إسلام ويب

واجب الشباب في حياته.. قصتان وسؤال!للشيخ : عبد الوهاب الطريري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من بعده؛ يرى اهتمامهم الشديد بأمور الدين وتبليغها للمجتمع المسلم، وإن كانوا في سكرات الموت، مما يبعث في الأمة أن تهتم بأمور الدين أجميعها، وأن تكون خير خلف لخير سلف، وأكبر فئة من فئات المجتمع التي يعول عليها القيام بهذا الدور هي فئة الشباب؛ فهي الفئة التي يجب أن تحمل على عاتقها هموم أمتها، وتسعى إلى إحياء ما اندرس من مجدها.

    1.   

    الذكر .. فضله وأثره

    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على النبي وآله، حقيقة يا إخواني أنا ليس لدي محاضرة ولا كلمة، وإنما (قصتان وسؤال) وأريد من أحبابي وإخواني أن يشاركوني وسيكون الكلام حديثاً تلقائياً مباشراً، لا أريد أن أتكلف فيه ولا أكلفكم.

    سأروي لكم قصتين ثم أطرح عليهما سؤالاً، ثم أروي قصتين أخرى -إن رغبتم- وأطرح عليهما سؤالاً، وهذا يكفي.

    هاتان القصتان حصلتا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    القصة الأولى: شكوى الفقراء من الأغنياء

    كما تعلمون يا أحبابي! أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيه صفة يجتمع فيها الفقراء من المهاجرين، أي مهاجر يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس له بيت، ولا نخل، ولا أهل يسكن في هذه الغرفة، وتسمى الصُفَّة، ويسمون أهلها أهل الصفة.

    وفي يوم من الأيام جاء هؤلاء الفقراء الذين لا مال لهم ولا بيوت، ولا زروع ولا محلات تجارية .. جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم يشتكون إخوانهم الأغنياء، ويقدمون الشكوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا فعل الأغنياء؟

    هل اعتدوا عليكم بشيء؟ أبداً. قصروا عنكم في شيء؟ أبداً. الزكاة لا يؤدونها؟ لا. بل وزيادة. الصدقات لا يؤدونها؟ لا. بل وزيادة. لم يواسوكم بأموالهم؟ لا. لم يقصروا في شيء أبداً!

    إذاً ما هي المشكلة؟!

    وتأتيك القضية التي عندهم تبين لك الهموم التي بداخلهم، همومهم تتجاوز هذا كله، القضية التي أقلقت هؤلاء الفقراء مقارنة حالهم بالأغنياء ليس في كثرة أموالهم، ولا ترف لباسهم، ولا كثرة مزارعهم، ولا الجواري والعبيد الذين عندهم، كل هذا وليست هي القضية، وإنما القضية أن هؤلاء أخذوا الأجور وبقينا نحن، كيف؟! إذا صلينا صلوا مثلنا، إذا صمنا صاموا مثلنا، إذا قرأنا القرآن قرءوا مثلنا، ثم يذهبون فيتصدقون ونحن لا نتصدق، يشترون العبيد ويعتقونهم لله ونحن لا نستطيع، يحجون ويعتمرون ونحن لا نستطيع، وبالتالي سبقونا، ذهبوا بالأجور يا رسول الله، هذه هي القضية!

    هذا الشيء الذي جثم على قلوبهم، التحسر على المسارعة للخيرات، وليس الحسد على الأموال، أو أعراض الدنيا، وإنما كيف يسبقنا هؤلاء بأموالهم، وأما بقية الطاعات فقد شاركونا فيها، فجاء الجواب النبوي الأبوي، من إمامنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفة يحصلون بها الأجور ولا تحتاج سيولة، ولا نقداً.

    هل تريدون وصفة تحصلون بها على أجور كأجور الأغنياء من غير أن تنفقوا مالاً؟!

    يا رسول الله إذا كان المال عندنا أنفقناه وما بخلنا به، لكن لم نجد!

