إسلام ويب

فقه العبادات - الصلاة [24]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صلاة الجماعة مشروعة سفراً وحضراً، وخوفاً وأمناً، ولها فضائل عظيمة لمن حافظ عليها، ومن تركها من الرجال المقيمين بغير عذر أثم على خلاف بين العلماء في حكمها، وإذا أقيمت الصلاة فلا يجوز الانشغال بغيرها من التطوعات، وأما من أقيمت وهو يتنفل فقد اختلف العلماء هل يتمها أم لا؟ وأفضل المساجد المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم مسجد قباء، وما كان المشي إليه أكثر فهو أفضل ما لم يتعطل المسجد القريب والأجر على قدر التعب.

    1.   

    من فوائد صلاة الجماعة

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته, إخوتي المشاهدين والمشاهدات!

    وأرحب بإخواني الذين معنا في الأستديو، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع ونقول، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وكنا أيها الإخوة قد توقفنا في باب صلاة الجماعة, وسوف نذكر إن شاء الله في هذا الباب حكم صلاة الجماعة والمسائل المتعلقة بها.

    يجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما شرع للأمة صلاة الجماعة وأمر بها حتى في الخوف, لما فيها من الأجور والفوائد الجمة:

    أولاً: أن الإنسان إذا صلى جماعة فهو أفضل مما لو صلى وحده, فدل ذلك على أن مشروعية صلاة الجماعة، وفيه دلالة على أن الإنسان مأجور إذا صلى فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( فإن صلاة أحدكم مع الجماعة تفضل على صلاته وحده بسبعٍ وعشرين درجة ), وفي رواية: ( بخمسٍ وعشرين درجة ).

    الأمر الثاني: أن فيها من تقوية الأواصر والترابط الحميم بين جماعة المسجد, ولأجل هذا فإن ترك هذه الجماعة سبب للاختلاف والمخالفة, ولهذا قال ابن مسعود : ( ولو أنكم صليتم كما يصلي هذا المنافق لتركتم سنة نبيكم, ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ).

    والضلال إنما يتأتى أحياناً بالمخالفة للشرع, وكذلك بمخالفة القلوب, فإن الإنسان إذا وجد في نفسه على أخيه ولم يره, فإنه تشتد المخالفة ويشتد الخلاف بسبب أنه لم يره، وبما يسمعه من الآخرين, فإذا كانت صلاته جماعة مع إخوانه المسلمين, فإن ذلك أنفع له وأدعى لقلبه وأسعد لحياته, فإن الإنسان إذا صلى مع إخوانه فإنه ينشط للطاعة, ولهذا قال الله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43], فهذا أمر من الله للإنسان أن يكون مع إخوانه الراكعين، وأن يعينهم على ذلك ويعينوه, وهذا فيه نوع من النشاط.

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده, وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل, وما زاد فهو أحب إلى الله, كما في حديث أبي بن كعب وهو حديث صحيح صححه الذهلي و ابن المديني و يحيى بن معين وغيرهم.

    وهذا يدل على أن صلاة الجماعة فيها فوائد جمة, ولو لم يكن فيها إلا أن الإنسان يخرج من بيته في الظلم, فتلك دلالة على صدق إيمانه وصدق توجهه وإخلاصه, وقد قال صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة), وهذا حديث عظيم!

    فلماذا نتكاسل نحن عن الصلاة مع الجماعة؟ أو نتكاسل عن صلاة المغرب أو صلاة العشاء أو صلاة الفجر, وقد جاءنا البشير الذي يخبرنا عن الله سبحانه وتعالى أن من صلى في جماعة فإن له النور التام يوم القيامة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]؟

    1.   

    حكم الصلاة في جماعة

    الشيخ: أما حكم صلاة الجماعة فأقول:

    أولاً: أجمع أهل العلم على أن صلاة الجماعة مشروعة, وأن الصلاة جماعة أفضل من غيرها, بل قال أكثر أهل العلم: لو اجتمع أهل بلد على ألا يصلوها فإنهم يقاتلون على تركها؛ لأن الصلاة في المساجد من شعائر الإسلام، والله أعلم.

    مذهب من قال بأن صلاة الجماعة فرض عين

    الشيخ: ذهب الحنابلة وأكثر الحنفية، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية إلى أن صلاة الجماعة فرض عين, تجب على الرجال البالغين المقيمين.

    وعليه فلا تجب على المرأة, وهذا محل إجماع عند أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن), وهذا يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل, وقد قال صلى الله عليه وسلم للمرأة: ( وصلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك, وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في مسجد قومك).

