إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب النفقات [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينبغي للزوج أن يرعى حق زوجته في النفقة فيما تحتاجه، ومن هذا أن يأتيها بما تحتاجه في نظافتها، لأنها من الأمور المهمة للنساء، وأما ما عدا ذلك من دواء لها أو أجرة لطبيب فهذا غير لازم عليه.

    1.   

    ما يلزم الزوج وما لا يلزمه من مؤن النظافة والخدمة والدواء

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد:

    إلزام الزوج بمئونة نظافة زوجته

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ وعليه مئونة نظافة زوجته دون خادمها ]

    أشار المصنف رحمه الله في هذه المسألة إلى أن الزوج ملزم بدفع التكاليف التي تتعلق بمئونة تنظيف الزوجة، وقد نص طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الأمور التي تحتاجها المرأة للتنظيف من السدر والأشنان يلزم الزوج أن يهيئ ذلك لها؛ لأن هذا مما يتحقق به المقصود من النكاح.

    حكم إخدام الزوج لزوجته

    أما بالنسبة لمن يخدمها، وهي المرأة التي تقوم على خدمتها، فليس بملزم بنفقتها، وإنما يختص الحكم بالمرأة نفسها، وهذا متعلق بالمسألة التي ذكرناها من أن بعض النساء يلزم الزوج بإخدامهن، وذكرنا أن ذلك مبني على العرف، وأنها إذا كانت من بيئة يخدم مثلها فإنه يجب على الزوج أن يخدمها وأن يحضر لها خادمة، فإذا أحضر لها الخادمة فإنه لا تلزمه مئونة تنظيف الخادمة؛ لأن الاستمتاع بالزوجة وليس بالخادمة، ومن هنا تلزمه مئونة الزوجة دون مئونة الخادمة.

    وعندما قال: (وعليه) دل على أنه أمر لازم وواجب عليه، وفي زماننا ما يكون من الصابون وأدوات التنظيف التي تحتاج إليها المرأة للنظافة إذا اغتسلت، فتحتاج مثلاً إلى الليف الذي تتنظف به في جسدها، وتحتاج إلى الصابون، وتحتاج إلى بعض المطهرات في الحدود التي يستطيعها الزوج.

    وأما إذا أراد الأكمل والأفضل فزادها وطلب لها الأفضل والأكمل في هذه الأشياء، فهذا أجره أعظم عند الله عز وجل؛ لأنه من كمال العشرة، ومن كمال الإحسان، بشرط ألا يصل إلى الإسراف.

    فإذاً: من حيث الأصل: على الزوج تهيئة الأدوات التي تحتاجها المرأة للنظافة، ومن هنا إذا احتاجت ماءً لتغتسل به فإن عليه أن يحضر هذا الماء، وكذلك أيضاً إذا احتاجت إلى الصابون والمطهرات، وفي زماننا الأشياء المنظفة المعروفة في كل زمان بحسبه، يحضر هذه الأشياء إليها.

    ولذلك تتضرر المرأة ويضيق عليها الأمر إذا كانت لا تجد هذه الأشياء، فلو عاشت مع زوج لا تجد ما تتنظف به فإن هذا يؤذيها ويضر بها، ولا يحسن منها التبعل لزوجها.

    ومن هنا قالوا: إن هذا يحقق مقصود الشرع من حصول الألفة والمحبة، والمرأة إذا تزينت لزوجها وتجملت لبعلها في الحدود الشرعية دون إسراف ولا بذخ ولا مشاكلة لأعداء الإسلام، فإن هذا يبعده عن الفتنة، ويعينها على العفة، ويمكنها من أن تحسن لبعلها أكثر.

    وكان هذا محفوظاً حتى في السير وأخبار الصحابيات أنهن يتزيَّنَّ ويتجملن، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (فتمتشط الغائبة وتدّهن) وهذا يدل على أن المرأة تتجمل لبعلها وتتزين لبعلها، فيشمل هذا أدوات التنظيف -كما ذكرنا- وأدوات التسريح للشعر، وأدوات الحلاقة التي تحلق بها أو تنتف بها شعرها، مما جرى العرف به في كل عرف بحسبه.

    في القديم كان الصابون وكانت أمشاط العاج على اختلاف طبقات النساء، وفي زماننا توجد مساحيق طبيعية ليست مشتملة على مواد محرمة، ويمكن للمرأة أن ترتفق بها، فهذا يحبب الزوج لزوجته.

    حكم معالجة الزوج لزوجته

    قال رحمه الله: [ لا دواء وأجرة طبيب ]

    أي: ليس على الزوج أن يداوي زوجته، وليس على الزوج أن يعالجها إذا مرضت، وهذا محل إجماع واتفاق بين المذاهب الأربعة رحمة الله عليهم وغيرهم، فكلهم نصوا على أن الزوج ليس ملزماً بعلاج زوجته، وذلك لأن المرض متعلق ببدنها، وهذا أمر يتعلق بذاتها وليس له صلة بالحياة الزوجية، صحيح أنه لا يمكنه أن يستمتع بها إلا إذا شفيت، هذا شيء لا يعنيه، مثل ما لو استأجر أجيراً لعمل فمرض الأجير، فليس من حق الأجير أن يطالب بعلاجه.

    وإن كانت في بعض القوانين والأعراف تُلزم رب العمل بمداواة الأجير، ولكن هذا ليس له أصل في الشرع، فالأجير بيني وبينه عقد أن يقوم ببناء أو أن يقوم بعمل ويأخذ أجره، أما أن أكلف بعلاجه ودوائه فهذا ليس له أصل شرعي يدل عليه، وهذا هو المعروف عند العلماء.