    حسناً: ما هي الوصفة: (دبر كل صلاة تسبحون الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون الله ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله، فإذا فعلتم ذلك سبقتم الأغنياء) بهذا الذكر اليسير القليل السهل -دبر كل صلاة فقط- تسبقون الأغنياء.

    وانظروا! يا إخواني في أي فضل نفرط؟! فبمجرد أن نصلي نهرع إلى الباب كأنه سوف يغلق علينا، وهي كلها خمس دقائق، ولم أسمع أبداً في حياتي أن هناك إماماً صلى ثم أغلق الباب على المصلين.

    فعشر دقائق بعد الصلاة يجعلها الإنسان للعبادة، والعبادة تتبع بالذكر، كما قال الله عز وجل في الحج: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:200] وبعد الصلاة ذكر لله، فإذا فعلتم ذلك سبقتم الأغنياء، مهما أنفقوا، فأنتم بهذا الذكر اليسير سوف تسبقونهم.

    فأخذوا هذا الذكر وأصبحوا بعد كل صلاة يقولون: سبحان الله..! الحمد لله..! الله أكبر..! لا إله إلا الله!

    فقالوا: من أين أتيتم بهذا الذكر، قالوا: هذا علمناه الرسول، هل تحسبون أننا سنظل ضعفاء؟! أتى الله لنا بذكر والحمد لله نسبق به الأغنياء مهما أنفقوا.

    عجيب! وكم علمكم؟ كم قال لكم أن تكرروها؟

    فقالوا: قال لنا الرسول: قولوا سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، وأكملوا المائة: لا إله إلا الله.

    قالوا: حسناً: الوعد الفرض الآتي إن شاء الله.

    ثم أصبح الأغنياء والفقراء يقولونها: سبحان الله.. الحمد لله.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.

    فرجع الفقراء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! إخواننا أهل الأموال شاركونا في هذا الذكر! فقال صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

    هذه قصة واحدة، وبقي قصة أخرى، وبعد القصة سؤال.

    القصة الثانية: فاطمة وعلي مع النبي صلى الله عليه وسلم

    القصة الثانية بارك الله فيكم: نبينا صلى الله عليه وسلم يحب ابنته فاطمة حباً عظيماً، واختصر هذا الحب كله بقوله: (فاطمة بضعة مني) أي: قطعة مني، فالبضعة هي القطعة.

    ولذلك فسر ذلك فقال: (يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما يؤذيها) فـفاطمة قطعة منه صلى الله عليه وسلم، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه غاية في الأبوة والحنان، فاطمة زوجها النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمها علي بن أبي طالب وهي صغيرة، عمرها ستة عشر سنة فانتقلت إلى بيت علي -وهي سيدة نساء العالمين رضي الله عنها وأرضاها- فلما انتقلت إلى بيت زوجها وهي سيدة نساء العالمين وابنت سيد المرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه تمارس مهماتها الزوجية.

    فـعلي رضي الله عنه أخبرنا ببرنامج فاطمة ، قال: [دخلت فاطمة بيتها فكنست حتى اتسخت ثيابها، وخبزت على التنور حتى أثر في وجهها، وحملت الماء بالقربة حتى أثر في عاتقها] لأنها صغيرة وطرية، وما تتحمل كل هذا العناء، لكن نحن عندنا مثلٌ يقول: (قوم يا اللي ما في مكانك غيرك) يعني: إذا ما في أحد هناك يخدمها فعليها أن تخدم نفسها.

    [وجرّت على الرحى حتى مجلت يدها] ومعنى مجلت يدها أي: صار فيها يبوسة، لو ذهبت إلى موقف العمال وسلمت على أحد منهم لوجدت يده مثل (الكماشة)، وتجدها جافة يابسة من الداخل، من أثر (العتلة أو الفاروع).

