إسلام ويب

الحسدللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحسد مرض قلبي، وهو تمني زوال النعمة عن الغير، وله أسباب كثيرة، منها: الحرص على الدنيا، الذي يقود إلى كل مهلكة، والمؤمن يجاهد نفسه على التخلص من هذا الداء بالتوكل على الله، ودعائه قبل أن يستفحل خطر الحسد فيضره ويضر غيره.

    1.   

    معنى الحسد وأنواعه

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! حديثنا في هذه اللحظات عن مرض من أمراض القلوب، مرض يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، مناف لكمال الإيمان، موقع في سخط الرحمن، ولعلكم أدركتم جميعاً أن المقصود هو الحسد، هذا الداء العظيم المنافي لكمال إيمان الإنسان, والموقع له فيما يسخط ربه عليه.

    الحسد ما هو؟ وما منزلته في الشرع؟ وكيف يداوي الحاسد نفسه؟ وكيف يدفع المحسود حسد الناس عنه؟

    هذا هو محور حديثنا في هذه اللحظات.

    الحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير، بمعنى: أن يتمنى الإنسان إذا رأى نعمة من نعم الله في يد غيره من الخلق زوال تلك النعمة.

    لكن الحساد بعد ذلك مراتب بحسب خبث النفس، فمنهم: من يحسد، أي: يتمنى زوال النعمة لتنتقل إليه، ومنهم: من يتمنى زوال النعمة ولو لم تنتقل إليه، وهذا شر الناس منزلة، وهو عدو لنعم الله، لا يرضى بقسم الله سبحانه وتعالى في خلقه، قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100].

    أن يبخل الإنسان بما في يده، وأن يمنع عن الناس ما في خزائنه، قد يكون الإنسان معذوراً فيه بفطرته، لكن أن يكره أن يصل إلى الناس الخير من خزائن الله, فهذا إنما فعله لخبث نفسه ولفساد طويته، فشر الناس منزلة في هذا الباب من يتمنى زوال النعم عن الناس ولو لم تنتقل إليه تلك النعم.

    وهناك حسد مباح مرخص فيه؛ وهو: أن يتمنى الإنسان من عند الله سبحانه وتعالى مثل ما أنعم به على الناس، وبهذا أدبنا القرآن، فإذا أحب الإنسان نعمة في يد الخلق فعليه أن يكون عاقلاً, ويعرف مصدر هذه النعمة من أين جاءت؟ ومن الذي يستطيع أن يوليه مثلها؟ من الذي يقدر على أن يعطيه أختها؟ من الذي يستطيع أن ينعم عليه كما أنعم على هذا؟ إنه الله سبحانه وتعالى.

    فإذا كان عاقلاً فليتوجه إلى هذا المعطي, فـ(إن يديه سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة)، هذا الذي أعطاه بيده خزائن السموات والأرض يرزق من يشاء بغير حساب، هذا الذي أعطاه أدبك ودعاك إلى أن تسأله ليعطيك مثلما أعطاه، فقال سبحانه وتعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32] ، لا تتمن ما فضل الله به غيرك، فهذا قسمه، هذا رزقه، ومن أنت حتى تتألى على الله! وتقترح على الله! وتأمر الله بأن يعطي فلاناً ولا يعطي فلاناً.

    انظر إلى كلام الله كيف يعظم نفسه، ويتكلم معك بأسلوب الجمع، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف:32]، نحن الملاك، نحن المتصرفون، نحن المعطون، الأمر كله بيدنا، والأمر كله ملك لنا، فمن أنت حتى تتمنى بل وتريد من الله عز وجل أن يزيل هذه النعمة عن المكان الذي وضعها فيه؟ أأنت خير نظراً وأعلى قدراً وأكثر حكمة وعلماً من رب هذه النعمة الذي وضعها في هذا المكان؟

    إذا كنت عاقلاً لا تتمن هذه النعمة بعينها، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32] ، اسأل الله الذي من فضله أعطى أخاك وسيعطيك، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32] .

