلوه بقلوب مؤمنة، وبتوبة خالصة نصوح، مكفرة لما مضى من السيئات؛ ليكونوا فيه من الفائزين بالسبق، ومن الفائزين بالعتق من النار.

    رمضان شهر القرآن

    فهذا الشهر الكريم ميزه الله على سائر الشهور بكثير من الميزات والتفضيل، فقد جعله شهر القرآن، فيه كانت بداية نزوله كما قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وكانت بداية نزوله في ليلة القدر منه كما قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وخصه الله سبحانه وتعالى بأن جعل صيامه ركناً من أركان الإسلام، فمن أنكر وجوبه كفر وخرج من الملة، ومن أقر بوجوبه، وامتنع من أدائه كان فاجراً يعاقب على ذلك، ويحبس، ويمنع من الأكل والشرب ومبطلات الصوم في النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

    وقد فرضه الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في المدينة، واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيامه، وسن للمؤمنين قيامه مع صيامه، وجعلهما مكفرين لجميع السيئات الماضية، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

    الاستمرار في عبادة صيام رمضان

    كما خص الله هذا الشهر الكريم بأن جعله عبادةً مستمرةً، يتشبه فيها الإنسان بالملائكة الكرام، فالإنسان كائن بين نوعين من أنواع الكائنات، نوع أسمى منه وهو الملائكة الكرام، فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، محضهم الله لطاعته، وكلفهم بعبادته، ولم يسلط عليهم الشهوات، ولم يمتحنهم بها، فهم ناجحون فائزون دائماً. والصنف الأدنى من الإنسان هو الحيوان البهيم سلط الله عليه الشهوات، ولم يكلفه بالتكاليف، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين فهو مكلف بتكاليف، ممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف، ولم يتبع الشهوات، التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيم، بل يكون أدنى منه؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان أكبر من الحجة القائمة على الحيوان، قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]؛ ولذلك ضرب الله أسوأ الأمثلة من الحيوانات للذين عدلوا عن سبيله ومنهجه من الإنسان، فقال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5].

    وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:175-177].

    والملائكة الكرام عملهم ديمة، فالراكع منهم راكع أبداً، والساجد ساجد أبداً، والمسبح مسبح أبداً، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير ابن جرير وغيره أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيها ساجد أو راكع ).

    والإنسان عاجز عن مواصلة العبادة عمره كله، فاحتيج إلى أن يكون له عبادة مستمرة تشبه عبادة الملائكة، فجعل الله الصيام سداً لهذه الثغرة، فالصائم يستطيع أن ينام وهو صائم، ويستطيع أن يدخل الخلاء وهو صائم، ويستطيع أن يبيع ويشتري وهو صائم، ويستطيع أن يزاول عمله المكتبي وهو صائم، فلا ينقض الصوم كل هذه الأمور، لا ينقضه إلا المحرمات المنافية له كالأكل والشرب والجماع، أما ما سوى ذلك من أعمال الإنسان فلا تنافي الصيام، فهو إذاً عبادة مستمرة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وعلى هذا يستطيع الإنسان أن يجمع بينها وبين غيرها.

    بل إن مذهب المالكية أن رمضان جميعاً عبادة واحدة، فتكفيه نية واحدة، إلا إذا انقطع التتابع بموجب أو مبيح، فالموجب كالحيض والنفاس وكالمرض الذي يخاف منه هلاك أو فقد لإحدى الحواس، والمبيح كالسفر وكالمرض الذي دون فقط إحدى الحواس، فإذا نوى الإنسان في الليلة الأولى من رمضان صيام هذا الشهر جميعاً فتلك النية كافية لكل ما يجب تتابعه منه، فإذا سافر في أثنائه وأراد مواصلة الصيام فعليه أن يجدد النية كل ليلة، وكذلك إذا حاضت المرأة ثم طهرت فيجب عليها أن تبتدئ نيةً جديدةً لباقي الشهر بعد طهرها، وكذلك إذا مرض الإنسان فوجب عليه الفطر، أو أبيح له، سواءً كان المرض عظيماً يخشى به الهلاك، أو يخشى به فقد إحدى الحواس الخمس، أو دون ذلك فإنه إذا برئ وأراد أن يصوم فلا بد أن يجدد النية، ولا تكفيه النية الماضية، وما سوى ذلك تكفيه النية السابقة؛ لأن المالكية يرون أن رمضان عبادة واحدة.

    رمضان موسم لتنافس الناس

    كذلك مما خص الله به هذا الشهر أن جعل فيه موسماً عظيماً من مواسم الخير يتنافس الناس فيه بتقرب من الله سبحانه وتعالى، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهذا الموسم يتفاوت الناس فيه، فمنهم من يغفل عن شعبان، ويبقى في أعماله وانشغالاته حتى يبغته رمضان، وهؤلاء منهم المقصرون الذين يستمرون على تقصيرهم، فلا يفرقون بين رمضان وبين غيره من الشهور، ويستقبلون رمضان بما كانوا فيه من حياتهم وشئونهم، وهؤلاء لا شك مقصرون مغبونون، ومن أدرك رمضان فلم يغفر فلا غفر له.

    ومنهم من يحاول اللحاق بالركب، والاستمرار في السير، لكن يجد نفسه مسبوقاً قد سبقه السابقون بالخيرات بإذن الله، ولعله يكون من المقتصدين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم.

    والذين يستقبلونه بروح طيبة، وتوبة نصوح، واستعداد وإعداد للطاعة والعبادة، ولا يريدون أن يبقى باب من أبواب الخير إلا كانت لهم فيه مشاركة، ولا يريدون أن يبقى باب من أبواب الجنة إلا كتبت أسماؤهم فيه، هم الذين يسبقون بالخيرات بإذن الله، ويستعدون لصيامه وقيامه والأعمال الصالحة فيه، فلا يأتي رمضان إلا وقد تطهروا من الآثام والسيئات بالتوبة النصوح، ويأتي وهم على استعداد كامل للحسنات؛ لأن الحسنة تدعو إلى الحسنة، كما أن السيئة تدعو إلى السيئة، فيوفقون لصيامه كاملاً، حتى يثبت لهم الأجر، وتحصل لهم الفرحة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أنه قال: ( للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه )، والمقصود بفرحته عند فطره قيل: أنه فات الشيطان بيوم كامل وعبادة تامة، وقيل: المقصود فرحته عند فطره بالدعوة التي لا ترد، وأما فرحته عند لقاء ربه فإن الله تعالى يقول: ( كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم، ويقول الله: فإنه لي وأنا أجزي به، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )، وهذا يدل على أن الأعمال التي توزن الحسنات فيها بعشر أمثالها يستثنى منها الصوم فإن جزاءه غير معدود؛ ولذلك فسر جمهور المفسرين قول الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فسروا الصابرين هنا بالصائمين، فهذا الشهر يسمى شهر الصبر أي: شهر الصوم، والصابرين هنا بمعنى الصائمين، فهم الذين يوفون أجرهم بغير حساب، لا يدخلون في هذا التعداد الذي هو الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بل يعطيهم الله سبحانه وتعالى جوائزه وفضله مما لا يمكن أن يخطر على بال، ولا يمكن أن يعد بحساب.

    الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان

    وكذلك ميز الله هذا الشهر بأن جعل فيه العشر الأواخر منه، وهي أفضله، وهي موسم عظيم من مواسم الخير، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها بعبادات خاصة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر جد وشد المئزر، واجتهد، وأيقظ أهله، وأحيا أهله، ودخل معتكفه )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفي بداية انشغاله بالاعتكاف ( اعتكف العشر الأوائل، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواسط فأتاه فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يزل يعتكفها ).

    ليلة القدر وليلة العتق في العشر الأواخر من رمضان

    وكذلك خصه الله بليلتين عظيمتين فيه هما ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من وفق لقيامها فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويزداد عمره بأربع وثمانين سنةً وزيادة؛ لأن فائدة العمر التقوى وما يقرب من الله والعمل الصالح، أما ما سوى ذلك من التمتع بالملذات والشهوات فهو أمر مشترك بين سائر الحيوانات تشترك فيه النملة والفأرة مع الإنسان، فقيمة عمر الإنسان إنما هي ما يرجح كفة حسناته يوم القيامة، فإذا وفق لقيام ليلة القدر فهي خير من ألف شهر، وألف شهر أربع وثمانون سنةً وزيادة من الأشهر، فإذا وفق الإنسان لقيامها فإنه عمره قد زاد بهذا العدد، وهذا خير كثير دون أن ينال فيه مشقةً، ولا ألماً، ولا مرضاً، ولا تعباً من متاعب الدنيا ومشكلاتها.

    ثم بعد ذلك الليلة الثانية هي ليلة العتق، وهي آخر ليلة من ليالي رمضان، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يعتق الله الصائمين والصائمات من النار في آخر ليلة من ليالي رمضان. فقيل: أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله ).

    وهذا يدل على أن رمضان إذا كان كاملاً فكان ثلاثين يوماً فالليلة الأخيرة منه ليست ليلة القدر، بل هي ليلة العتق، وكذلك إذا كان تسعاً وعشرين ليلة فالليلة الأخيرة منه ليست ليلة القدر وإنما هي ليلة العتق، وما سوى ذلك من الليالي يحتمل أن تكون فيه ليلة القدر، فالراجح في شأنها أنها متنقلة بين ليالي رمضان، ولكنها في العشر الأواخر أرجى، وهي في أوتارها أرجى أيضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اطلبوها أو التمسوها في العشر الأواخر في أوتارها ) (في أوتارها) أي: في ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فهذه أوتار العشر الأواخر من رمضان تلتمس فيها ليلة القدر، وقد أخفاها الله سبحانه وتعالى لما فضلها هذا التفضيل العظيم، وإخفاؤها لتشتد المنافسة فيها؛ وليحيي الناس الليالي كلها بحثاً عنها، فالتكليف كله امتحان، والامتحان بقدر مشقته يكون رفع الدرجة فيه، وعلو الشهادة التي ينالها الإنسان.

    1.   

    تميز رمضان بأنه عون للإنسان على جبهات الشر الخمسة

    وميز الله سبحانه وتعالى هذا الشهر كذلك بأن أعان الإنسان فيه على الجبهات المفتوحة عليه، فالإنسان فتح عليه بهذه الحياة خمس جبهات:

    جبهة الشيطان

    الجبهة الأولى: جبهة الشيطان الذي يأتيه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه، وهو يريد إغواءه كما قال فيما حكى الله عنه: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].

    وقد أخبر الله أن يمينه صدقت في أكثر الناس، قد قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وصدقه الله في هذه اليمين، فقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].

    وهذه الجبهة أعان الله عليها في رمضان بتصفيد مردة الشياطين، فأقوى جنود إبليس المردة من الشياطين، فيصفدون فلا يشاركون في المعركة طيلة شهر رمضان، فما يحصل من الجنون والوسواس والذنوب والسيئات وفساد الأخلاق في رمضان ليس ناشئاً عن المردة، وإنما هو ناشئ عن الضعفة من الشياطين، وقد ذكر بعض المشتغلين بعجائب المخلوقات من العلماء أن الواحد من المردة قوته كقوة مائة وعشرين ممن دونهم من الشياطين، وقد أعان الله بتصفيدهم جميعاً، فلا يصل الضرر إلى الإنسان منهم، وقد ذكر ابن عبد الباقي أنه يمكن أن يصل إلى الإنسان منهم ضرر الوسواس فقط، وهم مصفدون، ولكن لا يصل إليه ضرر فيما سوى ذلك، فلا يشركونه في المال، ولا في المعاش، ولا في الأهل، مع أن كل ذلك من وسائل إبليس؛ كما قال الله تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً [الإسراء:64].

    جبهة النفس الأمارة بالسوء

    أما الجبهة الثانية فهي: النفس الأمارة بالسوء، التي لا ترضى من الإنسان إلا أن يكون مطففاً، والمطفف هو الذي يأخذ كل حقوقه، ولا يسامح في شيء منها، ويحاول التقصير في حقوق الآخرين، وهذا التطفيف حذر الله منه فقال: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].

    وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: يقال لكل شيء: وفاء وتطفيف، فكل شيء أياً كان يقال: فيه وفاء، وفيه تطفيف، ودليل ذلك ما أخرج مالك أيضاً عن عمر : أنه كان على المنبر يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر : ما هذا التأخر يا فلان؟ قال: ما هو إلا أن كنت في عملي فسمعت النداء فأتيت فتوضأت وأتيت فقال: والوضوء أيضاً؟ لقد طففت. فطفف حين أخذ كل حقه فتوضأ ولم يغتسل، وتأخر حتى سمع النداء ولم يبكر، فكل ذلك يدل على أن التطفيف يدخل في كل أعمال الإنسان.