    فإدارة الرحى باليد تجعل في اليد يبوسة وخشونة، فكانت يد البنت الطرية الغضة، أصبحت كأيدي العمال من كثرة العمل، فبينما هي كذلك إذ سمع علي وفاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُدم عليه بعبيد، فقال لها: هيا الحقي بي حتى نأخذ واحداً منهم، حتى يأتي لنا بالماء في القربة، ويطحن لنا الطحين ويكنس البيت، وترتاحين وتمارسين مهماتك الزوجية الحقيقية، ومعروف أن الرسول إذا جاءه شيء ذهب في نفس اليوم!

    فذهبت فاطمة من فورها إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    فلما ذهبت إليه لم تجده، فهل قالت: لن أخرج من هنا حتى يأتي؟ لا. لأن بيتها ينتظرها، وعندها مهماتها في بيتها وأشغالها، فأخبرت أمنا عائشة رضي الله عنها بالحاجة: أنا أتيت لأبي لكي يعطيني خادماً من هؤلاء الذين عنده، ولكني لا أستطيع الانتظار حتى يأتي ولكن أخبريه عندما يأتي.

    تأخر النبي صلى الله عليه وسلم فما رجع إلى بيته إلا بعد العشاء، فلما جاء صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة الخبر، فهل قال صلى الله عليه وسلم: الأمر بسيط وغداً سأمر عليهم؟ لا.

    ذهب من فوره إلى بيت علي وفاطمة ، وطبعاً علي وفاطمة شباب، ولم يتزوجوا إلا قريباً، وبعد صلاة العشاء أغلقوا الباب مباشرة.

    وبيت علي وفاطمة ليس كبيوتنا الآن فيه السور ثم تدخل على (الفيلا) ثم المجلس، ثم الصالة، ثم مجلس النساء، ثم غرفة النوم، لا. ليس هكذا، وإنما تفتح الباب فتدخل على غرفة النوم التي في الصباح هي الصالون والمجلس، وغرفة الطعام وكل شيء، فالباب تدخل منه على كل هذه الوظائف.

    فوقف النبي صلى الله عليه وسلم بالباب واستأذن فأذنا له، لأنه لا يمكن أن يتركوه في الخارج، وفي نفس الوقت كانا قد آويا إلى فراشهما، فـعلي رضي الله عنه يخبرنا بغرفة النوم، التي هو فيها وفاطمة رضي الله عنهما.

    يقول علي : [وعلينا كساء إن تغطينا به طولاً بدت جنوبنا، وإن تغطينا به عرضاً بدت أرجلنا] فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهما وقال لهما: (مكانكما. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس بينهما وهما مضطجعان رضي الله عنهما، يقول علي: حتى وجدت برد قدمه على صدري) لأن علياً مضطجع والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم ملتصقة بصدر علي .

    وعندما تسمع هذه الكلمة تستشعر كم فيها من دلالة على القرب والأبوة والحنان من الرسول صلى الله عليه وسلم بـعلي وفاطمة!

    ثم بدأ حوار هادف:

    يا فاطمة ما جاء بك؟

    هو يعرف ولذا جاء! فهو لم يأت إلى البيت إلا وهو يدري، لأن عائشة رضي الله عنها أخبرته، لكن انظر إلى الأسلوب النبوي في التعليم!

    فأجابت فاطمة : يا أبتاه أثّر عَلي عمل البيت وشق بي، وكَلِفت به، وقد قُدم عليك بسبي فنريد منهم واحداً يكفينا هذه المؤنة، فقال صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟) أي: عندي لكم عرض، شيء أحسن من الخادم، فهل تريدون أم لا؟ فقالا: (بلى يا رسول الله -دلنا على ما هو خير من خادم- فقال صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم).

    حسناً: يا رسول الله هذا الذكر سنحافظ عليه يومياً، لا يمكن أن نتركه أبداً، لأنه خير من خادم، فسوف نحافظ عليه ولن نتركه ولا ليلة، ولكن المعروض الذي قدمناه ما مصيره، هل سيكون لنا خادم أو لن يكون؟! وجاءهم الجواب سريعاً: (والله لا أخدمكما خادماً) لماذا؟ أكثير علينا؟ أم لا نستحق؟! لا. وإنما: (لا أخدمكما خادماً وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع، ولكن أبيعهم وأشترى بثمنهم طعاماً لأهل الصفة).