    وهذا يدل على أن الأفضل في حقها أن تصلي في حلس دارها, وحلس غرفتها, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    وعليه فالرجال هم الذين يجب عليهم والحضور لصلاة الجماعة.

    وقلنا: (البالغين)؛ لأن غير البالغ ليس مخاطباً بالتكليف, بحيث يثاب أو يعاقب, وإن كان وليه مأموراً أن يأمره بالصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين, واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ), وهذا يدل على أنهم يأمرون بالصلاة, والأمر بالصلاة مطلق, فإذا كانت الأم تأمر صبيها بالصلاة فهذا هو الواجب عليها, لكنها إذا كانت تخاف عليه فلا بأس أن يصلي في بيته, فإن صلى في المسجد خاصة في أوقات النهار أو مع أبيه أو أخيه الكبير أو في حي لا يخاف عليه فيه فهذا حسن، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    أدلة من قال بأن صلاة الجماعة فرض عين

    الشيخ: ذهب الحنابلة وبعض فقهاء الحنفية وهو اختيار أبي العباس بن تيمية إلى أن صلاة الجماعة فرض عين, يأثم تاركها، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة.

    الدليل الأول: هو قول الله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] الآية.

    وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصلاة الجماعة مع وجود الخوف، فلما أمر صلى الله عليه وسلم أن يقيم صلاة الجماعة مع وجود خوف وهم قبالة عدو, فهذا دليل على أن صلاة الجماعة في حين الأمن واجبة من باب أولى.

    وقولنا: فرض عين؛ لأنه لو كانت صلاة الجماعة فرض كفاية لاكتفى صلى الله عليه وسلم بالطائفة الأولى التي صلت معه, لكنه صلى الله عليه وسلم أمر الطائفة الأولى والطائفة الثانية, فدل ذلك على أن صلاة الجماعة فرض عين، وليست فرض كفاية.

    ومما يدل على ذلك أيضاً: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء, ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً, ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام, ثم أنطلق مع رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة, فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ).

    وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأحرق عليهم بيوتهم), أي: لأجل تخلفهم عن الصلاة جماعة, ولا عقوبة إلا بذنب, فدل ذلك على أنهم فعلوا الذنب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    ومما يدل على ذلك أيضاً: ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل تجد لي رخصة؟ فرخص له صلى الله عليه وسلم, ثم إنه خرج فدعاه فقال: أتسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم, قال: فأجب؛ فإني لا أجد لك رخصة ), فدل ذلك على أن صلاة الجماعة واجبة وجوباً عينياً.

    مذهب من جعل صلاة الجماعة فرض كفاية ودليله

    الشيخ: ذهب الشافعي إلى أن صلاة الجماعة فرض كفاية وقال: أدلة الوجوب هي أدلة القول الأول.

    والدليل على أنها فرض كفاية وليست على الأعيان هو صحة وثواب من صلى وحده؛ لحديث: ( صلاة الرجل مع الجماعة تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة ), قالوا: فقوله: ( تفضل)، دليل على أن صلاة المنفرد تصح.

    ولكن الراجح أن وجود الثواب ليس معناه عدم وقوع العقاب من وجه, فهذا الحديث على صحة صلاة المنفرد, لكن ليس فيه ما يدل على أن المنفرد لو ترك الجماعة لا يأثم, والأصل كما قال الزهري و الثوري و أحمد : أن يجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها مع بعض.

    مذهب من جعل صلاة الجماعة سنة وبيان مقصودهم بذلك

    الشيخ: ذهب مالك رحمه الله إلى أن صلاة الجماعة سنة.

    والمالكية لا يقصدون بالسنة مثل قاعدة الشافعية والحنابلة أن السنة ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.

    فإن المعروف عن المالكية كما أشار إلى ذلك صاحب مراقي السعود في أصوله, و ابن رشد في بداية المجتهد: أن ما يطلق عليه المالكية سنة هو ما ثبت وجوبه بدليل ظني, وعليه فإنهم قالوا: يأثم على تركها, وهذا هو الوجوب، ولكنه يخفف فيها أحياناً لعذر, وهذا هو الأقرب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    وعلى هذا فما ينقل اليوم أن صلاة الجماعة سنة، ولا ينبغي الإنكار على الناس فيها, فهذا ليس بصحيح؛ لأن الإنسان ربما يترك صلاة الجماعة بغير عذر, والخلاف إنما هو فيمن يتركها لعذر.