    والنفس يحتاج الإنسان إلى العون عليها، ومما يعين عليها أن يتحرر الإنسان من الضغوط والقيود، ومن أعظم الضغوط على الإنسان والقيود: محبته للدنيا، ورغبته في شهواتها، وقد حيل بينه وبينها بالصيام، فمنع عليه الأكل والشرب والجماع في نهار رمضان؛ ليتخلص من وحل الدنيا، ومن ضغطها، وانشغالها، وهذا أكبر شيء يرغب فيه الإنسان في الحياة الدنيا، فأعين على نفسه بذلك.

    جبهة إخوان السوء

    والجبهة الثالثة: إخوان السوء، وهم الذين لا ينفعون الإنسان في دين ولا دنيا، والإنسان له ثلاثة أنواع من الإخوان: أخ كالغذاء لا يستغني عنه أبداً، وهو الذي يعينه على أمر الدين فيعلمه ما جهل، ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، ويذكره الله سبحانه وتعالى، ويساعده على طاعته، وهذا النوع من الإخوان لا يمكن أن يفارقهم الإنسان، ولا أن يزايلهم؛ لأن الله أمر بالصبر على مخالطتهم، فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

    وأمر الله بصحبتهم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

    أما النوع الثاني من الإخوان فهو: أخ كالدواء يحتاج إليه الإنسان في بعض الأوقات دون بعض، ولا يمكن أن يكثر منه، ولا أن يستعمله على غير حاجة، وأنتم تعرفون الإعلان العالمي المكتوب على جميع الأدوية: إن هذا الدواء مستحضر مضر بصحتك، فننصحك بالابتعاد عنه، فكذلك الأخ الذي يعين على أمور الدنيا فقط، ولا يعين على أمر الدين ينبغي أن تزهد عما في يده، وأن تتقلل منه، وألا ترفع إليه حاجةً إلا عند الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وحينئذ ترفع إليه حاجتك وأنت تريد التعاون معه، وسد حاجاته هو أيضاً إذا رفعها إليك، وهذا النوع من الإخوان هو بمثابة الدواء كما ذكرنا.

    أما النوع الثالث فهو: بمثابة الداء، وهو الذي لا ينفعك في أمر دين ولا أمر دنيا، وهو عدو لك يوم القيامة، تصل إليك عداوته من خلال أخلاقه وأقواله، وأفعاله، وتصرفاته، ويشغلك عن الله سبحانه وتعالى، ويسمعك الكذب الذي هو وسخ القلب، ووبر في الأذن، ويسمعك أكل الغيبة، والمشي بالنميمة، ويسمعك السيئ من الكلام والقبيح منه الذي تشمئز منه الملائكة، ومجالسته ظلمة في وجهك وفي قلبك، وهو شغل عن ذكر الله بمجرد حضوره؛ لأن الشيطان يستغله ويصطحبه، ويقدمه على مقدمته ليصل به إلى مبتغاه، وهذا النوع من الإخوان هم أعداء الإنسان يوم القيامة كما قال الله تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

    وقد أعان الله على هذه الجبهة برمضان، فإن إخوان السوء لا يؤتون الإنسان إلا طمعاً في المآكل والمشارب، والتفكه بشهوات الحياة الدنيا، ولا يميزون بين الحلال منها والحرام، فإذا اشتغل الإنسان بالطاعة في رمضان، فإنه سيسد دونهم الباب، وهم لا يحبون المجالس التي يذكر فيها الله سبحانه وتعالى، بل ينفرون منها، ولا يستطيعون الاستمرار فيها، فلا تجدهم في حلقات الذكر في المساجد، ولا تجدهم في مجالس الدرس، ولا تجدهم في قيام الليل، ولا تجدهم إلا في المجالس العفنة؛ لأنهم بمثابة الذباب لا يزيل إلا على القذر.

    جبهة مفاتن الدنيا وشهواتها

    وأما الجبهة الرابعة فهي مفاتن الحياة الدنيا وشهواتها، وقد أعان الله عليها بصيام؛ لأنه استقلال عنها وانفراد عنها؛ ولذلك يجد الإنسان وقتاً واسعاً للمداومة في المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة في شهر رمضان، ولا يجده في غيره، وتجدون كثيراً من الذين لا يشهدون الفرائض في غير رمضان يقبلون على المساجد، فتمتلئ بهم، وتغص بهم الصفوف في رمضان، وما ذلك إلا لما أعين عليه من هذه الجبهات، فهؤلاء قد أغوتهم الشياطين وإخوان السوء والملذات والشهوات، وعندما أعين عليها بشهر رمضان استطاعوا الإقبال على الله، وحضور مجالس الخير، وشهود الصلاة في المساجد، وهذه الجبهة -وهي مفاتن الحياة الدنيا وشهواتها- حذر الله من النظر إليها، فقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132].

    وقد صح في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر، فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل ).

    جبهة نعم الله تعالى

    والجبهة الخامسة: هي نعم الله سبحانه وتعالى المسبغة علينا، فهذه النعم قيدها شكرها، والناس فيها على أربعة أنواع:

    النوع الأول: من لا يشعر بها إلا عند زوالها، وهؤلاء لا يمكن أن يشكروها لله أبداً، فما دام أحدهم آمناً في سربه، معافىً في جسمه، لا يشكو سرطاناً في كبده، ولا عمىً في بصره، ولا صمماً في أذنيه، ولا فشلاً في كلاه، ولا شللاً في أعضائه، لا يحس بهذه النعمة، فإذا أصيب بمصيبة من هذه المصائب تذكر ما كان عليه من النعمة بعد زوالها، ولا فائدة في هذا التذكر؛ لأنه إنما هو ندم حيث لا ينفع الندم.

    والنوع الثاني: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ولكنهم لا يعرفون من أين أتت؟ فيظنون أنها من تلقاء أنفسهم، ومن ميراثهم عن آبائهم وأجدادهم، ومن كسبهم وجدهم واجتهادهم، وهؤلاء مغرورون، حالهم حال قارون قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78].

