إسلام ويب

وقفات مع عشر ذي الحجة - فضائل العشرللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن فضل أيام العشر من ذي الحجة عند الله عظيم، ذكرها في كتابه، فأقسم بلياليها، وسماها الأيام المعلومات، وإن أفضل أيامها على الإطلاق هو يوم النحر؛ كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، والسبب في تفضيل هذه الأيام على غيرها أن جميع العبادات بأسرها تقع فيها. ثم إنه ينبغي للعبد أن يقوم بأعمال صالحة كثيرة في هذه العشر، منها: التكبير، وصيام التسعة الأيام، وإذا لم يتمكن فليصم يوم عرفة، وإن كان ممن يضحي فإنه لا يجوز له أن يقص شعراً ولا يقلم ظفراً في هذه الأيام حتى ينحر.

    1.   

    ذكر الآيات الدالة على فضل أيام عشر ذي الحجة مع تفسيرها

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وهو اللطيف الخبير.

    اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] .

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد: معشر الإخوة الكرام! حديثنا فيما يتعلق بهذه الأيام المباركة، ألا وهي عشر ذي الحجة وما يكون بعد ذلك في اليوم العاشر وفي أيام التشريق.

    إخوتي الكرام! حقيقةً ينبغي أن نتكلم على أحكام هذه الأيام وعلى فضائلها لنغتنمها، ونكون على بينة من أمرنا، وإذا كانت البلاغة حالها -كما يقول علماؤنا الكرام- مطابقة المقال لمقتضى الحال، فمن المعيب فينا حقاً أن نترك الكلام على هذه الأيام لنتدارس غيرها، ولذلك سيكون حديثنا في ما يكون في أيام العشر من أحكام، وفيما لها من فضائل.

    ذكر الآية الدالة على فضل أيام عشر ذي الحجة من سورة الفجر

    إخوتي الكرام! أيام العشر -أعني عشر ذي الحجة- أيام عظيمة مباركة عند الله جل وعلا، ولا يوجد يوم من أيام السنة يعدلها عند الله فضيلةً ورفعة، وقد أقسم الله جل وعلا بليالي هذه الأيام، وحصلت الفضيلة لليالي تبعاً لفضيلة الأيام، فكم هي فضيلة الأيام؟ يقول ذو الجلال والإكرام: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5].

    فقوله: (والفجر) أقسم الله جل وعلا بالفجر، والمراد منه طلوع الفجر، لا يراد منه فجر يوم معين على التحقيق عند أئمتنا الكرام، فأقسم الله بطلوع الضياء، وإشراق النور والبهاء بعد الظلام؛ فهو فالق الإصباح، وهو الذي جعل الليل سكناً، وهو الذي جعل الشمس والقمر حسباناً، بحساب وتقدير، قال الله: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]. سبحانه هو الذي يأتي بالضياء بعد انتشار الظلماء، وهذا هو المعتمد عند أئمتنا المفسرين، وما قيل: إن المراد بالفجر: فجر يوم النحر، أو فجر يوم عرفة، أو فجر أول أيام عشر ذي الحجة، أو فجر عشر أيام ذي الحجة كلها، أو فجر أول يوم من السنة الهجرية أي: أول يوم من أيام شهر الله المحرم، فما قيل من هذه الأقوال كله من باب التمثيل لما يدخل في ذلك اللفظ وهو أعم من ذلك، فيقسم الله بالفجر أي: بسطوع النهار بعد أن خيم الظلام على البشرية.

    ثم قال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2] هي: ليال عشر ذي الحجة، هذا الذي رجحه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري وقال: إنه هو الصواب، وحكاه عنه الإمام ابن كثير في تفسيره ومال إليه، وهذا قول جماهير المفسرين، وهو المنقول عن ترجمان القرآن وحبر الأمة وبحرها سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو المنقول أيضاً عن عبد الله بن الزبير ، وعن مجاهد بن جبر رضوان الله عليهم أجمعين، في قوله: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2] ، يعني: ليال عشر ذي الحجة.

    ثم قال: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:3]، قد أكثر أئمتنا الكرام مما يحتمله هذا اللفظ من معانٍ حسان، فأوردوا عشرين قولاً في المراد من الشفع والوتر، لعل أظهرها وأوجهها والعلم عند الله أن المراد بالشفع الخلق بأسرهم، فكل مخلوق له ما يزاوجه، وهذا فرد وله ما يقابله، فالمخلوقات كلها شفع، قال الله: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].

    ولا يوجد موصوف بأنه وتر -أي: فرد- إلا الله جل وعلا، قال الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فأقسم جل وعلا بالمخلوقات وأقسم بخالقها، فقال: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:3].

    ثم قال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر:4]، أي: إذا يسري، وهو الذهاب والمشي والانتقال والزوال، والمراد من هذا الذهاب في الليل: إما ذهاب لينقضي، وإما ذهاب ليأتي، وقد فسر بالأمرين في هذه الآية وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر:4] مقبلاً، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر:4] مدبراً، وهذا كما قال الله جل وعلا: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17] أي: أقبل بظلامه، أو أدبر ليأتي الضياء بعده، وكلمة (عسعس) من الأضداد، أي: إذا أقبل وإذا أدبر، وكذلك قوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر:4] أي: إذا سرى هذا الليل آتياً، وإذا سرى هذا الليل مولياً منقضياً.

    وقيل في قوله: إِذَا يَسْرِ [الفجر:4] أي يسري فيه الناس وتقع فيه ما تقع فيه من الأعمال.

    والليل المراد منه هنا كالمراد من الفجر، فهو مطلق الليل ولا يراد منه ليل معين، وما قيل: إن المراد بالليل هنا ليلة القدر، أو إن المراد بالليلة هنا ليلة الجمع وهي ليلة المزدلفة، فكل هذا -إخوتي الكرام- من باب ما يدخل في هذا اللفظ العام، ومن باب التمثيل عليه بأشهر أنواعه، واللفظ أعم من ذلك.