    الراجح في حكم صلاة الجماعة

    الشيخ: أما من يستمر على الترك، فقد قال ابن تيمية: وقد اتفقوا على أن من تركها مطلقاً فإنه يأثم. وهؤلاء الأئمة هم أعلم بمرادهم وأعلم بما يقولون, فلا يسوغ لنا أن ننقل كلام إمام له مصطلح في مذهبه لنجعله في مصطلح تداولناه نحن على معنى معين, ولهذا يجب أن نعلم أن الفقهاء اتفقوا على أن من داوم على ترك صلاة الجماعة فإنه يأثم بذلك.

    ومما يدل على خطورة هذا الأمر أنهم قالوا: لو اتفق أهل بلدة على تركها قوتلوا على تركها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    ومما يدل على أن هذا هو الأصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أبي داود : (كان يصلي الفجر، فيقول: أشاهد فلان؟ أشاهد فلان؟ ), ولا يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لأجل أنه قد ترك شيئاً عظيماً.

    ومما يدل على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم علمكم سنن الهدى, وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي تقام فيه الصلاة, ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم, ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض, وإن كان الرجل ليهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف, وهذا يدل على خطورة هذا الأمر, وأنه يجب أن نعلم أن صلاة الجماعة فرض عين, هذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    نعم يجوز للإنسان أن يترك الجماعة لحاجة: كخوف فوات رفقة, أو خوف ضياع مال, كما أشار إلى ذلك الحنابلة، وسوف نذكرها إن شاء الله فيما يسمى بصلاة أهل الأعذار.

    1.   

    صلاة الجماعة في المسجد وحكمها على المسافر

    الشيخ: ثم لابد من معرفة أن أهل العلم يفرقون بين صلاة الجماعة في غير المسجد وصلاتها في المسجد.

    فذهب جمهور الفقهاء إلى أن صلاتها في المسجد سنة.

    والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية و ابن القيم : أن صلاة الجماعة في المسجد واجبة, وهذا أظهر.

    ومما يدل على ذلك أمور:

    أولاً: أثر ابن مسعود، فإنه قال كما في صحيح مسلم : ولو أنكم تخلفتم كما يتخلف هذا المنافق لتركتم سنة نبيكم, ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.

    وجه الدلالة أنه قال: (كما يتخلف هذا المنافق)، فهو دليل على أن المنافق هو الذي يترك الصلاة في المساجد, ولا شك أن تارك الجماعة في المسجد قد فعل إثماً عظيماً, ولهذا لم يوصف بالمنافق إلا لتركه مأموراً به, هذا واحد.

    ثانياً: قوله: (لضللتم)، وهؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومما يدل على ذلك أيضاً: ما جاء عن عتاب بن أسيد الصحابي المعروف حينما تولى إمارة مكة قال: يا أهل مكة! والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه تخلف عن الصلاة في المسجد إلا ضربت عنقه, يقول ابن القيم : فحمد الناس أمره ذلك.

    ومعنى أن ضرب عنقه: أنه يستتيبه على ترك الصلاة؛ لأنهم كانوا في الأصل لا يتركون الصلاة في المساجد والمقصود هنا هو الترك مطلقاً, وليس معنى ذلك أن من ترك الصلاة في المسجد يقتل, وإنما قصد بذلك ترك الصلاة مطلقاً، والله أعلم.

    ويقول ابن تيمية رحمه الله: والذي نؤمن به ونرى أنه الحق هو أن الصلاة في المساجد واجبة.

    وهذا هو الراجح, لكن يجوز في غيرها لحاجة, والحاجة مثل أن يكون الإنسان عنده عذر، كأن اجتمع عنده أناس في يوم من رمضان لظرف من الظروف, أو عندهم مريض، فأراد المريض أن يصلي بهم, كما في الصحيحين من حديث أنس أنه قال: ( سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش شقه الأيمن, فجئنا نعوده فحضرت الصلاة, فقام فأمنا ونحن خلفه, فأردنا أن نقوم فأشار بيده أن اجلسوا, ثم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به, فإذا سجد فاسجدوا, وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين ), وهذا يدل على أنهم تركوا الصلاة في المسجد, وقد كان هذا لعذر, وأما إذا كان من غير عذر فإنه كما قال ابن مسعود : (ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم).

