إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن رحمة الإسلام قد شملت حتى البهائم، ونفقة الحيوانات ليست من المسائل الاختيارية، أو التي يكون فيها فضل للمنفق، بل هي من اللوازم، فيلزم صاحب البهائم القيام بكل ما يتبع ملكيته لها من نفقة وأكل وشرب ورعاية لها بما يصلحها وإلا باعها ولا يحملها ما لا تطيقه أو تعجز عنه.

    1.   

    أحكام نفقة البهائم ورعايتها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه علف بهائمه، وسقيها، وما يصلحها]:

    شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان الأحكام المتعلقة بالنفقة على الدواب، وقد تقدم معنا في أول الباب أن النفقة لها ثلاثة أسباب:

    السبب الأول: النكاح.

    والثاني: النسب والقرابة.

    والثالث: المِلك.

    وبيّنا النفقة على الزوجة فيما يتعلق بسببية النكاح، ثم النفقة على الأقارب فيما يتعلق بسببية النسب، ثم بيّنا أن سبب الملك يشمل جانبين:

    الجانب الأول: يتعلق بملك اليمين بالنسبة للآدميين.

    والجانب الثاني: يتعلق بملك الحيوانات والبهائم.

    فالإنسان إذا ملك ذوات الأرواح: إما أن يكون المملوك من الأرقاء والآدميين، وإما أن يكون من الحيوانات والبهائم.

    وفي الفصل السابق تحدث المصنف رحمه الله عن أحكام النفقات بالنسبة للآدميين، وهذا الفصل سيتحدث المصنف رحمه الله فيه عن النفقة على البهائم.

    فقدّم النفقة على الآدميين؛ لشرف الآدمي، ولأن الله كرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، فابتدأ بالنفقة على الإنسان قبل بيان نفقة الحيوان.

    والنفقة على الحيوان حق من حقوق الحيوان، وقد بيّنا أن الشريعة الإسلامية هي وحدها التي كفلت حقوق المخلوقين، وأعطت كل ذي حق حقه بعدل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة الإسلامية، ويدل دلالة واضحة على أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى أن ينعق أعداؤهم بالحقوق فيعلموهم شيئاً يجهلونه، بل إن الحقوق مقررة عندهم منذ فجر الإسلام.

    فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهو في سياق الموت يأمر بالحقوق، ويذكر بها، فكان آخر ما أوصى به: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) ، أي: اتقوا الله في الصلاة فهي حق الله، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، وهذا حق المخلوق، فنبه بقوله: (الصلاة) على كل حق من حقوق الله، ونبه بقوله: (وما ملكت أيمانكم) على كل حق من حقوق المخلوق، سواء كان من الآدميين، أو من غير الآدميين.

    علف البهائم

    وقوله رحمه الله: (فصل) يدل على أنه قسيم لما قبله، وهذا مبني على أنه متعلق بالنفقات.

    قال رحمه الله: [وعليه علف بهائمه].

    أي: على المسلم أن يقوم بعلف البهائم، والبهائم: جمع بهيمة، قيل: لأن كلامها مبهم غير واضح، فهي من العجماوات مما لا يعرف كلامه.

    والمراد بـ(عليه): يجب على المسلم أن ينفق على كل بهيمة يملكها بإطعامها، وهذا ما عبر عنه بقوله: (علف).

    والبهيمة لها حالتان:

    الحالة الأولى: أن تكون راعية وسائمة، فيمكنه أن يطعمها عن طريق الرعي والسوم، كما يحدث هذا في البادية.

    الحالة الثانية: أن تكون محتاجة إلى العلف، بأن يشتري لها العلف، أو يحش لها الحشيش ويأتي به إليها.

    وقد يكون هناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين، لكن إذا كانت البهيمة يمكن أن ترعى ويوجد الرعي فيخرجها إلى المرعى، فيجب على المسلم أن يمكّن البهيمة من حقها في العلف، إما أن يطعمها إذا كانت محبوسة، وإما أن يرسلها لكي ترعى إذا وجد الحشيش والمرعى الذي يمكن عن طريقه أن تتحصل على طعامها وعلفها.

    والأصل في وجوب النفقة على البهيمة: حديث أبي هريرة في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، فدل هذا الحديث على أن من حبس البهيمة فإنه يجب عليه أن يطعمها، أو نقول له: أرسلها حتى تصيب الطعام، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله لظاهر هذا الحديث.