    ثم قال: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5]، أي: لذي عقل يحجره عن فعل القبيح والسيئ، فهذه المخلوقات تدل على عظيم قدرة خالقها جل وعلا، وعليه فأقسم الله في هذه الأشياء، أقسم بالمخلوقات وأقسم بخالقها؛ فأقسم بالمخلوقات التي خلقت لنا، وأقسم أيضاً جل وعلا سبحانه بنفسه، فاشتمل القسم في هذه الأشياء بنا وبما خلق لنا وبخالقنا سبحانه وتعالى، وهو الذي يقسم بما شاء جل وعلا من باب التنبيه إلى ما في ذلك المقسم به من عبرة وعظة ودلالة عظيمة على قدرة العظيم جل وعلا.

    فالشاهد إخوتي الكرام! قوله: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2] ، وانتبه لهذه الدلالة في الآيات الكريمات، كل أنواع المقسم بها في هذه الآية وردت معرفةً إلا هذه الليالي فوردت منكرة، الفجر معرف، والشفع معرف، والوتر معرف، والليل إذا يسر معرف إلا الليالي العشر فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، فما أتى بالتعريف فيها لم؟ لأنها معلومة، وقد نوه الله بشأنها، ودلل على عظيم أمرها حسبما بين نبيه على نبينا صلوات الله وسلامه، ولذلك سماها الله بالأيام المعلومات، فهي من الظهور بمكان فلا داعي لتعريفها.

    ذكر الآية الدالة على فضل أيام عشر ذي الحجة من سورة الحج

    يقول الله جل وعلا: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:26-28].

    فقال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28]، وثبت في تفسير ابن مردويه بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح عن عبد الله بن عباس رضوان الله عليهما أنه قال: الأيام المعلومات هي من أول أيام ذي الحجة، ويوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، أي: يريد أن يقول: الأيام العشر من ذي الحجة هي الأيام المعلومات.

    قال الإمام ابن عباس رضوان الله عليهما: وأما الأيام المعدودات فهي أيام التشريق؛ يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده، وعليه دخل يوم النحر في الأيام المعلومات، ودخل في الأيام المعدودات التي أشار إليها رب الأرض والسماوات في سورة البقرة فقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

    فالأيام المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة.

    فقول الله جل وعلا في هذه الآية فيه بيان الأيام المعدودات، حيث قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203]، أي: بعد يوم النحر، فإذا أراد أن ينفر وأن يخرج من منى بعد اليوم الحادي عشر والثاني عشر، أي: إذا أراد أن يخرج في اليوم الثاني عشر فلا إثم عليه، وإن أراد أن يتأخر لليوم الثالث عشر فلا إثم عليه.

    وقوله: (لا إثم عليه) تحتمل ثلاثة معان أظهرها: بشارة للحجاج الذين ينوون زيارة بيت رب العباد، بقوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] ، أي: من تعجل في يومين فقط سقطت ذنوبه وخرج منها كيوم ولدته أمه، فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، فالله يقول: يا معشر الحجاج الذين زرتم بيتي! لا إثم عليكم بعد زيارتكم، سواء تعجلتم في يومين أو تأخرتم، قال الله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] ، أي: ليس عليه وزر من الأوزار، وقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ثم قال: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] ، ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )، ( ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ).

    لكن هذه الجائزة لا ينالها إلا من اتقى؛ لأن الله لا يتقبل إلا من المتقين، فمن تعجل في يومين فقد غفرت ذنوبه وسقطت عنه إذا كان تقياً، ومن تأخر فقد غفرت ذنوبه وسقطت عنه إذا كان تقياً، وهذا أرجح ما تحتمله الآية من أقوال ثلاثة قيلت في تفسيرها، وهذا هو المنقول عن أربعة من الصحابة الكرام أولهم سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه والعبادلة الثلاثة: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ، وهو المنقول عن جم غفير من التابعين كـمجاهد بن جبر ، والإمام الشعبي ، والإمام النخعي ، ومعاوية بن قرة رضوان الله عليهم أجمعين، فقوله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] أي: غفرت ذنوبه وخرج كيوم ولدته أمه، فإن شاء فليتعجل، وإن شاء فليتأخر.

    إذاً: إخوتي الكرام! هذه بشارة عاجلة من قول الله جل وعلا: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] أي: اتقى الله في حجه فلم يرفث ولم يفسق، وهذا هو أظهر المعاني الثلاثة التي تحتملها هذه الآية الكريمة.

    والقول الثاني من باب إكمال الفائدة: أي: من تعجل فلا إثم عليه في تعجله ونفره، ومن تأخر فلا إثم عليه في بقائه وانتظاره، أي: الأمر فيه سعة فليختر ما شاء.

    والمعنى الثالث: والذي ذهب إليه أبو العالية وغيره: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، أي: غفرت ذنوبه وخرج كيوم ولدته أمه لمن اتقى الله بعد ذلك بعد حجه، ولم يجر منه فسق أو معصية.

    والقول الأول أظهرها وأقواها، وهو المنقول عن جم غفير من الصحابة، وذكرت أربعة منهم، وعن جم غفير من التابعين وهو أولى ما يحمل عليه كلام رب العالمين، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] أي: قبله الله وغفر له ما جرى منه في جميع أحواله، بشرط أن يتقي الله في حجه، وألا يجري منه فسق ولا معصية، لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

    فالأيام المعلومات -إخوتي الكرام- هي عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق؛ ولذلك عندما أقسم الله جل وعلا بليالي عشر ذي الحجة في سورة الفجر نكرها دون أنواع المقسم به، فكل المقسم به في تلك السورة المباركة ورد معرفاً إلا هذا المقسم به، ألا وهو ليالي عشر ذي الحجة، فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2] ؛ لأنها معلومة، ولا داعي لتعريفها، قال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، وقال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28].

