إسلام ويب

مقصورة ابن دريد [1]للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اللغة العربية لغة غنية بالألفاظ المعبرة، والأساليب الرائعة التي يعبر بها كل أحد عن حاله، فما أجمل أن يصف الحبيب محبوبته بأنها تجمع أوصاف الظبية والمهاة حينما ترعى الخزاما الشذية! وما أعذب أن يصور المحب نزول الشيب بمفرقه بنار تشتعل في جزل الغضى، فلا يزال حاله كذلك حتى يصبح رأسه كأنه نور الصبح من كثرة شيبه! عندها تضعف قواه وتنقص عزائمه من شدة ولعه وجواه، وهذا التعبير الرائع هو من عجائب هذه اللغة الحية.

    1.   

    أهمية اللغة العربية وأثرها في فهم القرآن والسنة

    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد:

    فبعون من الله وتوفيقه نبدأ درسنا في شرح مقصورة ابن دريد، العلامة الأزدي المعروف، وموضوع هذا الكتاب اللغة العربية.

    وفي دروس سابقة ذكرنا أن اللغة العربية هي الجناح الكبير الذي يطير به طالب العلم إلى فهم العلوم، علوم الكتاب والسنة، والجناح الآخر هو العقل، فهو أيضاً وسيلة أخرى لفهم الكتاب والسنة، فمن اجتمع عنده هاتان الوسيلتان فقد بلغ الغاية التي وصل إليها السلف الصالح، فإنه قبل التدوين لم يكن لهم من الوسائل إلا هاتان الوسيلتان: عقل صحيح أي: فهم يؤتيه الله عز وجل من شاء من عباده، يفهم به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسيلته في ذلك اللغة العربية، ونعني باللغة العربية ما يتعلق بأساليبها، وتراكيبها، ودلالاتها، وفهم ألفاظها ومعانيها، وقانونها النحوي، فلا نعني بذلك ما يتعلق بالنحو خاصة كما يفهم بعض الناس، فإن النحو ما هو إلا جزء يسير من هذه اللغة العربية.

    على أننا لا نستحب لطالب العلم أن يتوسع توسعاً كبيراً في النحو بحيث يتجاوز فهم القوانين التي يجب عليه أن يفهمها، إلا إذا وجد من نفسه ملكةً جامحةً في هذا العلم، فعليه بعد ذلك أن يواصل الطريق في هذا فإنه ميسر لما خلق له، وكأنما خلق ليكون علَّامةً في هذا الفن، ولكن كثيراً من الناس ذهبت بهم ملكاتهم في النحو إلى التوسع فيه، وتركوا الأمر الأهم وهو ما يتعلق باللغة العربية دلالةً وتركيباً وأسلوباً، وما يتعلق ببلاغتها وبيانها حتى جفت ملكتهم التي كان من شأنها أن تخدمهم في فهم الكتاب والسنة، بل صار هذا العلم الذي هو علم النحو وسواساً في صدورهم، فلا يتلفظ لسانه إلا بالإعراب، ولا يوسوس صدره إلا بالإعراب وما يتعلق به، حتى إن بعض الناس حدثني عن عالم من العلماء الذين أعرفهم ولكنني لا أعرف ذلك منه، قال: إنه كان يهذي بمسائل النحو حتى في نومه، وأنه كان إذا سمع الإمام يقرأ القرآن وهو يصلي خلفه يحرك لسانه بالوجوه الإعرابية التي تحتملها تلك الألفاظ، فيقول: جار ومجرور متعلق بكذا، أو هذا حال، أو هذا مفعول به، هكذا يغلبه وسواسه في هذه المسألة.

    1.   

    أهمية مقصورة ابن دريد وعناية العلماء بها

    هذه المقصورة تقدم لك فنوناً من أساليب اللغة العربية، وألواناً من تراكيبها وبلاغتها، وأنواعاً من مخرجاتها الغريبة التي تحتاج إلى معرفتها، وهي فوق ذلك تقدم لك أيضاً فنوناً من الأدب الراقي، وتقدم لك حكماً وأمثالاً وتواريخاً، فتدرس في هذا الكتاب أموراً كثيرة، وقد استحب العلماء أن تدرس اللغة من خلال النصوص لا سيما نصوص الشعر، فإذا كان الشعر سهلاً كسهولة هذه المقصورة التي هي عبارة عن منظومة رجزية من بحر الرجز، فإنها تكون أكثر إمتاعاً، وتكون أسلس وأسهل، وتكون أمتع على قلبك.

    والمقصور هو كلفظ موسى وعيسى والمها، فكل ما كان آخره ألفًا من الأفعال والأسماء يسمونه مقصوراً، ولا نعني الاسم المقصور فقط الذي نعرفه في النحو، وهو كل اسم معرب آخره ألف لازمة مفتوح ما قبلها، بل المقصور هاهنا أوسع من ذلك.

    وبناء القصيد على المقصور لم يكن معروفاً في شعر الجاهليين، ولكنه عرف بعد ذلك في شعر الأمويين والعباسيين ومن تلاهم، قال بعض الدارسين: إن ذلك استوحي من القرآن، فقد بنيت كثير من سور القرآن على الألف المقصورة، كسورة طه، وسورة النجم، وسورة عبس، وسورة الليل، وسورة سبح، وبعض آيات الضحى، وبعض آيات النازعات، وبعض آيات المعارج، ففيها كلمات أو آيات مختومة بألف مقصورة، لكن أول من أشهر هذا شعراً فيما يقال هو ابن دريد صاحب هذ المقصورة، فهو أول من كتب مقصورة، كتب هذه المقصورة وعدد أبياتها حوالي خمسين بيتاً ومائة بيت، وقد تزيد في بعض النسخ على ذلك، قال بعض الناس: إن هنالك من سبقه في هذا، ولكن التحقيق يفيد أنه لم يسبق إلى هذا.

    وقد عني العلماء بهذه القصيدة المقصورة عنايةً فائقة، وشرحت شروحاً عديدة، تمثلت عنايتهم بهذه القصيدة إما بالشرح، أو بالتخميس، أو بإنشاء قصيدة على منوالها، وهو ما يسمى بالمعارضة، فقد عارضها عدد لا يحصون كثرة، عارضوها بأبيات على منوالها أي: مختومة بألف مقصورة قد تكون من الرجز وقد لا تكون من الرجز.