    ولذلك لما ذكروا مسألة الزوجة أنه لا يجب تطبيبها قاسوها على مسألة الإجارة، كما نبه على ذلك الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله عليه؛ لأن طب البدن نفسه من مصلحة الزوجة لذاتها، وإن كان لا يستطيع أن يحقق مقصوده من الاستمتاع بها.

    إذاً: إذا أحب أن يتفضل فهذا فضل منه وليس بفرض عليه، فليس بواجب عليه أن يعالج زوجته، ولكن من المعروف والإحسان أن الزوج يقوم على معالجة زوجته، ويسعى في تطبيبها ودوائها، وهذا من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل؛ لأن فيه إحساناً إلى أقرب الناس إليك بعد والديك وهي زوجك وحِبك وأهلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

    والعلاج ينقسم إلى: طب دوائي وطب وقائي، فإن خرج عن الطب العلاجي والوقائي إلى أمور بعضها قد يكون معارضاً للشريعة، فحينئذٍ لا، فإذا كانت المرأة محتاجة لعلاج ضروري لإنقاذ نفسها من أمراض كأمراض القلب وأمراض الشرايين -أعاذنا الله وإياكم منها- ونحو ذلك من الأمراض المميتة، فهذه ضرورية، أو كانت حاجية كآلام الضرس ونحوها، فهذه حاجية؛ لأن فيها حرجاً، أو كانت وقائية مثل أن تستخدم بعض العقاقير لأمر يغلب على الظن أنها وقوعه، وبعض العقاقير التي يقصد منها التحصين من الأمراض ونحوها.

    أما إذا خرج عن الدواء والوقاء وأصبح من الفضول، أو أصبح مخالفاً لمقصود الشرع مثل: وضع اللولب، فهذا ليس بعلاج ولا دواء، وليس بوقاية من حيث الأصل، وفيه استباحة الفرج مع اشتماله على المحاذير، من استباحة النظر إلى الفرج، والإيلاج في الفرج، ومس العورة وكشفها، وكذلك إرباك العادة، فإنه يربك العادة، مع أنه يخالف مقصود الشرع؛ لأنه يقطع النسل في مدة وجوده، ومقصود الشرع من الزواج التكاثر والتناسل.

    ولذلك لما ضعف إيمان الناس في هذا الزمان إلا من رحم الله عز وجل، وأصبحت المرأة تشتكي من الحمل؛ أصبح كل شيء ضرورياً، وأصبحت تقول: ضرورة. مع أن الله عز وجل أثبت أن الحمل كره وأنه وهن على وهن، وأنه عذاب، ولماذا أعطى الله الأم من الحق ما لم يعطه للأب، وأعطاها من الفضل والخير والأجر، حتى إنها لو ماتت في نفاسها فهي شهيدة؟ هذا كله يدل على أن الشرع له مقصود في هذا.

    فالمقصود أنه إذا كان علاجها مشتملاً على تغيير الخلقة، أو مشتملاً على محذور، فهذا لا يعالجه؛ لأنه إذا عالجها على هذا الوجه أعانها على معصية الله عز وجل. فيداويها ويعالجها إذا احتاجت، أما إذا كان العلاج للحمل، فالحمل واجب عليه أن ينفق عليه وأن يقوم عليه؛ لأن الولد ولده، ولذلك قال تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6] فبيّن سبحانه وتعالى أن الحمل مستحق لوالده، ولذلك يُلزم بالنفقة عليه، فإذا احتاجت لدواء لهذا الحمل وجب عليه أن ينفق على هذا الجنين؛ لأن حياته ونجاته بإذن الله عز وجل موقوفة على هذا الدواء أو هذا العلاج، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك يجب عليه أن ينفق، ونفقة حياة الجنين والمحافظة على حياة الجنين أعظم من نفقة ما يتبع ذلك.

    ولذلك يجب عليه أن يعالج المرأة إذا كان ذلك متعلقاً بحملها، بناءً على ما قرره العلماء رحمهم الله من أن المولود له، وأنه يطالب بنفقة الحمل.

    1.   

    الأسئلة

    حكم نفقة الزوج على زوجته إذا أنفق عليها أولادها

    السؤال: هل تبرأ ذمة الزوج من النفقة إذا قام بها الأولاد لأمهم؟

    الجواب: الأولاد ليسوا مطالبين بالنفقة مادام الزوج موجوداً، فالواجب عليه أن ينفق على زوجته وأن يتقي الله عز وجل في امرأته ويعطيها حقها، لكن لو تبرع الأولاد ورضي هو فلا بأس، ولكن الأصل يقتضي أنه هو الذي ينفق، ولا شك أن الأم تتضرر بنفقة ولدها عليها؛ لأن ولدها إذا أنفق عليها اكتسب المنة عليها.

    فالأصل أن ينفق عليها زوجها، وأن يطالب الزوج بالقيام بحقها، وأن يتقي الله عز وجل، ولو كانت نفقته واجبة على أحد وأسند ذلك الشخص النفقة إلى من هو أصغر منه سناً لتمعر بذلك وتضرر وتألم، فلا شك أن في هذا غضاضة على المرأة وأذية لها أن تأخذ نفقتها من ولدها، ولو أن الولد يتشرف بذلك؛ لكن ليس كل الأولاد يحسن الملاطفة والإحسان لمشاعر والدته.