    وأما فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنها فلتجر على الرحى، ولتستقي على عاتقها، ولتقم على بيتها، ولتخبز على تنورها، فعندها هذا الورد خير لها من خادم.

    ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة ميزة على غيرها من مال الله العام، وإنما صرف المال في مصارفه العامة، وفاطمة التي هي بضعة منه يؤذيه ما يؤذيها ويشق عليه ما يشق عليها، ليس قليل الرحمة بها، ولكنه عظيم الرحمة، ولكن أحب إليه أن تتعنى في بيتها وأن تمجل يدها من أن يخدمها خادماً، ويدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع.

    حسناً: من الذي روى لنا هذا الحديث، أو أخبرنا بهذه القصة؟

    الذي أخبر بهذا الخبر هو ضجيع فاطمة رضي الله عنها وهو علي رضي الله عنه، هو الذي شهد تفاصيل القصة من أولها إلى آخرها، وحدَّث بهذا الحديث وعمره ثلاث وستون سنة يمسك لحيته البيضاء على منبر الكوفة .

    فلما انتهى من ذكر القصة، قال رضي الله عنه: [فما تركت هذا الذكر منذ تلك الليلة] فهناك أحد المشاغبين قام وقال: لا يا أمير المؤمنين! أنا آتيك بليلة لم تأت فيها بهذا الذكر! فما هي هذه الليلة؟

    إنها ليلة الهرير، وليلة الهرير: العادة في أن القتال إذا بدأ في الصباح فإنه يتوقف في الليل، لكن هذه الليلة بدأ فيها القتال في الصباح فلما جاء الليل استمر القتال في الليل، وعلي في وسط الميدان، فالسيوف تلمع، والدماء تنثر، وعلي رضي الله عنه إذا جاءت المعركة فإنه يكون في وسطها.

    فقال علي رضي الله عنه: [ولا ليلة الهرير].

    حتى والسيوف تضرب، والرءوس تقطع، والدماء تنثر، لم أدع هذا الذكر.

    وهنا يأتي السؤال! ما الرابط بين هاتين القصتين؟

    قد ذكرت قصتين ولدي سؤال.

    القاسم المشترك بين القصتين في فضل الذكر وأثره

    القاسم المشترك بين هاتين القصتين بيان فضل وأثر الذكر.

    وكما تلاحظون أن الذكر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء هو تقريباً الذكر الذي ذكره صلى الله عليه وسلم لـفاطمة .

    فالقاسم المشترك بين هاتين القصتين هو الذكر: فضله وأثره.

    وأثر الذكر عظيم في إعطاء العمر والجهد بركة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـفاطمة هذا الذكر خير لكما من خادم، فقال العلماء: إن من حافظ على هذا الذكر يكون في جهده وعمره من البركة ما يكفيه عن خادم، ويكفيه عن أحد يساعده، وعرف هذا العلماء.

    ولذلك العلماء السابقون ألفوا كتباً، الآن المجامع العلمية تعجز من أن تطبعها، والناس احتاروا: كيف أن أعمارهم اتسعت لتأليفها، يعني كتب شيخ الإسلام ابن تيمية لو ربطتها في كرتون ورميتها على أقوى الناس لقتلته، فمتى وجد الوقت لكتابتها؟!

    إن هذه بركة جعلها الله في أعمارهم وجهودهم، وطاقاتهم وقواتهم، فهذا الذكر يعطي العمر بركة، ويزكيه وينميه، فينجز الإنسان في يومه ما لا ينجزه الذي لا يذكر الله في شهره أو سنته.

    وهذا -كما قلت- موجود ومعروف ومحسوس في إنجازات العلماء، كما أن هذا الذكر عبادة يسيرة، ولكنها من أفضل العبادات ولا أدل على فضلها مثل قول الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].