    أما أن تتمنى زوال النعمة عن هذا العبد لأن الله عز وجل أنعم عليه، فأنت بذلك تفسد دينك، وتفسد مروءتك، وتفسد خصالك الحميدة، أنت بذلك ترتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وتكون قد وقعت في مرض وقع فيه الأشرار من قبلك، إذ أول من عصى الله تعالى من الخلق هو إبليس عليه لعائن الله عصاه بالحسد، ولما نزل آدم إلى الأرض ورزقه الله الذرية كانت أول معصية وقعت على هذه الأرض الحسد، إذ حسد ابن آدم الأول أخاه وأداه هذا الحسد إلى قتله، ولا يزال يجني ثمرات ذلك الحسد، لا يزال تصل إليه سيئات الناس بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل ).

    أول منبع القتل ومبعثه الحسد، حسد أخاه على ما آتاه الله من فضله، فدبر له المكيدة وقتله، فلا يزال يجني الثمرات السيئة، هذا الحسد داء؛ هكذا قال عليه الصلاة والسلام: ( دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ).

    فإذا كنت حصيفاً عاقلاً فاسع في معالجة نفسك ومداواتها من الحسد، ولا يقل قائل: هذا الكلام إنما هو لمن يقعون في الحسد! لأن جبلة هذا الإنسان مفطورة على هذه الخصلة، لكن من الناس من يستعملها في الخير, ومن الناس من يستعملها في الشر.

    والحسن البصري رحمه الله -الإمام الجليل الذي قال عنه الناس: كان كلامه يشبه كلام الأنبياء- قال: لا يخلو جسد من حسد، كل جسد ركب الله عز وجل فيه التمني والتشهي وحب النعمة والتطلع إلى العلو والإكثار؛ لكن بعد ذلك منا من يصيب الطريق الصحيح فيستعمل هذا التمني في بابه، ومنا من يخطئ.

    لكن المذموم هو هذا الذي تكلمنا عنه، وهو أن تتمنى زوال النعمة عن الناس، وتتمنى نفس النعمة التي في يد من تراه، أما أن تتمنى ما عند الله، وأن تطلب من الله، وأن تتوجه إلى الله بطلب مثلها، فهذا مباح بل مأمور به؛ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32].

    1.   

    الحاسد متشبه بشر الخلق

    إن داء الأمم من قبلنا هو الحسد والبغضاء هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام، والحاسد متشبه بإبليس إمام الأشقياء، الحاسد متشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى الذين حسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، كانوا قبل أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم يستنصرون صباحاً ومساء على العرب ويقولون: سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما خرج هذا النبي من القوم الذين كانوا يستفتحون عليهم من العرب جن جنونهم وظهر حسدهم وبغضهم, فكفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وليس لهم دافع لهذا إلا الحسد، ولا داعي لتلك الحروب لرسل الله إلا الحسد؛ كما قال الله: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109].

    الحاسد متشبه بهذه الزمرة من الأشرار، الحاسد انضم إلى من سخط قضاء الله سبحانه وتعالى على خلقه؛ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( لا يجتمع في القلب الإيمان والحسد )، يعني: كمال الإيمان والحسد لا يجتمعان في قلب واحد؛ لأن كمال الإيمان يستلزم من الإنسان أن يرضى بقضاء الله، أن يرضى بقسم الله, أن يرضى بما جاء عن الله, وأن يعلم بأن الله حكيم، وأنه رحيم، وأنه عليم، وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يخلق شيئاً سدى، هذا هو الإيمان؛ أن تؤمن بأن الله يضع كل شيء في موضعه لأنه حكيم، أن تؤمن بأنه سبحانه وتعالى رحيم فلم يمنعك إلا لرحمته بك، ولم يعط ذاك إلا لأنه رحيم به، وما أدراك كيف يقلب الخلق؟ وما أدراك كيف يتصرف فيهم؟ (بعض الناس لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقره الله لكفر، وبعض الناس لا يصلحه إلا الفقر ولو أعطاه الله لكفر)، أنت لا تدري كيف تصريف الناس! كيف تقليب أحوالهم! فلماذا تقترح زوال النعمة من مكانها إلى مكان آخر؟ ولماذا تتمنى حصول النعمة في مكان لم يحدثها الله عز وجل به؟ أنت بهذا تقترح على من؟ فاعلم أن كمال الإيمان أن ترضى بقضاء الله؛ ولهذا لا يجتمع في القلب الواحد هذا الإيمان مع الحسد وهو: تمني زوال النعمة عن الناس.