    ومن هنا الأصل يقتضي أن الوالد هو الذي ينفق ويقوم بالنفقة، فإذا رضيت الأم وتسامحوا وتشاوروا عن تراض منهم فهذا شيء لا يتكلم فيه، لكن أن يشتمل على الإهانة والضرر لمكانة الأم والإذلال لها بنفقة ولدها عليها فلا؛ لأنه حق واجب على الزوج، ولا يجوز أن تمتهن في حقها، بل واجب عليه أن يؤدي هذا الحق كما أمره الله عز وجل.

    قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (حقها عليك أن تطعمها مما تطعم وأن تكسوها إذا اكتسيت) وهذا يدل على أنه متعلق بالزوج، وأن على الزوج أن يتقي الله عز وجل في نفقة زوجته.

    والله تعالى أعلم.

    عبر وعظات من غزوة بدر

    السؤال: في غزوة بدر كثير من المواقف والعبر، هلا حدثتمونا فضيلة الشيخ بشيء من ذلك؟

    الجواب: غزوة بدر ملحمة من ملاحم الإسلام، ويوم من أيامه الجميلة العظام، أعز الله فيه جنده ونصر عبده وأعلى كلمته، وصدق وعده، سبحانه لا يخلف الميعاد، هذه الغزوة تعتبر من أعظم غزوات الإسلام، ولذلك فتح الله عز وجل بها على المؤمنين فتحاً مبينا، وكلما نظر المؤمن في حوادثها وتدبير الله جل وعلا لأحداثها ازداد إيماناً بالله جل جلاله، ويقيناً بالله سبحانه وتعالى، وثباتاً على الحق واستمساكاً بدين الله عز وجل.

    فهو يوم سماه الله عز وجل يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، مستضعفون مضطهدون محتقرون، في قلة من العدد والعدة، فأخرجهم الله جل وعلا أعزة أقوياء وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115] .

    ففصل الله عز وجل فيها بين الحق والباطل.

    غزوة بدر تلك الغزوة العظيمة التي تُذكر المؤمن الصادق بأنه لابد من الصدق مع الله، وأن هذا الدين لا يمكن أن يستقيم الأمر فيه إلا بالإخلاص التام لله جل وعلا، وأن من كان لله كان الله له، ومن كان مع الله فإن الله لا يخذله، وأنه إذا صدق مع الله، فإن الله يصدقه.

    هذه الغزوة التي خرج فيها أولئك النفر الذين كُتبت لهم السعادة في بطون أمهاتهم، أولئك النفر الذين نادى عليهم منادي الله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، أولئك النفر الذين صدقوا وثبتوا، قالوا فبروا في قولهم، وصدقوا في مقالهم: (والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا عنك رجل واحد، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون) .

    رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] اشتروا الموت لمرضاة الله عز وجل، وباعوا الحياة رخيصة من أجل هذا الدين، لا يريدون بها دنيا ولا رياءً ولا نفاقاً ولا سمعة، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله.

    ولذلك فاز البدريون بالمناقب العظيمة، والمنازل الجليلة الكريمة.

    هناك في ذلك المكان الذي كان اللقاء فيه على غير ميعاد، وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42] فربك إذا قدر، وربك إذا أمر، وربك إذا دبر الأمر من فوق سبع سماوات كان ما أراد، فأخرج جحافل الكفر وأئمة الكفر ورءوس الشر، الذين كم قالوا وكم فعلوا، وكم عذبوا وكم آذوا وكم طغوا وبغوا، حتى جاء أمر الله جل جلاله.

    أخرجهم من عزتهم إلى ذلة، ومن كرامتهم إلى مهانة، ومن حياتهم إلى موت وجحيم ودركات لا يعلم عذابها إلا الله جل جلاله؛ لأن الأمر أمره والقدر قدره، والأمر كله له جل جلاله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123] الله أكبر! أناس كانوا في عزتهم وقوتهم وبطشهم، يُستدرجون هذا الاستدراج! يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16] ويعلم كل مؤمن أن كل طاغية وكل باغية وكل معتد حبله قصير، وأنه في متاع الغرور وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] .

    فما خلق الله السماوات والأرض عبثا.

    بدر ملحمة تحرك القلوب إلى الله جل جلاله، يقف الإنسان متأملاً متدبراً، حفاة حملهم ربهم، عراة كساهم ربهم، جياع أطعمهم ربهم، كان غذاؤهم وقوتهم وشوكتهم كلمة التوحيد والإخلاص: لا إله إلا الله، خرجوا من أجلها وقاتلوا من أجلها، فأعزهم الله بها العزة التي لا ذلة بعدها أبداً، وأكرمهم بها الكرامة التي لا مهانة بعدها أبداً.

    الله أكبر! أبو جهل رأس الكفر والعداء للإسلام، الذي كان يقول ويفعل، وإذا به يقف عليه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، ويقف هو ذلك الموقف الذليل المهان؛ لأن كل من اعتدى إذا جاءته نقمة الله تأتيه على أسوأ الأحوال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] قالوا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود:102] بالتشبيه أي: مثل ذلك، وهذه تدل على أنها مثلات لله عز وجل، لا تتخلف ولا تتبدل، ليست في شخص ولا في شخصين ولا ثلاثة وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود:102] ما قال: أخذي بل: أَخْذُ رَبِّكَ [هود:102] الذي يربي خلقه بالنعم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر بالنقم، إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102] ما قال: الأشخاص ولا الأفراد، إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102] جملة حالية، أي: في حال الظلم والبغي والعدوان.

