إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الظهار [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما قد يقع فيه العبد المسلم الظهار، وهو أمر خطير، ولابد أن يدرك المسلم مدى عظم هذا الأمر عند الله، وأدلة حرمته من الكتاب والسنة، ومقاصد الشرع من تحريم هذا الأمر، وما يلتحق به من الأحكام التي ينبغي معرفتها.

    1.   

    أدلة تحريم الظهار من الكتاب والسنة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ كتاب الظهار ]

    تقدم معنا بيان بعض المقدمات المتعلقة بكتاب الظِهار، وبينّا حقيقة الظِهار وأركان الظِهار، ونبهنا على بعض المسائل المتعلقة بتلك المقدمات.

    ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الظِهار، فقال: [ وهو محرم ].

    أجمع العلماء رحمهم الله على أنه محرم، والأصل في تحريمه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وإجماع أهل العلم رحمهم الله، كما أن دليل العقل يدل على تحريمه.

    فأما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى بيّن أن الظِهار منكر من القول وزور، كما قال تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2]، والمنكر والزور محرمان، فلما وصف الله عز وجل هذا القول بهذا الوصف أشعَر بالتحريم، وبيّن أنه غير جائز شرعاً، فعند علماء الأصول أنه إذا ورد الذم للشيء في الكتاب أو السنة فإن هذا يدل على حرمته، خاصة إذا كان الذم قوياً مرتقياً إلى درجات الكراهة التحريمية. والذم ينقسم إلى قسمين: الذم الشرعي، والذم الطبعي.

    فهنا ذم شرعي؛ لأن الوصف بكونه منكراً وزوراً مذموم شرعاً، فدل على أنه محرم، وهذا أولاً.

    ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى بيّن وجوب الكفارة على من قال الظِهار وأراد أن يعود، فإيجاب الكفارة على الظِهار دال على حرمته، كما أن إيجاب الكفارة على الجماع في نهار رمضان دال على حرمته، وإيجاب الكفارة على القتل الخطأ دال على حرمته في الأصل، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، فدل على أنه شيء في الأصل محرم، فالمقصود أن الآيات الكريمة دلت على حرمة الظِهار من هذه الوجوه، ومنها قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:2]، فبيّن أنه يعفو ويغفر، فدل على أن هناك موجباً للإساءة والذنب الذي يترتب عليه العفو والمغفرة.

    فلما ختم آية الظِهار في قوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2] بهذين الوصفين -العفو والمغفرة- دل على أن الظِهار موجب للذنب والإساءة من قائله.

    أما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أوس رضي الله عنه وأرضاه ظِهاره لامرأته، وأوجب عليه التكفير، وهذا يدل أيضاً على ما دل عليه دليل الكتاب من حرمة الظهار.

    كذلك أيضاً أجمع العلماء على أن الظِهار محرم.

    وأما دليل العقل فلأن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا شك أن الزوجة إذا امتنع زوجها منها وقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. فإن هذه مفسدة عظيمة؛ لأنها تحرم الرجل على امرأته، وتحرم المرأة على زوجها.

    وحينئذٍ يتعرض الرجل للحرام وتتعرض المرأة للحرام، ولا شك أن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، وهذا من أعظم الضرر، ثم إن الشريعة أقامت النكاح على الإمساك بالمعروف، فأصول الشريعة دالة على أن الزواج والنكاح ينبني على العشرة بالمعروف، فيمسك المسلم زوجته بالمعروف، وليس من المعروف أن يجعلها بمثابة الأم وهي ليست بأم له، فيمتنع من عشرتها، ويمتنع من الإحسان إليها والقيام بحقوقها، بنـاءً على هـذا اللفـظ.

    فدليل العقل أن الظهار يتضمن الضرر والإساءة، وذلك موجب للوصف بالتحريم؛ لأن كل ما فيه ضرر على المسلم والإساءة إلى المسلم فإنه محرم شرعاً، والسبب في كون ما يوجب الإساءة والأذية والضرر محرماً أن فيه اعتداءً، والله عز وجل يقول: وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190]، وقال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] فهذا اعتداء؛ لأن الزوج اعتدى على زوجته.

    ومن هنا جاءت امرأة أوس وشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: نثرت له ما في بطني، ولما رق عظمي وضعف بدني ظاهر مني، إلى الله أشكوه.

    فهذا يدل على أنه فيه ضرراً وإساءة، والشريعة جاءت لدفع الضرر والإساءة والاعتداء على الغير.