    الحاسد مفارق لجماعة المؤمنين؛ لأن من فرائض الله عز وجل علينا معشر المؤمنين أن يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه، أن ينصح للمؤمنين كما قال عليه الصلاة والسلام: ( الدين النصيحة! قلنا: لمن؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم ).

    فمن النصيحة لكل مسلم أن تتمنى له من الخير ما تتمناه لنفسك، وتحب أن ينزل به من الحسن ما تحب أن ينزل بك، فإذا عكست الميزان، وقلبت الطريقة لم تؤد هذه النصيحة.

    1.   

    بواعث الحسد

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    إخوتي في الله! الحسد له بواعث وأسباب كثيرة ذكرها العلماء؛ من أهمها وأبلغها: الحرص على الدنيا، أن يكون الإنسان حريصاً على أن يتمتع بكل ما يراه في يد الخلق، والحرص على الدنيا سبب كل آفة، (حب الدنيا رأس كل خطيئة) كما جاء في الآثار، فسبب الحسد الأعظم حب الدنيا، وحب الاستئثار بها، والعلو فيها.

    الحاسد يريد دائماً أن يكون فوق الناس، يريد أن يكون أعلى من الناس في مالهم، أعلى من الناس في جاههم، أعلى من الناس في منازلهم، يريد أن يكون الناس كلهم تحته، هذا هو السبب الوحيد والأساس للحسد، فإذا عرف الإنسان الحقيقة, وأن من أحب العلو في هذه الدار أذله الله عز وجل في الدار الباقية؛ كما قال الله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ [القصص:83].

    الدار الآخرة إنما وعد الله عز وجل بها والرفعة فيها لمن لا يريدون العلو على الناس في هذه الدنيا، أما الذين يريدون العلو والتيه والاستكبار فهذا صنف آخر.

    فسبب الحسد الأعظم هو حب الدنيا، والحرص عليها، وعدم الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، ولو كنت عاقلاً لبيباً لعلمت أنك بتمنيك لن تغير قدر الله، ولن تغير ما في اللوح المحفوظ؛ لأن كل شيء قد فرغ منه، كل شيء قد كتب، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( جف القلم بما أنت لاقٍ يا أبا هريرة ! )، القلم قد كتب وجف الحبر الذي كتبت به المقادير، فرغ من الأمر، كتب قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وإذا أردت غير هذا إنما تعالج أمراً متكلفاً عسيراً.

    فلماذا تورث نفسك أنواع الهموم؟ ولماذا تولج نفسك في أنواع الغموم؟ ولماذا تجلب لنفسك أنواع الحسرات؟ ارض بما قضى الله! ارض بما قسم الله! هذا هو باب السعادة كما قال عليه الصلاة والسلام، هذا هو مفتاح الغنى، (ارض بما قسم الله تكن أغنى الناس)، هكذا كانت دعوات النبي عليه الصلاة والسلام، ما كان يدعو بكثرة الأرزاق، ما كان يدعو بكثرة الأموال، كان يقول عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اغفر لي ذنبي، وبارك لي في رزقي، ووسع لي في داري ) وكان يقول: ( اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه )، ضع لي فيه البركة.

    البركة إذا حلت في شيء لم تشعر معها بحاجة، لن تشعر معها بنقص، لن تشعر معها بهم ولا غم، ( قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه )، داو نفسك من حب الدنيا والتطلع للرئاسة فيها والعلو والاستكبار، فإذا عالجت هذا المرض فإنك ستصل إلى اقتلاع داء الحسد من جوفك.

    1.   