    والذين عارضوها كثير من المتقدمين ومن المتأخرين، ومن آخرهم صاحب المنار محمد رشيد رضا، وذكر جزءاً من هذه القصيدة في تفسيره المنار.

    ومن المتأخرين الذين عارضوا هذه القصيدة بعض الشناقطة، بعض الموريتانيين ولا أعرف اسمه، ولكنني كتبت هذه القصيدة كاملة من الشيخ الذي أملاني شرح هذه القصيدة، وقرأتها وقرأت شرحها ولكنني ذهلت عن اسم صاحبها، وهو الذي كتبته هنا في هذا الكتاب، ومطلعها:

    أشاقتك بعد تولي الصبا حمول بكرن بأدم الظبا

    بدعج اللواحظ بيض الوجوه ثقال المروط ثقال البرى

    فأوقد في القلب نار الغرام أن آذن بالبين داع دعا

    فبت كظيماً وبات الحسان مستبشرات بقرب النوى

    ولكنها ليست من الرجز، بل هي من البحر المتقارب المعروف، الذي يكون على ميزان: فعولن فعولن فعولن، كما قال الشاعر يرمز إلى ذلك: (تقارب وهات اسقني كأس راح).

    1.   

    ترجمة ابن دريد رحمه الله

    لا أريد أن أطيل في المقدمة، فالكلام عن تاريخ هذه القصيدة ذكرته في مقدمة هذا الكتاب، وترجمت لـابن دريد ترجمةً موجزة، وابن دريد اسمه محمد بن الحسن بن دريد الأزدي المتوفى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، كان عالماً مشهوراً من أوعية العلم، كان يحفظ كتباً كثيرة لا سيما في اللغة العربية، وعمر طويلاً، والمترجمون يذكرون عنه أشياء كان يقترفها، نسأل الله أن يسامحه، ولكننا لا ندري على أي شيء مات، فإننا نرجو أن يكون قد مات على التوبة، وهذه الأشياء التي ذكروها هي أمور متعلقة بالشهوات، ولكننا نأخذ منه العلم الواسع، وهو واضع كتاب الجمهرة الكتاب المعروف في اللغة العربية، ولا يصيبكم ضيم مما قال فيه بعض أقرانه وهو - فيما يقال - نفطويه، فقد قال عنه:

    ابن دريد بقرة وفيه عي وشره

    ويدعي من حمقه وضع كتاب الجمهره

    وهو كتاب العين إلا أنه قد غيرَّه

    فهذا من كلام الأقران في الأقران الذي لا يقبل، فقد يحصل التحاسد بين الأقران ولو كانوا من العلماء؛ لأن الشيطان ينزغ بين الإخوة وينزغ بين الناس، ويقال: إنه رد عليه أيضاً بقصيد مثله فقال:

    أحرقه الله بنصف اسمه وصير الباقي صراخاً عليه

    لأن نفطويه مأخوذ من النفط، وهو القار الحار، وويه صراخ، فقال: أحرقه الله بنصف اسمه وهو نفط، وصير الباقي صراخاً عليه وهو ويه، فهذا صراخ يأتي بعد ذلك الإحراق.

    فـابن دريد رجل علامة في اللغة العربية لو لم يكن له إلا هذه المقصورة لكفى، وهذه المقصورة هي أشهر كتبه.

    هنالك ترجمة مطولة لـابن دريد مذكورة في المصنفات، وهنا ترجمة مختصرة لكن الترجمة المطولة عن هذه المنظومة تجدونها في هذا الكتاب الذي أسميته مفاتيح المقصورة.

    1.   

    عناية الشارح بالمنظومة ومميزات شرحه عليها

    هذه المقصورة قرأتها على الشيخ أحمدو يسمونه أحمدو الشنقيطي، يربطون أواخر الأسماء من أولها إلى آخرها، وكتبت جميع ما ذكره، وكان الشرح مختصراً ولم يكن مطولاً، ثم بعد ذلك ظهر لي أن أخرج هذا للناس، وزدت على ذلك ما ذكرته في صفحة سبعة عشر، وهو فيما تحت التنبيه اكتتبت شرح مفردات المقصورة عن قراءتي عن العلامة النحوي الشيخ أحمدو بن محمد حامد الشنقيطي رحمه الله، وزدت على ذلك شيئاً من دقائق اللغة وفقهها، وجعلت ما زدته بين معقوفتين، وشرحت كل بيت شرحاً جوهرياً، وأضفت إليه أيضاً أبياتاً من مثلث ابن مالك المنظوم، ومنه ما أخذته عن الشيخ، ولم أميز بين ما زدته وبين ما اكتتبته من نظم المثلث، ولو استمليته كل ما يستحضره من الشواهد العربية وأقوال النحاة واللغويين عند كل بيت من أبيات المقصورة لطال ذلك، فقد كان كالبحر الثجاج، ولكن سأكتفي بإيجاز مقصوده ومراده، فهنالك شروح كثيرة لهذه المقصورة، ومن أوفاها وأوسعها شرح ابن هشام اللخمي، وهو شرح واسع، لكن هنالك شرح للتبريزي، وهنالك شرح لعيد الوصيف، من المتأخرين شرح ممتع أيضاً، لكن في الشرح الأدبي لا في الشرح اللغوي، أي المفردات اللغوية، والذي تميز به هذا الشرح أمور منها: شرح الألفاظ عن مصدر معرفي واسع الذي هو هذا الشيخ الذي كان يحفظ وقر بعير من كتب اللغة.

    الأمر الآخر: هنالك بعض الشراكة النظمية، والطرائف اللغوية التي كان يحفظها الشيخ كتبت بعضها وأدخلته في هذا الشرح، وهذه قد لا تجدها في الشروح الأخرى.

