إسلام ويب

الأماني والعملللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حذر الله عباده من الركون إلى الأماني، خاصة ما يتعلق بجزاء الأعمال؛ كل ذلك حتى يهتم كل إنسان بإصلاح عمله، الذي سيقبل به على حكم عليم عدل لا يظلم عنده أحد.

    1.   

    قبس من قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب)

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:123-124].

    نقف وقفات مع هاتين الآيتين من كلام الله تعالى ففيهما تحف وهدايا من الله الرءوف الرحيم جل شأنه لعباده.

    من نعم الله على عباده تحذيرهم من المجهول

    في هاتين الآيتين يبدأ سبحانه وتعالى فيهما بنعمة عظيمة من نعمه وهي نعمة التحذير من المجهول، أيها الإنسان! إنك مقدم على ما لا تعرفه، ولكن الله جل شأنه بلطفه ورحمته أخبرك بما هو قادم وما أنت مقدم عليه، أنت مقدم على الجزاء، والجزاء لن يكون بالأماني، الجزاء لن يكون إلا بما تعمل، فهذه أول النعم نعمة التحذير: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123].

    ومما روي في سبب نزول هذه الآية: أن المسلمين واليهود تقاولوا فافتخر كل بما عنده, فزعمت اليهود أنهم خير الناس، فقالوا: نبينا خير الأنبياء، وكتابنا خير الكتب، فقال لهم المسلمون: نبينا آخر الأنبياء، وكتابنا مهيمن على كل الكتب، فأنزل الله عز وجل رداً على الجميع هذه الآية: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ[النساء:123]، إنه التحذير من الركون إلى الأماني، فالأماني وحدها لا تجدي، الأماني وحدها لا تنفع.

    والأماني معناها حديث النفس المجرد عن العمل، حديث للنفس وتقول بالأماني بدون عمل، فحذرنا الله -عز وجل- من الركون إلى الأماني، فليس بأمانيكم، والأسلوب العربي يقتضي أن هناك كلمة محذوفة من هذا السياق؛ لأن الجملة لم تكتمل بألفاظها في الذكر، فليس بأمانيكم، يعني: ليست النجاة بأمانيكم، ليس كل من تمنى النجاة حصلت له النجاة لمجرد أمنيته، وليس كل من تمنى الفوز والظفر حصلت له بمجرد أمنيته، فليست النجاة وليست الأمور المستقبلية والظفر بما يحبه الإنسان بمجرد الأماني.

    وهذا كما قلت: من نعم الله العاجلة (التحذير مما أنت مقدم عليه أيها الإنسان)، في سورة الرحمن يعدد الله سبحانه وتعالى نعمه على الناس كما نقرأ جميعاً في تلك السورة العظيمة، ويقول لهم بعد كل نعمة: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، بأي نعمة من نعم الله تكذبان! يا معشر الجن والإنس، إلى أن قال لهم في سياق السورة: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:35-36]، يذكر لهما هذا العذاب العظيم، فيقول: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ ، ترسل عليكم النار بأنواعها وأطيافها، النار الخالصة من الدخان، والنار المختلطة بالدخان، ثم بعد هذا التهديد والوعيد يقول لهم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:36].

    أي نعمة في ذكر هذه النار؟ أي نعمة في ذكر هذا الوعيد؟ إنها نعمة عظمى، نعمة التحذير، حتى تستعد أيها الإنسان، فلا تقدم على شيء ما كنت تتوقعه، ويبدو لك ويظهر لك من الله ما لم يكن في الحسبان، كما قال الله عز وجل عن الكفار: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، وحتى تقدم على أمر أنت فيه على بينة، وتمضي في طريقك على بصيرة، ساق الله عز وجل إليك أنواع التحذير في كتابه.

    وقال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، يعني: من رأفته بالعباد، ومن رحمته بالعباد أن حذرهم حتى تنقطع المعاذير، وحتى يمضي الإنسان في طريقه على محجة ونور.