    حكم صلاة الجماعة في حق المسافر

    الشيخ: أما وجوب الجماعة فثابت في حق المقيم، وأما المسافر فالراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أنه لا تسقط في حقه صلاة الجماعة, أنا قلت أولاً: تجب على الرجال البالغين المقيمين, وأقصد بذلك الصلاة في المسجد, وأما الجماعة فتجب على الرجال البالغين المقيمين؛ لأن صلاة الجماعة شيء وصلاتها في المسجد شيء آخر, فالصلاة جماعة في المساجد واجبة على الرجال البالغين المقيمين, وأما المسافر فيجب عليه أن يصلي جماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أوجب الله عليهم أن يصلوا جماعة في صلاة الخوف وهم مسافرون.

    أما في المسجد فالأصل أن الإنسان يصلي جماعة, فإذا كان مسافراً ومعه زوجته أو معه أولاده فأحب أن يصلي في الشقة جماعة, فنقول: أنت فعلت الواجب، وصلاتك في المسجد أفضل أيها المسافر!

    وإنما فرقنا في هذا لما روى مالك من حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد الخيف ), ومعلوم أن صلاته في مسجد الخيف تعني أنه كان مسافراً, وذلك في الحج. ( فلما سلم إذا برجلين لم يصليا, فقال: علي بهما, فجيء بهما ترعد فرائصهما, فقال: ما منعكما أن تصليا معنا, أولستما بمسلمين؟ قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا, قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا، تكن لكما نافلة ), فهذا يدل على أن الصلاة في المسجد في حق المسافر مستحبة، والله أعلم.

    فإذا لم يجد المسافر جماعة إلا في المسجد، فيجب عليه أن يصلي في المسجد, لا لوجوب الصلاة في المساجد, ولكن لوجوب صلاة الجماعة, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    الحالة التي يجوز فيها للمسلم ترك الجماعة

    الشيخ: لا يجوز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة في المساجد إلا لعذر, ومن الأعذار أنه يرى الناس يؤخرون الصلاة عن وقتها, فلا بأس أن يتركها, مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كيف بكم إذا كان عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها, ويخنقونها إلى شرق الموتى! قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: صل الصلاة لوحدك، فإن أدركتها معهم فصلها تكن لك نافلة ), فهذا يدل على جواز ترك الجماعة في المساجد إذا خالفوا فيها السنة, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    الرد على من يقول: إن الجماعة شرط لصحة الصلاة

    الشيخ: أما قول ابن حزم: إن صلاة الجماعة شرط، وهو قول ابن عقيل من الحنابلة, وروي عن ابن تيمية , فالذي يظهر لي والله أعلم أن ابن تيمية لم يصح عنه أنه قال: إنها شرط, إنما ذكرها عن بعض الحنابلة, ولم يقل ابن تيمية إنه يختارها، وهذا معروف في طريقة ابن تيمية لمن مارس قراءة كتبه, فإنه أحياناً يقوي القول ويقول: هو أقوى, ويقصد بذلك أنه أقوى من القول الذي يريد الرد عليه, لكنه لا يختار هذا ولا ذاك, وهذه طريقة اعتاد عليها أبو العباس بن تيمية, ومن مارس كتبه وأشربها وتعود على أسلوبه علم أنه قد يقوى قولاً وإن كان ليس معناه أنه يرجحه على غيره من الأقوال، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    إذا ثبت هذا فإن من قال: إن الجماعة شرط فقد أخطأ؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم كما جاء عند أبي داود من حديث أبي سعيد : ( أن رجلاً جاء وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وحده, فقال صلى الله عليه وسلم: من رجل يتصدق على هذا؟ ), وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه حينما صلى وحده، وهذا دليل على أن صلاته صحيحة مجزئة.

    ومما يدل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإن صلاة الرجل مع الجماعة تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة ), فدل ذلك على صحة صلاته، ولولا أن صلاته صحيحة لما جعل لها ثواباً, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    1.   

    أفضل المساجد

    أفضلية المساجد الثلاثة

    الشيخ: أفضل المساجد هو المسجد الحرام, ثم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, ثم المسجد الأقصى.

    فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم من حديث ميمونة : ( فإن صلاة أحدكم فيه تعدل صلاته في غيره- يعني المسجد النبوي - بألف درجة، إلا المسجد الحرام ), وفي رواية: ( إلا مسجد الكعبة ), وأما زيادة أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة، فهذا الحديث فيه كلام, لكن أكثر أهل العلم على العمل به.

    وأما ما جاء في بعض الروايات: ( فإن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف, والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة, والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة ), فالراجح أن رواية (خمسمائة صلاة) هذه لا تصح, لكن لا شك أن المسجد الأقصى فيه أفضلية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا, والمسجد الأقصى ), ولولا الفضل الذي فيه لما جاز أن تشد الرحال إليه.