    الأمر الثالث: الشرح الجملي المختصر، فكل الشروح حتى شرح ابن هشام اللخمي ليس فيه شرح إجمالي أو شرح جملي للأبيات كل بيت على حدة، هنالك شرح واحد اهتم بهذا الأمر وشرح الأبيات شرحاً جملياً وهو شرح عيد الوصيف، عالم لغوي مصري متأخر، لكنه كان يشرح الخمسة والستة والعشرة أبيات جملةً واحدة، وهذا شرحت فيه كل بيت وحده.

    الأمر الرابع: هنالك أمور زدتها متعلقة بفقه اللغة، وفقه اللغة يمثله كتب كثيرة، ودراسات كثيرة مثل فقه اللغة للثعالبي، والإفصاح أيضاً في فقه اللغة للصعيدي، وكتب كثيرة انتقيت منها ما سوف تجدونه في هذا الكتاب، من أراد أن يقرأ ترجمة هذا الشيخ - الذي كان نادراً في الوجود، والذي يقول عنه جماعته: إنه أعلم الناس باللغة العربية في بلده - فليقرأ ترجمته مطولة في المقدمة، وسوف تكون طريقتنا طريقةً موجزة لا يكون فيها استطراد، ولا خروج، ولا توسع، ولا فلسفة زائدة تخرج الطالب عن الحد المطلوب؛ لأن المقصود هو أولاً تصحيح هذه الألفاظ بأن تقرأها قراءة صحيحة، أي كتاب تقرؤه لو لم تخرج منه إلا بأن تقرأه قراءةً صحيحةً سليمة فهذا كاف؛ لأنك تصححه، وتعود لسانك على النطق الصحيح، وتكون واثقاً حينئذ من قراءته حينما تقرؤه أو تقرئه، أما إذا كنت تلحن فيه ولا تعرف على أي وجه يقرأ هذا اللفظ وذلك اللفظ فإن هذا مما يحدث ألماً في صدرك يجعل هذا حجرة عثرة دون المواصلة، ولذلك إذا رأيتم استطراداً لا تحبونه فنبهوني إلى ذلك.

    1.   

    شرح قول الناظم: (يا ظبيةً أشبه شيء بالمها...)

    قال ابن دريد رحمه الله:

    [ يا ظبيةً أشبه شيء بالمها ترعى الخزامى بين أشجار النقا ]

    إلى آخر القصيدة..

    الكلام في أول القصيدة يفيد أنه يعاني من شيء، وهذا الشيء هو الحب الذي يعاني منه أكثر الشعراء، ولذلك بدأ قصيدته بهذا الكلام، وإلا فهي في الحقيقة في مدح ابني ميكال، وهما أميران كانا في العراق مدحهما بهذه القصيدة، لكنه قدم ما يقدمه الشعراء في أول قصائدهم وهو الكلام الغزلي، وجعل ذلك مدخلاً فيه، ولكن حظه وحياته كانت كلها معاناة؛ لأنه لم يلتق بالمحبوب، وحصل له من المصائب في آخر حياته الكثير لا سيما ما أصاب جسده من الآلام والأمراض، حتى إن بعض الناس ذكره بقوله في هذه القصيدة نفسها:

    لا تحسبن يا دهر أني ضارع لنكبة تعرقني عرق المدى

    مارست من لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكا

    ولكنه شكا وتألم، وكانت الآلام التي ترد عليه كأنها مسامير تدخل في جسده، ولم يستطع أن يتحمل هذه الآلام، وكان يئن أنين الثكلى؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يكابر في قدر الله عز وجل، وفي ابتلاء الله تعالى، فالإنسان ضعيف، ولكنه نسي ضعفه، ولعل ذلك من جراء ما كان يشربه من الخمر.

    إطلاق كلمتي (ظبية ومها) ومعانيهما اللغوية

    قال هنا: (يا ظبيةً أشبه)، تعرفون في النداء أن (يا) حرف نداء، يقولون: إنها أم الباب، لأنها هي الأكثر في الاستعمال، وينادى بها المتوسط، هذا في الغالب، فإذا أردت أن تنادي القريب قلت: أمحمد، وظبيةً نصبها؛ لأنها نكرة غير مقصودة، وإن كانت في الأصل مقصودة، لكنه نزلها منزلة غير المقصودة.

    (أشبه شيء) أي: يا ظبيةً أشبه ما تكون بالمها، أو يا ظبيةً شبيهةً بالمها، شيء هذا من ألفاظ العموم، يعني جنس يدخل فيه أشياء كثيرة ليس بعده إلا كلمة الوجوب أو الجوهر، يعني لو قيل: إن أعم الكلمات أو أشمل الكلمات هي كلمة شيء لكان ذلك صدقًا، حتى قال بعضهم: إن المعدوم شيء؛ لأن الله يقول: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، والزلزلة لم تحصل، ولكن هذا ليس بصحيح بل مغالطة.

    والله تعالى يقال عنه: شيء، لقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19].

    المها: اسم جمع مهاة، وكل ما كان مفرده واحداً مؤنثاً بالهاء يقال عنه: اسم جمع، يقال عن بقرة الوحش مهاة، ويقال عن الظبية مهاة، ويقال عن الشمس مهاة.

    قال الشاعر:

    ثم يجني الظلام رب رحيم بمهاة شعاعها منشور

    كل ذلك يسمى مهاة، ويسمى أيضاً بعض أنواع من البقر ظبية، فالظبية هي واحدة الظباء، وتطلق على ما سوى البقر.

    هنالك من فقه اللغة ما بين هذين القوسين، إذا أردت أن تعبر عن أرض فيها ظباء كثير تقول: أرض مظبأة، ولد الظبية يسمى الطَّلى بالفتح، وأما الطِلى فهذا جمع طلية وهي العنق، والطلاء الخمر، فهو يسمى طَلى فإذا مشى قيل له: غزال، فإذا طلع قرناه وقويا يقال عنه: شادن، ثم يقال عنه: خِشف بكسر الخاء، ثم يقال عنه: رشاء، لهذا تجدون بعض أسماء البنات رشاء من هذا، والرئم الأبيض الخالص من الظباء، والقلهب: المسن منها، وظبي أعطف: معطوف القرن، والسرب: القطيع من الظباء، وكذلك الصديع، والبغام صوت إناثها خاصة.