    التحذير من الركون إلى مجرد الأماني

    من هذه التحذيرات: التحذير من الركون إلى مجرد الأماني: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، والأماني كما قلت: الركون إلى حديث النفس المجرد عن العمل، فهذه لا تفيد الإنسان شيئاً، ولا يجزى بها الإنسان شراً كانت أو خيراً، كما أن الله عز وجل تجاوز عن هذه الأماني, وتجاوز عن حديث النفس في الشر، فلا يؤاخذ به الإنسان، ولا يحاسبه عليه، فكذلك ينبغي لهذا الإنسان ألا ينتظر الجزاء بمجرد الأماني.

    وهذه الأماني أنواع وأصناف باختلاف الناس، فالناس منهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والشيطان وعد بأنه سيمنيهم جميعاً، سيدخل عليهم جميعاً من باب الأماني، كما قال الله عز وجل عنه في سورة النساء: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، قال: (ولأمنينهم)، فوسيلة الشيطان العظمى وسلاحه الماضي سلاح الأماني.

    الأماني أيها الإنسان لا تجدي بمفردها شيئاً، منى أقواماً من الكفار فساق إليهم أنواع الأماني، وأنه لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء ولا نشور، فارتكبوا كل ما حلا لهم، وابتعدوا عن الله أيما مبعد، وقالوا: إنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، ومضوا في هذا الطريق.

    ومنى أقواماً آخرين بالنفاق فقال لهم: أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر فتسلم دماؤكم وتسلم أعراضكم وتسلم أرواحكم, وتكونوا في باطن أمركم مع من تحبون، مناهم بهذا فسلكوا هذا الطريق.

    ومنى آخرين ممن صح إسلامهم وثبت إيمانهم بالفوز والظفر بالجنة لأنهم من أهل الإيمان، مناهم بارتكاب الحرام والجريان في الموبقات تحت أماني أنهم من أهل الإيمان، وأنهم من أهل الإسلام، فهم يسوفون بالتوبة، لا يبادر الواحد منهم إلى أن يتوب لأنه يتمنى على الله الأماني، والله في هذه الآية يحذرنا من هذه الأماني بأصنافها: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ، ويروى في الحديث وإن كان فيه مقال أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( الكيس )، يعني: الحاذق، اللبيب، الفطن، ( الكيس من دان نفسه )، من حاسب نفسه، ( والعاجز من أتبع نفسه هواها, وتمنى على الله الأماني ).

    سل نفسك ما ظنك بالله حينما تتجاوز حدود الله! ماذا تظن في الله؟ وماذا تنتظر من الله حين تضيع فرائض الله، وما الذي دفعك إلى هذا؟

    ستجد الجواب الوحيد: إنه الأماني، ويوم القيامة يقول بعض الناس لبعض كما حكى الله سبحانه وتعالى في وسط سورة الحديد أن أقواماً يتبعون المؤمنين يريدون أن يستنيروا بنورهم، ويصيروا إلى مصيرهم، فيقولون لهم: كلا، ويقولون لهم: وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، إنكم وقعتم فريسةً سهلة للأماني. فالأماني ينبغي ألا تكون حاجزاً بينك وبين العمل.

    مناط المجازاة

    ثم يقرر سبحانه وتعالى في هذه الآية سنةً من سننه سبحانه، وطريقةً من طرائقه في التعامل مع عباده، وأنه يجازيهم بأعمالهم، وأن هذا هو العدل: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، هذه هي القاعدة: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ .

    العدل الإلهي أن يجازى الإنسان بعمله: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]، لا يخاف ظلماً فتزاد عليه سيئات من سيئات غيره، ولا يخاف هضماً فلا تنقص حسناته إنما يجزى بعمله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، هذه سنة الله عز وجل في عباده، كما قال في آخر سورة الأنعام: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160] قانون الله أن صاحب السيئة يجزى بمثلها ولا يزاد عليها: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

    لكن يتفضل الله ويجود سبحانه ويتكرم على بعض أصحاب المعاصي فيترك لهم ما فعلوا، ويتجاوز عما أساءوا إذا لقوه بالإيمان، إذا انتقلوا إليه بالإسلام، يتجاوز عن من يشاء، ولكن هذا على خلاف السنة الإلهية، فالسنة الإلهية أنه يجازي كل أحد بعمله، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ، وليس ثم محاباة في الجزاءات الإلهية، فإن الله عز وجل له سنن تجري على الجميع.

    لما نزلت هذه الآية جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه : ( أن أبا بكر كان ممن حضر المجلس حين نزلت، قال: فوجدت انقصاماً في ظهري، يعني: كأن ظهري قصم لما سمعت هذه الآية، وقلت: يا رسول الله! كلنا يعمل السوء )، يعني: من هذا الذي ينجو من السوء؟ وإذا كنا سنجازى فالأمر عسير، والأمر خطير، فقال له عليه الصلاة والسلام كما صح في الحديث عند أحمد و الترمذي : ( يغفر الله لك يا أبا بكر ! ألست تحزن، ألست تمرض، ألست تصيبك اللأواء)، يعني: تنزل بك في الدنيا أنواع المصائب، ( قال: بلى يا رسول الله! قال: ذلك مما تجزون به ).

    هذا جزاء الله لمن أحبهم الله، فمن أحبهم الله وأراد أن يطهرهم من ذنوبهم قبل لقائه فإنه يمحصهم في الدنيا، فتصيبهم اللأواء، يصيبهم الحزن، تصيبهم المكاره، فيجعل الله عز وجل هذا جزاءً لإساءتهم، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، وإلا فالقانون لا يفرق بين أحد وأحد.

    الأماني سلاح الشيطان

    الأماني وحدها لا تفيد، الأماني وحدها لا تنفع، ونسمع يوماً بعد يوم، ونرى بأمهات أعيننا من غرهم الشيطان، يذبحون عباد الله، ويقتلون في خلق الله، ويستبيحون حرمات الله، وبعد ذلك يمنيهم الشيطان إن كانوا صادقين بأنواع الأماني، وليس إلا الركون على الأماني، والله عز وجل يقول: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].

    أيها الأحبة! في هذه الآية حث على المبادرة بالإصلاح، وحث على المبادرة بالتوبة قبل أن ينزل بك الجزاء، إن كنت لبيباً، إن كنت عاقلاً، إن كنت فطناً، فسارع إلى إصلاح ما وهى منك قبل أن يُصلح، سارع إلى أن يصلح ما فسد منك قبل أن تجازى عليه، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ، لكن هذا السوء سيمحى، هذا السوء سيزول من صفحاتك إذا سارعت إلى التوبة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ).

    فمن كان يريد النجاة، من كان يريد الهروب من هذا المصير مصير السيئة، فعليه أن يبادر إلى محوها، عليه أن يبادر إلى مسحها، وذلك بالتوبة إلى الله، بالرجوع إلى الله، وإلا فإنه سيناله ما نال غيره ممن أساءوا.

    1.   

    من سنة الله عدم التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات

    أيها الإخوان! إن من حكمة الله البالغة ومن علمه المحيط سبحانه وتعالى الذي أنزله في كتابه وأقام عليه شرعه وملته، أنه لا يفرق بين المتماثلات, ولا يجمع بين المختلفات، فالأشياء المتماثلة جزاؤها واحد، والأشياء المختلفة لا يمكن أن تجمع في حكم واحد، فالمسكرات سواءً كانت خمراً أو غيره، حكمها في دين الله واحد، والطيبات مهما اختلفت أسماؤها وتشكلت أنواعها فإن حكمها في دين الله واحد.