    والنوع الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فهم يهدبون الدنيا، ويتصرفون فيها، وينشغلون بها عن شكرها لله، فتكون الدنيا حسرة عليهم يوم القيامة ومضرةً عليهم، والأكثرون هم الأقلون يوم القيامة؛ كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر : ( إلا من عمل بالمال هكذا، وهكذا، وهكذا.. عن يمينه وبين يديه وعن شماله )، أي: أعطى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، فأولئك المال خير لهم، وأما ما سواهم فهو وتيرة عليهم ومشكلة كبيرة؛ لأنه يطول حسابهم كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه رأى أصحاب الجد محبوسين على أبواب الجنة، وقد دخلها الفقراء من أهلها، غير أنه قد أمر ببعث النار إلى النار )، فأصحاب الجد من أهل الجنة يتأخرون في الدخول عن غيرهم من الفقراء، إلا من كان منهم من السابقين بالخيرات، ومن المبادرين إلى الطاعات، فيكون من السابقين الأولين كـأبي بكر و عبد الرحمن بن عوف ، و عثمان بن عفان ، وغيرهم من الذين أنعم الله عليهم، فأعطاهم الدنيا من حلها، فوضعوها في محلها، ووفقوا لاستغلالها في مرضات الله جل جلاله، فكانت حجةً لهم لا عليهم.

    وقد أخرج مالك في الموطأ وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر )، قال أهل العلم: المال كله كذلك، فالخيل مثال للمال، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تفاضل أهله فيه على ثلاثة أقسام:

    القسم الأول من ذوي المال: المال له أجر، أي: كل ماله أجر، فما جمعه إلا من حله، وما وضعه إلا في محله، فهو يبتغي به مرضات الله جل جلاله، ويبتغي به التقرب إليه، والمنافسة في الطاعات، فماله كله في كفة الحسنات، حتى ما أصابته المصائب منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مثل للفرس التي تقطع طولها أي: حبلها، فتعدو شوطاً أو شوطين، أو تمر على نهر فتشرب منه، أو تروث، فلا تثير غباراً، ولا تروث روثاً، ولا تشرب إلا كان ذلك في كفة الحسنات.

    أما القسم الثاني فهو: الذي يكون المال له ستراً، فهو الذي أراد التعفف به والاستغناء به عن الآخرين، وأداء الحقوق التي فيه، فأدى زكاته طيبةً بها نفسه، واستعمل ماله في التعفف عن الناس والاستغناء عنهم، فالمال له ستر ليس له ضرر بالنسبة إليه، فهو يستره الله به، فما قدمه منه كان في كفة الحسنات، وما لم يقدمه على الأقل لم يتضرر به.

    أما القسم الثالث: فالمال عليهم وزر، وهم الذين يأخذونه من غير حله ويضعونه في غير محله، ويتكاثرون به، ويفخرون به، ويعدونه لواء الله ورسوله، ومضارةً للمؤمنين، فأولئك الذين يكون المال حسرةً عليهم وندامةً يوم القيامة، وهؤلاء يعلمون أنه من نعم الله، ولكنهم لا يصرفونه في مرضات الله، حالهم حال المخلفين من الأعراب، قال الله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11]، وقد حذر الله من هذا الحال إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

    وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:14-15].

    أما النوع الرابع: فهم الذين يستعملون النعم في مرضاة الله، يعرفون أنها من عند الله، يعرفونها بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولا يشتغلون بها عن شكرها، بل يصرفونها في مرضاة الله وشكره، وهم أقل عباد الله، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13]، جعلنا الله أجمعين منهم.

    وهذه الجبهة المفتوحة على الإنسان أعان الله عليها برمضان؛ لأن الصائم يذوق مرارة الحرمان، فتزكو نفسه وتتطهر، فيكتسب سخاءً وبذلاً، فينفق المال في سبيل الله؛ ولذلك قال حاتم بن عبد الله الطائي :

    لعمري لقدما عضني الجوع عضة فآليت ألّا أمنع الدهر جائعا

    فمن ذاق مرارة الحرمان أدى به ذلك إلى السخاء والبذل.

    1.   

    منافع الصيام لعقل الإنسان وبدنه وروحه

    ورمضان سبب لتطهير الأخلاق؛ لأن فيه منافع للإنسان كله، والإنسان مؤلف من ثلاثة عناصر، هي: العقل الذي به شرفه على سائر الحيوانات، وهذا العقل زيادته وتنميته إنما تكون بزيادة العلم والتذكير، والصيام فيه مصلحة للعقل؛ لأن الإنسان يتحرر فيه من ضغوط الدنيا، فلا هو محتاج للغداء، ولا للأكل، ولا للشرب، ولا للجماع، فهو متحرر، والحرية هي أساس العقل والتفكير، إذا وجد الإنسان حريةً فإنه سينطلق عقله في تفكيره دون التقيد بالضغوط؛ فلذلك يزيد الصوم العقل، وكثير من أهل العلم كانوا إذا حاولوا فتح عويصات المسائل صاموا، فيفكرون فيها على صوم فتنفتح مغالقها لهم؛ لأن الصوم يزيد العقل.

    كذلك إن العنصر الثاني من عناصر الإنسان هو: البدن الذي هو من تراب، وهذا البدن في الصوم منافعه كثيرة له أيضاً، فالإنسان عبارة عن مجموعة من الأجهزة، وهذه الأجهزة لا يمكن أن تشتغل طيلة الليل والنهار لمدة سنة كاملة، فهل يستطيع أحد منكم أن يشغل سيارته لمدة اثني عشر شهراً دون أن تتوقف؟ لا يمكن ذلك، فيحتاج الإنسان إلى توقف وراحة لأجهزته، فجعل الله هذا الشهر من اثني عشر شهراً، شهر راحة لهذه الأجهزة، وعناية بالروح، وبواطن قوى الإنسان، والإنسان له هيكل عظمي جعله الله بأحسن تقويم، فالعضدان متساويان، والساعدان متساويان، والأصابع طولها متساو، والفخذان متساويتان، والساقان متساويتان، والقدمان وهكذا كل أعضائه وأجزائه، فالعينان لا تستطيع أن تميز بينهما، والأذنان كذلك، والمنخران، فكل أعضاء الإنسان في أحسن تقويم، وهذا الهيكل العظمي الذي ركب الله عليه الإنسان له طاقة في الحمل والأعباء، إذا تجاوزها كان ذلك مضرةً على الإنسان، فكل سيارة تعرفون أنه في الكتلوج الذي يأتي معها تكتب حمولتها كم تتحمل، وكذلك الإنسان له حمولة محدودة لا ينبغي أن يتجاوزها، وهذه الحمولة تزيد بكثرة الأكل والشرب، فتزداد الشحوم في البدن، ويحصل الضرر للإنسان من ذلك حين تزيد طاقة حمله على المقدر له، وهذا الذي يعرف في زماننا اليوم بزيادة الوزن، فالإنسان له وزن طبيعي هو الذي يتحمل حمله، فإذا زاد على ذلك الوزن كان ذلك مضرةً على جسمه، والصيام سبب لذلك، كذلك فإن الدم تجتمع فيه كثير من الغيبيات والأمور الخفية التي فيها ضرر على الإنسان، وهو يحتاج إلى التنقية والتصفية، والصيام منق له، وهو علاج لكثير من الأمراض التي يحتاج الإنسان إلى علاجها، وبعضها لا يستشعر أنه موجود فيه، ولا يحتاج إلى تشخيص أصلاً، فإذا صام ساعده ذلك عليه.