    في يوم بدر مواقف عظيمة، فالعبد الصالح المؤمن الموقن يعتبر من عزة الإيمان واندحار الشيطان، فالباطل حبله قصير، يملي للعبد ثم يخذله في موقفه، ولذلك قال الشيطان لما رأى ما رأى: إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ [الأنفال:48] قال بعض أئمة التفسير ويروى عن بعض أئمة السلف من الصحابة: رأى جبريل يتنـزل والملائكة نصرة من الله عز وجل لنبيه وأوليائه، فرجع خاسئاً ذليلاً، جاء بهم وهم في عدد وعدة وقوة وشوكة من أجل أن يكون فيها مصارعهم وسوء خواتمهم والعياذ بالله، فلما رأى جبريل جاءت ساعة الحق.

    في غزوة بدر مواقف عظيمة:

    في ليلة بدر أنزل الله سبحانه وتعالى المطر: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11] الله أكبر! إذا وقف العبد لله يزلزل بالفتن كان الله معه، وما أن تثبت قدمه حتى تأتيه الرحمات وتتنـزل عليه من الله السكينة والثبات، في كل كرب وفي كل شدة، في فرد أو جماعة أو أمة، فإنها إذا ضاقت عليها الأمور وثبتت مع ربها تنـزلت عليها السكينة، وجاءها الثبات من الله سبحانه وتعالى وجاءت المعونة وجاءها النصر، فرأيت بشائر الخير وبشائر الرحمة عند الله سبحانه وتعالى الذي لا يخذل أولياءه إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196].

    لكن لابد من الثمن، والثمن هو الإيمان والعقيدة والتوحيد والإخلاص، ليس النفاق ولا الرياء ولا الكلام المنمق أبداً، بل العمل والتطبيق بقلوب صادقة، ولذلك في مواطن الشدة والبلاء لا ينظر الله سبحانه وتعالى لشيء أحب إليه من القلب.

    ولذلك رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18] أول شيء النظر فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18] * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا [الفتح:19] وذلك لأنه لما نظر إلى قلوبهم وجد فيها التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، فيتزلزل الناس ويرعبون ويخافون ولكن هؤلاء يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله، وتجد هذه المواقف كلها تتجدد بهذا الدين، وبهذا الإخلاص.

    الإيمان الذي كان مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليقين الذي ثبت به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت به المؤمن في كل زمان ومكان، ولكن لابد أن يكون مع الله حتى يكون الله معه.

    هناك على ذلك المكان الطيب الطاهر، إذا تذكر المؤمن كيف خرجوا رضوان الله عليهم، والله عز وجل يعدهم إحدى الطائفتين، ثم إذا بهم يقفون أمام الموت، ومن هنا يقول العلماء: دائماً تأتي المنازل العلا والتشريفات والكرامات والمكرمات من الله عز وجل حينما تقف أمام شيء لا تريده، أنت تريد شيئاً معيناً من الهوى ومحبة الناس، ولكن هناك ابتلاء وتمحيص من الله، فيأتيك ما تكره، فتقدم لله عز وجل الرضا، وتقدم له التسليم، وتقدم له الإيمان والمحبة التامة الكاملة والرضا بقضائه وقدره، فيمدك الله عز وجل بأمن وثبات وتأييد وقوة لم تخطر لك على بال، وعندها تجد من بشائر النصر والظفر من الله سبحانه وتعالى ما لم يخطر لك على بال.

    سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151] وعد الله سبحانه وتعالى أن كل من كفر وعاداه، أنه سيلقي في قلبه الرعب، وهذا كله لما تخلف الأساس وهو: التوحيد والإخلاص، فالعبد الصالح حينما يتأمل مواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الأمة التي اصطفاها الله واجتباها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، هذه الأمة التي ما كانت تتجمل بقولها ولا بفعلها، ولا كانت تنمق العبارات، ولا كانت تتفاخر بأحسابها ولا بألوانها ولا بأمجادها، كانوا يقفون بلا إله إلا الله، من أجلها ولأجلها يتقدمون ويتأخرون، ويأخذون ويعطون، رضي الله عنهم وأرضاهم.

    ولذلك أعطاهم الله عز وجل؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كما شهد من فوق سبع سماوات أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

    الله أكبر! ذلك اليوم الطيب المبارك الذي يتفكر المؤمن في عظيم ما أعد الله سبحانه وتعالى لأهله، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) انظر إلى التشريف والتكريم من الله سبحانه وتعالى، ما اطلع على الأغنياء، ولا على الأثرياء بل اطلع على المخلصين، اطلع على المؤمنين، اطلع على الصادقين والصديقين، اطلع على تلك النفوس الزكية الطاهرة.

    من هذا: غلامان يافعان صغيران كل منهما يشتري الموت ويقول: أين أبو جهل ؟ يريدان الموت لمحبتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومواقف الصحابة من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم في غزوة بدر تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فالأنصار أعطت النبي صلى الله عليه وسلم الوعد والعهد في بيعة العقبة على أنها تحميه في المدينة، فلما خرج خارج المدينة ووقع الامتحان قالوا فصدقوا ووعدوا فوفوا رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال قائلهم: (فلعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فبرقت أسارير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

    فنسأل الله العظيم أن يجعل جزاءه في الفردوس الأعلى من الجنة، كما سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، كلمة عظيمة يقول: (سر بنا إلى عدوك، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك) ، أناس كانوا يشترون الموت بصدق، لكن لله وفي الله وعلى بصيرة.