    سبل تخلص الحاسد من هذه الآفة

    من علاج الحسد، وهو علاج نافع يقول العلماء: العلاج دائماً مبني على علم وعمل، علم يعني: تفكر في نفسك، اخل بنفسك في أصفى حالات ذهنك، وكن منصفاً مع نفسك لتتفكر في هذه الآفة. ما الذي تكسبه أنت من ورائها؟ وما الذي يصل إلى عدوك من بعد أن تحسده أنت؟ تفكر! ما الذي تجنيه أنت من وراء الحسد؟

    لن تجد إلا أنك ساخط غاضب على قدر الله وعلى قسم الله، ستجد نفسك واحداً من الذين لا يرضون قسمة الله سبحانه وتعالى في خلقه.

    ستجد نفسك واحداً ممن يضمر الغش والخديعة للمسلمين، فتظهر لهم الأخوة والمحبة والمودة, وأنت تضمر لهم خلاف ذلك، إذ إنك لو أظهرت هذا لخصمك ولمن تحسده وقلت له: أنا أتمنى أن تزول هذه النعمة عنك لأبغضك كل الناس، ولقلاك كل الأحباب، ولكنك تظهر لهم شيئاً وتبطن لهم شيئاً آخر.

    تفكر مع نفسك! ما الذي تجنيه غير هدم حسناتك، وإغضاب ربك، والوقوع في كبائر الذنوب المسخطة لرب العالمين؟

    ثم تفكر في عدوك! إذا حسدته أنت، إذا تمنيت زوال النعمة عنه هل تزول تلك النعمة؟ إذا تمنيت أنت أن تذهب عنه عطايا الله، هل تذهب عنه تلك العطايا؟ كلا، فأنت في وهم، فالله يقطع عنك هذا الباب ويسده, فيقول سبحانه وتعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2] ، وعلمنا عليه الصلاة والسلام أن نقول بعد كل صلاة: ( اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت )، فأنت لماذا تكابر؟ لماذا تعاند؟

    إذا فتح الله عز وجل باب رحمة لأحد من خلقه ثم اجتمع الناس جميعاً على أن يسدوا هذا الباب ما استطاعوا سده، ولو أغلق الله باباً دون أحد من عباده، ثم اجتمع الناس كلهم على أن يفتحوا هذا الباب ما استطاعوا فتحه؛ لأن الله يقول: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2].

    تفكر في حالك! ما الذي تجنيه من الحسد غير الهم والغم والذنوب والحسرات، وتفكر في عدوك أن هذه النعمة لن تزول، بل قد يعاقبك الله فينزل به نعمة بعد نعمة، ماذا فعلت بهذا المحسود؟

    المحسود إن كان من أعدائك ولمح في وجهك أنك تتمنى زوال النعمة عنه استراح وطار فرحاً؛ لأنه يعلم مقدار الهم الذي تعيشه، ويعلم مقدار الغم الذي نزل بك بسبب تلك النعمة التي يعيشها.

    وعادة الإنسان أنه لا يريد من عدوه إلا أن يعيش مهموماً مغموماً مكروباً، فلو خير هذا الإنسان بين زوال النعمة التي في يده، وزوال الكرب والغم عن عدوه لاختار أن تزول النعمة ويبقى صاحبه مهموماً مغموماً مكروباً، فأنت بحسدك لم تفعل شيئاً إذاً! لم تجن على عدوك شيئاً، لم تجن على من تبغضه شيئاً، لم تفعل شيئاً، إنما جنيت على نفسك.

    لو تفكرت في هذا وقت خلو الضمير عن الشواغل، لعلمت بأنك أحوج ما تكون إلى أن تداوي نفسك من الحسد.

    أما ماذا تفعل؟ كيف تداوي الحسد بالفعل؟ فالعلماء يقولون: إذا كنت عاقلاً فالدواء مر، لكن من لم يذق مر الدواء لم ينعم بحلاوة الشفاء، من كان يريد الشفاء حقيقة فعليه أن يتجرع غصص الدواء، وغصة الدواء لحظة, ولذة الشفاء أعمار مديدة، فإذا كنت عاقلاً فخذ الدواء وتناوله ولو كان مراً، الدواء العملي أن تعمل بنقيض الحسد، كلما يأمرك الحسد بشيء فاعمل بنقيضه.