    كذلك العنصر الثالث من عناصر الإنسان هو: الروح، والروح نفخة غيبية من أمر الله، وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، وروح الإنسان تنميتها إنما تكون بالتقوى وحسن الخلق، وهذه الأمور مكتسبة بالصيام، فالصيام سبب للتقوى؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، ومعنى (لعلكم تتقون): أن الصيام سبب للتقوى؛ لأن الإنسان إذا تدرب على ترك ما هو مباح في غير رمضان عندما يصوم، واستعد لترك شرب الماء البارد على الظمأ، ولترك ما يشتهيه من المشتهيات الأخرى في حال صيامه، فإنه قد قهر نفسه وغلبها على شهوتها وهواها، فيستطيع أن يفعل ذلك طيلة العام في كل المحرمات التي حرمها الله سبحانه وتعالى، فإذا كان مدمناً على شرب الدخان مثلاً ولا يستطيع التخلص منه، إذا صام فإنه سيفطم نفسه عنه يوماً كاملاً، فيستطيع فطمها عنه طيلة السنة إذا كان صاحب همة وعزيمة، وهكذا في كل المخالفات الشرعية والأمور المحظورة التي هي ضرر على الإنسان.

    1.   

    أثر الصيام في خلق الإنسان

    الخلق يزداد بالصيام، فالإنسان إذا أحس بمنافسة الملائكة، وأحس بالزهادة في الدنيا، فإنه سيتعود على السخاء، وسيتخلص من البخل، والبخل هو أدوى أمراض القلوب وأحقرها، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فمن وقي الشح -أي البخل- أفلح، والفلاح هو الصلاح في الدنيا والآخرة صلاح الدنيا والآخرة، وكذلك فإن الصوم معين على أخلاق أخرى، فهو معين على الزهادة في الدنيا، والتخلص منها، ومن أمراض القلوب حب الدنيا، وهو أصل كثير منها كما قال العلامة محمد مولود بن أحمد فار رحمة الله عليهما:

    وأصلها حب الدنى لذاتها أو لتنال النفس من لذاتها

    عالج بمن في جمعها قد تعبوا دهراً طويلاً فحووا ما طلبوا

    فبينما هم دارجو مراقي زهرتها إذ هجمت حلاقي

    حلاقي: الموت.

    والصوم كذلك مهذب للنفوس، مطهر لها؛ لما يسمعه الإنسان فيه من القرآن، الذي هو آمر ناه ناطق على الإنسان هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية:29]، ولما يصلي فيه من الصلاة، وهي داعية إلى المعروف ناهية عن المنكر، كما قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].

    فلذلك وجدنا منافع كبيرةً في رمضان، فوجدنا فيه عوناً على الجبهات الخمس المفتوحة علينا، ووجدنا فيه منافع لعقولنا، ووجدنا فيه منافع لأجسامنا، ووجدنا فيه منافع لأرواحنا، فكان خيراً متمحضاً لنا.

    1.   

    الحث على حسن استقبال رمضان والتنافس فيه

    لا بد أن نستقبل رمضان بأريحية، وأن نشتاق إليه، وأن نسأل الله أن يبلغنا رمضان، وأن يبارك لنا فيه، وأن يتقبله منا، ونحن نعلم أن كثيراً من الذين ينتظرونه لا يبلغونه، وأن كثيراً من الذين يصومونه هذا العام لم يأت عليهم رمضان القادم إلا وهم بين الجنادل والتراب قد قدموا إلى ما قدموا، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

    وكثير من الذين يتمنون أن يكملوه لم يكملوه، وكثير من الذين يتمنون إكمال صيامه وقيامه يحال بينهم وبين ذلك إما بالمرض، أو العجز، أو السفر، أو نحو ذلك؛ فلذلك لا بد أن نستعد له، وأن نستقبله استقبالاً كريماً، وأن نتهيأ له تهيئةً نفسيةً عالية، فإشراقة النفس هي التي تحفز على الطاعة، وتهيئ للعبادة، وكل عبادة خلت من الإشراق والنور فهي عبادة نازلة بمثابة الجثة التي فارقتها الروح، وذهبت منها الحياة، وحينئذ تكون نجساً متحللة، فلا بد أن تكون عبادتنا ذات روح مشع، ولا بد أن نحس لها نوراً، وأن نجد ذلك النور واضحاً في تصرفاتنا، ولا بد أن نأخذ من رمضان عبرةً لغيره من الشهور، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل : بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان. لا بد إذا وصلنا إلى مستوىً من الإيمان في رمضان أن نحافظ عليه في بقية شهورنا، والإنسان المؤمن يخاف النفاق على نفسه، ويحذر من التذبذب الذي هو صفة لمنافقين، فإذا وصل إلى مستوى من مستويات أهل الإيمان حافظ عليه، وطلب الزيادة، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: إن من الصفوة أقواماً منذ استيقظوا ما ناموا، ومنذ قاموا ما وقفوا، فهم في صعود وترق، كلما قطعوا شوطاً نظروا فرأوا قصور ما كانوا فيه، فاستغفروا.

    ولا بد أن يدرك الإنسان منافسة المتنافسين معه، وأن يستشعرها، فالله تعالى يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، ويقول: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، ويقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، ويقول: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21].