    فقد أجمع الأئمة على أن من ملك البهيمة يجب عليه أن يقوم على علفها، سواء قام بذلك مباشرة، أو أقام من يقوم بعلفها كالعامل والأجير، فإذا وكل أحداً بالقيام على علفها، فعليه أن يتقي الله، وأن يعلم أن هذا الحق لا تبرأ ذمته فيه إلا إذا أقام عليه الأمين الذي يوثق به، لأنه ربما أقام شخصاً لا يوثق بأمانته، وحينئذ يضيع البهيمة، ويقصر في حقوقها في الإطعام، فإن العامل إذا لم يكن أميناً، ولم يتق الله عز وجل في البهيمة؛ ربما لم يجد الطعام والعلف، أو وجد مشقة إذا حش الحشيش أو جزه لها، فربما عدل إلى طعام لا يقوم به حالها، وقد يطعمها بعض الطعام لا كله، وقد يبخل عنها بالكلية فيعذبها، فحينئذ يكون من أقامه شريكاً له في الإثم والعياذ بالله.

    فالواجب على المسلم أن يقوم على علف بهائمه، وإذا أعلفها ينبغي عليه أن يتقي الله في هذا العلف، فإذا أراد أن يطعمها ينبغي أن يكون هذا العلف مما يتحقق به سد حاجة البهيمة، ويكون مما ترغب فيه البهيمة، فإذا كان علفاً مضراً بصحتها، أو قليلاً لا يقوم بها، فإن هذا من تضييع الحيوان، ولا يجوز له ذلك.

    فقوله: (عليه علف بهائمه): أي عليه أن يطعم البهائم.

    والذي قرره العلماء: أنه إذا أرسل البهيمة لترعى، فليس بواجب عليه أن يتركها حتى ترعى غاية الرعي، إنما المراد الحد الذي تحصل به الكفاية. وهذا يختلف من بهيمة إلى أخرى.

    سقي البهائم

    قال رحمه الله: [وسقيها].

    أي: يجب عليه أن يسقي بهيمته كما أنه يجب عليه أن يطعمها، وسقي الماء تختلف فيه البهائم؛ فمن البهائم من يصبر عن الماء كالإبل، ولكن لها مورد وأمد معين، فيراعي هذا الأمد، فيختار أولاً الزمان لسقيها، ويمكنها من أن تشرب، ويكون هذا الشراب الذي تشربه أو المورد الذي ترده مورداً صالحاً؛ بحيث لا يهمل البهيمة فيضع ماءها في أوانٍ قذرة، أو يسقيها من الماء القذر، أو الماء الذي يكون فيه ضرر على صحتها، كل هذا واجب عليه أن يراعيه في طعامها وشرابها. وهذا كله مبني على الأصل؛ لأنه إذا قصر فإنه يحاسب، فإما أن يطعمها ويسقيها بالمعروف، وإما أن يرسلها.

    قال رحمه الله: [وما يصلحها].

    لما ذكر المصنف أن عليه سقي بهائمه، دل على أنه لا يجب عليه سقي بهائم الغير، ولا يجب عليه أن يطعم بهيمة الغير، لكن هذا فيه تفصيل:

    فلو أنه مر على بهيمة ووجدها محتاجة للطعام أو للشراب؛ فإنه يحسن إليها؛ فيسقيها ويطعمها، وهذا من أعظم المعروف. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب يطوف ببئر، فنزلت فملأت موقها-يعني: خفها- فسقته؛ فشكر الله له): يعني أن الكلب سأل الله أن يشكرها لأنه لا يستطيع أن يشكرها، وسأل الله جل وعلا المالك لكل شيء، ورب كل شيء، والمطلع على كل شيء، فهو بهيمة لا يستطيع أن يعبر عن شكره لذلك المعروف فسأل الله أن يشكرها، فما كان من ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض الرحيم الذي يرحم من يرحم؛ إلا إن غفر لها ذنوبها، فجعل شربة ماء سبباً في رحمته لها، فغُفرت بها ذنوب عمرها.

