إسلام ويب

مكفرات الذنوبللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من لطف الله بالإنسان أن جعل مكفرات ذنوبه كثيرة: منها ما لا عمل للإنسان فيها كالمصائب من أمراض وفقر ونحو ذلك، ومنها ما يتطلب فعله من الإنسان كالصلاة والصوم ونحو ذلك. ومن مكفرات الذنوب صوم رمضان فقد توافرت في رمضان ثلاث مكفرات للذنوب: الصوم، وقيام الليل، وقيام ليلة القدر على وجه الخصوص.

    1.   

    الابتلاء بالذنوب ومكفراتها

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! روى الإمام ابن حبان رحمه الله تعالى في صحيحه، وصححه غير واحد من أهل العلم، عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ ثم تلا قول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، ثم قال رضي الله عنه: كل ما عملناه نجزى به؟).

    يعني: كيف يفلح الإنسان إذاً وينجو إذا كان سيحاسب وسيسأل عن كل ما يعمل؟ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ؟ (فقال له عليه الصلاة والسلام: يغفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواء، فذلك مما تجزون به ).

    من رحمة الله تعالى أن قدر لهذا الإنسان الابتلاء بالذنوب، هذا الإنسان الذي خلقه الله عز وجل تواباً نسياً يعصي ثم يتوب، وكتب عليه حظه من الذنوب لا محالة، فليس معصوماً، ركب فيه الشهوات التي تدعوه، وتدعوه النفس من خلالها إلى مقارفة حدود الله، وركب فيه الفطرة السليمة التي تدعوه إلى الصلاة والاستقامة، وهو بين هذين الداعيين يميل إلى هذا الداعي تارة، ويميل إلى هذا الداعي تارة، هذا الإنسان الذي قدر الله عز وجل عليه حظه من الذنب، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( كتب على ابن آدم حظه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا الأذنين الاستماع ).

    هذا الإنسان أمده الله تعالى بمكفرات إذا أخذ بهن مسح بهن ما أسلفه من الذنوب والسيئات، وقدر له أسباباً إذا أخذ بها محا الله عز وجل بها عنه سيئاته فنجا وأفلح، و أبو بكر لما قرأ هذه الآية خاف وارتعد، ونحن نمر عليها مرور الكرام، يقول الله: (ليس بأمانيكم)، العمل عند الله تعالى هو ميزان التفاضل بين الناس، والأماني لا تغني عن صاحبها شيئاً، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]، لا يخدعنكم بالله الشيطان بأمانيه وتسويلاته وتسويفه، فإن كل واحد منا سيقف أمام حصيلة عمله، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].

    يحذرنا الله وينبهنا من الغفلات ونحن لا نزال في ميدان العمل، لا نزال في أوقات الكسب، لا نزل في زمن الإمهال، الله يحذرنا تحذيراً بعد تحذير، يحذرنا من المعاصي والذنوب، ويحذرنا من الركون إلى النفس والهوى، ويخبرنا بأن كل واحد منا واقف أمام صحيفة عمله، يرى فيها الصغير والكبير، يوم يقولون كما قال الله في سورة الكهف: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، يجد الإنسان عمله حاضراً.

    أبو بكر لما قرأ هذه الآية ارتعدت فرائصه، وشكا هذه الشكوى إلى رسول الله، كيف الصلاح؟ إذاً: كيف سننجو إذا كنا سنحاسب على كل ما نعمل؟! قال: ( كل شيء عملناه نجزى به )، فأخبره عليه الصلاة والسلام بأن هناك مكفرات يمحو الله عز وجل بها الذنوب، مكفرات بعضها من كسب الإنسان، وبعضها من غير كسبه، هناك مكفرات إذا صبرت عليها واحتسبت، قدرها الله عز وجل عليك فاحتسبتها كانت كفارة لذنوبك، ( ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواء )، يعني: الجهد والمشقة، فهذا كله إذا قابلته بالصبر والاحتساب أجرت وكفر الله عز وجل به بعض السيئات، فهذا بعض الجزاء بالسيئة.

    وهناك باب آخر من المكفرات داخل في كسب الإنسان في حدود طاقة الإنسان وهو العمل الصالح بعد السيئات، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث العظيم: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )، (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، اعمل الحسنة بعد السيئة، فقد جعل الله عز وجل الحسنات ماحيات للسيئات، وقال في كتابه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

    1.   

    رمضان فرصة لتكفير السيئات والذنوب

    من فضل الله على عباده: أن جعل لهم شهر رمضان موسماً تفتح فيه أبواب المغفرة على أوسع أبوابها، وتكثر فيها أسباب التكفير، فمن صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام فيه ليلة هي خير من ألف شهر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

    هذه ثلاث مكفرات عظيمة: الصوم، والقيام، وقيام ليلة القدر على وجه الخصوص، بالإضافة إلى سائر المكفرات الأخرى التي يفعلها الإنسان خلال اليوم والليلة.