    فلا بد أن يشعر الإنسان بالمنافسة، وأن ينظر في الدين إلى ما فوقه، وأن ينظر في الدنيا إلى من دونه، فذلك أقمن ألا يزدري نعمة الله عليه، كما في حديث أبي ذر و أبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وإذا أحس الإنسان أن لله عباداً في رمضان استغلوه في طاعة الله، فرآهم ملازمين للمساجد، يقومون الليل، ويصومون النهار، ويختمون القرآن، ويتصدقون بفضول أموالهم، ويذكرون الله سبحانه وتعالى، ويعكفون في المساجد على عبادة الله، فإنه سيستشعر منافستهم، فما يطلبون إلا ما يطلبه من القرب والمرضات، ولا يريدون إلا ما يريده من دخول الجنات والروضات؛ فلذلك لا بد أن يستشعر منافستهم، وأن يحب ما هم فيه، إذا استطاع أن يفعل ما فعلوه فبها ونعمت، وإن لم يستطع فليحبهم على ما هم فيه، ( فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى ما هو فيه وأصحابه، فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: أنت مع من أحببت ).

    ونحن نرى الذين ينافسون في الخيرات يوفقون للازدياد منها، وأذكر الأبيات التي ذكرها النووي رحمه الله في مقدمة رياض الصالحين:

    إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

    نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا

    جعلوها لجةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا

    فلا بد أن نستعد للتزود من مدرسة هذا الشهر الكريم، وأن نكون من المتنافسين في جميع أبواب الخير، فإن للجنة أبواباً ثمانية هي أبواب الطاعات الكبار، وكل باب له لائحة تنزل فتعرض فيه بحسب ما غلب على الإنسان، فمن غلب عليه الصيام كتب اسمه باسم باب الريان، وهو باب من أبواب الجنة لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق، فلم يدخل منه أحد، ومن غلبت عليه الصلاة كتب اسمه في باب الصلاة، ومن غلبت عليه الزكاة كتب اسمه في باب الصدقة.. وهكذا في كل أبواب الجنة التي هي أبواب الخير.

    نسأل الله تعالى أن يكتبنا وإياكم في جميع هذه الأبواب، وأن ييسر لنا ولوجها جميعاً، وأن يجعلنا من الصادقين المخلصين، وأن يكمل لنا رمضان بخير، وأن يجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، ومن وفق لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، وأن يعيده علينا وعليكم أعواماً عديدةً وسنوات مديدة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    رؤية هلال رمضان واختلاف المطالع فيه

    السؤال: ما الراجح في الرؤية، هل الرؤية عامة أم لكل أهل بلد رؤيتهم؟

    الجواب: بالنسبة لهذا الشهر وهو شهر رمضان جعله الله موسماً من مواسم الخير للمسلمين كلهم، لكن اختلف أهل العلم في ثبوته، فمن المعلوم أنه يثبت بكمال شعبان ثلاثين يوماً، أو برؤية واضحة محققة لهلال رمضان، وهذه الرؤية اختلف في نصابها: هل هي من باب الشهادة أو من باب الرواية؟ فذهب بعض أهل العلم إلى أنها من باب الرواية فتكفي فيها شهادة الواحد العدل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام برؤية عبد الله بن عمر وحده، وبرؤية أعرابي وحده، وأفطر أيضاً، ومنهم من رأى أنها من باب الشهادة، فقالوا: لا بد فيها من التعدد؛ لأنها قد يترتب عليها أمور مما يقع التنازع فيه، وهذا مذهب المالكية والحنفية، فإنهم يرون أن ثبوت الهلال هو من باب الشهادة لا من باب الرواية، فعدله عدل الشهادة، ولا بد فيه من التعدد، وإذا حصل التعدد فإنه يثبت قطعاً للبلد الذي فيه، ولا يحتاج أن يراه كل إنسان، بل ذلك متعذر، فمن الناس من هو أعمى، ومنهم من هو مشغول، ولا يجب أن يراه جميع الناس، وبعض الناس يخطئ في تفسير قول الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، فيظن أن معناها: من شاهد منكم الشهر فليصمه، وهذا غير صحيح، فشهد معناه: كان غير مسافر، فالشاهد هو الحاضر الذي لم يسافر، فمعناه: فمن كان غير مسافر في هذا الشهر فليصمه.

    والرؤية هي التي عول عليها الشارع في ثبوته في قوله النبي صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فاقدروا له )، وفي الحديث الآخر: ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ).

    والحنابلة يرون أنه يثبت برؤية الرجل الواحد شهر رمضان وشهر شوال، والشافعية يرون ثبوت رمضان برؤية العدل الواحد، ويرون ثبوت شوال برؤية عدلين؛ لأن شوال مما يتهم الناس في رؤيته بخلاف رمضان.

    واختلف في عموم الرؤية، فذهب كثير من أهل العلم من المذاهب الأربعة إلى عمومها: أنه إذا رئي في أي بلد فإنه تعم رؤيته سائر الأمصار، وهذا الذي قاله خليل في المختصر في قوله رحمه الله: وعم إن نقل بهما عنهما، أي: عم الخطاب به سائر البلدان، إن نقل بهما أي: بالعدلين أو المستفيضة عنهما أي: العدلين والمستفيضة.

    وذهب بعضهم إلى أنه تعتبر المطالع فيه واختلافها، أي: يعتبر اختلاف التوقيت فيه كما يعتبر ذلك في الصلاة قطعاً، فالصلاة إذا طلع الفجر على أهل مكة لم تجب علينا نحن هنا صلاة الصبح قطعاً إجماعاً، ولا تجب علينا صلاة الصبح حتى يطلع الفجر عندنا، وصلاة المغرب لا تجب علينا حتى تغرب الشمس عنا هنا، فإذا غربت الشمس عن أهل النعمة، أو عن أهل العيون، فإن ذلك لا يوجب صلاة المغرب على أهل نواكشوط حتى تغرب الشمس عنهم، فاختلاف الوقت معتبر وهو الذي يعبر عنه الفقهاء باختلاف المطالع، وهذا القول هو أرجح الأقوال في هذه المسألة، ودليله من السنة أيضاً حديث كريب الذي في الصحيح أنه: ( أرسلته أم الفضل إلى الشام تستجهز معاوية عدةً، فجاء فسأله ابن عباس فقال: بم رأيتم الهلال؟ فقال: رأيناه بالجمعة، فصام معاوية وصام الناس، فقال: أنت رأيته؟ فقال: نعم، فقال: أما نحن فرأيناه بالسبت، فلا نزال نصوم حتى نرى الهلال أو نكمل العدة ثلاثين، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأهل الشام رؤيتهم، ولنا رؤيتنا ).