    1.   

    سبل الوقاية من الحسد

    أما ماذا يفعل المحسود؟ من ظن أن الناس يحسدونه، مع أنني لا أوافق الكثيرين على المبالغة في التخوف من الحسد، المبالغة في التخوف من أن ينالهم في كل شيء حسد، حتى أصبح كثير من الناس يعزون الإخفاق في شتى مناحي حياتهم.. فإذا أخفق في الوظيفة، وإذا أخفق في التجارة، وإذا أخفق في الدراسة، وإذا أصابه المكروه، عزا ذلك إلى العين والحسد.

    ليس الأمر كذلك، فوراء المكروه أسباب كثيرة أهمها وأعظمها وأكبرها قدراً وأثراً: الذنب والمعصية، فكثير منا يصاب بأنواع المصائب بسبب ذنوبه, وهذه سنة الله في خلقه.

    وكثير منا يحرم الخيرات، ويحرم البركات في نفسه وماله وأهله وولده بسبب الذنب ولكنه يغالط نفسه، ولكنه يمني نفسه بغير الحقيقة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )؛ فإذا أردت أن تعالج ما يصيبك من مكروهات فابدأ أولاً بالتوبة، والإحسان، وتقوى الله تعالى، فـ(احفظ الله يحفظك).

    وإذا أردت أن تحفظ من كل مكروه فعليك بالتوكل والاعتماد على الله، هذا وعد الله لكل من اعتمد عليه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، (فهو حسبه) يعني: فهو كافيه، سيكفيك شر كل ذي شر، سيكفيك شر كل من يحاول إيصال الشر إليك.

    ومن الأدوية النافعة المهمة: التحصن بالأذكار، كما جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بتعويذات, ويعوذ بهن أبناءه, فلما نزلت المعوذتان قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، أخذهن وترك ما سوى ذلك).

    هذا سهل عليك يسير، أن تقرأ المعوذتين ثلاث مرات كل صباح قبل طلوع الشمس بنية التحصين وأنت حاضر القلب، حاضر الذهن، وتقرأها قبل غروب الشمس ثلاث مرات, فإن فعلت فأنت محفوظ بإذن الله.

    ومن الأدوية النافعة: أن ترد كيد هذا الحاسد بالإحسان إليه، هكذا أرشدنا القرآن: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].

    فالإحسان إلى الحاسد يطفئ نار الحسد الذي أبرمه الشيطان في قلبه، فأحسن إليه بفعلك، وأحسن إليه بقولك.

    من الأسباب المؤدية إلى حفظك من الحسد: أن تتجنب الترفع على الناس، أن تتجنب محاولة إبراز نفسك عن الناس، إذا كنت تريد أن تحمي نفسك من الحسد.

    يقول ابن الجوزي رحمه الله في كتابه العظيم صيد الخاطر وهو يتكلم عن لفتة جميلة في باب الحسد وأسباب الحسد: أسباب الحسد في الغالب: تزاحم الناس على مقصود واحد، الحسد إنما يقع في الغالب بين الأقارب، بين الأصحاب، وهذا من عجيب آفة الحسد أنه يقع بين من تحبهم! يقع منك لمن تحبهم! يقع منك لمن هو قريب منك، والبعيد سالم من أذيتك، البعيد سالم من شرك، إنما يصل شرك إلى حبيبك، يصل شرك إلى قريبك.

    عادة الناس لا يتحاسدون إلا إذا اختلطوا في المصالح، اختلطوا في الأعمال، اختلطوا في المناصب، اختلطوا في الأموال، فإذا اختلطوا تحاسدوا، هذه عادة الخلق، وإذا أردت أن تدفع عن نفسك هذا فارفع عن نفسك حب العلو على الناس، حب الرفعة عن الناس.