    فهو إذاً موسم عند أولي الألباب شأنه عظيم.

    إن الناس الذين يحرصون على الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب يعرفون قدر هذه الأيام التي ستقبل عن قريب؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقف على الناس قبل أن يدخل شهر رمضان، وعندما يدخل شهر رمضان يهنئهم بهذا الشهر ويقول لهم: ( أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، فيه تفتح أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتصفد فيه مردة الشياطين، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم )، يقول لهم هذا وهو على المنبر، يهنئهم ويبشرهم بقدوم هذا الشهر لا لشيء، إلا ليتسابقوا إلى اغتنام ساعاته وأوقاته بالمكفرات التي يمحو الله عز وجل بها الذنب، ويغسل بها الخطيئة.

    الصوم وعد بالثواب الجزيل

    أيها الإخوة! نحن أمام هذا الموسم العظيم جعله الله عز وجل وقتاً وظرفاً لهذه العبادة العظيمة المفروضة، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( فرض الله عز وجل عليكم صيامه )، وجعل الصيام ركناً من أركان الإسلام، وإحدى دعائم الإسلام العظيمة، ووعد عليه بالثواب الجزيل، فإنه لم يفرضه ليشق على الناس: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6].

    فرض علينا الصيام ووعد عليه بالثواب الجزيل، فقال سبحانه في الحديث القدسي: ( كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ).

    الصوم يمتاز بأنواع من الخصائص التي ليست في غيره من العبادات، فهو سر بين الله تعالى وبين العبد، وهو ترك للشهوات، وإيثار للقربى عند الله تعالى؛ ولذلك خصه الله بالنسبة إليه، وإلا فكل العبادات له: ( إلا الصوم! فإنه لي وأنا أجزي به ).

    ولك أن تتصور الكريم الملك الذي بيده خزائن السموات والأرض، إذا قال: ( أنا أجزي به )، فلك أن تتفكر بعد ذلك فيما هو هذا الجزاء! جزاء الصبر، فالصوم صبر، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] ، ( وأنا أجزي به ).

    الصوم جنة من النار

    الصوم جعله الله عز وجل جنة من النار يصنعها الإنسان بعمله وكسبه إذا قبله الله -عز وجل- منه، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( الصيام جنة حصينة من النار )، (جنة) يعني: وقاية يتقي بها الإنسان النار، تصنعها بعملك إذا صمت إيماناً واحتساباً.

    وقال عليه الصلاة والسلام: ( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً )، يوماً واحداً في سبيل الله، يعني: في مرضاة الله، كما يقول كثير من أهل العلم.

    جاء شهر الصيام، جاء شهر القيام، جاء شهر التراويح وقراءة القرآن، وعلى كل واحد منا أن يسأل نفسه! بماذا أعد نفسه لاستقبال هذا الشهر الكريم، وهذه المواسم الفاضلة؟

    هكذا كان يهنئ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليبتدروا تهيئة أنفسهم لاستقبال هذه المواسم العظيمة، والأخذ بأسباب المغفرة.

    كما نتكالب على الدنيا ونتسابق من أجلها، ونسهر الليل من أجل تجميعها وتنميتها وتثميرها، فالآخرة أولى وأحرى وأجدر بأن ننصب ونتعب من أجل إصلاحها، والإقبال عليها، وتنميتها وتثميرها.

    1.   

    الحرص على طلب أسباب الرزق وإهمال طلب أسباب المغفرة

    مغفرة الذنوب من أهم المطالب التي ينبغي أن نأخذ بكل سبب يوصلنا إليه، فإن مغفرة الله لها أسباب، كما أن رزق الله له أسباب، سواء بسواء؛ ولذلك يقول العلامة إسماعيل المقري رحمه الله وهو يخاطب عقل هذا الإنسان حينما يسعى ويكد ويكدح من أجل دنياه لكنه مفرط متهاون متساهل في شأن آخرته، يقول في أبيات شعرية له:

    تقول مع العصيان ربي غافر صدقت ولكن غافر بالمشيئةِ

    وربك رزاق كما هو غافر فلِمْ لم تصدق فيهما بالسويةِ

    فإنك ترجو العفو من غير حيلة ولست براجي الرزق إلا بحيلةِ

    على أنه بالرزق كفل نفسه لكل ولم يكفل لكل بجنةِ

    تكفل بالرزق لكل الناس، وقال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] ، وما من دابة إلا والله يرزقها عجماء أو ناطقة، عاقلة أو مجنونة، ساعية أو غير ساعية، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ، هكذا يقول الله، لكنه لم يتكفل بالمغفرة لكل أحد، لم يتكفل بالعفو عن كل أحد، جعل للعفو والمغفرة أسباباً، وكلف هذا العبد بأن ينصب وأن يتعب في الأخذ بهذه الأسباب، ثم يقابله سبحانه وتعالى بعد ذلك بما هو له أهل، فيقول سبحانه: ( أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء ).