    وهذا الحديث اختلف فيه: هل هو مرفوع أو لا؟ لأن ابن عباس قال فيه: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ونحو (أمرنا) إذا قالها الصحابي فالراجح الرفع، وذهب بعضهم إلى أن المقصود أنه أمرهم أن يصوموا لرؤيته، ففهم ابن عباس من ذلك اختلاف الرؤية، فيكون ابن عباس لم يرو حديثاً مخصوصاً بأن لأهل الشام رؤيتهم، ولأهل المدينة رؤيتهم، وإنما أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته )، ففهم ذلك فقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: بحسب فهمنا نحن بأمره.

    وذهب بعض الشافعية إلى التفريق بين البلدان بحسب حكمها، فقالوا: ما كان من الأمصار تحت إمرة أمير واحد فإن رؤيته واحدة، وهذا يخالف حديث كريب الذي سبق؛ لأن معاوية إذ ذاك خليفة للمسلمين جميعاً يخضع لحكمه أهل الشام وأهل المدينة، وعلى هذا تكون رؤية أهل موريتانيا تختلف عن رؤية أهل السنغال وأهل المغرب وأهل الجزائر.. إلى آخره، وهذا مذهب لبعض الشافعية.

    والقول الآخر في المسألة: أن العبرة بما تقارب من الأمصار، فالأمصار المتقاربة تثبت الرؤية فيها وتعم، والأمصار المتباعدة لا تنطبق عليها تلك الرؤية، وهذا التقارب والتباعد نسبي، ولكن الفقهاء يمثلونه بخراسان من الأندلس، وخراسان إقليم بالمشرق، بعضه الآن في إيران، وبعضه في أفغانستان، وبعضه في أذربيجان، والأندلس وهي التي يعبر عنها اليوم بأسبانيا والبرتغال، فهذا التباعد هو الذي مثل به أبو عمر بن عبد البر للأمصار المتباعدة، ومثل به عدد من أهل العلم، ومنهم من يمثل بالأندلس من إفريقية، وإفريقية هي تونس، وهذا تباعد نسبي، فلا يصل إلى نصف المسافة بين خراسان والأندلس، فالتباعد إذاً نسبي، فلعل القول الذي اخترناه ورجحناه أولى، وهو أن العبرة بخطوط العرض التي على أساسها يختلف التوقيت، فمن كان على توقيت جرينتش مثلاً فإن رؤيتهم واحدة، وما كان على توقيت سابق لذلك بساعة فإن توقيتهم واحد، ورؤيتهم واحدة.. وهكذا باعتبار التوقيت، ففارق التوقيت هو المعتبر، حتى لو كان في البلد الواحد فرق للتوقيت فإنه يعتبر، كالولايات المتحدة الأمريكية ففرق التوقيت بين شرقها وغربها خمس ساعات، فلا بد من اعتبار هذا الفرق أيضاً في الصيام؛ لأننا لا نستطيع أن نصلي الآن المغرب بصلاة أهل مكة، ولا أن نفطر بإفطارهم، كذلك لا ينبغي أن نصوم بصيامهم؛ ففرق التوقيت في الصوم هو مثل فرق التوقيت في الصلاة، وأنه لا فرق بين اليوم الواحد والشهر كله، فالنظر والحساب في ذلك واضح، ومن أهل العلم من اعتمد الحساب مطلقاً، فرأى أن الهلال لو لم ير بالعين المجردة، ولكن أخبر أهل المراصد بميلاده فإنه يثبت بذلك ومنهم من رأى أنه لا اعتبار للحساب أصلاً؛ لمشقته وصعوبته.

    ومنهم من رأى التفريق فقالوا: يعتمد على الحساب في النفي لا في الإثبات، فإذا قال أهل الحساب: لم يولد الهلال أصلاً، فزعم إنسان أنه رآه فإنه يكذب.

    ومنهم من قال: بل لا اعتبار للحساب كما ذكرنا في الإثبات لا في النفي، فإذا جاء عدلان فأخبرا أنهما قد رأياه، وحكم الحاكم بحكمهما، حتى لو قال أهل الحساب: لا يمكن أن يرى الهلال؛ لأنه لم يولد، فلا عبرة بقول أهل الحساب؛ لأن قول أهل الحساب مبناه على التكرر والعادة، والعادة غير جازمة؛ ولذلك يعرف الحكم العادي بأنه إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بواسطة التكرر مع صحة التخلف، فيمكن أن يقع التخلف كخوارق العادات كلها، فمن أكبر الأحكام العادية أن النار تحرق ومن المعلوم أن إبراهيم لم تحرقه النار، ومن أكبر الأحكام العادية أن من فقد الأكل والشرب سنين طويلةً فإنه سيموت، ومن المعلوم أن أصحاب الكهف مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، لم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم يموتوا، فهذا يدل على أن الأحكام العادية لا يمكن الجزم بها جزماً حقيقياً، ومع ذلك فقد يرتب عليها بعض الأحكام الفقهية.

    الأفضل من العبادات في رمضان وما يشرع للمعتكف فيه

    السؤال: هل الأفضل في رمضان التعلم أم التفرغ للعبادة بالنسبة لطلاب العلم؟ وهل للمعتكف أن يخصص بعض وقته للعلم في معتكفه؟ وهل يكره ذلك؟ وما هي المسائل التي تكره للمعتكف أن يفعلها؟

    الجواب: بالنسبة للعبادة لها مفهومان: مفهوم عام ومفهوم خاص، فالمفهوم العام هو أن كل ما يتقرب به إلى الله فهو عبادة، فالدنيا محراب كبير للتعبد، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163]، ( حتى ما تجعله في في امرأتك صدقة )، ( وفي بضع أحدكم صدقة )، ( وتميط الأذى عند الطريق صدقة )، فكل ذلك عبادة لله سبحانه وتعالى، وهذا المفهوم الواسع يقتضي أن كل عمل يتقرب به إلى الله فهو عبادة، ومن أبلغ ذلك طلب العلم، فهو فريضة على المسلمين، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالازدياد من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]، ولم يأمره بالازدياد بشيء من الدنيا سواه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أي يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم )، وقد قال الشافعي رحمه الله: الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بالصلاة النافلة، وهذا الذي نضمه السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع حين قال:

    والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله

    وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة: في أية طاعة يصرفها؟ فقال: علم يتعلمه. فقيل: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به، فقال: تعلمه أفضل من العمل به.