    فمن هذا كله نخلص إلى القول بإن الظِهار محرم.

    وهذه الحرمة من أعظم أنواع الحرمات، أي أنه محرم لأنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن المحرمات فيها ما هو صغير وفيها ما هو كبير، فالظِهار من كبائر الذنوب، وكبائر الذنوب تنقسم إلى:

    كبائر متعلقة بالاعتقاد.

    وكبائر متعلقة بالقول.

    وكبائر متعلقة بالعمل.

    فالظِهار من الكبائر المتعلقة بالأقوال، ويشارك غيره من الكبائر القولية، أي أنه ليس بذنب معتاد، أما الدليل على كونه كبيرة فعند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه إذا ترتبت الكفارة المغلظة على فعل دل ذلك على حرمته في الأصل، وأنه من الكبائر.

    ومن هنا أوجب الله عز وجل على من جامع في نهار رمضان كفارة، واعتبر ذلك من كبائر الذنوب من حيث الأصل؛ لما فيه من الاعتداء إذا تعمد جماع امرأته في نهار رمضان، ومن هنا يقول بعض العلماء: إن ورود العقوبة على فعل الشيء -سواء أكانت بدنية أم مالية- تدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب.

    ومن هنا قالوا: إن شرب الخمر كبيرة، وإن الزنا كبيرة؛ لأن فيها عقوبة شرعية مقدرة، والكفارات نوع من العقوبة؛ لأنها عقوبة في البدن وعقوبة بالمال، وعقوبتها بالمال أن فيها تكفيراً للرقبة، وفيها إطعام ستين مسكيناً، وهذه عقوبة مالية؛ لأن الرقبة مال، فيحتاج أن يشتري رقبة ليعتقها، ويشتري طعاماً ليطعم ستين مسكيناً، وفيها عقوبة بدنية؛ لأنه يصوم شهرين متتابعين.

    وعلى هذا لا يشك أحد أن مثل هذا القول الذي عوقب عليه بهذه العقوبة في أنه يصل إلى حد الكبائر، ولو كان من صغائر الذنوب لما ترتب عليه الكفارة؛ لأن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من صغائر الذنوب، وأمرها أيسر من الكبائر ولو أن الكل ذنب وخطيئة.

    قوله رحمه الله: [ وهو محرم ] الضمير عائد إلى الظِهار، وابتدأ المصنف رحمه الله كتاب الظِهار ببيان حكمه لأن أول ما يحتاجه طالب العلم في الشيء معرفة مقدمات تخص ذلك الشيء، وبعد ذلك معرفة موقف الشرع منه، فهل هو جائز أم لا؟ وإذا كان جائزاً فهل يلزم به الشرع أو لا يلزم؟ وإذا ألزم به فهل هو في مقام الواجبات أو المستحبات؟ وإذا كان غير جائز شرعاً فهل هو محرم أو مكروه؟ وهل حرمته مغلظة أو غير مغلظة؟ فقال رحمه الله: [ وهو محرم ].

    1.   

    كيفية وقوع الظهار وتحققه

    قال رحمه الله تعالى: [ فمن شبه زوجته أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً بقوله لها: أنت علي، أو معي، أو: مني كطهر أمي، أو كيد أختي، أو وجه حماتي ونحوه، أو: أنت علي حرام، أو: كالميتة والدم فهو مظاهر ].

    قوله: (فمن شبه زوجته أو بعضها) يقال: هذا يشبه هذا: إذا كان مثيلاً له واشترك معه في شيء أو أشياء، تقول: محمد يشبه البحر: إذا كان كريماً غزيراً كثير الخير، كما أن البحر يكثر خيره، أو غزيراً في علمه كما أن البحر يكثر نفعه.

    وكذلك تقول: علي كالأسد، أي: في الشجاعة والقوة ونحو ذلك، فالتشبيه عند العلماء: هو الدلالة على أن شيئين اشتركا في أمر أو أمور، وبناءً على ذلك لا بد من وجود التشبيه في الظهار.

    وقد بينا من قبل أن التشبيه يحتاج إلى أربعة أركان: مشبِّه ومشبَّه، ومشبه به، ووجه الشبه أو الصيغة المتضمنة للمشابهه.

    فهنا المشبِّه هو الزوج، فالزوج إذا قال لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي فهو المشبه، فلو قال أجنبي قلنا ليس بظهار، كذلك لو قال من يستمتع بالمرأة على غير وجه الزوجية، كالسيد مع أمته فإنه ليس بظهار.