    وفي الرواية الثانية: (شكر الله لها) أي: أن الله أعظم منها هذا المعروف، وهو سقي هذه البهيمة في هذا المكان، ونزولها إلى البئر، وتكبدها مشقة سقيه رحمة منها بهذه البهيمة، فما كان من الله إلا أن رحمها، لأن الله يرحم خلقه، ويرحم من يرحم خلقه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن).

    وقال عليه الصلاة والسلام: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وقال عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم)، ومفهومه أن من يرحم يُرحم، ففي هذا الحديث الجليل: أنه يسقي بهائم الغير ويحسن إليها كما يحسن إلى بهائمه، لكن الفرق:أن بهائمه على سبيل الوجوب واللزوم، وبهائم غيره على سبيل الندب والاستحباب.

    حق البهائم في تحميلها قدر طاقتها

    قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه].

    أي: وعليه أن لا يحمل بهائمه ما تعجز عنه، فلا يكلف البهيمة ما لا تطيق، والمراد بهذا: النهي عن تعذيب الحيوان، وتعذيب الحيوان يكون على قسمين:

    القسم الأول: تعذيبه حياً.

    القسم الثاني: تعذيبه عند موته.

    وكلاهما محرم بإجماع العلماء رحمهم الله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، ونهى أن يتخذ الحيوان غرضاً؛ مثل أن يتخذ العصفور أو الطائر هدفاً يرميه بالسلاح ويتدرب عليه، أو يصيده من غير حاجة، فلا يجوز أن يعذب الحيوان بحياته ولا بعد موته.

    ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته). فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا من الإحسان، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يعذب الحيوان بتحميله ما لا يطيق.

    فلو كانت عنده بهيمة وأراد أن يحمل عليها المتاع؛ نظر إلى طاقتها في حمل المتاع، ولا يجعل عليها من المتاع فوق طاقتها، وإنما يحملها قدر طاقتها، كذلك أيضاً لو أراد أن يسقي على البهيمة، فإنه إذا أراد أن لا يتلفها في السقي وإدارة السواني؛ احتسب لها المدة التي تطيق فيها الإدارة، ولم يحملها فوق طاقتها وما تعجز عنه.

    حق البهيمة في إرضاع ولدها

    قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها].

    أي: ولا يجوز له أن يحلب من لبن البهيمة ما يضر بولدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر؛ فقال: (لا ضرر ولا ضرار)، وهو حديث أجمع العلماء على صحة متنه، وهناك خلاف في سنده، لكن من أهل العلم من حسنه، وهو قاعدة عند أهل العلم مجمع عليها، وهي: الضرر يزال.

    فلا يجوز أن يحلب لبنها إذا كان ولدها يحتاج هذا اللبن، والسبب في هذا أنه إذا حلب لبن البهيمة ربما امتنع الولد عن شرب لبن غير أمه، وهذا يحدث في بعض الحيوانات؛ وحينئذ لو شرب الإنسان هذا اللبن أضر بالحيوان، ولربما أزهق روحه ومات الولد أو ساءت صحته، فحينئذ تقدم مصلحة ولد البهيمة على مصلحة الشارب وهو المالك، ونص العلماء على اختلاف مذاهبهم: على أنه لا يجوز لمالك البهيمة أن يحلبها متى احتاج ولدها إلى ذلك اللبن.

    1.   

    ما يلزم به المالك العاجز عن نفقة بهائمه

    قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها].

    يقول رحمه الله: (إن عجز) المالك عن نفقة بهيمته، (أجبر على بيعها)، وهذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله: لو أن إنساناً ملك بهائم ثم افتقر ولم يستطع أن يشتري طعامها، هل يجبر على بيعها، أو لا يجبر؟

    جمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم على أن القاضي يجبره على بيعها.

    وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه: إلى أنه ليس من حق القاضي أن يجبر صاحب البهيمة على بيع البهيمة؛ والسبب في هذا: أن الإمام أبا حنيفة نظر إلى مسلك قضائي، ووجهه: أن الدعاوى لا تكون في القضاء إلا وجد الطرفان المتنازعان، وسأل صاحب الحق حقه، وصاحب الحق هنا بهيمة، وليس هناك مسلك قضائي يقيم البهيمة خصماً قضائياً لمالكها، صحيح لو كانت البهيمة إنساناً، والإنسان هذا طالب بحقه، صح قضاءً أن تجرى الخصومة، وتكون خصومة شرعية، لكن البهيمة لم ترفع الدعوى ولم تدع ولم تشتك بسيدها ومالكها، فالإمام أبو حنيفة يقول: لا يصح أن يقال: إن القاضي يحكم على المسلم ببيع ماله، فالمال ملك له، وحينئذٍ لا يلزم ببيعه، لكن يقول: يأمره بالعدل وبالإحسان، ويحثه على إطعامها أو بيعها، لكن لا يلزمه.