    الآن لو أن واحداً منا ذكره ملك أو رئيس جمهورية وقال: فلان بن فلان، لوجدته في كل مجلس يأتي بقصة طويلة عريضة من أجل أن يقول: الأمير ذكرني في يوم كذا وقال كذا.

    أحياناً تجد بعض الكبار في السن يأتي لنا بقصة لم يسأله عنها أحد، ولم تطلب منه من أجل أن يقول: الملك عبد العزيز قال لي: أنت وانعم. ويذكرها وهو منتشي، ويحفظها أولاده بأنه ذُكر؛ لأن ذكر ذوي الأقدار مثلهم.

    فما بالك بمن يذكره الله في الملأ الأعلى عند جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وهو يمشي على الأرض والله جل جلاله في عليائه وعند الملأ الأعلى يذكره، ومن ذكره الله فهو بخير، وغشيته رحمته، وصلح أمره.

    1.   

    يوصيان بالصلاة في آخر أنفاسهما

    ننتقل لقصتين أذكرهما باختصار أيضاً:

    القصة الأولى: النبي صلى الله عليه وسلم يلفظ آخر أنفاسه بالوصية بالصلاة

    هذا نبينا وإمامنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] في آخر أيام حياته لما غشيته الحمى ليتهيأ لِلَّحاق بالرفيق الأعلى والمحل الأسمى.

    استمر مريضاً بالحمى قرابة أربعة عشر يوماً تقريباً، ورغم ذلك كان يتحامل على الجسد المنهك ويصلي بالناس، فكان آخر صلاة صلاها بالناس يوم الخميس صلاة المغرب، وتوفي يوم الإثنين، صلى بالناس وقرأ بهم في صلاته تلك: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1].

    ثم رجع وقد بدأت الحمى تستعر في البدن الشريف، فانهزمت العافية في البدن الطيب المبارك، وبين المغرب والعشاء ارتفعت درجة الحرارة في بدنه صلى الله عليه وسلم، وكما تعرفون أنه لا يوجد وسائل خفض حرارة ولا كمادات ثلج ولا شيء من هذا، فإذا ارتفعت الحرارة فوق احتمال الجسم ماذا يحصل؟ إغماء، فأغمي على النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء.

    دخل وقت العشاء وأذن بلال واجتمع الصحابة في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم والنبي مغمىً عليه، ارتفعت الحرارة وليس هناك ما يخفضها، والناس في المسجد ينتظرونه فقد صلى بهم المغرب وقرأ بسورة المرسلات.

    فطال مكث الناس ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستعر بدنه بوهج الحمى، فلما مضى وقت صلاة العشاء أفاق النبي صلى الله عليه وسلم وفتح عينيه، وعائشة كانت ترمق شفتيه، وتنقل لنا كيف تحركت شفتاه! أول حرف خرج من فمه بعد أن أفاق وفتح عينيه قال: (أصلى الناس).

    هذه القضية التي تشغله، هو الآن في مرض الموت وأغمي عليه وفي هذه الساعات الحرجة لا يخرج من الإنسان إلا ما يهمه فكان أول ما لفظ به: (أصلى الناس فجاء الجواب: لا. هم ينتظرونك).

    فقال صلى الله عليه وسلم: (ضعوا لي ماء في المخضب) والمخضب إناء واسع مثل الطست من أجل أن يصبوا الماء عليه فتنخفض الحرارة، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المخضب وأخذوا يصبون الماء عليه، حتى يبرد البدن وتنخفض الحرارة، فلما انخفضت الحرارة اجتمع شيء من القوة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يشير إليهم أن حسبكم، أي: يكفي، ثم تحامل على نفسه ليقوم، فكل القوة التي تجمعت من صب الماء ذهبت بتحامله على نفسه، بمجرد أن اعتمد على نفسه أغمي عليه مرة أخرى.