    وإذا وقف الإنسان أمام هذه المواقف الإسلامية العظيمة في أماكنها ومشاهدها، في بدر، في ذلك المكان الذي سطع نوره وأصبح ملحمة مشهورة، في تلك الجنبات وعلى تلك الرمال الطاهرة سالت دماء الشهداء، ومن جوار تلك التلال ومن تلك الرمال ارتفعت أرواح السعداء، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة:21] لا يعلم ما لهم عند الله إلا الله، ولا يعلم ما لهم عند الله من المنازل والمكرمات إلا هو سبحانه وتعالى، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل أعالي الفردوس مسكنهم ومثواهم.

    وهذه الأمة لا يمكن أبداً أن يستقيم أمرها إلا بالإخلاص، وذلك إذا صارت الأمور كلها لله لا لأي شيء سواه، فلا يمكن أبداً أن يستقيم أمر المؤمن في كل صغيرة وكبيرة إلا بالصدق مع الله وحده لا شريك له؛ لأن الله ما خلقنا لأحد، ما خلقنا إلا له سبحانه، من أجل عبادته وتوحيده والإخلاص لوجهه سبحانه وتعالى.

    وبمجرد ما تثبت هذه الأمة على هذا الصراط المستقيم فتصبح كليتها لله، القول لله والعمل لله، والأمور كلها تخرج من قلوب صادقة لله وفي الله، فعندها يطيب العمل (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا) ، وعندها يعلم الناس ما هي ثمرات المعاملة مع الله، فللمعاملة مع الله لذة يعرفها من يعرفها، عرفها الأنبياء والصالحون والأتقياء، فنالوا بها سعادة السعداء، ونالوا بها شرف الأتقياء، نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين.

    والمقصود الأعظم إذا وقفنا أمام غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ألا نقف كالمتحدثين بأمجاد، ولا نقف كمتحدثين بأخبار، بل نقف من أجل أن نغرس التوحيد والإيمان، ومن أجل أن نغرس الأسس التي من أجلها قامت هذه الملاحم العظيمة، وأن نغرس في قلوب الناس أن المعاملة مع الله لابد أن تكون خالصة لا تشوبها شائبة.

    إذا عرفت الأمة هذا الأساس فإنك ترجو لها كل خير؛ لأن هذا أساس الدين: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التفكر والاتعاظ والاعتبار بهذه المواقف العظيمة، وأن يرزقنا حسن التأسي بهم، وأن يحشرنا في زمرتهم، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

    والله تعالى أعلم.

    الطواف ليلة رمضان هل يعتبر عمرة في رمضان

    السؤال: يقول السائل: أحرمت بالعمرة نهار يوم الثلاثين من شعبان، ولكن لم أبدأ الطواف إلا ليلة رمضان، فهل تكون العمرة واقعة في رمضان، أم في شعبان؟

    الجواب: هذه المسألة لها نظير وهي مسألة عمرة التمتع، حيث يشترط في العمرة لكي تكون عمرة تمتع أن تقع في أشهر الحج، وأشهر الحج تبدأ بليلة العيد؛ لأن ليلة العيد هي بداية شوال، فقال العلماء: لو أن شخصاً أحرم في يوم الثلاثين من رمضان، وطاف وسعى، أو سعى في ليلة العيد، هل هو متمتع أو لا؟ هذه مسألة خلافية، والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.

    من أهل العلم من قال: العبرة بالإحرام، كالظاهرية ومن وافقهم، ومنهم من قال: العبرة بدخول مكة، كـعطاء وغيره من أئمة السلف، ومنهم من قال: العبرة بابتداء الطواف، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، ومنهم من قال: العبرة بأكثر الطواف، أربعة أشواط فأكثر، كالحنفية، ومنهم من قال: العبرة بالتحلل، كالمالكية، وهذه خمسة أقوال مشهورة عن السلف.

    فإذا كان هناك تخريج للفتوى في هذه المسألة على أصول العلماء، فالأشبه أنها تقاس على هذه المسألة، وبناءً على ذلك إذا ابتدأ الطواف بعد غروب الشمس من آخر يوم من شعبان، أي: ابتدأ الطواف في الليلة الأولى من رمضان فإنه معتمر في رمضان؛ لأن الركن الأعظم الطواف بالبيت والسعي، ومن أجله كانت العمرة؛ لأن العمرة من أجل أن يزور البيت.

    ومن هنا إذا وقعت زيارته للبيت وابتدأ طوافه بعد مغيب الشمس، فإنها عمرة رمضانية، وإن وقع ابتداؤه بالطواف قبل غروب الشمس فهي شعبانية، ولا تكون آخذة حكم العمرة في رمضان، وهذا على التخريج الذي ذكرناه.

    والله تعالى أعلم.

    وصايا لاستغلال العشر الأواخر من رمضان

    السؤال: أقبلت العشر الأواخر، فبماذا يوصى العبد في وقته، وبماذا توصى المرأة في بيتها؟

    الجواب: جماع الخير كله الوصية بتقوى الله عز وجل وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:4-5] وعلى المؤمن إذا دخلت عليه العشر أن يتحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فإن الله جعل الخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه، وأسعد الناس في العشر الأواخر، وأسعد الناس في كل زمان ومكان من رزقه الله حب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بها.

    فيسأل المؤمن كيف كان هديه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- في هذه العشر؟ وكيف كان حاله عليه الصلاة والسلام حينما عرف حقها وقدرها؟

    فقد كان أتقى الأمة وأعرفها بما لهذه العشر من فضيلة ومزية، فأحيا ليلة وشد مئزره وأيقظ أهله، صلوات الله وسلامه عليه، واعتكف في هذه العشر في مسجده صلوات الله وسلامه عليه، فإن تيسر للمؤمن أن يصيب هذه السنة فيعتكف فعليه أن يتحرى الأمور العظيمة في اعتكافه، والتي أساسها إخلاص العمل لله جل وعلا.