    معنى الخزامى والأشجار

    و(الخزامى) نبت طيب الرائحة، والأشجار جمع شجر، لكن الشجر نوعان: هنالك شجر له ساق وهذا يسمى شجراً، والشجر الذي ليس له ساق قد تسميه العرب النجم، ولذلك حينما تريد أن تذكر الشجر الذي له ساق مع الشجر الذي ليس له ساق تذكر قول الله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6]، فقد قال كثير من المفسرين: إن النجم هاهنا هو هذا الشجر الذي ليس له ساق كاليقطين يقال له: نجم، والآية الآن يمكن أن يدخل فيها معنى النجم الذي في السماء.

    ومن عجائب القرآن أنه يأتي اللفظ ويحتمل المعنيين أو الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة أو أكثر من ذلك، ويكون التفسير بهذه المعاني كلها صحيحاً، ولذلك أمثلة كثيرة، وسنذكر هذا الكلام إذا جاء إن شاء الله وقت مناسب للكلام على المشترك وإعمال المشترك في معنييه أو في معانيه.

    تفسير هذا البيت إجمالاً أن هذا الرجل ينادي ويقول: يا أيتها المحبوبة الشبيهة بالظبية في جلدها، الشبيهة بالمهاة في عينيها؛ لأنه أراد أن يأخذ من كل واحدة لقطة يصورها، من المهاة شيئاً ومن الظبية شيئاً، ثم أراد أيضاً أن يزخرف فذكر أنها ترعى الخزامى أي التي ترعى طيب النبات في أحسن مرعى، أما النقا فهو الرمل كما يذكره هنا.

    1.   

    شرح قول الناظم: (إما تري رأسي حاكى لونه...)

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك:

    [إما تري رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى]

    معنى (إما) في قول الناظم: (إما تري رأسي...)

    لفظ (إما) جاء في القرآن: فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ [مريم:26]، هذه (إما) الشرطية مركبة من إن وما بعدها زائدة، وليست زائدة، فليس هنالك بالاستقراء والتتبع زائد في القرآن، وقد لا يكون أيضاً حتى في اللغة العربية، بل لا بد أن يكون لذلك الحرف معنىً، وإن كان في الإمكان أن نستغني عنه ويصح المعنى، وإنما قالوا عنه: زائد لأنه يمكن الاستغناء عنه، ولكن هذا المعنى سوف ينقص قليلاً، وهذا بالنسبة للقرآن فقد تتبعته كله.

    وأما في لغة العرب فقد يوجد في الناس من يدخل حرفاً لا سيما في الشعر ويكون للزيادة، فقد تكون (إما) بجملتها شرط، كلها شرط وليست إن وحدها، بل إما، وفيها معنى الظرفية؛ لأن المسألة مرتبطة بوقت، فالظرف موجود لا بد أن يأتي، هو قال: (تري) لأنه مجزوم بإن أو بإما، والنون حذفت كما تعلمون في الأفعال الخمسة.

    (رأسي) هذه الياء تفتح ولا بد من أجل أن يستقيم الوزن، وليس بضرورة، بل هذا جائز وهو موجود في القراءات، وبعض القراء يفتح ياء الإضافة وبعضهم يسكنها، (حاكى) في اللغة العربية معناها شابه، تقول حاكى رأسي أي يشبهه أو يشابهه، و (طرة) بمعنى حاشية.

    بيان الوقت المسمى بالصباح والمساء

    والصبح: الصبح معروف هو أول النهار من الفجر، وبعضهم يقول: إنه من بعد منتصف الليل، والمساء من الزوال، وبعضهم يقول: إنه من العشي من آخر النهار، وبعضهم يقول: إنه يمتد إلى منتصف الليل، وبعضهم يقول: إنه إلى آخر الليل، وهذا ينبني عليه أحكام وأمور، ومنها ما هو شرعي، فحينما سأل ذلك الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( رميت بعدما أمسيت؟ )، بعض العلماء الذين يقولون: إن الرمي عندما يكون في آخر النهار يكون من المساء أيضاً، قد يطلق على النصف الثاني من النهار، فهو المراد به بقية اليوم المساء وليس الليل، فإن كان المساء يطلق على الليل من أول دخوله فقط فمعناه أن الرمي يكون في المساء في الليل، وعلى القول الأول أيضاً ليس فيه دليل إذا كان المساء يبدأ من منتصف النهار فإلى أين ينتهي؟ لم يقل أحد: إنه ينتهي إلى المغرب، فهو بعض النهار وبعض الليل، فقد يكون ذلك الرامي الذي رمى بعد أن أمسى رمى في الليل، والمسألة واسعة بالنسبة للشرع، الرمي في آخر النهار وفي الليل.

    إذاً (طرة صبح) أو صِبح إذا أردت أن تكسر الصاد فلا بأس، لكن لا داعي له، ولا تحتاج إلى ذلك، ولكن بعض الناس يتقعر في الألفاظ ويأتي بالوحشي من كلام الأعراب، أو يأتي بلغة نادرة لا حاجة لها، يعني أنك لا تحتاج إلى هذا لا في ضرورة شعرية ولا غيرها، فيصح أن تقول: صُبح و صَبح و صِبح في الشعر؛ لأنه إذا تعاقبت الحركات فكل ذلك سواء، المهم السكون فقط، لا يختلف الوزن إذا كانت كسرة أو ضمة أو فتحة، إلا إذا أردت أن تعرفنا بأن فيها لغة فقد أفدتنا، وجزاك الله خيراً.

    اشتقاق الدجى

    (تحت أذيال الدجى)، الأذيال معروفة وهي أطراف الثوب.

    والدجى: اسم جمع مفرده دجية كظلمة وزناً ومعنى، وهنالك كلمات في اللغة العربية تكون الكلمة المفسرة متفقة مع تفسيرها في الوزن وفي المعنى، بل أحياناً وعملاً أيضاً، كما سوف يأتيكم في كلمة آض، فآض كصار وزناً ومعنىً وعملاً، احفظ هذا فإن هذه الفائدة خير لك من ألف ريال، آض كصار وزناً ومعنىً وعملاً؛ لأنها تعمل عمل صار ترفع الاسم وتنصب الخبر.