    المسجد الرابع في الأفضلية: هو مسجد قباء كما يظهر, ولكن لا يجوز شد الرحال إليه, ولكن من كان بالمدينة فإنه يشرع له أن يأتي إليه, فقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند جيد: ( من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء راكباً أو ماشياً, ثم صلى فيه ركعتين؛ كان كعمرة أو حجة ), وهذا يدل على أفضلية الصلاة في مسجد قباء.

    وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكباً أو ماشياً ), وهذا يدل على أفضليته، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    وقد قال الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108], وهذا المسجد هو مسجد قباء.

    وأما ما جاء في حديث أبي سعيد في الصحيحين: ( إنه لمسجدكم هذا ), يعني المسجد النبوي, فإن أهل العلم قالوا: المعنى: إذا كان مسجد قباء بني على التقوى, فإن مسجدكم هذا من باب أولى, فدخل المسجد النبوي في هذه الآية من باب قياس الأولى, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    أفضلية المسجد البعيد لزيادة الأجر بكثرة المشي إليه

    الشيخ: أما غير هذه المساجد فإنما ذلك لأوصاف, ومن ذلك أن الصلاة في المسجد الذي يبعد أفضل من الصلاة في مسجد قريب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي موسى رضي الله عنه: ( أعظم صلاة أحدكم أبعدهن إليه ممشى ).

    واختلف أهل العلم في معنى هذا الحديث: فهل معنى ذلك أن يترك الإنسان مسجد حيه ليأتي المسجد البعيد؟

    فبعضهم قال: إذا كان له مسجد قريب ولولاه لما أقيمت صلاة الجماعة, أو لما تشجع الناس فإن الأفضل أن يصلي في المسجد القريب كما أشار أبو العباس بن تيمية إلى نحو هذا, فإنه قال: إن صلاة الرجل في مسجده أفضل إذا كان في ذلك اقتداء به, وأما إذا كان الناس لا يفقدونه في الجملة, فإنه يبحث عن المسجد البعيد إذا كان سوف يمشي إليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (دياركم تكتب آثاركم ).

    ولقد روى كعب بن مالك قال: (إن رجلاً من الأنصار كان بيته أبعد بيت عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقنا عليه، فقلت له: لو اشتريت حماراً يقيك من هوام الأرض! قال: والله ما أحب أن بيتي مطنباً ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فوقع في نفسي من ذلك, -يعني كأنه فهم أن هذا لا يحب أن يكون بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم- فذهب كعب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا, قال: يا رسول الله! إني أحب أن أمشي, قال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ما احتسبت ).

    ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كثرة الخطا سبب في حط الذنوب والخطايا, فقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط, فذلكم الرباط, فذلكم الرباط ).

    أفضلية المسجد العتيق على الجديد

    الشيخ: أشار بعض أهل العلم أيضاً إلى أن المسجد العتيق أفضل من المسجد الجديد, ولم يصح حديث في أن المسجد القديم أفضل من المسجد الجديد, فهذا الراجح والله أعلم أنه ليس فيه دليل صحيح, إلا المسجد الحرام, والمسجد الحرام إنما ثوابه لذاته، والله أعلم.

    وعلى هذا فالأفضل هو المسجد الذي تكثر فيه الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي بن كعب : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده, وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل, وما زاد فهو أحب إلى الله ), وهذا الحديث رواه أهل السنن, وقد صححه ابن معين و ابن المديني و الذهلي وغيرهم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    وإذا ثبت هذا فإن الإنسان إذا وجد مسجداً جامعاً يكثر فيه المصلون فالصلاة فيه أفضل، كما جاء في حديث أبي بن كعب ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    1.   

    حكم إقامة الصلاة دون إذن الإمام الراتب

    الشيخ: من المعلوم أن الناس يكثرون في الجماعة, ولا يجوز لمسجد فيه إمام راتب أن يتقدموا بين يديه إلا بإذنه أو عذره -يعني تأخره- أما إذا كانوا بمجرد أن يأتي الوقت يقيمون الصلاة من غير استئذان من الإمام فهذا لا يجوز, وبهذا نعلم خطأ بعض الناس الذين ما أن يسمعوا الإقامة في المساجد المجاورة إلا وأقاموا الصلاة من غير إذن الإمام, وهذا نوع من الافتيات على الإمام, والرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه, ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه ), قال أهل العلم: ومن المعلوم أن الإمام الراتب سلطانه هو المسجد, فلا يسوغ لأحد أن يتقدم بين يديه, نعم إذا كان ذلك بإذن منه أو تأخر هو فإنه يجوز التقدم، فقد ثبت في الصحيح أنه حينما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم وشق عليه الخروج, صلى أبو بكر رضي الله عنه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في مرض موته صلى الله عليه وسلم حين قال: ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ), فهذا يدل على إذنه.