    وذهب الجمهور إلى غير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلطان ولي من لا ولي له) ، وهذه بهيمة ولا ولي لها، وهي لا تستطيع أن تسأل حقها، فولي الأمر ولي لمثل هذه الأمور، فهو منصب كالناظر في مصلحتها.

    فمسلك الجمهور أعدل، وأقيس، وأقعد للأصول، وهم إن شاء الله أولى بالصواب.

    وبناءً على ذلك: نجبر صاحب البهائم على بيعها، لكن هذا فيه تفصيل:

    إذا كانت عنده بهائم كثيرة فلا نجبره على بيعها جميعها، بل نجبره على بيع العدد الذي يمكن من خلاله شراء الطعام للعدد الباقي.

    فلو كانت عنده بهيمتان؛ فلا نقول له: يجب عليك بيع البهيمتين إذا لم يطعمها، بل نقول: بع واحدة، وأنفق على الثانية من نفقة هذه الواحدة. فلا يجبر على بيع الجميع، إنما يجبر على بيع البعض إذا كان البهائم فيها عدد كثير يمكن بيع بعضها وإبقاء البعض. وهذا مبني على أصل شرعي: أن الأصل بقاء اليد، وأن القضاء لا يتدخل بنزع اليد والملك إلا عند الضرورة.

    وهذه القضية هي التي أثنى الله فيها على حكم سليمان عليه السلام وجعله أفضل من حكم داود عليه السلام: رجل غفل عن غنمه، فأكلت الغنم زرع غيره، فاختصم صاحب الزرع وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام، فنظر داود ووجد أن قيمة الطعام الذي أكلته البهيمة تعادل قيمة الغنم، فحكم وقضى عليه السلام: أن صاحب المزرعة يملك الغنم، وحينئذ أخلى صاحب الملك عن ملكه، فلما خرج قال سليمان: لو كان الأمر إلي لحكمت بغير هذا؛ لحكمت على صاحب الغنم أن يأخذ الأرض يزرعها، فيعيدها كما كانت، وأن يأخذ صاحب الأرض غنم الرجل فيشرب من حليبها، وينتفع بها حتى يعود إليه زرعه. فقال الله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79].

    فأثنى الله على حكم سليمان وفضله على حكم داود، والسبب في هذا أنه أبقى يد الملك، ولم يحكم بانتقال الملكية؛ فراعى الأصل، ومن هنا لا نقول: بأنه يجب عليه بيع جميع الغنم أو البقر أو الإبل، بل تبقى يد الملكية، ويبيع بقدر الحاجة فقط.

    لأن القاعدة تقول: ما أبيح لأجل الحاجة يقدر بقدرها، فنحن مضطرون للإنفاق على البهائم، فنقدر قدر الإنفاق، ونوجب عليه البيع بقدر ذلك، ولا يلزم ببيع، وإذا قلنا: يبيع بعض الغنم، فإن كان الغنم كله بحالة واحدة جيدة أو رديئة فلا إشكال، لكن إذا كان بعضه أجود من بعض، فإن القاضي لا يجبره على بيع الجيد، وإنما يجبره على بيع الرديء؛ لأنه يتضرر بيع الجيد كما لا يخفى.

    قال رحمه الله: [أجبر على بيعها، أو إجارتها].

    نقول له:بعها أو أجرها؛ لأنه إذا أجرها أمكنه أن يأخذ الأجرة، وينفق عليها ويطعمها.

    قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت].

    إذا قال: ليس هناك من يستأجرها، قلنا له: بعها، ففصلنا بنفس التفصيل الذي تقدم. في هذه الحالة إذا لم يمكن إجارتها ولا بيعها، قال: يؤمر بذبحها؛ لأن الحيوان في هذه الحالة سيموت ويهلك؛ لأنه إذا لم يجد طعاماً فإنه سيهلك لا محالة، وحينما يهلك بالذكاء أفضل من أن يهلك حتف نفسه.