    هنا الشيخ أملى بيتين في الصبح هما لـابن مالك في المثلث ...

    وهناك نظم ممتع لرجل اسمه حسن قويدر في القرن الثاني عشر وبعض الثالث عشر أيضاً، ابن مالك بناه على الباء، وكلاهما من الرجز، وهذا بناه على الراء، اسمع مثلاً كلامه في الصبح قال:

    وصبح المصدر منه صَبح والصبح قد يقال فيه: صِبح

    وأصبح وفي الجميع صُبح من صبحت فاعمل بلا إرهاب

    المعنى الإجمالي يقول: لو نظرت إلى رأسي اليوم لرأيت رأساً قد ذهب سواده، وصار كالصبح الذي أذهب بياضه سواد الليل، هذه الصورة التي أرادها وشبهها هنا.

    1.   

    شرح قول الناظم: (واشتعل المبيض في مسوده...)

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك:

    [واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضى]

    يقول: إنه قد اشتعل الشعر الأبيض في الشعر الأسود اشتعالاً كاشتعال النار في جزل الغضى، هذا كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم:4]، أي: اشتعل شيب الرأس، كما قال الفرزدق:

    والشيب ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار

    لأن الإنسان حينما تكثر عليه الهموم والغموم يغزوه الشيب، ويكثر فيه؛ لأن هناك إفرازات في الجسد تفرز فيكثر بعد ذلك شيبه، وبعض الناس يقول: إن الشيب يكون من الخوف، والشيب لا بد أن يأتي كل إنسان، لكن من الناس من جسده قابل لهذا قابلية أكثر، وبعضهم تكون القابلية أدنى من ذلك، والناس يختلفون في هذا.

    إذاً فمعنى البيت: اشتعل بياض الشعر، الشعر لك أن تقول فيه: الشعْر والشعَر، هذا الحمد لله من سماحة اللغة، إن أردت أن تسكن العين فسكنها، وإن أردت أن تفتحها فافتحها:

    والعين في الشعر يجوز فيها وجهان قد صحّا فكن نبيها

    الفتح والسكون لكن أيهما أصح؟ ثم ما المروي هناك؟ كلام كثير في هذا، الحاصل أن هذا موجود في القاموس، وفي اللسان، وفي تاج العروس؛ لأن بعض الناس قال: لا يجوز إلا الإسكان، فالشعر والبعر يجوز فيهما الإسكان والحركة.

    وجود الترادف وحقيقته وأمثلته

    (المبيض) إذاً البياض، و(المسود) السواد، كلاهما اسم فاعل.

    (مثل) يعني شبه للتقريب، أولاً ليس هنالك كلمة معناها يساوي معنى كلمة أخرى في اللغة العربية مساواةً تامة أبداً، يعني ليس هنالك ترادف، لكن نقول هذا على سبيل التوسع، نقول مثل هذه الكلمة أو المرادف لها أما أن تكون بمعناها فهذا لا يوجد، فإن العربي حينما وضع لفظة لشيء ووضع لفظةً أخرى لشيء آخر هو لمح معنىً آخر، قد يكون موجوداً في المعنى الأول، أو قد يكون الواضع اختلف، كرجل من بني أسد وضع هذه الكلمة لهذا المعنى، وهذه الكلمة نفسها وضعها رجل آخر من قريش لمعنى آخر؛ لذا قد توجد أحياناً كلمة واحدة يكون لها معنيان، وأحياناً عشرة، وأحياناً خمسة وعشرين، وأحياناً مائة معنى ومعنى، كما في كلمة عجوز فإنها وجد لها مائة معنىً ومعنى، يعني مائة معنى وواحد في اللغة العربية، ومنها: أن العرب تسمي المرأة إذا كانت بلغت من الكبر عتياً عجوزاً.

    وكذلك تسمي الشابة عجوز، فالمرأة الشابة التي لا تزال طباقية في العشرين يسمونها امرأة شابة، لكن قالوا عنها: عجوز تفاؤلاً حتى تبلغ مبلغ العجوز.

    ويسمون الألف من كل شيء -ألف ريال أو ألف بقرة أو ألف ناقة- عجوزاً؛ لأنها آخر شيء عندهم، فالعرب لا تعرف المليون إنما تعرف ألف آخر شيء، ولذلك المليون في لغة العرب اسمه ألف ألف، وكلمة مليون هذه جاءت بعد ذلك وليست من لغة العرب، وإنما هي كلمة لعلها إنجليزية أو فرنسية أو إسبانية، مثل الريال، الريال يقال: إنها لفظة أسبانية، إلا أن الريال في اللغة العربية هو اللعاب، فلعلهم سموا الريال ريالاً من باب المجاز المرسل؛ لأنه يجعل اللعاب يسيل.

    والهلل هو أول المطر، وكذلك الهلل في الفلوس وهو أول الفلوس، هو أول شيء في النقد، وأول فئة الهلل، والقرش مأخوذ من قرش؛ لأن القرش هو الجمع الذي يجمع الشيء كما قال في القاموس من هنا ومن هنا، هذه العملية اسمها قرش، قرش يعني جمع وكسب.

    وأما الفلوس فمعروف جمع فَلس، ولا يقال: فِلس بكسر الفاء بل هي فَلس بفتح الفاء.

    أيضاً بالمناسبة لا يقال: فَراسة، إنما يقال: فِراسة بكسر الفاء، ( اتق فراسة المؤمن ) والفرق بينهما أن فَراسة لا وجود لها في اللغة العربية، فننطق بما وجد؛ لأنها اسم وليست مصدرًا، لكن إذا كان الفراسة بالفتح مصدراً من فعل الفراسة فهذا ممكن، لكن الاسم فراسة بالكسر.