    وأن يعلم أنه ليس له من اعتكافه إلا ما أريد به وجه الله، فإذا خرج من بيته من أجل أن يعتكف هذه العشر فليتأسَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليخرج وليس في قلبه إلا الله، يتمنى أنه يعتكف ولا أحد يراه، ويتمنى أنه معتكف ولا أحد يسمعه أو يحس به من إخلاصه لله سبحانه وتعالى.

    ثانياً: إذا دخل في اعتكافه فعليه أن يتحرى ما يعينه على طاعة الله عز وجل ومرضاته، فيعلم أنها أيام قليلة، وأن هذه الأيام إن وفق فيها لطاعة الله فإن الله قد أحبه بتهيئة الخير له؛ لأن الله لا يهيئ الخير إلا لأحبابه، وصفوة عباده، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه.

    فإذا أحس أن كل ساعة يتنافس فيها مع الصالحين، ويتسابق فيها مع الأخيار والمتقين، شمر عن ساعد الجد في مرضاة الله رب العالمين، فإذا جاء من يضيع عليه وقته في حديث ولهو نظر يميناً فرأى عباد الله الأخيار، ونظر شمالاً فرأى الصفوة الأبرار، ما بين قائم وراكع وساجد وتال، هذا يسأل ربه، وهذا يذكر ربه، وهذا يبكي ذنبه، فعندها يحتقر كل شيء يلهيه عن هذا المقصود الأعظم.

    يتفرغ تفرغاً تاماً كاملاً لذكر الله عز وجل والإخلاص، وأفضل الذكر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى كثرة تلاوة القرآن، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن رزقه الله عز وجل لساناً تالياً لكتاب الله في اعتكافه وفي كل حين، فأسعد الناس من جعل الله القرآن ربيع قلبه ونور صدره وجلاء حزنه وذهاب همه وغمه.

    كذلك أيضاً عليه أن يحرص على الاستفادة من هذه العشر أثناء تلاوة القرآن في صلاح قلبه، ومن أعظم ما يصلح به القلب ويتأثر به القلب كثرة الخشوع، فإن من يكثر من قيام الليل ويتخشع في قيامه، حتى ولو كان في قلبه قسوة فإنه يضغط على هذا القلب، ويلوي بعنقه إلى طاعة الله ومرضاة الله، ويكون شديداً على نفسه، فيفرحه وعد الله عز وجل، ويبكيه وعيده، ويخشع لكلام الله عز وجل، ويرتعد من تخويفه وتهديده، عندها لا شك أنه سيجد بركة القرآن وخيره، فيحاول قدر الاستطاعة أن يكون أكثر الناس انتفاعاً بالقرآن، وخشوعاً عند سماع القرآن، وأن لا يلتفت إلى النغمات ولا إلى الأصوات، ولا إلى العبارات إلا لمقصود أعظم وهو التفكر والتدبر والتذكر من كتاب الله جل جلاله، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] .

    كذلك أيضاً عليه أن يحرص في هذه العشر على الأعمال الصالحة التي فيها تفريج كربات للمسلمين، كإفطار الصائمين، وكسوة العارين، وتفريج الكربات عن المكروبين، يتنافس في كل خير وبر يرضي الله عز وجل عنه.

    ولا مانع أن يستفيد من الخير في صحبة عالم أو أحد من أهل الفضل، فيذكره قوله وعمله وسمته ودله بالله، فهذا خير عظيم.

    كذلك ينبغي عليه أن يبتعد عن الأمور التي تبعد عن الله عز وجل، من كثرة الكلام في فضول الدنيا، وكثرة القيل والقال والغيبة والنميمة، والضحك واللهو.

    الذي يدخل إلى المعتكف وهو يضحك مع هذا أو هذا، وينظر إلى المعتكف على أنه ساعات، ويرتب وقته على أنه في ساعة معينة يأتي فيجلس مع هذا ويباسط هذا، وكأن الأمر ساعات يريد أن يقضيها دون تفكر وتدبر أنه معتكف لله، وأن هذا الوقت مستحق لطاعة الله عز وجل؛ يفوته من الخير شيء كثير، فالله الله ولن يكون الإنسان معتكفاً ومتحرياً للسنة في بلوغ الخير في هذه العشر إلا إذا ضن وبخل بكل دقيقة وثانية، وصار أكره ما عنده أن يأتيه شخص يلهيه عن طاعة الله عز وجل وذكر الله عز وجل.

    فمن عرف الطاعات ولذة الذكر لله عز وجل ولذة العبادة، لا شك أنه يهون في قلبه كل شيء سوى هذا، ويتذمر إذا جاء أحد يشغله عن هذا، ولكن هذه منح من الله سبحانه وتعالى وهبات من الله عز وجل، ومن بشائر القبول ودلائل القبول للعبد الصالح، أن الله يصرف عنه كل من يشغله عن طاعة الله عز وجل ويهيئه لما هو أسمى وأسمى.

    نسأل الله أن يجعلنا وإياكم بمنه وكرمه ذلك الرجل، وجماع الخير كما قلنا: في تقوى الله عز وجل.

    ومن الأمور التي يسعى إليها العبد في العشر الأواخر: أن يحرص على بر الوالدين وصلة الرحم، والإحسان إلى القرابات، وزيارة الإخوان والأخوات وقضاء حوائجهم، خاصة إذا احتاجوا أموراً في عيدهم وفرحتهم، فيدخل السرور عليهم، ويجبر خواطرهم، خاصة إذا كانوا أيتاماً أو أصغر منه سناً، أو أختاً تحتاج إلى مواساة، أو قريباً يحتاج إلى قضاء دين وتفريج كربة.