    فلما أفاق أعاد نفس السؤال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا. هم ينتظرونك، فقال: ضعوا لي ماءً في المخضب) فجعلوا يصبون الماء عليه حتى أشار إليهم بأن حسبكم، ثم تحامل صلى الله عليه وسلم على جسد واهن ليقوم ويصلي بالناس، فلما همَّ ليقوم ذهبت هذه القوة التي تجمعت من صب الماء فأغمي عليه مرة أخرى.

    فلما أفاق أعاد نفس السؤال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا. هم ينتظرون. فقال: ضعوا لي ماءً في المخضب) وهذه المرة الثالثة.

    فعرف صلى الله عليه وسلم من حاله أنه لن يستطيع الخروج إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فصلى أبو بكر بالناس وتغيب النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومر ذلك اليوم والذي بعده والذي بعده إلى يوم الإثنين، فصلى أبو بكر بالناس سبعة عشر فرضاً غاب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محرابه الذي طالما وقف فيه إماماً بالناس، فلما جاء يوم الإثنين جاء أبو بكر يصلي بالناس صلاة الفجر، فصلى بهم وشرع في الصلاة، وأبو بكر رجل خاشع في قراءته، قراءته حزينة خاشعة يقطعها ببكاء، والمسلمون صفوفاً خلف هذا الرجل الطيب المبارك أبي بكر الصديق يقطع ببكائه قراءته.

    وبينما هم صفوف خلف أبي بكر ، فما فجعهم وهم على تلك الحال إلا وحجرة النبي يفتح بابها، والستر الذي على الباب يرفع، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غاب عنهم هذه الصلوات إذا به واقف بالباب، بطوله صلى الله عليه وسلم، وإذا وجهه الشريف المبارك مضيء، يقول أنس : [ما رأينا منظراً أعجب إلينا من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن وجهه ورقة مصحف] هذا الوجه الشاحب من المرض إذا به يتهلل من الفرح، جعل ينظر إليهم، نظر صلى الله عليه وسلم إلى أمته وأصحابه، فإذا هم وقوفٌ كما علمهم، خشوعٌ كما أدبهم، يؤدون الصلاة التي طالما صلى بهم فيها.

    فلما اطمأن على حالهم مع الصلاة؛ أشرق وجهه المبارك بابتسامة الرضا والسرور، فتهلل وجهه يضحك ينظر إليهم، فانشقت الصفوف تريد أن يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى محرابه، إلى مصلاه، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم.

    وأرخى ستار الحجرة، فكانت آخر النظرات نظرها الصحابة إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى فراش مرضه وكأنما أراد أن يودع أمته في آخر صلاة تصليها أمته وهو على قيد الحياة، فعمره لا يتسع لوقت صلاة آخر.

    وفعلاً خرج الناس من المسجد وصدورهم لا تتسع لما فيها من الفرح، فقد استبشروا بعافية النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن أبا بكر خرج من المدينة ، قال: الرسول طاب. ذهب إلى السمح وإلى العوالي، والمسلمون يغمرهم سرور لا يوصف بعافية النبي صلى الله عليه وسلم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد عاد إلى فراشه وإلى مرضه ليتهيأ للحاق بالرفيق الأعلى والمحل الأسمى.

    فما تعالى النهار إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلفظ آخر أنفاسه، فرمقت شفتاه وهو يودع الدنيا، آخر كلمات جعل يقولها، يخاطب بها أمته، قبل أن تفلت منه آخر الأنفاس: (الله الله الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) حتى ما يبين بها صلى الله عليه وسلم، كأنما ينفق النبي آخر الأنفاس، وآخر اللحظات، وُصَاةً بأهم أمر عنده، وهو الصلاة، حتى ما يبين بها حلقه.

    فخرجت روحه وآخر وصاياه لأمته: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم).

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد واجزه عنا خير الجزاء، لو كانت هناك شدة تلهيه عن أمته لألهته شدة الموت، ولكن وهو يموت يجعل آخر اللحظات نصحاً لنا، ووصاة لنا.

    اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن رسالته.