    فكما تقدم في سورة الحج -إخوتي الكرام- فهي أيام معلومات، وإذا كانت معلومات فقد جعل الله جل وعلا القسم بها منكراً في سورة الفجر؛ لأنها معلومة.

    قال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:27-28].

    إذاً هي أيام معلومات، وقد أقسم بها رب الأرض والسماوات، فأقسم بليالي العشر، واكتسبت هذه الليالي فضيلةً لمنزلة هذه الأيام عند ذي الجلال والإكرام.

    1.   

    شأن الأعمال الصالحة في أيام العشر من ذي الحجة

    وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن منزلة هذه الأيام، وعن شأن الأعمال الصالحات فيها عند ربنا الرحمن، وكيف تتضاعف بما لا تتضاعف في غير ذلك من الأيام، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والسنن الثلاث: سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه البيهقي في السنن، وهو في أعلى درجات الصحة من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله! -صلى الله عليه وسلم- ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء ).

    ومعنى الحديث: أن العمل الصالح في هذه الأيام يفوق على ذلك العمل في غيره من الأيام، فمن عمل صالحاً في هذه الأيام يضاعف له بما لا تضاعف الأعمال الصالحات في الأيام الأخرى مهما كانت منزلة تلك الأعمال، فأجورها أقل من أجور الصالحات التي تجري في هذه الأيام، ولذلك لو جرى من الإنسان في هذه الأيام ذكر، وتسبيح، وصلاة ضحى، وقيام ليل، وعمل صالح، فأجر هذا في عشر ذي الحجة أعظم من أجر الجهاد في سبيل الله في غير عشر ذي الحجة، إلا في حالة واحدة: من خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء فالذي عفر وجهه في التراب وأريق دمه وقتل جواده، هذا الذي يعدل أجره أجر العابد في عشر ذي الحجة، وعليه فمن جاهد في عشر ذي الحجة له من الأجر ما لا يخطر بالبال، ومن عمل صالحاً في عشر ذي الحجة فهذا العمل الصالح الذي أجره دون أجر الجهاد في غير عشر ذي الحجة يزيد أجره على أجر الجهاد عندما يقوم بالعمل الصالح في عشر ذي الحجة.

    إذاً العمل الصالح في عشر ذي الحجة يفضل أجر الجهاد في غير عشر ذي الحجة، لكن لو جاهد في عشر ذي الحجة فهذا له أجر عظيم لا يعلم به إلا رب العالمين.

    قال: ( ما العمل الصالح في أيام أحب فيها إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء ).

    وورد في بعض روايات الحديث من رواية عبد الله بن عباس أيضاً رضي الله عنهما كما في معجم الطبراني الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فاستكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر )، أي: استكثروا من هذه الأذكار الطيبة النافعة، وهذه الجمل الأربع إذا قالها الإنسان في أي وقت كان فهو أحب إلى الله جل وعلا من الدنيا وما فيها، وأحب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام مما طلعت عليه الشمس، فكيف لو قيلت في أيام العشر -أعني عشر ذي الحجة-؟!.

    وثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس). فقال في هذه الايام: (فاستكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير).

    وهذا الحديث إخوتي الكرام! أعني حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رواه الطبراني في معجمه من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، ورواه البزار وأبو يعلى في مسنده من رواية عبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم أجمعين، والحديثان صحيحان: حديث جابر وحديث عبد الله بن مسعود ، وهكذا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، ومعنى الحديث واحد بمعنى حديث عبد الله بن عباس ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام من أيام العشر من ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم برجع بشيء ).

    إخوتي الكرام! وهذه الفضيلة المجملة التي وردت في هذا الحديث الصحيح عن عبد الله بن عباس وجابر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وردت أحاديث مفصلة لهذا الثواب المجمل في هذه الأيام، وتلك الأحاديث المفصلة لهذا الثواب مروية عن نبينا عليه الصلاة والسلام وهي متصلة، من ذلك ما رواه الإمام الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الإمام البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وفي إسناد الحديث ضعف كما قرر هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري والإمام المنذري في الترغيب والترهيب، لكن الحديث يشهد له ما تقدم، وسأذكر شواهد أيضاً له بعد رواية هذا الحديث إن شاء الله، ولفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من أيام أحب أن يتعبد فيها إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة، إن صيام كل يوم منها يعدل بصيام سنة، وإن قيام كل ليلة منها يعدل قيام ليلة القدر )، أي: صيام يوم من عشر ذي الحجة يعدل صيام سنة، وقيام ليلة من عشر ذي الحجة يعدل قيام ليلة القدر.

    وهذا الحديث إخوتي الكرام! يشهد له في الجملة حديث عبد الله بن عباس وجابر وعبد الله بن مسعود في أن العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من العمل في غيرها، لكن ما هي كيفية تلك المضاعفة والمنزلة في الأعمال الصالحات في هذه الأيام؟ بينها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.

    وقد روى الإمام البيهقي في شعب الإيمان، والإمام الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب، قال الإمام المنذري : وإسناد الحديث لا بأس به عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( كنا نعد أيام عشر ذي الحجة كل يوم منها بألف، ونعد يوم عرفة بعشرة آلاف يوم )، من عمل فيها فضيلةً كأنه عمل هذه الفضيلة في ألف يوم فيما سوى أيام عشر ذي الحجة.