    ويذكر رحمه الله تعالى أنه كم من حروب في تاريخ الناس قامت بين أبناء الأب الواحد، حروب بين قبائل ينتمون إلى أب واحد وما ذاك إلا بسبب التحاسد، فإذا أردت أن تدفع عن نفسك الحسد فادفع عن نفسك حب الكبر، حب العلو، حب الترفع على الخلق، فإذا رآك الناس تعيش كواحد منهم في أوساطهم مثلهم لن يحسدك بعد ذلك إلا من كان خبيث الطبع هذه هي الأدوية لاقتلاع هذه الآفة العظيمة.

    ونختم الخطبة بهذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: ( لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا )، لا يزال الناس يعيشون بخير وفضل الله إليهم نازل، وخيره سبحانه وتعالى لهم عميم، وبره إليهم واصل ما لم يتحاسدوا، فإذا تحاسدوا وتمنى كل واحد منهم للآخر زوال النعمة التي هي فيه ووصول المكروه إليه, فكيف سيكون بعد ذلك حال الناس.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يهدينا لأحسن الأعمال والأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيء الأعمال والأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا هو.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    صفاء القلب من الحسد من صفات المؤمنين الأخيار

    أنت بحسدك تكون قد فارقت الأنبياء الذين يحبون الخير للناس، ويتمنون وصوله إليهم، فأنت بحسدك مفارق لطريق الأخيار الذين كانوا ولا يزالون إذا رأوا نعمة أنزلها الله على الناس فرحوا لهم بها، وهكذا قال الله عن الأنصار حين وصل إليهم المهاجرون: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9]، لا يجدون في صدورهم حزازة ولا حرجاً، إذا أنعم الله عز وجل على المهاجرين بمزية أو أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم قسماً ومالاً، لا يجدون في صدورهم غلاً، ولا حقداً ولا حسداً، وهكذا من بعدهم، قال في الآية التي تليها: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

    (لا تجعل في قلوبنا غلاً) .. حقداً .. حسداً، على من آمن بك يا رب! وتفضلت عليه وأعطيته، وإذا بلغ الإنسان هذه الرتبة والمنزلة وهي صفاء القلب, وأن يبيت ويصبح على قلب سليم يضمر للناس المحبة، ويضمر للناس حب الخير، ويتمنى أن تنزل بهم عافية الله، ويتمنى أن ينزل بهم رزق الله، إذا أصبح الإنسان على هذا القلب النقي، على هذا القلب التقي، فقد وصل أعلى المراتب عند الله، وصار أسرعهم ثواباً ووصولاً إلى الله.

    واسمع هذا الحديث بقلبك: ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم: من أفضل الناس يا رسول الله؟ قال: كل صدوق اللسان، مخموم القلب، قالوا: صدوق اللسان نعرفه يا رسول الله! فمن مخموم القلب؟ )، مخموم يعني: منظف القلب، خم المكان يعني: نظفه، كما نقول: كنس المكان، وقم المكان، ومخموم القلب قد خم قلبه وتنظف قلبه، ( التقي النقي الذي ليس فيه غل ولا حقد ولا حسد ).

    إذا تنظف القلب من هذه الآفات بلغ الإنسان عند الله أعلى المراتب، ولا تستغرب بعد ذلك أن يبوئه الله عز وجل أفضل الثواب وإن قلت أعماله الظاهرة, فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال عن الله: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم )، ينظر إلى ما قام في القلب من حب الخير للناس، وما قام في القلب من حب الله وحب رسوله وحب المؤمنين.

    وفي قصة ذلك الصحابي الجليل الذي أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات متتابعة يقول لأصحابه: ( يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فيطلع ذلك الرجل في المرة الأولى تقطر لحيته بماء الوضوء وهو آخذ نعليه بيديه )، وفي اليوم الثاني يتكرر نفس المشهد، وفي اليوم الثالث يتكرر نفس المشهد, فأحب أحد الصحابة أن يعرف ما هو عمل هذا الرجل, وافتعل قصة ليبيت عنده ويرى عمله في البيت، فكان يراه إذا صلى العشاء نام، فلا يكثر من الصلاة في الليل غير أنه إذا تعار من الليل ذكر الله، ومكث على هذا ثلاث ليال, والرجل يرقب حاله ما الذي يفعله؟ ما الذي بلغ به هذه المنزلة؟ ثم قال له في آخر المطاف: ( ليس إلا ما رأيت غير أني أبيت وليس في قلبي غل ولا حقد ولا غش ولا حسد لأحد من المسلمين ).

