إسلام ويب

طريق الخلاص من الذنبللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الذنب داء خطير، دواؤه التوبة والاستغفار، فمن تاب وأناب وجد الله غفوراً رحيماً، وليس من طرق التخلص من الذنب أن يلقي الإنسان ذنوبه على غيره، فكل إنسان سيحاسب على عمله وحده.

    1.   

    جريمة إلصاق التهم بالآخرين

    الحمد لله رب العالمين, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله, في هذه اللحظات نقف مع آيتين من كتاب الله, أنزلهما الله عز وجل تقريراً وتذييلاً لحادثة شهيرة حدثت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وروى هذه الحادثة غير واحد من المصنفين في السنة, ومنهم الإمام الحاكم رحمه الله تعالى في المستدرك, وصحح الحديث ووافقه على التصحيح الإمام الذهبي رحمه الله, وخلاصة هذه الحادثة كما يرويها الصحابي الجليل قتادة بن النعمان رضي الله عنه, ( أن رجلاً من الأنصار اشترى طعاماً في زمن الفقر والحاجة في المدينة, فخبأه في بيته, فاعتدى رجل من المسلمين على هذا البيت, فسرق الطعام وسرق معه السلاح, ولما فقد الأنصاري متاعه وسلاحه رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما أحس أهل البيت الذين كان منهم السارق -ويقال لهم: بنو أبيرق- بوصول الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تآمروا فيما بينهم -وكان كما تقول الرواية: فيهم من هو منافق- ورفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مدعين أن فلاناً هو الذي سرق وليسوا هم, وأنه هو صاحب الطعام والمتاع, فلما جاء الشاكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما فعلت, عمدت إلى بيت من المسلمين فاتهمتهم, قال: فلم يكن شيء أثقل علي مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله آيات تتلى في سورة النساء, كان في مطلعها قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:105-108] ), ثم قال سبحانه تذييلاً على هذه القصة: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:110-111], ففي هاتين الآيتين يبين سبحانه وتعالى طريق الخلاص من الذنب حين يقع الإنسان فيه, وأن التوبة هي التي تخلصك من ذنبك وجريمتك إذا أردت الخلاص, وليس الخلاص من الذنب أن ترمي غيرك به، وليس الخلاص في أن تحاول أن ترد على الشمس غطاءً, فإن الله لا تخفى عليه خافية, يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19], ومن عجائب هذه القصة أن الله عز وجل أنزل فيها قرآناً يتلى, وبهذه الدرجة من العنف في الرد على الظالم المفتري على غيره, مع أنه كان يمكن أن تعالج المشكلة بأقل من هذه الصراحة, لكن الله أنزل قرآناً يتلى إلى يوم القيامة ويرد على هؤلاء الذين اقترفوا الإثم ورموا به غيرهم, وفي بعض الروايات أنهم رموا رجلاً من اليهود, وزعموا أنه هو السارق, واليهود هم الذين يكيدون للإسلام والمسلمين ليل نهار, فلم يراع القرآن شيئاً من هذه الاعتبارات, بل دافع عن اليهودي المتهم وبرأ ساحته, وأنزل قرآناً يتلى في رمي التهمة وإرجاعها إلى المسلم المجرم الذي اقترف الإثم, وبرأ ساحة المتهم وإن كان يهودياً, وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يليق به أبداً أن يجادل عن الظالمين, وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107], إنه ميزان القسط, وعدل الشرع الذي ينزل من الحكيم العليم, الذي لا يحابي أحداً, ولا يميز أحداً على أحد, فلا علاقة للناس بالله إلا بأعمالهم, ولو كان اليهودي هو المذنب لأنزل الله عز وجل القرآن في بيان أنه هو المجرم, ولكنه لما اتهم عدواناً, ونزلت التهمة بساحته ظلماً برأه الله, مع أنه يعادي هذا القرآن, ويكفر به مساء صباح, ولكنه الحق الذي نزل به هذا الكتاب, الحق الذي قامت به السموات والأرض, الحق الذي قامت به هذه الأمة، ومن أجله تقوم, أنزل الله آيات تبرئ اليهودي, وتعيد التهمة إلى المسلم الظالم, وتنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المجادلة عن المسلم تحت أي لون من ألوان العصبية أو الانتماء, ولو كان يدعي أنه مسلم فإن الظلم غير مقبول إذا صدر منه: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107].