    فشريعة الله قامت على التسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، وبهذا تنتظم الحياة، وبهذا تقوم شئون الدنيا، أن يعتبر الناس فيلحقوا النظير بالنظير فيعطونه الحكم نفسه، ويفرقوا بين المختلفات، فلهذا حكمه، ولهذا حكمه.

    والثورات القائمة اليوم في الأوطان العربية أحوج ما تكون إلى إحياء هذه الطريقة الربانية، التفريق بين المختلفات، والتسوية بين المتماثلات، وألا يصبح شعاراً واحداً طاغياً في جميع الساحات، حيث أحسن المحسن، وحيث أساء المسيء، ليس من العدل والإنصاف أن نقيم ميزاناً واحداً نزن الجميع بذلك الميزان.

    ينبغي أن يعطى للمحسن قدر إحسانه، وللمسيء قدر إساءته، وإلا فإننا مخالفون لقانون الله، مخالفون لسنة الله، مخالفون لما أقام الله عز وجل عليه العباد والبلاد والشرائع والأديان، لا بد من التفريق بين المختلفات، فيعطى كل مختلف ما يليق به من الحكم.

    ومن الجور ومن الظلم أن يساوى من استباح الدماء وقهر الحريات واستباح البلاد وهمش الناس أزماناً طويلة بمن لم يفعل ذلك كله وإن أساء وظلم، فيحاسب كل واحد على قدر ظلمه، ويطالب من كل مسيء أن يصلح بقدر ما أفسد، وأن يصلح بقدر ما وهى.

    العدل الإلهي: أن يطالب كل إنسان بالإصلاح بقدر فساده، وإلا فإننا نخالف قانون الله عز وجل، في هذه الآية الكريمة حث على إقامة هذا الميزان, وأن الله عز وجل يكل الناس إلى أعمالهم، ويوفيهم أجورهم بقدر ما كسبوا، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    وقفة مع أحداث اليمن

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! وكما اعتدنا أن نقف بين أسبوع وآخر مع حدث من أحداث هذه الأمة في بلاد الله المتفرقة هنا وهناك، كنا من قبل نتحدث عن تونس، ثم تحدثنا عن مصر، ثم تحدثنا عن ليبيا ولما ينته الحديث بعد، واليوم يضاف إلى رصيد الحديث أحداث اليمن وما فيها، اليمن التي كانت منذ عهد الإسلام الأول خزانة الإسلام ومدده، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه في الحديث: ( إني أجد نفس الرحمن من هاهنا، وأشار إلى اليمن )، (أجد نفس الرحمن)، يعني: تنفيس الله عز وجل عن العباد إذا نزلت بهم الكروب، وحلت بهم الشدائد والمصائب، فإن تنفيس الله عز وجل عن أمة الإسلام يقدم من اليمن.

    وقد فسر هذا الحديث علماء المسلمين عبر تاريخ اليمن الطويل بأن اليمن كانت مصدر التنفيس عن أمة الإسلام منذ عهد الإسلام الأول، الحاضن الأول للإسلام الذي أوى إليه الإسلام، وانتصر في ظل كنفه، الحاضن الأول المؤثرون الذين آووا إخوانهم من المهاجرين أبناء الأوس والخزرج كانوا من أبناء اليمن، من اليمانيين، وهذا مصداق واحد من مصاديق هذا الحديث: (إني أجد نفس الرحمن من هاهنا ).

    ولما قامت شوكة الإسلام جاء اليمانيون إلى رسول الله من اليمن برسالة بعثها إليهم، ولم تفتح اليمن عنوة كما فتحت غيرها من أقاليم الإسلام، أسلموا برسالة، وجاءوا إلى رسول الله عز وجل معلنين نصرتهم لدين الله، فقال فيهم عليه الصلاة والسلام تلك المقولة المشهورة: ( جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدةً وألين قلوباً).