    وأما المليار فهذا أبعد وأبعد ولا تعرفه العرب، والبليون هو المليار لكنه هذا في اصطلاح وهذا في اصطلاح، والذي أخرجنا إلى هذا الكلام كلمة (مثل) معناها شبه، فعندنا شِبه وشَبه وشبيه، ومِثل ومَثل ومثيل، وبِدل وبَدل وبديل، كل هذه الألفاظ تقرأ بهذا اللفظ، لك أن تقول: مثل، ولك أن تقول: مثل، ولك أن تقول: مثيل، وكذلك شبه وشبه وشبيه، وبدل وبدل وبديل، وبديل ليس معناها مثيل، لكن هو فيه هذه اللغات الثلاث، وقد جمعتها في هذا البيت الثمين:

    وشبه مثل بدل كل نظير حمل وضاه جبلاً وكأمير

    يعني هو على وزن حمل شبه، ومثل وبدل.

    (وضاه جبلاً) يعني: شابه أيضاً أن يكون على وزن جبل فتقول: شبه ومثل وبدل، وكأمير فتقول أيضاً: شبيه ومثيل وبديل.

    وجزل بمعنى غليظ، قال ابن مالك، في المثلث:

    للقطع والعظيم قيل: جزل والجزلة القطعة وهي الجزل

    والجزل جمع أجزل إذ فعل جمع لما ضاهاه في استحباب.

    وجه المشابهة بين اشتعال الشيب واشتعال نار الغضى

    أما (الغضى) فهو شجر بطيء الخمود، والمعنى: أن تلك النار التي هي الشيب حينما اشتعلت في رأسي اشتعلت اشتعالاً، ومكثت طويلاً يعني بقي ذلك الاشتعال، بقي الشعر أبيض، كما يكون أيضاً الاشتعال بطيئاً في شجر الغضى، وأيضاً هنالك موضع اسمه الغضى، واجتمعا في قول الشاعر:

    إن الغضى لست أنسى أهله وهم شبوه بين ضلوعي يوم بينِهمُ

    هنا شبوه بين ضلوعي يوم بينهم، يعني يوم فراقهم، والبين في اللغة العربية الوصل والفراق فهو من الأضداد، والضدية موجودة في اللغة العربية، ومن ذلك قوله سبحانه: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام:94]، وفي قراءة: لَقَدْ تَقَطَّعَ بينكم [الأنعام:94] بضم النون على أنه ليس بظرف، بل اسم يعني وصلكم.

    معنى الاستخدام في البلاغة وذكر بعض أمثلته

    هذا البيت:

    إن الغضى لست أنسى أهله وهم شبوه بين ضلوعي يوم بينهم

    عليك أن تفهم كل شيء تسمعه هنا سواء كان من أبيات ابن دريد، أو من الأبيات التي هي نظم للشارح، أو هي من الأشعار التي يستشهد بها كهذا البيت.

    هو يقول: (إن الغضى لست أنسى أهله)، يعني بالغضى الموضع الذي يسمى الغضى، ثم قال: وهم شبوه، شبوه هذا ضمير أعاده إلى الغضى على أنه شجر، وهذا أسلوب ذكي في البلاغة يسمى الاستخدام، وهو أن تستخدم الشيء لمعنيين، وتعيد عليه ضميرين، وتعني بالأول المعنى الأول وبالثاني المعنى الثاني، ولا تذكر اللفظ الذي تعيد إليه الضميرين إلا مرةً واحدة، كما قال هنا، مثلاً لو قلنا في العجوز: دفنت اليوم عجوزاً - في القبر يعني - وتزوجتها، الضمير هنا أعاده على المعنى الآخر الذي هو معنى الشابة، ومعنى الأول العجوز الكبيرة في السن، هنا يقول: إن الغضى لست أنسى أهله، ثم قال: وهم شبوه بين ضلوعي يوم بينهم، ومثاله أيضاً: أن الغزالة في اللغة العربية يراد بها أنثى الغزال، ويراد بها الشمس، يقول الشاعر:

    وللغزالة شيء من تلفته ونورها من ضيا خديه مكتسب

    وللغزالة شيء من تلفته، ماذا أراد؟ الغزال الحيوان، ثم قال: ونورها أراد الشمس، يعني نور الغزالة على معنى الشمس، ومثل ذلك بيت قلته أنا في الجبن، والجبن في اللغة العربية تعرفون أنه الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم في الأشياء الثمانية: ( أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من ضلع الدين وقهر الرجال )، فهذا معنى، وهناك معنى آخر نعرفه وهو الجبن الذي نأكله، وهو أيضاً بضم الجيم وليس بالكسر الجِبن، فقلت هذا المعنى في هذا البيت:

    وأكره الجبن في نفسي وآكله أكل المحب له فاستعمل النظرَا

    المعنى واضح، أوسع من ذلك إذا استعملته أيضاً كذلك في ثلاثة معان أو أربعة أو خمسة أو أكثر، مثال ذلك أيضاً من هذه القصيدة التي نظمت فيها على هذا المنوال كثيراً من هذا اللون، العير في اللغة العربية يطلق على الرجل السيد الشريف من باب التوسع، أو هو وضع لغوي لبعض العرب، ولكنه في الأصل يطلق على الحمار.

    وللفائدة ما نحتاج إذا ذكرنا الحمار أن نقول -أعزكم الله- هذا من كلام الناس وبدعهم التي لا حاجة لها، فهو مخلوق، وقد تلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرؤه في القرآن، وكذلك لم يكن هذا أدب الصحابة ولا أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فلن يصيبكم شيء من لفظ هذا الحمار، فلا داعي إلى الأدب البارد.

    ويطلق العير أيضاً على الوتد الذي يثبت في الأرض وتربط فيه الخيمة، ويطلق أيضاً على الطبل، تعرفون الطبل، وكل شيء بين شيئين يسمى أيضاً عير، وحتى الجمل أيضاً يقال عنه: عير، وفي كلام خالد بن الوليد: وها أنا أموت كما يموت العير. وأما قول بعض المصححين: إنه البعير وليس العير، فليس فيه مشكلة بعير أو عير، لا نضيع الوقت لتحقيق مسائل لا فائدة فيها.