    1.   

    طرق التخلص من الذنوب

    ثم أرشد هذا المسلم إذا كان حقاً يريد الخلاص والنجاة؛ فإن هناك طريقاً آخر للتخلص من الذنب, وهي قاعدة كلية لم تنزل لهذا المسلم بخصوصه؛ ولهذا أنزلها الله بلفظ عام, فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110], هو ومن كان على شاكلته من بعده, فمن اقترف جرماً أو اكتسب سيئة وأراد الخلاص فإن الخلاص أن يتوب من ذنبه ويستغفر, يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110].

    قال ابن جرير رحمه الله عند تفسير هذه الآية بعد أن روى القصة بالسند, قال: قال عبد الله بن مسعود : كان بنو إسرائيل إذا اقترف الرجل منهم ذنباً أصبح وقد كتبت كفارة ذلك الذنب على بابه.

    أي: إذا فعل المعصية أصبح في الصباح وقد كتب على بابه ماذا يفعل حتى يتخلص من ذنبه, فلما سمع أحد تلاميذ ابن مسعود هذا العطاء الذي أعطاه الله لبني إسرائيل، قال: والله لقد أوتي بنو إسرائيل خيراً كثيراً. يعني: كان الواحد منهم إذا أذنب يُدَل على طريق التوبة وكيفية التخلص من ذنبه, لكنها بلا شك طريقة لا تليق بنا يا معشر المسلمين؛ لأنها طريقة فيها الفضيحة, طريقة فيها التشهير, يصبح المرء وقد كتب على بابه كفارة الذنب الذي فعله, بالله عليكم لو أن كل واحد منا أصبح في صباحه وقد كتب على بابه الذنوب التي فعلها وما هي كفارة تلك الذنوب, ترى هل تتسع الأبواب لكتابة ذنوب بعض بني آدم؟! وهل يرضى الواحد منا لأن تكتب كل هذه الذنوب على الباب وعلى قارعة الطريق؟ لكن هذا التلميذ لقلة ذنوبه نظر فقط إلى ذنب ربما يطرأ على الواحد غفلة, فرأى بني إسرائيل قد أعطوا خيراً؛ لأن الواحد منهم يدل كيف يتوب إذا أذنب, فقال ابن مسعود -وهو يعلمه الفضل الأعظم الذي أعطاه الله لهذه الأمة ولم يعطه لغيرها- ما آتاكم الله خير مما آتى بني إسرائيل, ثم تلا قول الله سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110].

    أنواع الذنوب

    وجمع الله في هذه الآية نوعين من الذنوب:

    النوع الأول: الذنب المتعدي إلى الغير, وسماه سوءاً؛ لأنك تسوء به غيرك حين تعتدي على عرضه, أو على ماله, أو على نفسه وحرماته, تدخل عليه المساءة, فسماه الله سوءاً, وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110].

    والنوع الثاني: الذنوب المقتصرة على النفس, حين تخطئ على نفسك, فيما بينك وبين الله, فتضيع فرضاً مما فرضه الله عز وجل عليك, أو ترتكب حراماً مما حرمه الله عز وجل عليك, صحيح أنه على نفسك, وأنه فيما بينك وبين الله, لكن سماه الله عز وجل ظلماً لنفسك: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ [النساء:110]، فنفسك هذه أمانة استودعها الله عندك, وكلفك أن تعمل من الخيرات ما ينجيها, وأن تعمل من الصالحات ما تجنبها الوقوع في عذاب الله، فحين تقترف من السيئات ما تدخل به هذه النفس إلى النار, فإدخالك نفسك إلى النار ظلم لهذه النفس, واعتداء على هذه النفس, فحقيقة الذنب ظلم منك لنفسك؛ ولهذا قال أبونا آدم عليه السلام حين وقع فيما وقع فيه من الأكل من الشجرة, قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23], هذه حقيقة الذنب, أنك بذنبك تظلم نفسك, والله عز وجل برحمته ولطفه بك حرم عليك أن تؤذي نفسك, وحرم عليك أن تظلم نفسك, فحرم عليك الذنب حتى لا تجرها إلى العقاب والوبال.