    وهذه المسألة بنيت عليها مسألة وهي: إذا مرضت البهيمة، وتعذبت بمرضها، أو وجدت بهيمة فيها عاهة وتعذبت بهذه العاهة، وذكاها من أجل أن لا يأكلها ولكن من أجل أن يريحها بالموت، وهذا ما يسمى بقتل الرحمة. فقتل الرحمة: منع منه طائفة من أئمة العلم رحمة الله عليهم، وقالوا: الله أرحم بخلقه، ونحن لسنا مسئولين عن هذه البهائم، إنما نحن مسئولون عما نملك، وأما قتلها وإزهاق روحها لغير الأكل فمنهي عنه شرعاً، فكونها فيها عاهة، فالله خلقها على هذه العاهة، فلا يتدخل مخلوق في أمر الله عز وجل، وهو أعلم سبحانه وتعالى بخلقه.

    وقال بعض العلماء: يجوز أن يذكيها وأن يقتلها إذا رآها تتعذب، ولكن في الحقيقة إذا كانت حالة الذكاء تمكن من الانتفاع بها، وكان تركها لا يمكن من الانتفاع، قدمت الذكاة، والدليل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح: أن امرأة كانت ترعى غنمها بسلع، وسلع كان خارج بناء المدينة قديماً، وإلا فهو داخل حدودها، وكان سلع أشبه بالمرعى لأهل المدينة لأنه خارج العمران، وكان سلع إلى الثمانين هجرية خارج سور المدينة، مع أنه لا يفصله عن المسجد بعض الأحيان إلا ميلاً واحداً، فمع هذا كانت ترعى في هذا الموضع، فهجم الذئب على غنمها، وأخذ شاة وبقر بطنها، فاستغاثت المرأة، ففر الذئب، وأخذت الشاة تخرج أمعاؤها، فقامت المرأة وكسرت حجراً، وذكت الشاة، فلما ذكت الشاة سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه البهيمة؛ فأجاز أكلها وأحلها.

    وهذا الحديث العجيب مع أنه واقعة عجيبة، إلا أن فيه من دقائق ونفائس الأحكام الكثير، بل هو من غرر الأحكام. منها: أن هذا الحديث فرعوا عليه قاعدة فرعت عليها مسألة موت الدماغ الموجودة الآن.

    هذا الحديث أخذوا منه مسألتنا هذه وهي: أن المرأة قتلت البهيمة وذكتها، لأنها لو تركتها ستموت حتف نفسها فتصبح ميتة، فلا ينتفع بها. وإذا ذكتها صلحت للأكل فانتفع بها.

    وفرق بعض العلماء بين قتل الرحمة، وبين هذه المسألة؛ فقتل الرحمة: أن تقتل البهيمة ولا تؤكل، وهنا تقتل البهيمة وتؤكل. والأصل أن البهيمة مخلوقة للآدميين للانتفاع بها، وقتل الرحمة يخوف الانتفاع، لأنه البهيمة يكون فيها مرض، ولا يمكن الانتفاع بها، وغالباً ما يكون المرض مضراً، أو نحو ذلك.

    الشاهد: أن حديثنا هذا أخذ منه جواز قتل البهيمة، لكن لو كان قتلها للمنفعة، مثلاً: دهستها سيارة، فإذا تركت ماتت حتف نفسها، فلم يحل أكلها، فيأتي الشخص فيذكيها حتى تصلح للأكل، لكن إذا ذكاها في هذه الحالة، فهل القاتل الذي دهسها؟ أو الذي ذكاها؟

    هذه مسألة مهمة-هي التي تفرع عنها مسألة موت الدماغ- الحياة المستقرة هل هي كالعدم أو هي حياة؟

    الحياة المستقرة: هي أن تضرب البهيمة ضربة قاتلة، وترفس وهي في آخر رمق من حياتها، فلو أنها ذكيت، وقلنا: إن حياتها في هذه الحالة حياة مستقرة، فالذكاة صحيحة ويحل أكلها؛ لأنها ماتت بالذكاة، وإن قلنا: إن الروح شبه مزهقة؛ فحينئذ لا تنفعها الذكاة لأنه قد استنفذت روحها.