    وأما يوم عرفة فذاك منزلته عظيمة عند رب الأرض والسماوات، فكان الصحابة يعدونه والنبي عليه الصلاة والسلام بينهم بعشرة آلاف يوم، والحديث -كما قلت- في شعب الإيمان للبيهقي وكتاب الترغيب والترهيب للإمام الأصبهاني بسند لا بأس به، وقد ذكره الحافظ في الفتح وسكت عليه، وصنيعه يقتضي بأنه حسن من رواية مجاهد، ولفظه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من أيام عشر ذي الحجة، فأكثروا فيها من التهليل والتكبير وذكر الله، فإن صيام يوم منها يعدل صيام سنة، وإن الأعمال تضاعف فيها بسبعمائة ضعف ).‏

    1.   

    سبب تفضيل العشر من ذي الحجة

    إخوتي الكرام! إن منزلة هذه الأيام عشر ذي الحجة عظيمة، فهذه الأيام أيام عظيمة مباركة، وإنما كان لها هذا الشأن لأن جميع العبادات بأسرها تقع فيها؛ فالصلاة والصيام والصدقة والزكاة والحج وسائر الطاعات يمكن أن تقع في عشر ذي الحجة، فهي ظرف لها، وأما الأيام الأخرى فلو قدر أن الطاعات ستقع فيها فلن تقع فيها عبادة الحج، فلها موسم معين، فهذه الأيام هي ظرف لسائر العبادات على وجه التمام، لذلك عظمت منزلتها عند ربنا الرحمن، وقد قرر أئمتنا الكرام أن أيام عشر ذي الحجة بالنسبة إلى سائر الأيام كمكانة المشاعر بالنسبة لغيرها من البلدان، فبما أن مكة وعرفات ومنى تعظم وتفضل على غيرها من البقاع والأصقاع، فهكذا هذه الأيام بالنسبة لغيرها من الأيام تفوقها، فمنزلة عشر ذي الحجة بين الأيام كمنزلة أماكن المشاعر بين البلدان.

    1.   

    مقارنة بين أيام العشر من ذي الحجة وبين العشر الأواخر من رمضان

    إخوتي الكرام! قد يقولن قائل: إن العشر الأخيرة من شهر رمضان لها منزلة عظيمة أيضاً عند ربنا الرحمن، فالجواب: نعم، لها منزلة عظيمة، لكن كل عشر تمتاز بشيء، وقد قرر أئمتنا الكرام أن ليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة؛ لأن ليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان اكتسبت فضيلتها بليلة القدر، فالفضيلة فيها أصالةً لليالي، وأما ليالي عشر ذي الحجة فاكتسبت فضيلتها من الأيام.

    وعليه أيام عشر ذي الحجة أفضل من الأيام العشرة الأخيرة في شهر رمضان، وليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان أفضل من ليالي العشر الأول من ذي الحجة، كما وضح نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن في العشر الأخيرة من شهر رمضان ليلة القدر وهي خير من ألف شهر؛ ولأن في العشر الأول من ذي الحجة يوم أيضاً عظيم عند الله جل وعلا لا يساويه يوم من أيام السنة وهو يوم النحر.

    1.   

    أفضل أيام العشر

    ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود ، والحديث رواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه، والإمام ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، وهو حديث إسناده صحيح كالشمس من رواية عبد الله بن قرط الثمالي رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أعظم الأيام عند الله جل وعلا يوم النحر، ثم يوم القر )، أي: أن أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر، ويوم النحر هو العاشر من ذي الحجة، ويوم القر هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة؛ الذي يقر فيه الحجاج ويسكنون في منى بعد أن أفاضوا من عرفات، واستقروا في هذا المكان المبارك في ضيافة الله جل وعلا.

    وأما يوم عرفة فمع منزلته وعظيم شأنه فهو تابع ليوم النحر، فالحجاج والعباد في يوم عرفات استقالوا من ذنوبهم وخطيئاتهم، وتابوا إلى ربهم جل وعلا، وعبدوه وذكروه وتقربوا إليه.

    وفي يوم النحر لما حصل منهم ما حصل أذن الله لهم بالوفادة عليه وزيارته، ولذلك يقال للطواف الذي يقع في يوم النحر يقال له: طواف الزيارة، يزورون الله جل وعلا بعد أن تابوا من ذنوبهم وأنابوا إلى ربهم جل وعلا، ولذلك قال أئمتنا: منزلة يوم عرفة مع يوم النحر كمنزلة الطهارة مع الصلاة، فلا بد من طهارة للصلاة، لكن الصلاة أعظم منزلة، ولا بد أيضاً ليوم النحر من يوم عرفة لكي يتوب العباد إلى الله جل وعلا، ويستغفروه، ويلجئوا إليه، ويشكروه، فإذا قبلهم جل وعلا وتاب عليهم أهلهم بعد ذلك لزيارة بيته، وللقدوم عليه لتناول ضيافته جل وعلا، فهذا بمنزلة الصلاة، كما أن يوم عرفة بمنزلة الطهارة.

    إخوتي! إن جُزءاً من يوم النحر يدخل في يوم عرفة، فليلة النحر هي تابعة ليوم عرفة، ولا يوجد عندنا في الشريعة ليلة تتبع اليوم الذي قبلها إلا ليلة النحر، فليلة النحر مشتركة بين يوم عرفة وبين يوم النحر، وهذا للدلالة على أن يوم عرفة امتداد ليوم النحر، لكن الفضيلة الثابتة أصالةً هي ليوم النحر، فهو أفضل الأيام وأعظمها عند ذي الجلال والإكرام، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    ما ينبغي أن يقوم العباد به في عشر ذي الحجة

    إخوتي الكرام! هذه الأيام أيام عظيمة مباركة شريفة فاضلة، ينبغي أن يقوم العباد فيها بأمور كثيرة سأذكر أربعةً منها، والبقية نتدارسها فيما يأتي إن شاء الله:

    أولاً: التكبير في عشر ذي الحجة وأيام التشريق

    أولها: التكبير في عشر ذي الحجة، وقد ضيع المسلمون هذا في مشارق الأرض ومغاربها إلا من رحم ربك، فيسن للمسلمين.. لأهل الإسلام إذا دخل عليهم عشر ذي الحجة ورأوا هلال ذي الحجة أن يجهروا بالتكبير في أسواقهم، وفي شوارعهم، وفي أعمالهم، وفي بيوتهم، وعلى فرشهم، ومع أهلهم، وعند لقاءاتهم، وأن تكون الدنيا كلها ضجيجاً بالتكبير والتعظيم لله الجليل جل وعلا، فهذه من شعائر هذه الأيام تكبير ذي الجلال والإكرام.

    وقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب العيدين وهو الباب الحادي عشر، يشير به إلى هذا، فقال الإمام البخاري عليه رحمة الله: باب في فضل العمل في أيام العشر.

    يعني: عشر ذي الحجة، ثم روى معلقاً عن صحابيين جليلين فاضلين عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين: أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران، ويكبر أهل السوق بتكبيرهما.

    والأثر كما قال الحافظ ابن حجر : لم أقف عليه موصولاً، والبخاري علقه في صحيحه، وقد علقه أيضاً الإمام البيهقي والبغوي عن هذين الصحابيين ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق فيكبران، ويكبر أهل السوق بتكبيرهما.

    هذا التكبير إخوتي الكرام! هو من شعائر هذه الأيام، أعني: أيام عشر ذي الحجة، فينبغي أن نظهر التكبير في بيوتنا، وفي أعمالنا، وفي أسواقنا، وعند لقائنا: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

    وفي الباب الذي يلي الباب الحادي عشر وهو الباب الثاني عشر من صحيح البخاري في كتاب العيدين أورد باباً آخر فقال: باب في التكبير في أيام منى وإذا غدا إلى عرفة.

    ثم روى أيضاً أثرين من آثار كثيرة معلقة عن صحابيين جليلين فاضلين، أولهما: الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون لتكبيره، فيسمع تكبيرهم أهل الأسواق الذين يتجولون في منى فيكبرون لتكبيرهم، حتى إن منى لترتج تكبيراً، هذا ثابت في صحيح البخاري ، وهذا الأثر المعلق قال عنه الحافظ ابن حجر : وقد وصله سعيد بن منصور ، والإمام أبو عبيد عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

    والأثر الثاني: أثر عبد الله بن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، علقه البخاري أيضاً في صحيحه في الباب الثاني عشر من كتاب العيدين: أنه كان يكبر خلف الصلوات المفروضات والنوافل، وفي بيته، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي ممشاه، وفي مجلسه رضي الله عنهم أجمعين. وهذا الأثر المعلق وصله أيضاً الإمام ابن المنذر ، والإمام الفاكهاني أيضاً.

    إذاً: هذا التكبير من شعائر أيام العشر، فينبغي أن نجهر به، وأن نظهره، وأن تدوي الدنيا تكبيراً لربنا الكبير جل وعلا.

    إخوتي الكرام! والتكبير كما قرر أئمة الإسلام على حالتين: تكبير مطلق لا يتقيد بوقت، وهو الذي ذكرته منذ أن يدخل ذو الحجة إلى نهاية أيام التشريق، فينبغي أن تكبر الله في كل وقت، وكلما أكثرت فهو أعظم لأجرك، (فاستكثروا فيهن من التهليل والتكبير).

    وهناك تكبير مقيد ينبغي أن يأتي به العباد عقيب الصلوات المفروضات، ويبتدئ من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر في آخر أيام التشريق، وهي ثلاث وعشرون صلاةً، فيكبرون يوم عرفة، ويوم العيد، ويوم التشريق الأول والثاني والثالث، ومجموع الصلوات ثلاث وعشرون صلاةً وينتهي التكبير بعد نهاية صلاة العصر فيكبرون وينتهون، فلا يكبرون بعد ذلك بعد صلاة المغرب في آخر أيام التشريق.

    وهذا التكبير ثابت عن علي وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم أجمعين بسند صحيح كما روى ذلك الإمام ابن المنذر ، وهذا تكبير مقيد ينبغي أن يلتزم به العباد عقيب الصلوات المفروضات.

    وأما صيغته فقد نقل عن سلفنا الكرام صيغ متعددة مما يدل على أن الأمر فيه سعة، فروى عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يكبر فيقول: كبروا الله، قولوا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً. فلو قال هذا الإنسان أجزأه وهو حسن، ولو قال ما روي عن عمر رضي الله عنهم أجمعين كما أشار إلى هذا الحافظ ابن حجر : الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. لو قال هذا وهو الذي عليه عمل المسلمين عقيب الصلوات في هذه الأيام أعني: في يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق فهو أيضاً حسن، ولو قدر أن العباد زادوا أو نقصوا فلا بأس؛ لأن الأمر فيه سعة، وأما قول هذا بصوت جماعي فلا حرج فيه.

    إخوتي الكرام! وما يفعله بعض الناس في هذه الأيام من أن مقولة هذا بصوت جماعي بدعة، فأي بدعة في هذا؟ وإذا نقل هذا عن السلف الكرام: وكانوا يكبرون وترتج منى تكبيراً، وإذا فعل هذا عقيب الصلوات من أجل الجهر بذكر مشروع، ومن أجل تعليم من لا يعلم، فأي بدعة في ذلك إذا جهر المصلون بتكبير الحي القيوم؟!

    إخوتي الكرام! لا بد أن نقف عند حدنا عندما نطلق الألفاظ على الأحكام التي تصدر من العباد.

    إذاً: هذا أول ما ينبغي أن يفعله المسلمون في أيام العشر، أعني عشر ذي الحجة وما بعدها من أيام التشريق وهو التكبير لله جل وعلا.