    نحن أمام أيام تفتح فيها أبواب المغفرة، تفتح فيها أبواب الجنان وتهيأ وتزين، وتغلق أبواب النار، ويفتح الله عز وجل أبوابه أمام عباده، فالنافع لنفسه الحريص على مصلحتها من أقبل، وقريباً سينادي المنادي: ( يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! ).

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    شروط الصوم المكفر للذنوب

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! أهم أسباب المغفرة: هي الأسباب الثلاثة في شهر رمضان:

    أولها: الصوم، كما سمعتم في الحديث: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) (إيماناً) أي: تصديقاً بأن الله فرض صومه، (واحتساباً) أي: طلباً للأجر عند الله.

    فمن صام هذا الشهر بهذين الشرطين غفر له ما تقدم من ذنبه، والله لا يخلف الميعاد.

    وهذا الصوم فرض على من توفرت فيه صفات ست: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والإقامة، والقدرة، والطهارة من الحيض والنفاس، فإذا اجتمعت هذه الصفات الست وجب على الإنسان الصوم، وحرم عليه أن يتعدى حدود الله فيفطر من غير عذر.

    أولها: الإسلام، فلا يصح الصوم ولا يقبل ولا يجب على الكافر.

    وثانيها: العقل، فلا يجب الصوم على المجنون أو المخرف الذي لا يعقل الأمور، فهذا لا صوم عليه، ولا كفارة، لا إطعام ولا صيام، لأن العقل هو مناط التكليف.

    وثالثها: الإقامة، أي: عدم السفر، أما المسافر مسيرة ثلاثة وثمانين كيلو أو أزيد في الذهاب، ونوى بأن يقيم أقل من أربعة أيام على قول كثير من أهل العلم، فهذا مسافر له أن يفطر إذا كان سفره في غير معصية الله، أما المتحايل لإسقاط الصوم فإنه لا يجوز له أن يفطر.

    ورابعها: القدرة: أن يكون الإنسان قادراً على الصوم، أي: غير مريض، فإن كان مريضاً مرضاً يشق معه الصوم مشقة بالغة، يعني: مشقة يتكلف الإنسان معها الصوم ولا يقدر على تحمله، فهذا قد أذن الله تعالى له في كتابه بأن يفطر ويصوم أياماً أخر.

    والمريض نوعان: مريض بمرض طارئ يمكن أن يزول، فهذا أمره الله بأن يقضي بعد الصوم، فيفطر في أيام رمضان، فإذا زال مرضه قضى ما عليه من الصيام.

    والنوع الثاني: مريض مرضاً لا يرجى له زوال، مريض مرضاً دائماً، فهذا نقله الله -عز وجل- من الصوم إلى الإطعام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، وهو بالخيار: إما أن يطعم في كل يوم بيومه، وإما أن يؤخر الإطعام إلى نهاية الشهر، فيطعم عن جميع الشهر، ولكن لا يجزئه أن يطعم عن اليوم قبل طلوع فجره.

    وآخر الشروط: الطهارة من الحيض والنفاس.

    فإذا اجتمعت هذه الشروط وجب على الإنسان أن يصوم، وإذا لم يفعل كأن ارتكب ما حرم الله فأفطر عامداً، فقد فعل كبيرةً من كبائر الذنوب التي توعد الله عليها بالعقاب الشديد، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي صححه الألباني وغيره، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فانطلقا بي، فأتى بي جبلاً وعراً، فقالا لي: انطلق، اصعد! فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهله عليك، فلما كنت في سواء الجبل )، يعني: في وسط الجبل ( سمعت عواءً )، يعني: صياحاً ( فقلت: ما هذا؟ قال: هذا عواء أهل النار )، هذا صياح أهل النار، قال: ( ثم انطلقت، فإذا أنا برجال معلقين من عراقيبهم )، أي: معلقون: وأقدامهم إلى الأعلى ورءوسهم إلى الأسفل، (قد شققت أشداقهم)، شققت جنوب وجوههم وقطعت ومزقت، ( تسيل أشداقهم دماً، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم )، يفطرون قبل أن يحين وقت الإفطار، يفعلون هذا الذنب العظيم، وهذا جزاؤهم في البرزخ، أما بعد ذلك فالجزاء الله عز وجل به عليم.