    رحمة الله بعباده بفتح باب التوبة لهم

    وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110], (ثم يستغفر), فتح لك هذا الباب لتتخلص به من الذنب, وهذا من رحمة الله بالفرد ومن رحمته كذلك بالمجتمع, ولولا باب التوبة المفتوح لدخل اليأس إلى قلوب العباد, وإذا يئس المجرم من الخلاص تحول إلى حيوان كاشر وتحول إلى إنسان شرير؛ لأنه إذا أيقن بالهلاك وإذا علم أنه لا فائدة من الإصلاح فإنه لن يزيد إلا سوءاً, فيكتوي المجتمع بناره, كما يشتوي هو أيضاً بنار نفسه, ففتح الله باب التوبة رحمة بالمجتمع ورحمة بالفرد, وهذا الباب لا يزال مفتوحاً الليل والنهار, ( يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم ), وقال في الحديث الآخر: ( يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ).

    الوعد بالغفران لمن تاب واستغفر

    ثم وعد في هذه الآية بأن من سلك طريق الاستغفار ومن دخل بابه؛ فإنه يتحقق له بإذن الله وجود ما يتمناه ويرجوه, يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110], ولم يقل: فإن الله غفور رحيم, إنما عبر بالوجدان, أنه يجد, أي: يتحقق مغفرة الله, ويتأكد من رحمة الله, (يجد الله غفوراً), ولم يقل: غافراً, إنما قال بصيغة المبالغة, فإنه يغفر لك ولغيرك, ويغفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها, يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا [النساء:110], وهذه الكلمات كلها المراد منها غرس الثقة, وزرع الطمأنينة في نفس المجرم إذا أساء ثم دخل باب الاستغفار, بأنه لا محالة سيجد الله عز وجل قد تاب عليه, وغفر له ذنبه, إنه درب سهل وطريق ميسر لمن أراد الخلاص من ذنبه, لمن أراد محو سيئته, طريق سهل ليس فيه ما كلف الله عز وجل به من قبلنا من الأمم, بأن يشهر نفسه على قارعة الطريق بأنه فعل وفعل, ثم يتوب الله عز وجل عليه بعد ذلك إن شاء, بل كما قال علي رضي الله عنه, كما في سنن الترمذي : ( كنت إذا سمعت حديثاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله عز وجل به ما شاء الله أن ينفعني, وإنه قد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر, ثم يصلي ركعتين, ثم يستغفر الله تعالى من ذنبه إلا غفر الله له ذلك الذنب, ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110] ), فالطريق سهل, إنه طريق الاستغفار والتوبة, وأن يشعر الإنسان بالندم على ذنبه, ويطلب من ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ذلك الذنب, ( ما من عبد يذنب ذنباً إلا نكتت في قلبه نكتة سوداء ) يعني: نقطت في قلبه نقطة سوداء, ( فإذا هو تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ), يعني: رجع قلبه نظيفاً كما كان, وكما قال عليه الصلاة والسلام: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ), إنه طريق سهل, وهو في نفس الوقت مأمون العاقبة, يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110].

    والاستغفار هو العبادة التي من أجلها خلق الله الإنسان خطاءً، خلق الله من أجلها الإنسان غير معصوم, ( كل بني آدم خطاء, وخير الخطائين التوابون ), والمتنكب لهذا الصراط, المعرض عن هذا الطريق, إنما يجني على نفسه وإنما يظلم نفسه وأما من رزق سلوك هذا الدرب فإنه سلك العاقبة الحسنة, سلك طريق الأمان, ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110], إنه من رحمته سبحانه وتعالى أنه يتجاوز عن الذنب حين يستغفره الإنسان.