    عمر.. لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة

    أنتقل إلى القصة الأخرى التي نريد أن نربطها بهذه القصة: وهي قصة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وهو يودع الحياة.

    عمر رضي الله عنه كان هو أمير المؤمنين وإمام الصلاة، وكانت طريقته أنه إذا دخل المسجد أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفاً، فيدخل ويعدِّل الصفوف صفاً صفاً، والذي لا يفهم جيداً فإن مع عمر درة تفهمه جيداً، فيضبط الصفوف كلها، صفاً صفاً، حتى يصل إلى محرابه.

    فدخل عمر رضي الله عنه يوم الأربعاء وعليه إزارٌ أصفر قد رفعه إلى صدره، فلما وقف في المحراب واطمأن إلى حسن وقوفهم، كبر يصلي بالناس، وكان أبو لؤلؤة المجوسي قد كمن له بخنجر مقبضه في وسطه، يعني: له رأس من هنا وله رأس من هنا، فهجم على عمر وجعل يضربه في خاصرته، ثم ضربه ضربة أخرى أسفل السرة، وطعن هذه الطعنة وجر فيها، فكانت أعنف الطعنات، فلما بطش بـعمر ، صرخ عمر دونكم الكلب، ثم سقط رضي الله عنه وهو رجل طوال، إذا وقف كأنه فسطاط، وإذا بهذا البناء العظيم -جسد عمر - يتهاوى على الأرض وهو يقول: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38].

    ثم نزفت الدماء من هذه الجراح الواسعة، فأغمي عليه رضي الله عنه، وتقدم عبد الرحمن بن عوف فأتم الصلاة -صلاة خفيفة- وانطلق هذا الفاجر أبو لؤلؤة المجوسي يبطش بالناس الذين خلف عمر واحداً تلو الآخر، فهناك شخص كان يلبس ثوباً مثل أثواب إخواننا المغاربة، هذا الذي عليه قبعة من فوقه، يسمونه برنس، فأخذ القبع هذا وألبسه رأس أبو لؤلؤة، وبهذه الطريقة شل حركته، لما ألقى البرنس على وجهه شل حركته، فعرف ذاك أنه مأخوذ فقتل نفسه، فهو إلى سقر.

    واحتمل عمر رضي الله عنه وكان ممن حمله عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وهو مغمىً عليه، ثم جعلوا يشدون الجراح، وليس هناك جراحة عاجلة، ولا تبرع بالدم، ولا خياطة بسرعة، وإنما يأخذون العمامة ويشدونها على أماكن الجراحات لعل الدم أن يستمسك، فأبى الدم، وعمر مغمى عليه.

    حتى أسفر جداً، فلما أسفر قبل طلوع الشمس بقليل وإذا بعينيه تتحرك، ثم فتح عينيه وابن عباس عند رأسه، وكان ابن عباس رضي الله عنه يسجل رضي الله عنه الصوت والصورة، قال: فتح عينيه فتحركت شفتاه فكانت أول كلمة خرجت من فمه: (أصلى الناس) وهي نفس الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يموت.

    لكن الجواب هنا اختلف، الرسول لما قال: (أصلى الناس قالوا: لا. هم ينتظرونك) لكن هنا قالوا له: نعم يا أمير المؤمنين! أكمل الصلاة عبد الرحمن بن عوف قال: إذاً أنا أصلي، أسندني يا عبد الله بن عمر ، فأسنده عبد الله بن عمر ، يقول عبد الله بن عمر : [فجعلت أضع يدي على مكان الجرح الذي أسفل السرة فتذهب أصابعي الأربعة كلها في هذا الجرح من شدة الفتح!].

    فأسنده عبد الله بن عمر وجعله يتوضأ وهو مسند ويصبون الماء عليه، وهو يقول: [الصلاة الصلاة فإنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة] فصلى رضي الله عنه ونفسه تذرف.