    وثبت عن عبد الرحمن بن عوف كما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر على أصحابه ثم جاء, ووجد الناس يصلون قد فاتته ركعة، فقال: أحسنتم! أو أصبتم ), يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها, وهذا يدل على أنه إذا كان هناك إمام راتب فلا يسوغ لأحد أن يتقدم بين يديه إلا بإذنه أو عذره وتأخره, فإذا تأخر فلا حرج إن شاء الله, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    1.   

    إعادة الصلاة جماعة

    الأحوال التي يشرع فيها إعادة الصلاة جماعة

    الشيخ: من المسائل أيضاً: أن من صلى في مسجد مثلاً ثم جاء مسجد جماعة فوجدهم يصلون, مثل بعض إخواننا الذين نصبوا أنفسهم لتعليم القرآن ربما يكونون أئمة مساجد فيصلون في مساجدهم، ثم يأتون إلى المسجد الذي فيه تحفيظ القرآن، فيجدون الإمام يصلي, فنقول: السنة أن تدخلوا المسجد وتصلوا معه؛ لما جاء عند مالك بسند صحيح من حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا، تكن لكما نافلة ), فهذا يدل على أنه يشرع إعادة الجماعة لأمور:

    أولاً: إذا كان ذلك من باب أنه جاء المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أتيتما مسجد جماعة) وعلى هذا فإذا صلى شخص في مسجد، ثم ذهب إلى أقربائه في استراحة ثم صلوا العشاء وقد صلى, فهل يشرع أن يعيد صلاة العشاء؟

    الراجح والله أعلم أنه لا يشرع أن يعيدها, إلا إذا كان لسبب، مثل أنه لم يصل ركعتي الراتبة بعد العشاء, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ثم أتيتما مسجد جماعة ), فدل على أن إعادة الجماعة لا تشرع إلا لأمور, كما جاء عند أبي داود من حديث ابن عمر أنه قال: ( لا تعاد الصلاة مرتين ), فإذا أعيدت لحاجة، وهي أن يصلي في مسجده، ثم يأتي مسجد جماعة فلا بأس أن يصلي.

    ثانياً: أن يتصدق على شخص, فمثلاً شخص صلى وحده وأنت قد صليت في جماعة، فلا حرج أن تصلي معه؛ لما جاء عند أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثم جاء رجل فصلى وحده, فقال صلى الله عليه وسلم: من رجل يتصدق على هذا؟), وهذا يدل على أنه يجوز إعادة الصلاة لحاجة.

    ثالثاً: إذا كان إماماً راتباً فصلى في مسجد، ثم جاء مسجداً آخر فأرادوا أن يصلي بهم فلا حرج، كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر : ( أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي مسجد قومه فيؤمهم ).

    هذه ثلاثة أشياء يباح للإنسان أن يعيد فيها الجماعة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    إعادة صلاة المغرب لأجل الجماعة

    الشيخ: فإننا نقول: إذا صلى في مسجده ثم أتى مسجد جماعة جاز له أن يصلي معهم, والسؤال: هل يصلي معهم في كل صلاة, أم يستثنى من ذلك صلاة المغرب؟

    نقول: اختلف العلماء في ذلك, فذهب جمهور أهل العلم من الحنابلة والحنفية والمالكية إلى أنه لا يشرع للإنسان أن يصلي مع إمام المسجد إذا كان قد صلى صلاة المغرب؛ لما جاء عند مالك في الموطأ عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تعاد صلاة المغرب والفجر مع الإمام؛ فإنه لا يعيدهما، هذا قول ابن عمر , وجاء في حديث: ( إلا المغرب فإنها وتر النهار ), ولكن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً.

    ولهذا فالراجح هو القول الثاني في المسألة, وهي رواية عن الإمام أحمد ، وهو مذهب الشافعي وقول بعض المحققين, وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز : أنه إذا جاء مسجد جماعة فلا بأس أن يعيد ولو كان في صلاة المغرب، وأما حديث: (فإنها وتر النهار)، فإنه ضعيف.

    فعلى هذا فالراجح أن يصلي معه ويسلم معه حتى لو كان من ثلاث؛ لأن ذلك من باب حاجة الاقتداء بالإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فلا تختلفوا عليه ), والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    إعادة الجماعة في نفس المسجد

    الشيخ: اختلف أهل العلم في مسألة أخرى، وهي حكم إعادة الجماعة في نفس المسجد.