    ثانياً: صيام التسع من ذي الحجة

    الأمر الثاني: صيام هذه الأيام، أعني: صيام التسعة الأيام دون صيام اليوم العاشر وهو يوم النحر، فيحرم علينا أن نصومه وأن نصوم الأيام التي بعده وهي أيام التشريق، وأيضاً مما ينبغي أن يحرص عليه العباد صيام أيام التسع من ذي الحجة من اليوم الأول إلى نهاية التاسع وهو يوم عرفة، فهي أيام أيضاً مباركة جليلة عظيمة صيامها له أجر عظيم، وكما تقدم معنا أن صيام اليوم منها يعدل صيام سنة، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يصومها من أولها إلى آخرها؛ كما ثبت هذا في مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، والنسائي ، والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، وإسناد الحديث صحيح عن هنيدة بن خالد ، وهو رجل من الصحابة يسمى بذلك رضي الله عنه وأرضاه، عن زوجه، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي إما حفصة أو أم سلمة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة )، وليس المراد من ذلك اليوم التاسع إنما المراد يصوم هذه الأيام التسعة كما ثبت في إحدى روايات النسائي : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم عشر ذي الحجة، وثلاثة أيام من كل شهر )، والرواية الأولى: ( كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر ).

    إذاً هذه الأيام -إخوتي الكرام- من أمكنه أن يصومها فليغتنم ذلك؛ فلها أجر عظيم ومنزلة كبيرة عند الله جل وعلا.

    وأما ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، والإمام الترمذي والإمام أبو داود في السنن، والحديث رواه البيهقي أيضاً، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر يعني عشر ذي الحجة قط ).

    فهذا الحديث الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها وجهه أئمتنا بتوجيهين اثنين:

    أولهما: قالوا: هذا على حسب علمها، ما اطلعت ولا علمت بذلك، والمثبت مقدم على النافي كما أشار إلى ذلك الإمام البيهقي وغيره، هذا على حسب علمها، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يدور على نسائه، فمن أيام التسع لعله يأتيها ليلة، فلعله في تلك الليلة شغل أيضاً بأمر من الأمور أو دعي فما كان عندها، فما علمت بصيامه والعلم عند الله جل وعلا.

    إذاً: المثبت مقدم على النافي.

    والتوجيه الثاني: أن هذا في حال طروء علة على نبينا عليه الصلاة والسلام من مرض، أو سفر، أو لعلة أخرى معتبرة في الشرع كما روت أمنا عائشة رضي الله عنها، والحديث في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته )، وعليه فلعله ترك أحياناً صيام عشر ذي الحجة باستثناء اليوم العاشر، وهذا من باب التغليب.

    إذاً: لعله ترك صيام تسع ذي الحجة لئلا تفرض على أمته في بعض الأحيان، لكن الغالب من أحواله عليه الصلاة والسلام أنه كان يصوم ذلك كما ثبت هذا عن حفصة وأم سلمة رضوان الله عليهم أجمعين.

    إذاً: هذا الأمر الثاني ينبغي أن ننتبه له إخوتي الكرام! ألا وهو: صيام عشر ذي الحجة باستثناء يوم النحر، يعني صيام تسع من ذي الحجة من اليوم الأول إلى نهاية التاسع.

    ثالثاً: صيام يوم عرفة عند عدم تمكن صيام التسعة الأيام

    والأمر الثالث: إذا ما أمكنك أن تصوم التسع فلا أقل من صيام يوم عرفة؛ فله أجر عظيم، والمغبون حقاً من فرط في ذلك اليوم ولم يصمه.

    فقد ثبت في صحيح مسلم والسنن الأربع، والحديث في سنن البيهقي وغيره من رواية أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عرفة فقال: إنه يكفر السنة التي بعدها والسنة التي قبلها ).

    وفي بعض روايات الحديث: ( صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر سنة قبله وسنة بعده ).

    إذاً له أجر عظيم عند الله جل وعلا، أي: صيام يوم عرفة، فإياك أن تفرط فيه، وهذا الحديث الذي رواه أبو قتادة رضي الله عنه وأرضاه وهو في صحيح مسلم هو حديث يصل إلى درجة التواتر؛ فقد روي عن عدة من الصحابة الكرام، ففي تلك الروايات هذه الدلالة ألا وهي أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين: سنة آتية وسنة ماضية.

    فقد روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط بسند حسن، وقد صحح إسناده عدد من أئمتنا كما في الترغيب والترهيب ومجمع الزوائد من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صام يوم عرفة غفر الله له سنةً قبله وسنةً بعده ).

    وروى الإمام أبو يعلى والطبراني في معجمه الكبير من رواية سهل بن سعد أيضاً، والحديث إسناده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صام يوم عرفة غفر الله له ذنوب سنتين متتابعتين )، يعني: سنةً قبله، وسنةً بعده.

    وقد روي هذا أيضاً في معجم الطبراني الصغير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وروي في معجم الطبراني الكبير عن زيد بن أرقم ، بل ورد ما يزيد على ذلك في الفضل، ففي معجم الطبراني الأوسط أيضاً بسند حسن عن سعيد بن جبير رضي الله عنه وأرضاه وهو من التابعين الكرام، قال: ( سئل ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين عن صيام يوم عرفة فقال: كنا ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم نعدله بصوم سنتين متتابعتين ) أي: لذلك من الأجر كأجر من صام سنتين متتابعتين.