    فوجه دخول هذه المسألة: أنه إذا كانت البهيمة تتعذب، وتتضرر بالمرض، وأراد ربها أن يقتلها، فإنه: يجوز قتلها، ومن هنا قالوا: يؤمر بذبحها، لكن الأمر بذبحها لا يمنع من أكلها بعد الذبح، فهي شبيهة بالحديث الذي معنا، لأنه إذا ذبحها دفع الضرر عنها، وحل أكلها، ولكن إذا تركها ماتت حتف نفسها، فلم تصلح للأكل. وحينئذ يستقيم قول المصنف رحمه الله: إنه يؤمر إما ببيعها، أو إجارتها، أو ذبحها.

    1.   

    الأسئلة

    حكم خصي البهائم لتطييب اللحم

    السؤال: هل خصي البهائم من أجل تطييب اللحم أمر جائز؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فقد اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة خصي البهائم: فمن أهل العلم من قال: يجوز خصي البهائم لتطييب اللحم؛ لأنه يقصد به مصلحة، والبهيمة في الأصل مخلوقة للآدمي، كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]. قالوا: فإذا خصيت طاب لحمها، واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوأين.

    والذي يظهر أن هناك فرقاً بين الإيجاء والخصاء، فإذا كان خصاءً وليس تعذيباً مضراً، فإنه لا بأس به، وأما الخصي لقطع نسلها، والإضرار بها وتعذيبها؛ فإنه غير جائز، إعمالاً للأصل. والله تعالى أعلم.

    حكم قتل الحشرات كالنمل وغيره

    السؤال: أشكل علي مسألة بعض الحشرات غير الضارة؛ مثل النمل، هل يجوز قتلها أم لا؟

    الجواب: لا يجوز قتل النمل من غير حاجة، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبياً من أنبياء الله نزل في ظل شجرة، فنام فقرصته نملة، فقام فأمر برحله فرُحل؛ فإذا هو بقرية من النمل، فأمر بها فأحرقت، فأوحى الله إليه: أبنملة واحدة أهلكت أمة تسبح الله؟).

    وهذا يدل على أنه لا يجوز قتل الحشرات، إلا إذا أضرت وآذت. نعم يجوز قتلها بقدر الحاجة، أو تنفيرها من البيت، أو إخراجها منه، فإذا لم يمكن إلا بقتلها فإنها تقتل إذا ضرت بالإنسان، أو ضرت بالطعام، أو نحو ذلك.

    وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]. قال: قطع الشجر، وقتل الحيوانات من غير حاجة، فهذا منهي عنه، ولا يجوز شرعاً. والله تعالى أعلم.

    حكم حبس الطيور للزينة

    السؤال: ما حكم حبس العصافير ووضعها في الأقفاص من أجل الزينة؟

    الجواب: يجوز حبس العصافير والطيور إذا كان يطعمها ولا يعذبها، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال-وهو من حديث أنس في السنن-: (يا أبا عمير ! ما فعل النغير؟!). والنغير تصغير النغري؛ وهو نوع من الطير معروف، قيل: يحبس لجماله، وقيل: لجمال صوته، وهذا يدل على أنه لا بأس بحبس البهائم والطيور، بشرط أن يقوم على طعامها ولا يعذبها.

    حكم البيع في المسجد وتوابعه

    السؤال: هل يجوز البيع في المنطقة الواقعة مؤخرة المسجد، كالمظلات؟

    الجواب: إذا كان في المسجد فلا يجوز، سواء كان في آخره أو أوله أو أوسطه، فالمسجد لا يجوز البيع فيه، ومن باع فيه فلا أربح الله صفقته؛ لأن المساجد ما بنيت للبيع، ولكن إذا كان خارج المسجد؛ فخارج المسجد ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: أن يكون رحبة؛ له سور محيط به، فإذا كان له سور ويحفظ، وأرض موقوفة مسبلة تابعة للمسجد؛ فمذهب بعض العلماء: أنها تابعة للمسجد، يجوز للمعتكف أن يخرج إليها، ولا تجوز للحائض أن تدخل فيها، فتسري عليها أحكام المسجد.

    وأما إذا كانت غير مسورة وغير محاطة، فإنها لا تأخذ حكم المسجد، فيجوز فيها البيع والشراء. والله تعالى أعلم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755992757