    الأول إعادة الجماعة في حق المكلف, أما هذا فإعادة الجماعة في حق المسجد, يعني أن تعاد الصلاة جماعة في مسجد مرتين!

    فتحرير محل النزاع: هو حكم إعادة الصلاة في مسجد قد أقيمت فيه الصلاة, يعني أن تعاد فيه الصلاة أكثر من مرة, فنقول:

    الحالة الأولى: اتفق أهل العلم على أن المسجد إذا كان مسجد طرقات, بحيث تصلي فيه جماعة ثم تأتي جماعة أخرى، فلا بأس بإعادة الصلاة مرتين.

    ومعنى إعادة الصلاة: أن تصلي جماعة وتنتهي، ثم تأتي جماعة أخرى فيصلون, فلا حرج في ذلك, فتصلى الفريضة في وقتها أكثر من مرة, لكن بشرط ألا تقام جماعة ثانية والجماعة الأولى تصلي, فإذا انتهت الجماعة الأولى جاز للثانية أن تصلي, فإذا جاءت جماعة ثالثة فلا يسوغ أن تصلي حتى تنتهي الجماعة الثانية، وعلى هذا فقس.

    ودليل هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما لي أراكم عزين, ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأولى ويتراصون في الصف ), وهذا يدل على أن السنة أن يصلوا, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( تقدموا وائتموا بي, وليأتم بكم من بعدكم ), والحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عن الجميع، هذه الحالة الأولى، وهي أن يكون مسجد طرقات.

    الحالة الثانية: اتفق الفقهاء -وقال بعضهم: هو قول عامة أهل العلم، وحكى بعضهم الاتفاق- على أنه إذا لم يكن المسجد له إمام راتب فلا بأس بإعادة الجماعة مرة ثانية, وقد ذكر ذلك الشافعي في الأم.

    الحالة الثالثة: إذا لم يكن مسجد طرقات وكان المسجد له إمام راتب, فما حكم إعادة الصلاة جماعة مرة ثانية؟

    أقول: ذهب بعض أهل العلم وهو مذهب الشافعية وبعض المالكية، وهو قول حذيفة و ابن مسعود و علقمة من أصحاب ابن مسعود، إلى أن الصلاة لا تعاد في المسجد الذي له إمام راتب، وليس هو مسجد طرقات, وأقول: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح صريح أنه نهى عن إقامة الصلاة مرة ثانية, وما جاء في بعض الروايات عند الطبراني وغيره فهي أحاديث منكرة ولا تصح, نعم صح عن بعض الصحابة أنه جاء المسجد فوجدهم قد صلوا فذهب فصلى في بيته، كما روي عن حذيفة عند البخاري معلقاً بصيغة الجزم.

    ولكن لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم منع في ذلك, وأصح شيء ورد في هذا هو ما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثم سلم، فجاء رجل فصلى وحده, فقال صلى الله عليه وسلم: من رجل يتصدق على هذا؟), وهذا يدل على أنه تجوز إعادة الجماعة مرة ثانية؛ لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصلى مع هذا الرجل؛ لأجل أن يحظى بصلاة الجماعة، وعلى هذا فالراجح جوازه، وهو قول الحنابلة.

    ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجد مكة والمدينة, والراجح أنه لا فرق بين مكة والمدينة وبين غيرهما، شريطة ألا تقام الصلاة والإمام يصلي كما مر معنا, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    ومما يدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري, لكن إذا كانت الجماعة الثانية يتعمدون الحضور بعد سلام الإمام الراتب؛ بحجة أنهم لا يحبون الإمام, أو أنهم لا يريدونه، فهؤلاء يصدق فيهم قول الله: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32].

    ومن المعلوم أن الجماعة إنما شرعت لزيادة المحبة وبث روح الأخوة, فإذا وجدت جماعة تريد أن تفرق فهذه هي جماعة الضرار، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح أحوال المسلمين ويؤلف فيما بينهم, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    الصلاة عند إقامة الصلاة

    الشيخ: يبقى عندنا مسألة وهي: حكم الصلاة عند إقامة الصلاة، أي: إذا أراد شخص أن يصلي وقد أقيمت الصلاة, فما حكم صلاته؟

    أولاً: نقول: ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ), وهذا الحديث فيه حالات.