    فلا يجوز لأحد أن يتجاوز حدود الله ويفطر في نهار رمضان عامداً من غير عذر، وعلينا أن ننبه أبناءنا البالغين، فإن الصوم على البالغ واجب، والبلوغ له علامات، ثلاث في الذكر، وواحدة زائدة في الأنثى، إذا حصلت واحدة من هذه العلامات فإن الإنسان يصير بالغاً، يجري عليه قلم التكليف، وهو مسئول عن عمله الحسنة له والسيئة عليه.

    البلوغ يحصل في الذكر: إما بالاحتلام، يعني: بإنزال المني في اليقظة أو في المنام، وإما بنبات الشعر الخشن حول العانة، وإما ببلوغ خمسة عشر عاماً، فإذا أتم خمسة عشر عاماً فهو بالغ، وإذا حصلت إحدى العلامتين قبل خمسة عشر عاماً فهو بالغ، وعليه جرى قلم التكليف، وهو مسئول عن أعماله.

    فعلينا أن ننبه أبناءنا إلى ضرورة الصيام إن كانوا بالغين، وتزيد الأنثى بعلامة وهي الحيض، فمن بلغ وجب عليه أن يصوم.

    1.   

    مكفرات الذنوب في رمضان

    قيام ليالي رمضان

    أيها الأحباب! من أسباب التكفير في هذا الشهر الكريم كما سمعتم: قيام لياليه، ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، والقيام يحصل بصلاة النفل بعد صلاة العشاء، وأكمله وأتمه أن يقوم الإنسان مع الإمام في صلاة التراويح ويبقى معه حتى ينصرف، فقد جاء في الحديث: ( من سره أن يكتب له قيام ليلة فليصلّ مع إمامه حتى ينصرف )، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    وهي دقائق لا تتجاوز النصف ساعة عند من يطول الصلاة، وعلى الأئمة أن يتقوا الله، وعلى المصلين أن يناصحوهم بذلك، عليهم ألا يتخذوا صلاة التراويح هزواً ولعباً، فإنها موسم لتكفير الذنب، موسم لمحو الذنوب والسيئات، علينا أن نتق الله في أنفسنا، ونأخذ بأسباب نجاتها، فنصلي لله ما نقدر عليه، فمن قام ليله إيماناً واحتساباً، أي: إيماناً بأن الله شرعه، واحتساباً للأجر والمثوبة عند الله، فإن هذا من أسباب التكفير.

    تحري قيام ليلة القدر

    ومن أسباب التكفير: تحري ليلة القدر، ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

    بعد هذا العطاء، بعد هذه المنح، بعد هذا الفضل؛ لا يحرم الإنسان إلا نفسه، ولا يجني الإنسان إلا على نفسه، ولا يحرم إلا محروم، بعد أن يدعوك الله ويفتح أمامك الأبواب، ويسهل أمامك الطريق، ثم تصر أنت على الإعراض، تصر أنت على التفريط، إنما تجني على نفسك، والله عز وجل غني عن العالمين.

    ( صعد النبي عليه الصلاة والسلام المنبر يوماً، فلما رقى الدرجة الأولى قال: آمين، ولما رقى الثانية قال: آمين، ولما رقى الثالثة قال: آمين، فقال الصحابة: سمعناك اليوم تقول شيئاً لم نسمعك تقوله من قبل؟ قال: عرض لي جبريل -أنا أرقى المنبر وجبريل اعترضني في الطريق- فدعا بدعوات، فقلت: آمين، لما رقيت الدرجة الأولى قال: من أدركه رمضان ولم يغفر له أبعده الله، قل: آمين! فقلت: آمين، ولما رقى الثانية قال: من أدرك أبويه أحدهما أو كلاهما عند الكبر ولم يغفر له أبعده الله قل: آمين! فقلت: آمين، ولما رقيت الثالثة قال: من ذكرت عنده فلم يصلّ عليك -اللهم صل وسلم وبارك عليه- أبعده الله، قل: آمين! فقلت: آمين )، هذه دعوة خير أهل السماء يؤمن عليها خير أهل الأرض، جبريل خير المخلوقات في السماء، وخير المخلوقات في السماء والأرض محمد عليه الصلاة والسلام يؤمن على دعوات جبريل.

    فالمحروم من حرم هذا الخير وعلى الإنسان أن يجاهد نفسه في ذات الله؛ ابتغاء ثواب الله؛ وتكفيراً لذنبه، وليبشر وليعلم بأن الله عز وجل معه معينه على نفسه، فهذا وعد الله، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

    نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا.

    اللهم يا حي! يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم بلغنا رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه، واجعلنا من المخلصين فيه لك برحمتك يا أرحم الراحمين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201].

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم.

    اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك يا قوي! يا عزيز!

    اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756567214