    هذه المزية هي التي أبلغته تلك المراتب، والله عز وجل يريد من هذا الإنسان أن يحيا بقلب سليم، بقلب صحيح يضمر الخير والمحبة لعباد الله, فإذا فعل ذلك كان من المفلحين الناجين، كما قال سبحانه وتعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

    القلب الصحيح السليم من كل شبهة تعارض خبر الله، والسليم من كل شهوة تعارض أمر الله، والسليم من كل آفة يضمرها الإنسان لعباد الله.

    الحاسد أيها الإخوة متشبه بأعداء الله, فإن أعداء الله يحبون السوء للمؤمنين؛ كما أخبر الله في كتابه: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:120]، هذا حال أعداء الله من الكفرة، إذا نزلت بالمؤمن الحسنة ساءته وغمته وأورثته أنواع الهموم والحسرات، وإذا رأى المصيبة نزلت به فرح وطار بها تيهاً وعجباً، هذا حال الكفار، فكيف يرضى الإنسان لنفسه أن يتشبه بهم في هذه الأخلاق الذميمة؟

    لا عجب بعد ذلك أن يجعل الله سبحانه وتعالى هذه الآفة في الموبقات المهلكات المذهبات للحسنات: ( إياكم والحسد )، هكذا حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأخبرنا عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث أن الله عز وجل يريد منا أن نعيش إخوة متحابين، ( وكونوا عباد الله إخواناً )، لماذا الحسد؟ وكيف نعالج الحسد؟ هذا ما ستسمعه في الخطبة التالية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه!

    1.   

    ما يدعو إليه الحسد

    نتائج الحسد كثيرة، يعني: ما الذي يدعوك إليه الحسد؟ بماذا يأمرك الحسد؟

    الحسد قد يأمرك بأفعال: إما بقلبك، وإما بلسانك، وإما بجوارحك، وأعلاها القتل، قد دعا الحسد أقواماً فقتلوا أقرب الناس إليهم كما سمعتم، قتل ابن آدم أخاه، وأبناء يعقوب عليه السلام إخوة يوسف قطعوا رحمهم، وعقوا أباهم وهو شيخ كبير ولي نبي من أنبياء الله، أفضل خلق الله في تلك اللحظة على تلك الأرض، هكذا عقه وقطع رحمه أقرب الناس إليه وهم أبناؤه، فأبكوه أربعين سنة أو يزيد حتى ذهب نور بصره، فعلوا به كل هذه الأفاعيل والداعي الذي دعاهم إلى ذلك هو الحسد، قطعوا رحمهم بأخيهم فهموا بقتله، ورموه في أنواع من المذلة والهوان، كل ذلك بسبب الحسد.

    الحسد يدعوك إلى أفعال، إلى أقوال، إلى تصرفات، إذا أردت أن تعالج نفسك بادر إلى أن تفعل بنقيض ما يدعوك إليه الحسد، فإذا دعاك الحسد إلى أن تغتاب هذا المحسود، وتذكره في المجالس بالسوء، تريد أن تنقص من قدره، تريد أن يسفهه الناس، تريد أن يبغضه الناس، إذا دعاك الحسد لهذا فالدواء أن تبادر بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه في المجالس، وتثني عليه بما تعلمه من الخير، إذا دعاك الحسد أن تتمنى زوال النعمة عنه فقط فبادر إلى الدعاء له بأن يديم الله عليه العافية، وأن يبسط له الخير، وأن يرزقك مثلما رزقه.

    إذا دعاك الحسد إلى القطيعة والتدابر فبادر إلى التواصل والتهادي والمحبة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( تهادوا تحابوا )، إذا عالجت نفسك يوماً بعد يوم, ورويداً رويداً بضد ما يدعوك إليه الحسد فإنك ستصل إلى الشفاء بإذن الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012158