    على كل حال: أبواب الجنة عظيمة، وطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله عز وجل أن يشمر عن ساعد الجد، فينتهل من مناهل الخير في طاعة الله ومرضاته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا أوفر عباده حظاً ونصيباً في كل خير وبر ورحمة.

    والله تعالى أعلم.

    حكم الإكثار من الصلاة في نهار رمضان

    السؤال: هل الفضل في رمضان يقتصر على الليالي دون الأيام؟ وهل يجوز لي أن أكثر من العبادة بالصلاة في النهار؟

    الجواب: أما الجواز فبالإجماع أنه يجوز أن تصلي ليلاً ونهاراً، ولكن الفضل في رمضان أعظم في الليل بالنسبة للقيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) فجعل القيام لليل.

    أما النهار ففيه تفصيل: إذا كان عندك قوة وجلد وكان الليل قصيراً والنهار طويلاً، ويمكنك أن تقوم الليل، وتستفضل وقتاً للنهار، فلا بأس أن تصلي بالليل والنهار؛ لأن هذا داخل تحت أصل عام وهو الاستكثار من النوافل، لكن إذا كان الليل طويلاً والنهار قصيراً، وإذا نمت في النهار استعنت بنوم النهار بعد الله عز وجل على قيام الليل، فلا يشك أن اشتغالك بالنوم أفضل؛ لأنك إذا اشتغلت بصلاة النهار شغلتك عن صلاة الليل وهي أفضل.

    والنصوص في سنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار عموماً، لذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة قال (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر) وقال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) .

    فهذا يدل دلالة واضحة على أن قيام الليل وصلاة الليل أفضل وأحب إلى الله سبحانه وتعالى.

    والله تعالى أعلم.

    حكم الدم الخارج من الحامل

    السؤال: امرأة تقول: أنا امرأة حامل والدم يجري معي بكثرة غير أني أصلي وأصوم، فهل صيامي صحيح؟ أم يجب عليّ القضاء؟

    الجواب: هذه المسألة خلافية، وقد بينّاها، وبينا أن الصحيح أن المرأة الحامل لا تحيض، وبناءً على ذلك يكون الدم دم استحاضة لا يمنع صوماً ولا صلاة على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، ولذلك قال تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] وهذا أصل عند أهل العلم في أن الحامل لا تحيض، ولذلك جعل الله عز وجل الحيض مقروناً بالحمل، ولذلك فالأقوى والأرجح من قولي العلماء أن الحامل لا تحيض.

    وبناءً على ذلك فما رأته من الدم فهو دم استحاضة، إلا إذا رأت الدم قبل النفاس بيوم أو يومين أو ثلاثة بالكثير كما هو مذهب الحنابلة فإنه يُلحق بدم النفاس؛ لأن النفاس ربما استعجل وانفجر قبل وقته، وما قارب الشيء أخذ حكمه، فقالوا: إذا كان قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة، على اختيار طائفة منهم الإمام ابن قدامة ، وطائفة من محرري أئمة الحنابلة رحمة الله عليهم، أنه يلحق بدم النفاس ويأخذ حكمه.

    والله تعالى أعلم.

    حكم التمر الزائد عن الحاجة في تفطير الصائم

    السؤال: تعطى لبعض المساجد تمور لتفطير الصائمين، وينتهي شهر رمضان، ويبقى منها شيء، هل يجوز التصدق به على مجاوري المسجد من الحي نظراً لكونها تزيد عن حاجة المسجد، أو تكون وقفاً لذلك المسجد؟

    الجواب: أولاً: ينبغي أن يحتاط من يتقبل الصدقات، فلا يأخذ أكثر من حاجته، خاصة في الأوقاف أو الأمور المسبلة على أماكن مخصوصة أو أغراض معينة، فإن هذه الأشياء المسبلة والتي هي أشبه بالحبس على مسجد معين أو مكان معين أو زمان معين ينبغي أن ينصح فيه، وأن ينفذ شرط صاحبها الذي تصدق بها، فإن كانت صدقة لتفطير صائم فهي صدقة لتفطير صائم، وإذا كان المسجد فيه كفاية فإنهم يقولون لمن يحضر: عندنا كفاية، فينصرف إلى مسجد آخر، ولا يجوز أن يأخذوا أكثر من كفايتهم؛ لأن هذا يُعطل هذه الصدقة عما هو أولى وأحرى، وقد تكون هناك مساجد هي أحوج.

    ولذلك ينبغي أن يعلم أنه إذا كانت الصدقات لتفطير الصائم، فينبغي أن لا يأخذ المسجد إلا قدر كفايته، وأن ينقص ويصل الحق إلى كل مستحق خير من أن يزيد؛ لأنه إذا نقص من هذا المسجد فإن الصدقات ستمضي إلى المساجد الأخرى وتسد حاجة الناس فيها، لكن إذا أعطيت الزيادة وأصبحت فضلاً فاتت، فلا صاحبها أدرك تفطير الصائم ولا عرف حتى الذي أخذها ماذا يفعل بها فالصائم لم يعد موجوداً، وصرفها إلى غير تفطير الصائم هذا خلاف أصل الصدقة وأصل التحبيس من صاحبها، وقد تكون أموال أعطيت في الأصل، أشبه بالوقف على هذا الباب من الخير.