    دلالات الاستغفار

    والاستغفار أيها الأحباب مرة يذكر مفرداً, أي: بغير ذكر التوبة معه, ومرة يذكر مقروناً بالتوبة, فإذا ذكر وحده فإنه اسم يشمل التوبة القلبية, والتوبة التي تكون بالجوارح, والتوبة التي تكون باللسان, وإذا ذكر مع التوبة فإنه يكون خاصاً بطلب المغفرة باللسان, وهنا في هذه الآية ذكره الله منفرداً, ولم يذكر بجانبه التوبة, فهذا النوع من الاستغفار الذي يمحو الله به الذنب, ويعود به الإنسان إلى ما كان عليه قبل الخطيئة هو استغفار جامع بين عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح, عمل القلب بالندم على ما كان من فعله للمعصية, والندم: تألم في القلب, يتألم الإنسان حين يتبصر, وحين يتفكر في العواقب, أين نهاية هذا الذنب؟ وماذا سأقول إذا وقفت بين يدي الله؟ وماذا سيجني علي هذا الذنب من الآفات والعواقب؟ وما هي العقوبات التي تنتظرني من وراء هذه الجريمة, إذا تذكر الإنسان عواقب الذنب في الدنيا والآخرة واستحى من الله ومن الوقوف بين يديه, واستحى من عرض الأعمال على الله, وتذكر الوقوف على رءوس الأشهاد يوم القيامة, إذا تذكر الإنسان كل هذه المواقف, واستحضر هذه المعاني، تألم قلبه لما فعله من الذنب, وهذا الندم هو الركن الأول من أركان التوبة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( الندم توبة ), ثم هناك توبة تتعلق في اللحظة الآنية, في الحال, وهي: الإقلاع عن الذنب والمعصية في الحال, وهناك توبة تتعلق بالمستقبل, أن يعزم الإنسان ويوقن في قلبه أنه لن يرجع إلى هذا الذنب مرة أخرى, فإذا اجتمعت هذه الأركان وتحصلت فإن الله لا يرد هذا التائب, وهذا معنى قوله سبحانه: يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110], لو كان هذا الذي أذنب وسرق المتاع سلك هذا الطريق لوجده طريقاً سهلاً مأموناً, بدلاً من أن يتخلص بذنبه بطرق أخرى, أن يرمي به بريئاً, أو يحاول أن يغطيه عن أعين الناس فقط دون أن يصلح ما بينه وبين الله, ودون أن يتفكر في عاقبة ذنبه, كل ذلك لا ينفعه, الذي ينفعه طريق واحد, وهو: الرجوع إلى ربه والاعتراف بذنبه, وطلب المسامحة والعفو ومحاولة الإصلاح, وهذا أمر سهل ميسور, من وفقه الله عز وجل إليه مَحَا بذلك كل سيئاته الماضية: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ).

    الحث على رجاء عفو الله والطمع في مغفرته

    أيها الإخوة! هذه الآية من أعظم آيات الرجاء والطمع في عفو الله ومغفرته, إنه مهما عظمت الجريمة وكبر الذنب, فإن من سلك درب الاستغفار وجد الله عز وجل قديراً على أن يغفر ذنبه, ويصلح له ما فسد من عمره, وكما قال ابن القيم رحمه الله: عمرك كله ثلاثة أيام, أتعجز أن تصلح ثلاثة أيام فقط؟ ثلاثة أيام إذا أصلحتها أصلحت حياتك كلها, أما اليوم الأول: فهو يوم مضى بما فيه من الحسنات والسيئات, وما فيه من السيئات يمكنك أن تصلحه؛ بأن تطلب من الله أن يغفر ما فيه من الذنب, ويتجاوز عما فيه من الخطيئة, وهذا إصلاح للماضي كله, واليوم الثاني: هو اليوم الذي أنت فيه, فتجاهد نفسك في هذا اليوم, بل في هذه الساعة, بل في هذه الدقيقة التي أنت فيها, تجاهد نفسك على إصلاح هذه اللحظة, فتؤدي الفريضة التي فرضها الله عليك في هذه اللحظة, فإن كنت مأموراً بشيء فبادر إلى القيام به, وإذا كان قد حرم عليك شيء في هذه اللحظة فبادر إلى اجتنابه, ومجاهدة النفس لإصلاح لحظة واحدة أمر سهل يسير, وإذا انقضى عمرك على هذه الطريقة فإن عمرك كله صالح, ويوم ثالث: وهو يوم مستقبل, لم تصل بعد إليه, وطريق إصلاحك له أن تعزم في قلبك أنك إذا عشت إلى الغد فإنك ستقوم لله بما يرضيه, فتؤدي ما افترض الله عليك, وتجتنب ما حرم الله عز وجل عليك, ومجرد هذه النية وهذا العزم على أن تمتثل ما أمرك الله به هو إصلاح للمستقبل كله, هذه اللحظات الثلاث: لحظة الماضي, ولحظة الحاضر, ولحظة المستقبل, تصلحها التوبة, فإذا أصلح الإنسان حياته بالتوبة صلحت الحياة كلها, وهذا أمر سهل ميسور, ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110], هذه قاعدة كلية لكل بني آدم: إنه من يعمل سوءاً ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً, الموفق من بادر إلى العمل بهذه الكلية, وأدخل نفسه فيها كفرد من أفرادها وواحد من آحادها, فسارع لأن يكون ممن يجد الله غفوراً رحيماً.