    الحالة الأولى: أن تقام الصلاة ثم يريد شخصاً أن يشرع في صلاته, فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز أن تصلى صلاة التطوع بعد شهود الإقامة, غير سنة الفجر؛ لأنهم اختلفوا فيها, فذهب أبو حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد في غير سنة الفجر إلى أنه لا يجوز أن يصلي حين تقام الصلاة إلا صلاة الفريضة.

    أما أبو حنيفة فإنه قال: أما سنة الفجر فيجوز للإنسان أن يصليها ولو أقيمت الصلاة، بشرط أن يدرك التشهد الأخير.

    والراجح هو مذهب عامة السلف والخلف, أنه لا يجوز للإنسان أن يبتدئ صلاة وقد أقيمت الصلاة؛ لأنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم, ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فلا صلاة إلا المكتوبة ), وهذا نفي للصحة, يقول ابن تيمية : الأصل في نفي الصلاة أنه نفي للصحة إلا بقرينة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم, هذه الحالة الأولى.

    الحالة الثانية: إذا كان الشخص يصلي ثم أقيمت الصلاة, فهل يكون مخاطباً بهذا الحديث فيقطع الصلاة أم يكملها؟

    اختلف العلماء في هذه المسألة: فقال بعضهم: يكملها خفيفة، وهو مذهب الحنابلة.

    وقال بعضهم: إن بقي عليه ولو التشهد الأخير فإنه يجب عليه أن يقطعها ويسلم, وهذا مذهب ابن حزم .

    وقال بعضهم: إن بقي عليه أقل من ركعة فيجوز أن يكملها, وإن بقي عليه ركعة فأكثر، فإنه يجب عليه أن يقطعها؛ قالوا: لأنه قال صلى الله عليه وسلم: ( فلا صلاة إلا المكتوبة ), قالوا: ولا تطلق صلاة إلا على ركعة فأكثر, مثل الوتر فإنها تسمى صلاة وهي ركعة, فإذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية، ثم أقيمت الصلاة فإنه غير مخاطب بهذا الحديث؛ لأنه بقي عليه أقل من ركعة، وأقل ما يطلق عليها صلاة, فحينئذ له أن يكملها؛ لأنه غير داخل في الحديث, لكنه إذا بقي عليه ركعة فأكثر، فإنه يجب عليه أن يقطعها, ولعل هذا القول أظهر الأقوال، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    من المعلوم أن الإنسان إذا صلى وحده فإن المشروع في حقه أن يكملها خفيفة, حتى ولو قلنا: إذا كان قد أدرك الأقل، فإنه ينبغي أن يكلمها خفيفة حتى يدرك تكبيرة الإحرام, فإن تكبيرة الإحرام فيها فضل؛ لأن الصحابة كانوا يتسارعون إليها, وأما ما جاء في حديث أنس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حافظ على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق ), فهذا حديث رواه الإمام أحمد ولا يصح مرفوعاً, والصواب أنه مرسل, لعل في هذا كفاية.

    1.   

    الأسئلة

    المقصود بترك الصلاة جماعة التي يأثم به الإنسان

    السؤال: هل النهي عن ترك الصلاة جماعة في المسجد، يقصد به تركها على الدوام، أم تركها مرة واحدة؟ أي: هل النهي يختص بالدوام, يعني: أن أداوم على ترك الصلاة في المسجد؟

    الجواب: أنا قلت: إنه إذا داوم على الترك، فقد اتفق الفقهاء على أنه يأثم, أما إذا ترك صلاة الجماعة من غير عذر ولا حاجة فإنه يأثم ولو مرة واحدة.

    صلاة الجماعة مع المبتدعة

    السؤال: لو كان شخص مسافراً، وكانت الجماعة الذين معه على غير مذهب أهل السنة فما حكم أن يصلي معهم جماعة؟

    الجواب: إذا كانوا مسلمين فإن أهل العلم اختلفوا في حكم الصلاة خلف الفاسق، مثل الصلاة خلف المبتدع وغيره, والذي يظهر والله أعلم أنها تجوز الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( يصلون لكم, فإن أصابوا فلكم ولهم, وإن أخطئوا فلكم وعليهم ), وهذا هو مذهب الشافعي و أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد ، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمهم الله تعالى أجمعين.

    ولكن حينما نقول: (يجوز) ليس معناه أنك تصلي معهم وأنت قادر على أن تجد جماعة أخرى، فلو انتظرت جماعة أخرى فهذا أفضل؛ لأجل أن تكمل صلاتك.

    لعل في هذا كفاية والله أعلم, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما قلنا حجة لنا لا علينا, وأن يفتح علينا في القول والعمل, إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755957369