    فعلى كل حال: إذا كان الشخص الذي أعطى المبلغ وكّل أشخاصاً ليشتروا التمر والصدقة على أنها لتفطير صائم، فالمال محبس على تفطير الصائم، وبناءً على ذلك: لا يصرف في غير تفطير الصائم، وإذا انتهى تفطير الصائم في رمضان يمكن أن يؤخر إلى رمضان آخر، وكان بعض مشايخنا يقول: الأشبه أنه يمكن أن يصرف إلى تفطير الصائم في الإثنين والخميس وقضاء رمضان، ويمكن أن ينزل منزلته.

    لكن هذا المال إذا قصد به أن يحبس وقال له: خذ عشرة آلاف ريال وأنفقها في تفطير الصائم، فقد حبست لتفطير الصائم فلا تصرف في غيره، أو جاءه مثلاً بعشرين أو بثلاثين صندوقاً من التمر وقال: هذه تعطى تفطيراً للصائم، إذا قال: هذه تعطى تفطيراً للصائم فقد حبست وأصبحت أشبه بالوقفية على تفطير الصائم، وتصرف في هذا الوجه من الخير، وفي بعض الأحيان تكون من أموال أموات وأوصوا بها، وفي بعض الأحيان تكون من نفس المتبرعين، فهذه أمور كلها توقف وتحبس على الوجه الذي قصده صاحبه أو نص عليه من تصدق بها.

    أما إذا كان الشخص نفسه اشترى هذا الشيء ونوى في قرارة قلبه أنه لتفطير الصائم، ثم لم يجد صائماً يفطره به، فله أن يصرفه في أي وجه من وجوه الخير، لأنه ما تعين وقفاً ولا تسبيلاً ولا تحبيساً، ففي هذه الحالة هو حر بماله، فإن يسر الله له ووجد صائماً يفطره فالحمد لله، وإن لم ييسر له فأنفقه في سبل الخير ووجوه الخير الأخرى فلا بأس ولا حرج.

    والله تعالى أعلم.

    حكم المسبوق بركعة في صلاة شفع إذا أوتر إمامه

    السؤال: يقول السائل: أشكلت عليّ مسألة: كنت أصلي الشفع مع الإمام، وقد فاتتني ركعة من ركعتي الشفع، ولكن الإمام قام ووصل به الوتر، فهل أسلم معه وأكون قد صليت ركعتين؟

    الجواب: إذا سلمت معه حينئذٍ تكون الصلاة شفعية، والأشبه أنك تأتي بركعة حتى توتر بها، وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول: إنه إذا دخل وراء الإمام على صورة تعينت عليه تلك الصورة؛ لأن الشرط عند المخالفة أن لا تختلف صورة الصلاتين، لأنه إذا صلى وراء الإمام وسلم شفعاً والإمام قد صلى ثلاثاً اختلت صورة الصلاتين، وحينئذٍ ألزموه بركعة حتى يستقيم الاقتداء ويصح منه ائتمامه بالإمام.

    إلا أن القول الذي ذكرناه من أنه يجوز له أن يسلم مع الإمام وتكون له شفعاً يقولون: هو مخير بين أن يصليها وتراً وبين أن يصليها شفعاً، كما أن الإمام لو أراد أن يصلي ركعتين فقام إلى الثالثة، فهو مخير أن يضيف لها ركعة فتصبح شفعية، وبين أن يجلس ثم يسجد سجود السهو للزيادة، لأن صلاة الليل على السعة، والوقت فيها متسع أن يصلي العبد فيها شفعاً ووتراً، فالمحل قابل للشفع وقابل للوتر.

    فعلى كل حال: إن سلمت مع الإمام أشكل على تسليمك وجود الدعاء بين الركعتين، ولا يعرف في صلاة شفعية دعاء بين الركعتين؛ لأنك ستدعو دعاء الوتر وتكون صليت ركعتين استبحت الدعاء في وسطها.

    ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لا يقوم بعد تسليم الإمام وينقض الوتر مباشرة؛ لأنه لو قام في هذه الحالة أحدث دعاءً بين الركعتين؛ لأن الركعة التي صلاها مع الإمام هي الأولى ودعا بعد ركوعها، ثم قام لثانية، فهو يدخل وراء الإمام بنية الشفع في شفعية لا يأذن الشرع بها، إذ ليس في الشرع أصل يدل على أنه يجوز للعبد أن يدعو بين الأولى والثانية، إنما يكون الدعاء في الثانية والأخيرة.

    وبناءً على ذلك قالوا: يشدد في هذا؛ لأنه مخالف للأصل الشرعي، ولا تعرف ركعتان يدعى في وسطها.

    من هذا الوجه لو قام وجاء بركعة، خاصة على مذهب من يقول: إن المسبوق يقضي، فحينئذٍ يزول الإشكال نهائياً؛ لأنه سيأتي بركعة ينويها الركعة الأولى، وحينئذٍ تستقيم في الصلاة الثلاثية، كالمغرب إذا جاء في الاثنتين الأخيرتين أضاف لها واحدة، قالوا: وهذا أشبه بالاقتداء وله أصل؛ لأنه في المغرب إذا جاء أضاف ركعة فاستقامت صلاته وترية؛ لأن المغرب وتر الفرائض.

    وبناءً على ذلك يقوون أن يأتي بركعة حتى لا تختل صورة الصلاتين، ولا يستبيح في الركعتين دعاءً وسطاً بين الأولى والثانية، حيث لا أصل في الشرع يدل على أن الركعتين يدعى في وسطها، وإنما الدعاء المسنون في شرع الله عز وجل في الصلوات إنما يكون في الركعة الواحدة، أو في آخر الركعات إن كان العدد وترياً.

    والله تعالى أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756460419