    وثبت في معجم الطبراني الأوسط أيضاً وكتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي ، والحديث إسناده حسن عن مسروق وهو من أئمة التابعين ( أنه دخل على أمنا عائشة رضي الله عنها يوم عرفة فقال: اسقوني، فقالت أمنا عائشة : يا غلام! اسقه عسلاً، ثم قالت لـمسروق : يا مسروق ! أما أنت بصائم؟ هذا يوم عرفة. فقال: يا أماه! خشيت أن يكون هذا الأضحى -أي: أن يكون هذا اليوم هو يوم عيد الأضحى عيد النحر- فما صمته، فقالت: ليس ذلك؛ إنما يوم عرفة يوم يعرف الإمام، ويوم النحر يوم ينحر الإمام )، أي: اليوم الذي يثبت عند المسؤول بأنه يوم عرفة هذا هو يوم عرفة، وهكذا عند ولي الأمر عندما يثبت أن هذا يوم النحر هو يوم النحر، فيوم عرفة يوم يعرف الإمام، ويوم النحر يوم ينحر الإمام، ثم قالت: ( يا مسروق ! أما بلغك عن النبي عليه الصلاة والسلام أن صيام يوم عرفة يعدل صيام ألف يوم )، وهذا أكثر من صيام سنتين، إذاً يقارب ثلاث سنين، ( أما بلغك أن صيام يوم عرفة يعدل صيام ألف يوم ). والحديث -إخوتي الكرام!- في معجم الطبراني الأوسط، وشعب الإيمان للإمام البيهقي بإسناد حسن.

    فيوم عرفة إخوتي الكرام! يستحب لنا أن نصومه، ففيه أجور عظام، وهذا الصيام اختص الله به المقيمين الذين لم يذهبوا لزيارة بيته الكريم، وكأن الله جل وعلا أراد أن يوزع الفضائل بين عباده؛ فإذا ذهب أولئك لحج بيت الله الحرام وحصلوا من الأجور ما لا يخطر بعقول الأنام، فلئلا يبقى في قلوبنا حسرة وغصة منّ الله علينا بصيام هذا اليوم الذي لنا فيه هذا الأجر العظيم، وهذا الصيام خاص بنا، وأما الحاج فينهى عن صيام يوم عرفة.

    فقد روي في معجم الطبراني الأوسط عن أمنا عائشة رضي الله عنها بسند ضعيف، والحديث رواه أيضاً الإمام أحمد في المسند، ورواه أبو داود في السنن، ورواه الإمام النسائي في السنن، وابن ماجه في سننه أيضاً، والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والإمام الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة ).

    والحديث -إخوتي الكرام!- من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صححه الإمام ابن خزيمة ، وصححه الحاكم ، وأقره عليه الإمام الذهبي ، وصنيع أئمتنا يقتضي بأنه حديث حسن، لكن فيه مهدي بن حرب العبدي الهجري أخرج حديثه أهل السنن الثلاثة: أبو داود والإمام ابن ماجه والنسائي ، وقال الحافظ عنه في التقريب: إنه مقبول، وقد ترجمه في التهذيب، ونقل عن ابن خزيمة أنه روى عنه هذا الحديث وصححه ولم يعترض عليه الحافظ ، ولهذا الحديث شواهد كثيرة من فعل نبينا عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام بعدم صوم الحاج يوم عرفة بعرفة.

    وإنما نهي الحاج عن الصيام يوم عرفة بعرفة لأمور كثيرة، أبرزها ثلاثة:

    أولاً: ليتقوى على الدعاء، وعلى ذكر رب الأرض والسماء.

    والأمر الثاني: هو مسافر، والأصل في المسافر ألا يصوم.

    والأمر الثالث: وهو الذي استنبطه الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية أن يوم عرفة بالنسبة للحجاج يعتبر يوم عيد، وقد نهيت هذه الأمة أن تصوم في أيام الأعياد، فعيد الحجاج هو يوم عرفة، ولن يجتمع الحجاج في مكان من الأمكنة في موسم الحج إلا في عرفات، وما عدا هذا سيتفرقون ما بين مكة وما بين منى وما بين غيرها، أما في يوم عرفة فكلهم مجتمعون، فهذا عيد بالنسبة لأهل عرفة، كما أن يوم النحر عيد بالنسبة لغيرهم، فيجتمعون يوم العاشر ويعظمون شعائر الله جل وعلا، وذلك من تقوى القلوب، فإذا كان يوم عرفة يعتبر عيداً بالنسبة للحجاج، فما ينبغي أن يصوموا فيه.

    إخوتي الكرام! ويوم عرفة يوم عظيم من أعظم أيام السنة، وهو ويوم النحر لا يوجد في أيام السنة ما يعدلهما، والله جل وعلا يجود ويتفضل فيه على عباده بما لا يخطر على بال أحد.

    فقد ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي وسنن ابن ماجه ، والحديث رواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه، ورواه الإمام البيهقي ، ورواه أيضاً غير هؤلاء، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من يوم يعتق الله فيه عباداً من النار أكثر من يوم عرفة، وإنه ليدنو فيتجلى، فيقول جل وعلا: ماذا أراد هؤلاء؟ سبحانك ربنا ما أرادوا إلا رحمتك ورضوانك ومغفرتك, وإنه ليدنو يتجلى فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟ ) فهذا يوم عرفة هو يوم العتق من النار، ويعتق الله فيه عباداً ما لا يعتق في سواه.

    وقد جاء عن طلحة بن عبد الله بن كريز بفتح الكاف، وكما قال الإمام ابن حبان: كل اسم يأتي معك بهذا الضبط مضموم الكاف إلا هذا الاسم، وهو من التابعين الكرام، وحديثه مخرج في صحيح مسلم وغيره، والحديث مرسل إلى نبينا صلى الله عيه وسلم في الموطأ، وقد وصله الحاكم في المستدرك من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري يوم بدر؛ فإنه رأى جبريل عليه الصلاة والسلام يزع الملائكة ).

    ففي ذلك اليوم عندما رأى جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يقود ملائكة الله الأطهار من أجل مقاتلة الكفار ذل الشيطان ذلاً كبيراً، وما عدا هذا فأعظم ما يحصل له من الذل والدحور والصغار في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام.