    وعموماً ما يذكره الفقهاء من المالكية من كراهة الاشتغال بالتعليم، والخطابة للمعتكف لا دليل عليه، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، فكان يخطب ويصلي بالناس إماماً، ويعلمهم ويأمرهم وينهاهم، فدل ذلك على أن المقصود بالاعتكاف عكف النفس على الطاعات بمفهومها العام على العبادة بمفهومها العام، فيمكن أن يتعبد الإنسان بتعلم العلوم حتى العلوم العصرية، وحتى علوم الدنيا إذا كان مخلصاً فيها لله، وقاصداً لوجهه الكريم، فيمكن أن يدرسها في معتكفه، لكن في رمضان ينبغي أن يخصص وقتاً لا بأس به للقرآن، فتنزيله فيه دليل على علاقة وطيدة بين هذا الشهر وبين القرآن، فلا بد أن يحرص الطالب وغيره على الختم مرات في رمضان؛ ليكون ذلك تثبيتاً للقرآن، وتعاهداً له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعاهدوا القرآن، فلهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من الإبل في عقولها ).

    أما ما يكره للمعتكف أو يمنع عليه من التصرفات فمنها: الخروج من المسجد لغير حاجة، فلا يخرج منه إلا لحاجته، ويقتصر على محل الحاجة، وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تخرج إلى بيتها لقضاء حاجة الإنسان، فتمر على المريض من أهلها ولا تسأل عنه إلا وهي قائمة، لا تجلس عنده، ولا تسأله عن حاله إلا وهي في طريقها.

    وكذلك المعتكف لا يحل له الرفث إلى النساء، فذلك ممنوع حتى في ليالي رمضان؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].

    وكذلك مما ينهى عنه المعتكف: الانشغال باللهو واللعب، وما لا خير فيه من الكلام، فهو قصر نفسه وعكفها على الطاعة، فلا يشتغل إلا بالطاعة، وكره له عند بعض أهل العلم الاستماع إلى أخبار أهل الدنيا إلا ما كان من ذلك داخل في نطاق العبادة، كالقاضي الذي يسمع الأخبار؛ لأنها ستصل إليه ليحصل له علم فيها، وكره كثير من الفقهاء قراءة كتب الأدب ونحوها مما تشتهيه النفس، وتتلذذ به في الاعتكاف، فكل ما تشتهيه النفس من العلوم الذي يفعله الإنسان شهوةً لا عبادةً فلا ينبغي أن يشتغل به الإنسان في اعتكافه، ويجوز للمعتكف أن يخرج لقضاء حاجته، وأن يأكل خارج المسجد الأكل الثقيل، ويأكل في المسجد ما لا ضرر على المسجد فيه، ما لا يحصل على فراش المسجد منه تأذ، وكذلك ينام في المسجد، ويخرج منه إذا أجنب فيغتسل ويرجع، ويجوز له أن يخرج لغسل ملابسه، ويجوز له تبديلها، فليس هو كالمحرم، فهذه هي الأحكام المتعلقة بالاعتكاف.

    ضيق النفس والوسوسة بالكفر

    السؤال: ما علاج من يجد ضيقاً في صدره، وفي كل مرة يعني يخشى أنه قد كفر؟

    الجواب: بالنسبة لضيق النفس وإدخال الحزن على الإنسان والوسوسة بحيث يشعر الإنسان أنه كفر، أو يتردد في ذلك هذا من عمل الشيطان، ومن خطواته، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21]، وعلى الإنسان أن يرده عن نفسه، وأن يتلهى عنه، وأن يستعيذ بالله من الشيطان إذا وجد هذا الضيق، وأن يحذر من اتباع هذه الخطوات والتفكر فيها، وعليه أن يكثر من الاستغفار والتعوذ، فهو الذي يقطع هذه الوسوسة ويمنع الشيطان منها، وإذا استطاع أن يقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة بتمعن وتدبر فهي طاردة لذلك، وهي أيضاً سبب لدخول الجنة كما ثبت في سنن النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يحل بينه وبين دخول الجنة إلا الموت ).

    صلاة التهجد وصلاة التراويح

    السؤال: هل صلاة التهجد بدعة؟ وهل يمكن الجمع بينها وبين صلاة التراويح؟

    الجواب: بالنسبة لصلاة التهجد فمعناها: الصلاة التي تقطع الهجود، والهجود هو النوم، أي: الصلاة التي هي في وقت نوم الناس، وقد أثنى الله على أصحابها في كتابه، فقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضلها، فقال: ( وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] إلى يَعْمَلُونَ [السجدة:17] ).

    وبين النبي صلى الله عليه وسلم ( أن الله جل جلاله يضحك للقائم في الصف، وللمصلي في جوف الليل )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فضل قيام الليل، وأن الذي يسافر فإذا تعب أصحابه وناموا فقام هو يصلي، فهو من الذين يضحك الله إليهم أيضاً جل جلاله، فهذا خير كثير في التهجد مطلقاً، وهو مطلوب في رمضان وفي غيره، لكنه يتأكد في رمضان، وبما أن القيام في رمضان مما يتعاون عليه وتشرع فيه الجماعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )، عجل التهجد قبل وقت النوم بعد صلاة العشاء مباشرةً رفقاً بالنساء؛ لأنهم سيجتمعون عليه ولطفاً بهم، ولكن الأفضل أن يطيلوه حتى يصلوا إلى وقت النوم ليكون تهجداً؛ ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون صلاة التراويح في أيام عمر ، فجعلها عمر ثلاثاً وعشرين ركعة، فرتب عشر ركعات يصلي بها أبي بن كعب وكان يطيل حتى يعتمد الناس على العصي من طول القيام، ثم يصلي بهم تميم الداري ثلاث عشرة ركعة، وهذه هي التراويح التي يجمع عليها الصحابة في أيام عمر ، وسميت تراويح؛ لأن فيها ترويحاً بعد كل أربع ركعات، كلما صلوا أربع ركعات يرتاحون ويجلسون قليلاً ثم يقومون فيصلون الركعات الأخرى، والتراويح هي من التهجد، لكن الفرق بينها وبين التهجد هو الفرق بين العام والخاص، فالتهجد يشمل التراويح وغيرها، لكن إذا قصد السائل صلاة بعض الناس في العشر الأواخر من رمضان صلاةً ثانيةً آخر الليل كما يفعله الناس في الحرمين الشريفين وغيرهما فلا حرج في مثل هذا؛ لأنه إنما هو اعتياد على قسم التراويح بتقديم شطرها أول الليل، وتأخير شطرها آخره، وقد قال عمر : نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها خير، فهي التي ينامون عنها، أي: الشطر الثاني من التراويح، والنصف الثاني منها، فهم يرتاحون بين ذلك، ثم يرجعون للقيام، فلا حرج في هذا.

    هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755970051