    وهناك معان أخرى، ابن مالك نفسه في المثلث يقول:

    حمار العير وطبل ووتد ورجل وجبل وما تجد

    من ناتئ وسَط شيء ويرد وهو بمعنى سيد الأصحاب

    هذه معاني، ومن المعاني التي لم نذكرها أيضاً جبل في المدينة اسمه عير، وجبال أخرى تسمى عير؛ لأن الجبل يسمى أحياناً بصورته حينما يكون شكله مثل العير، أحياناً يكون مثل الجمل، وكذلك رجل كان اسمه عير ابن فلان، والعرب كانت تسمي بهذا، وهناك عياض بن حمار، كذلك العرب تسمي كلبًا وصخرًا ونحو هذه الأشياء حتى تفجع الأعداء؛ لأنه كما سئل بعضهم عن ذلك فقال: نحن نسمي أبناءنا لأعدائنا وموالينا لنا، يسمون المولى رباح ويسار، فهذا المعنى أيضاً في هذا البيت الذي أيضاً ذكرته:

    وأركب العير في عير وأربطه فيه ومنه وأخشاه إذا نظرَا

    أخشاه من هو؟ السيد، وهذا سيأتي أيضاً ما له نظائر، سوف يأتينا بيت جميل جداً أيضاً فيه شيء من هذا المعنى بعد قليل.

    1.   

    شرح قول الناظم: (فكان كالليل البهيم حل في...)

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك:

    [ فكان كالليل البهيم حل في أرجائه ضوء صباح فانجلى ]

    هذا تقييم للصورة السابقة، يعني بعد أن اشتعل رأسه شيباً ما الذي حصل له بعد ذلك؟ كيف تمت الصورة؟ صورها على هذا النحو أنه بعد أن اشتعل المبيض في مسوده اشتعالاً مثل اشتعال النار في جزل الغضى، كان كالليل البهيم حل في أرجائه ضوء صباح فانجلى؛ لأنه قد تم واشتعل الشعر حتى أصبح كله أبيض.

    إذاً قوله: (أرجائه) معناها نواحيه، هذه من ألفاظ القرآن الكريم، وسوف نعتنى بالألفاظ التي جاءت في القرآن الكريم، وربما نؤصلها في بعض الأحيان. نعود إلى معنى أصلها كما ذكره ابن فارس أو غيره في اللغة العربية، فالأرجاء هي الأنحاء، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا [الحاقة:17].

    معنى البيت يقول: فصار رأسي مثل ليل مظلم جاءه النهار من جميع نواحيه، فلم يبق لسواده أثر، فأصبح كله أبيض.

    1.   

    شرح قول الناظم: (وغاض ماء شرتي دهر رمى...)

    يقول بعد ذلك:

    [ وغاض ماء شرتي دهر رمى خواطر القلب بتبريح الجوى ]

    بدأ الآن يتكلم عن قوته بأنها ذهبت، الآن تلك علامات من علامات الهم والحزن، والهموم التي ركبته هذه علامة، لكن الآن يتحدث عن أشياء خفية، يتحدث عن قوته بأنها بدأت تذهب.

    (غاض) يعني نقص، وهي فعل متعد، (غاض ماء شرتي)، شرتي أي: قوتي وحدتي.

    الدهر .. معناه واشتقاقه، والجواب على من جعله من أسماء الله

    (دهر)، الدهر هو الزمان، وبعضهم قال: إنه ليس بمشتق، وبعضهم قال: إنه مشتق؛ لأنه من دهر بمعنى غلب، والأصح أنه مشتق، وعده ابن حزم من أسماء الله تعالى، ولكن العلماء لم يقبلوا هذا، وإنما عده من أسماء الله؛ لأنه جاء في الحديث الذي في الصحيح: ( يؤذيني ابن آدم، فيسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار )، قال محمد بن داود، هذا ابن داود الظاهري: إن الحديث نقله الرواة بلفظ آخر غير معناه، وإنما لفظه: ( يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار )، مبتدأ وخبر، قال: لا يقرأ على هذا الوجه، وإنما هو ( وأنا الدهر أقلب الليل والنهار )، يعني: وأنا أقلب الليل والنهار، والدهر ظرف، يعني: أنا كل يوم أقلب الليل والنهار، أو أنا أقلب الليل والنهار الزمان كله أو الدهر كله، لكن في رواية أخرى: ( فإن الله هو الدهر )، يحتمل معنا هذا التوجيه، ولكن الظاهر أن هذا اللفظ ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه لا يعطي معنىً عظيماً، وشأن أسماء الله تعالى أنها أسماء حسنى، فإنها تعطي معاني حسنة، ودليل ذلك أنهم قالوا: وما يهلكنا إلا الدهر. فلو كان الدهر هو الله لكان كلامهم صحيحاً، ولكنه نعى عليهم هذا الكلام، ولكن لا يشنع على أبي محمد ابن حزم تشنيعاً كبيراً لأنه قال هذا القول؛ فإنه أخذ بالظاهر، وربما جهل المعاني الأخرى، فهذا معنى الدهر.

    ضابط استعمال ما كان على وزن فواعل

    (خواطر) جمع خاطر، أو خاطرة إن شئت، لكن فواعل هذه في اللغة العربية لا تكون جمعاً إلا للمؤنث، أو للمذكر غير العاقل، أما المذكر العاقل فلا تكون، لا تقل عن طالب: طوالب، أو بارع: بوارع، ولا تقل: هؤلاء طلاب بوارع؛ فإنه سوف يستنوق الجمل، ويصبح هؤلاء الرجال نساءً، وتصبح قد أنثتهم حينما قلت: بوارع، إنما تقول: طلاب برعة، أو إن شئت أن تصفهم بجمع المذكر السالم فقل: بارعون، وهذا أقوم قيلاً، وأقوى قبيلاً، وخير لك وأسهل، فإنما يكون فواعل جمعاً لفاعل الذي ليس بعاقل، أو فاعلة عاقلة أو غير عاقلة، فلك مثلاً أن تقول في حائض: حوائض، وطالق: طوالق، وناهد: نواهد، وكذلك ما كان على وزن فاعلة نحو: بارعة فتقول: بوارع، كما قال ابن مالك :

    فواعل لفوعل وفاعل وفاعلاء مع نحو كاهل

    جاءنا في كلام العرب فوارس جمع فارس، والفارس مذكر، ولكنه جمعوه على فواعل، قالوا: هذا شاذ، لكنهم لم يجمعوه هذا الجمع إلا لنكتة وهو أن الفروسية لا تكون في النساء فلا إشكال؛ لأنه لم يلتبس بالمؤنث، كما أننا لا نحتاج إلى تأنيث حائض، فلا نقول: حائضة؛ لأنه ليس من الرجال من يحيض، وكذلك طالق لا نقول: طالقة، ومرضع لا نقول مرضعة.