    ولما قامت حروب الردة وخرج بعض الكذابين في اليمن وادعوا النبوة وتجهزت عساكر المسلمين للقضاء على هذه الفتنة كفى أبناء اليمن إخوانهم من المسلمين فتنة اليمن, فقضوا على شوكتهم بسيوفهم, وأخمدوها في دارهم دون أن يتدخل أحد من أبناء الإسلام للقضاء على الردة في اليمن، فقضوا على مرتديهم بسيوفهم، وقتلوا كذابهم بسلاحهم، وكفوا المسلمين شر الفتنة من تلك البلاد.

    ولم يزل أهل اليمن رافداً ومدداً لهذا الدين؛ كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه كما روى الطبراني وصححه الشيخ الألباني وغيره من علماء المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: ( إن ربي استقبل بي الشام واستدبر بي اليمن )، يعني: جعل وجهي قبل الشام، وظهري جهة اليمن: ( ثم قال لي: يا محمد! إني جعلت لك ما تجاهك )، يعني: الشام، ( إني جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقاً، وجعلت لك ما وراء ظهرك مدداً ).

    فلم تزل اليمن مدد الإسلام حتى عصرنا الحاضر، حتى اليوم، حيثما قلبت ناظريك في مواطن الجهاد رأيت اليمانيين حازوا قصب السبق في المجاهدين، لأن الله -عز وجل- أراد ليس فخراً ولا منقبةً, ولكن الله -عز وجل- يجعل فضله حيث يشاء، وينصر دينه بمن يشاء، ويقوي شريعته بمن يشاء من خلقه. فالخلق جميعاً خلقه.

    لم تزل اليمن على هذا المضمار, وهذا لا يقوله الناس ولا يدونونه في الكتب لمجرد ذكر المناقب والفضائل، وإنما لتعريف أهل الإسلام، ولتعريف المسلمين بمواطن القوة فيهم، ومواطن العزة والمنعة فيهم، إن أبناء العرب في جزيرة العرب عامة وفي اليمن خاصة لم يزالوا ولن يزالوا معدن الإسلام وسبباً رافداً من روافده القوية حتى آخر الزمان.

    الحروب الأخيرة التي يفصل فيها بين الحق والباطل، الحروب التي ينصر فيها الحق ويكسر فيها الدجال وجنده إنما تكون على أيدي جند من شباب اليمن، هكذا قال عليه الصلاة والسلام: ( يخرج في آخر الزمان اثنا عشر ألف مقاتل من عدن أبين )، من أرض اليمن.

    هكذا أراد الله لهذه البقعة أن تكون سبباً لنصرة دينه، وأن تكون رافداً قوياً في حماية شريعته، فلا ينبغي للمسلمين أن يفرطوا فيها، لا ينبغي للمسلمين أن يضيعوها، لا ينبغي للمسلمين أن يتركوها تضيع وتتخطفها الأيادي، وتمزقها الأعداء. إن على المسلمين أن يقوموا بدورهم لحماية اليمن من المحن والفتن كما عليهم أن يقوموا بذلك مع من سواهم من المسلمين.

    واليمن اليوم بحاجة إلى دعوات الصادقين الذين يعجزون عن اتخاذ شيء من القرار، فإن الدعاء سلاح الله عز وجل، السلاح الماضي الذي وعد الله بأنه ينصر من ينصر بسببه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( أبغوني ضعفاءكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم ).

    كما أن على أهل الرأي والقادة وصناع القرار أن يبذلوا ما بوسعهم لتجنيب اليمن المحنة والفتنة وإسالة الدماء وإزهاق الأرواح، وهذا حق لليمن وأهلها على إخوانهم من المسلمين.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجنب المسلمين كل بلاء ومكروه.

    اللهم يا حي! يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.

    اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز الإسلام والمسلمين, واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، وأشغله في نفسه، واجعل تدميره في تدبيره يا قوي يا عزيز.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، يا قوي يا عزيز.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756257668