    ويفهم من الآية أيضاً: أن من لم يبادر إلى التوبة والاستغفار, من لم يسلك هذا الدرب؛ فإنه لن يجد الله على هذا الوصف, لأنه قال: من يفعل كذا؛ يجد الله كذا, أما من لم يفعل فإنه لن يجد الله على هذا الوصف, فربما يظهر له في لحظة ما شيء ما كان يتوقعه, يظهر له من الله شيء ما كان في الحسبان على خلاف ما كان يتصور؛ ولهذا يحذرنا الله في أكثر من موطن من كتابه؛ من الجري وراء الأماني, من المسارعة وراء غرور الشيطان, يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5], لا يخدعنكم الشيطان, انتبه, فلا يغرنك الشيطان فتؤمل, وتسوف, وتتمنى على الله الأماني بلا عمل, فإن الله قال في هذه الآية: ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110], قال المفسرون: من لم يعمل ذلك لم يجد الله كذلك, وهذا ما صرح الله به في آيات أخرى, فقال: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50], ما أقرب المغفرة لمن طلبها, وما أوسع الرحمة لمن عمل في الدخول فيها, وما أوسع عفو الله لمن أخذ بأسبابه, نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49].

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    مسئولية الفرد عن أفعاله ومحاسبته عليها

    الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! في الآية الثانية يقرر الله سبحانه وتعالى أيضاً قضية كبيرة, وقاعدة كلية, تبعث إلى الإنسان المسلم رسالتين: رسالة خوف, ورسالة اطمئنان, فهي تطمئنه من جهة, وتزرع في نفسه الخوف كله من جهة أخرى, قال الله فيها: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111], في هذه الآية يقرر سبحانه وتعالى قاعدة الجزاء والمسئولية على الفرد, الفرد مسئول عن نفسه, فإنه لم يكسب إلا على نفسه, فلن يتحمل ذنوب غيره, ولن يحاسب بذنوب من سواه, ولن يتحمل خطايا من دونه, وإنه لن يجازى إلا بعمله, وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111], هذه الرسالة تبعث في النفس الطمأنينة والأمان, فإنك لن تحاسب بعمل غيرك, ستحاسب بعملك وحدك؛ كما قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164], وإن كان الآخر قريباً, وإن كان الآخر حبيباً, فإنك لن تجازى بعمل غيرك؛ جاء رجل أخذه جنود الحجاج ظلماً وعدواناً, فلما وقف بين يدي الحجاج قال للحجاج : بم أخذتني؟ قال: أخذتك بجريرة ابن عمك, واحد من القبيلة أسرف وأذنب ذنباً فأخذناك به؛ لأنك من قبيلته, وهذه عادة الجاهلية لا تزال موروثة عند بعض المجتمعات, يقتل الإنسان ظلماً بسبب أن أحد أفراد عائلته قتل, فقال له الرجل: لكنني وجدت الله قال غير ذلك, قال: وما وجدت الله يقول؟ قال: وجدت الله تعالى يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164], فأطلقه الحجاج, هذه الرسالة تبعث في النفس الطمأنينة؛ بأنك في أمان من ذنوب غيرك, وأنك لن تجازى على ذنوب غيرك, إنما ستجازى بذنوبك, وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111], لكن في الوقت نفسه تبعث رسالة تخويف وتفزيع أيضاً, فإنها تبعث إليك برسالة مفادها: أنه لن يتحمل ذنوبك غيرك, لن يقوم بالمسئولية بين يدي الله غيرك, فإنك أنت الذي ستجازى بكل ما تقترفه يداك, فإن كنت عاقلاً فسارع إلى نجاة نفسك, فلن يتحمل عنك غيرك, قريباً كان أو بعيداً؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار, فإني لا أغني عنك من الله شيئاً ), هذا وهي أقرب الناس إليه, الإنسان مطالب بأن يسعى لإنقاذ نفسه, وهو مبشر في الوقت ذاته بأنه لن يبوء بذنب غيره, والمجتمع كله قد يتحمل في بعض الأحيان مساوئ وذنوب الآخرين, فحينما تعم المعصية ولا ينكرها الناس يعاقب الناس جميعاً بالعقاب الدنيوي, فيشمل العقاب البر والفاجر, والمسلم والكافر, والتقي والشقي, حين ينزل العقاب بسبب الذنوب, لكن هذا يكون في حالة واحدة, حين تعم هذه المعاصي, وحين يسكت الآخرون عن إنكار المنكر, قال العلماء: وسكوتهم عن إنكار المنكر ذنب منهم, فاستحقوا أن ينزل بهم العقاب, فإذا نزل بهم العقاب فإنما نزل بهم بكسبهم وبذنوبهم, وإلا فإن هذه القاعدة لا تنخرم, وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111], ثم يقرر سبحانه في آخر الآيتين أن كل هذا التقنين, وكل هذا التشريع, وكل هذه الأحكام الكلية والقواعد الكلية صادرة عن علم تام وحكمة تامة, وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111], ما أعظم هذا الهدي لمن اهتدى به وما أقرب طريق الخلاص لمن سلكه وقرع بابه!

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث, أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين, رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201].

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها, دقها وجلها, وأولها وآخرها, وسرها وعلانيتها, اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات, اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه, وافتح للموعظة قلبه وأذنيه, أنت ولي ذلك والقادر عليه, اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين, أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, واجعل الموت راحة لنا من كل شر, اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين, اللهم اخذل من خذل المسلمين وعاداهم يا قوي يا عزيز, اللهم يا حي يا قيوم, يا بديع السموات والأرض! يا ذا الجلال والإكرام, نسألك اللهم بأسمائك كلها، يا ودود يا ودود, أن تجعل للمسلمين المستضعفين في كل مكان فرجاً ومخرجاً يا رب العالمين, اللهم يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعالاً لما تريد! اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام, اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام, وبملكك الذي لا يضام, وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تفرج عن المسلمين في سوريا ما هم فيه يا رب العالمين, اللهم فرج عن المسلمين المستضعفين في سوريا ما هم فيه يا رب العالمين, اللهم فرج عن المسلمين المستضعفين في سوريا ما هم فيه يا رب العالمين, اللهم احقن دماءهم, اللهم احقن دماءهم, اللهم احم حرماتهم, اللهم أمن خوفهم يا رب العالمين, اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً, ومن كل ضيق مخرجاً, ومن كل بلاء عافية, اللهم لا تؤاخذهم بذنوبهم يا أرحم الراحمين, اللهم لا تؤاخذهم بذنوبهم يا أرحم الراحمين, اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين, اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين, اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين, ونجهم برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, وانصرهم ولا تنصر عليهم, وامكر لهم ولا تمكر عليهم, وكن لهم ولا تكن عليهم, اللهم انصرهم بنصرك, وأيدهم بجندك, اللهم انشر عليهم فضلك, وأنزل عليهم سكينتك ورحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم انصر المسلمين في كل مكان يا قوي يا عزيز.

    اللهم انصر من نصر الدين, اللهم انصر من نصر الدين, اللهم انصر من نصر الدين, واخذل أعداء المسلمين يا قوي يا عزيز.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755904818