    أمثلة للتفريق بين الصفة الحادثة والصفة اللازمة

    وهنالك فرق بين مرضعة ومرضع، وقد جاءت مرضعة في القرآن الكريم: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2]، فحينما تقول: مرضعة تعني الحدث، وأنها الآن ما زالت ترضع، كأنك تصف الحدث هي ترضع الآن فهي مرضعة، فالتأنيث لبيان ملازمة صفة الإرضاع لها حتى لو لم تكن ترضع الآن، أو لم يكن في ثديها حليب، تسمى مرضعاً؛ لأنها صفة لازمة لها من حيث إنها امرأة.

    ولذلك نفرق بين قاعد وقاعدة، فالمرأة القاعدة يعني القاعدة على الكرسي، أو القاعدة على الأرض، يعني قعدت بعد قيام، أما القاعد فهي المرأة التي قعدت عن النكاح، وأصبحت هذه الصفة ملازمةً لها، ولهذا قوله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور:60]، هذا جمع قاعد وليس جمع قاعدة، كما أن هناك فرقاً بين حامل وحاملة، فالتي تحمل على رأسها هذه حاملة، أما إذا كانت حاملاً يعني في بطنها حمل فهذه لا تحتاج إلى تاء، أما تلك فتحتاج إلى تاء فارقة؛ لأن من الرجال من يحمل على رأسه، ومن الرجال من يقعد، لكن حينما تكون صفة ملازمة مثل حائض ومرضع وطالق ونحو ذلك فإن هذه من خصائص النساء، فلا تحتاج إلى تاء فارقة.

    الرد على من يقول: ما سمي القلب إلا لتقلبه والإنسان إلا لنسيانه

    فالخواطر هي الأفكار التي تدور في القلب، والقلب معروف لا يحتاج إلى توضيح، إلا أن هناك مسألة، وهي أن بعضهم يقول: إنه ما سمي القلب قلباً إلا لأنه يتقلب وهذا ليس بصحيح، وكذلك ما سمي الإنسان إلا لأنه ينسى؛ وهذا أيضاً غير صحيح، ولو كان كذلك لم يكن إنساناً وإنما كان نسياناً؛ لأن الإنسان مأخوذ من الأنس وليس من النسيان، وإن كان هنالك خلاف بين العلماء في هذا لكنه لا فائدة فيه.

    و (القلب)، له عدة أسماء: الفؤاد، البال، الجنان، الخلد، الروع، الخزان، الجلجلان، وكل اسم من هذه الأسماء له معنىً خاص، والقلب هو المعنى العام الذي يشمل هذه المعاني.

    (بتبريح) يعني بشدة، و (الجوى) هو المرض الذي ينشأ من الحب، وكم من قتيل في سبيل الحب بلا دية ولا قود، يعني هناك شهداء في الحب كثير، شهداء الحب في لغة الناس، وفي معنى ذلك الحديث الذي يصححه بعضهم: ( من عشق فعف، فكتم، فمات، فهو شهيد )، إلا أن هذا الحديث فيه رجل اسمه سويد بن سعيد الأنباري، كان رجلاً ضعيفاً، حتى قال يحيى بن معين: لو أن عندي سيفاً ورمحاً لغزوت سويداً. ابن الأنباري يقول: وهذا من باب المبالغة، يعني لا يفهم أنه يريد أن يفتك به، لكن أحياناً يقولون هذا الكلام من باب التحذير من الشيء، كأن يقول شعبة مثلاً: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس.

    مراتب الحب

    دعونا الآن نقرأ هذه الجمل في مسألة الحب؛ لأنها ترد كثيراً، وأول مراتب الحب - هذا من فقه اللغة -: الهوى، وهو ميل النفس إلى المحبوب، قلنا: العلاقة وهي الحب اللازم للقلب، وإذا اشتد فهو الكلف؛ لأن فراقه يشق عليه، ثم العشق، وهو أمر أسماء الحب، ولا يكاد يوجد في شعر المتقدمين، ولم يرد في القرآن والسنة الصحيحة، وحديث ( من عشق فعف فكتم ) ضعيف، وإنما كان مذموماً؛ لأنه يفضي إلى فساد الفكر، قيل: إنه مشتق من اسم شجر يقال له: العشق إذا دق لزج باليد، وكذلك العشق يلصق بالقلب ولا يستطيع أن يتخلص منه القلب، ثم الشغف لبلوغه شغاف القلب أي حبته.

    وأما الشعث بالعين المهملة فهو أن يحرق الحب القلب إحراقاً، ثم الجوى، هذه المعاني الحمد لله سلمكم الله منها، هنالك من عانى منها وهو الذي يستطيع أن يعبر عنها، لكن أنا لم أعانِ منها، ثم الجوى وهو الحرقة وشدة الوجد يعني شدة الحب، ثم التتيم بأن يستعبده الحب، ومنه تيم الله، أي: عبد الله، كما قال ذلك المغفل:

    لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائيا

    وصل به الحال إلى هذا المآل، نسأل الله السلامة، ثم الهيام بضم الهاء، أن يهيم على وجهه بحيث يصبح مجنوناً كمجنون ليلى، يقولون: إنه لم يعرف في تاريخ الحب أن امرأةً جنت بسبب الحب، إنما المجانين من الرجال هم الذين يصيبهم الجنون، هل لأنهم أضعف عقلاً، أم لأنهم أصدق حباً؟ الظاهر أنها الثانية، وفي ترتيبها وجوه أخرى، والظاهر أن التتيم من آخرها.

    الشرح الإجمالي للبيت يقول: الذي أنقص ماء قوتي حتى أنقض ظهري هو الزمان الذي رمى بغوائر الحب والهوى على قلبي المتيم.

    ما رأيكم أن نقف هنا عند هذا الكلام الحسن.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755979601