    رابعاً: ما يفعله المسلم إذا أراد أن يضحي

    الأمر الرابع إخوتي الكرام! وهو آخر ما سأتكلم عليه وأختم به عن أيام العشر: فهي إذا دخلت وثبت هلال عشر ذي الحجة، وأراد الإنسان أن يضحي وهو مستطيع، فلا يجوز للإنسان أن يأخذ شيئاً من شعره ولا من أظفاره حتى يذبح أضحيته، وهذا ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن ينتبه له أهل الإسلام، فلا يجوز أن تقص شعر رأسك، ولا أن تقلم أظافرك، ولا أن تنتف شعر الإبطين، ولا أن تحلق العانة إذا دخلت عشر ذي الحجة حتى تذبح الأضحية.

    وأما اللحية فيحرم على الإنسان أن يمد يده إليها بحلق أو تقصير سواء في عشر ذي الحجة أو في غيرها، فانتبهوا إلى هذا عباد الله، أما في عشر ذي الحجة فيحرم أن تزيل شعراً، أو أن تقص ظفراً، وقد ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، ورواه أهل السنن الأربعة من رواية أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، والحديث في سنن البيهقي وغيره، ولفظ الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا دخل العشر من ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً ). وفي رواية: ( إذا دخلت عشر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يقص شعراً، ولا يقلمن ظفراً ). وفي بعض الروايات ( حتى يضحي )، فهذا التحريم يمتد حتى يريق الإنسان دم الأضحية وحتى يضحي.

    إذاً فلا يأخذ شيئاً من شعره ولا من ظفره حتى يضحي، وهذا الحكم هو الذي عليه الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وذهب إليه سيد التابعين الإمام سعيد بن المسيب ، وقال به من أئمة المسلمين الإمام ربيعة شيخ الإمام مالك ، وقال به إسحاق بن راهويه ، وذهب إليه بعض أصحاب الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله.

    وأما ما ذهب إليه الإمام الشافعي ويقرب منه قول الحنفية والمالكية بأنه لا يحرم على الإنسان أن يأخذ شعراً ولا يقص ظفراً، إنما هذا من باب كراهة التنزيه، وهذا من باب الأدب فينبغي أن يلتزم بذلك، وإذا فعل فلا إثم عليه، فهذا الرأي مع جلالة من قال به ومتانة ما استدلوا به كما سأذكر دليلهم.. أقول: لا دليل فيه على هذا الأمر بعينه؛ فالإمام الشافعي استدل بالحديث الثابت في المسند والكتب والستة عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( كنت أفتل القلائد لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يبعث بها -بالهدي وهي مقلدة- إلى بيت الله الحرام، ثم لا يحرم عليه ما أحل الله له حتى ينحر هديه )، وفي بعض الروايات: ( ثم لا يجتنب ما يجتنبه المحرم حتى ينحر هديه )، أي: يبقى على حاله حلالاً عليه صلوات الله وسلامه.

    والحديث في الكتب الستة أن نبينا عليه الصلاة والسلام أرسل هدياً في العام التاسع عندما ذهب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أميراً على الحج، وقلد ذلك الهدي، والقلائد: جمع قلادة، توضع في رقبة الهدي إما شيء من الخيطان والقماش يصنع من أجل أن يعلم أن هذا هدي، فيوضع في رقبة الدابة من ناقة أو بقرة أو ما يهدى إلى بيت الله ليعلم أنه هدي يذبح في ذلك المكان.

    فهي تقول: فتلت القلائد بيدي للنبي عليه الصلاة والسلام، وقلد الهدي ثم بعثه إلى مكة، وبقي عليه الصلاة والسلام لم يجتنب ما يجتنبه المحرم من قص شعر أو تقليم ظفر.

    فالإمام الشافعي عليه رحمة الله يقول: إن الهدي أعظم مكانةً من الأضحية، وإذا لم يحرم على من أهدى شيئاً إلى بيت الله الحرام ليذبح فيه، أي: في بلد الله الحرام ليكون طعمةً للمساكين، وتعظيماً لبيت رب العالمين، إذا لم يحرم على المهدي أن يقص شعره ولا أن يقلم ظفره، فلا يحرم على من يريد أن يضحي من باب أولى.

    والذي يظهر والعلم عند الله أن الاستدلال لا ينسجم مع ذاك، أما الهدي فقد يرسل الإنسان هديه من بداية ذي الحجة، وقد يرسل الإنسان هديه من بداية شوال، فهل سيمتنع حتى ينحر الهدي في يوم النحر عما يفعله الإنسان إذا كان حلالاً من قص ظفر أو قص شعر أو ما شاكل هذا، ففي الحقيقة هناك شيء من المشقة، فلا يصح أن نقيس هذا بهذا، ويضاف إلى ذلك كلام النبي عليه الصلاة والسلام؛ فهو الفاصل في هذا الأمر، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شيئاً من شعرنا أو من أظفارنا حتى نذبح أضحيتنا، نعم، نقول: ذاك استدلال معتبر بالنسبة إلى قائله، لكن فيما يظهر والعلم عند الله أن ما ذهب إليه الإمام أحمد ومن معه أظهر وأقوى، والله جل وعلا أعلم.

    وخلاصة الكلام إخوتي الكرام! هذه الأمور الأربعة ينبغي أن ننتبه لها:

    الأول: تكبير لله جل وعلا في أيام العشر وأيام التشريق.

    الثاني: صيام تسع من ذي الحجة.

    الثالث: إذا لم يمكنك فلا أقل من صيام يوم عرفة.

    الرابع: إذا أردت أن تضحي فامتنع عن إزالة الشعر وقص الظفر حتى تذبح أضحيتك.

    أقول هذا القول وأستغفر الله.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله رسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم اغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ارحم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن لمن حسن إلينا. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

    وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755983162