    القاسم المشترك .. الصلاة وأهميتها

    والسؤال: ما هو القاسم المشترك بين القصتين؟

    نعم. القاسم المشترك أن الكلمة التي خرجت من النبي صلى الله عليه وسلم، هي ذاتها الكلمة التي خرجت من عمر ، وانتبهوا إلى أن عمر رضي الله عنه لم يكن عنده النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال هذه الكلمة، يعني ما كان عمر يقتدي بالنبي في نطق هذه الكلمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الكلمة وليس عنده إلا أهل بيته، إذاً كيف خرجت كلمة عمر مطابقة لكلمة النبي صلى الله عليه وسلم؟!

    لأن الهم واحد، والقضية واحدة، المحرك في وجدان النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاته موجود في وجدان عمر أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح الهم واحداً؛ أصبح التعبير واحداً عن القضية، كلاهما يهمه أمر الصلاة، وهي أهم شيء، ولحظة الموت يا إخواني! ليس فيها مجال للتمثيل، يعني لا يمكن أن يقول شخص: سأقول هذه الكلمة من أجل أن يراني من حولي، لا. لحظة الموت يخرج فيها الهم الحقيقي للإنسان، إذا أحس الإنسان فعلاً بقرب الموت فليس هناك فرصة للتمثيل ولا يهمه هذا الأمر، وإنما لا يتكلم إلا بما أهمه.

    فلما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بما أهمه، ولما تكلم عمر رضي الله عنه تكلم بما أهمه، فما الذي كان يهمهم؟ الصلاة.

    فما كانت رهبة الموت، وفاجعة الموت، وألم الموت لتلهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عمر رضي الله عنه عن أمر الصلاة!

    فماذا أقول أنا، وماذا تقول أنت، إذا كان يلهينا عن الصلاة ليس الموت بل النوم؟! ونسمع المؤذن يقول: الصلاة خير من النوم، ثم نمسك بالوسادة ونخاف أنها تطير، ونقول: ليس هناك مشكلة بقي القليل، ثم تسمع الإمام وهو يقول: السلام عليكم ورحمة الله، فتقول: مادام وأنهم صلوا فإني سأصبر قليلاً، ثم تضرب لك الساعة أنها السابعة والنصف، وحان موعد العمل.

    أما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يكن النوم وإنما الموت ليلهيهم عن الصلاة، كان الأهم بالصلاة أعظم من فزع وفجيعة الموت.

    فأريد يا أحبابي! من كل منكم أن يأخذ هاتين القصتين، وكلما أراد أن ينام وضعها في رأسه، وعندما يسمع الأذان قال: أستحي من الله أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عمر لم يشغلهم الموت عن الصلاة، فهل أنا يشغلني النوم عنها؟! لا والله، ثم يقوم إلى صلاته.

    اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى كما جمعتنا في هذا المكان أن تجمعنا على حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تسقينا من يمينه الطيبة المباركة شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن ترفع نزلنا ووالدينا ومشايخنا وكل مسلم أحببناه فيك وأحبنا فيك في الفردوس الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

    الإخوان أوصوني بوصية وهي أنه كما ذكرتنا بالخير وذكرت الفقراء بأنهم كانوا يقولون: بأن الأغنياء سبقونا بكثرة النفقة، فنحن الحمد لله عندنا الأغنياء كثر، ونريد منهم مساهمة لنفقات هذا المخيم، فلا تنسوا إخوانكم في هذا المخيم من المساعدات، وهم لا يضعون شيئاً في جيوبهم، بل يشترون بها الجوائز ويوزعونها على إخوانكم هنا، فمن باب تأليف القلوب والدعوة إلى الله عز وجل.

    وأنا حقيقة لما رأيت جهد الإخوان، وتفانيهم في هذا المخيم، وهو شيء أسأل الله عز وجل أن يأجرهم عليه ويكتب لهم ما احتسبوا، فإذا كانوا هم يساهمون بجهودهم وأموالهم فنحن نساهم بقليل من أموالنا، مساهمة في تحبيب الناس وتأليف قلوبهم على الخير.

    أسأل الله للجميع الهدى والتوفيق والسداد.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756231814