    والمشبَّه هو الزوجة التي في عصمة الزوج، والزوجة زوجتان: زوجة حقيقية وزوجة حكمية.

    ومشبه به وهي الأم أو من في حكمها من المحرمات بالنسب أو السبب أو الرضاع كما سيأتي.

    ووجه الشبه أو الصيغة المتضمنة للمشابهة هي اللفظ الدال على الظهار، فهذه هي أركان التشبيه الأربعة.

    قال رحمه الله: [ فمن شبه زوجته ] سواء أكانت زوجة حقيقية أم زوجة حكمية، والزوجة الحقيقية: هي كل امرأة عقد عليها الرجل عقداً شرعياً صحيحاً. فالمرأة إذا عقد عليها صح الظِهار منها، فلو عقد عليها وبعد العقد مباشرة قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي فظهار.

    فلا يشترط أن يكون قد دخل بها، بل مجرد العقد كافٍ، والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، فبيّن أن المشبَّه هي المرأة التي من نساء المشبِّه، وكل امرأة عقد عليها الإنسان فهي من نسائه، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، فوصف المرأة بكونها من نساء الرجل مدخولاً بها أو غير مدخول بها.

    والحكمية هي الزوجة المطلقة إذا كان طلاقها طلاقاً رجعياً وكانت في العدة، فإنها أثناء العدة إذا ظاهر منها فإنه يحكم بوقوع الظِهار وبصحته.

    وقوله: [فمن شبه زوجته ] أي: من شبه كل زوجته، كأن يقول لها: أنتِ، أو يقول: فلانة -سواء أكانت حاضرة في المجلس أم كانت غائبة- مني كظهر أمي. أو: زوجتي مني كظهر أمي. وهي غير حاضرة في المجلس، أو يخاطبها كفاحاً فيقول لها في وجهها: أنتِ عليّ كظهر أمي.

    فهذا بالنسبة لمن شبه زوجته كلها، وفي حكم ذلك من يقول: كلك. أو: جسمك، أو: جسدك، واختلف في قوله روحك، واختار جمع من العلماء أنه ظهار؛ لأن التعذيب بالروح يراد وليس المراد به استقرار الروح، والروح ليست منفصلة عن الجسد.

    فهذه كلها ألفاظ بمعنى واحدٍ، فمن شبه زوجته، أي: شبه كل الزوجة، بقوله لها: أنتِ، أو: فلانة، أو: زوجتي فلانة، أو: أنتِ كلكِ، أو: جسدكِ، أو: جسمكِ، أو: ذاتكِ، أو: روحكِ، أو: نفسكِ فكل هذا آخذ حكم قوله: أنتِ.

    قوله: [ أو بعضها ] أي: بعض الزوجة، كقوله لها: رأسكِ. صدركِ. يدكِ. ظهركِ، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله.

    والصحيح أن اختيار الجزء للتعبير بالظِهار كاختيار الكل على تفصيل: فإما أن يكون دالاً على ذلك بدون وجود احتمال، وأما أن يكون دالاً على ذلك بالنية، فلو قال لها: رأسكِ. وقصد الإكرام فليس بظهار، ولو قال لها: رأسكِ. وقصد الظِهار فظهار.

    لكن حينما يعبر -مثلاً- بالفرج أو بأعضاء يحرم النظر إليها في أعضاء من جسدها يكون في حكم الكل، مثل قوله: يدكِ. فلو قال لها: يدكِ عليّ كظهر أمي. أو: ظهركِ عليّ كظهر أمي فظهار.

    والدليل على ذلك أن الله عبر باليد عن الكل، فقال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، والتباب متعلق بكل أبي لهب وليس بيده وحدها، وقال تعالى: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وقال تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج:10] ، فذكر الجزء وأراد الكل، فلا يوجد زوج يقول لامرأته: يدك علي كظهر أمي، ويقصد اليد استقلالاً، لكن بعض العلماء يقول: يسري في الظِهار ما يسري في الطلاق، وقد تقدم معنا تفصيل هذه المسألة، وذكر أقوال العلماء فيها والأدلة.

    وأما هل يسند التحريم للجزء أو لا يسند فمذهب بعض العلماء -وهو الذي اخترناه- أنه يسند التحريم للجزء ويسري على الكل ثم يفصل، فإذا قال لها: يدكِ طالق، أو يديكِ عليّ كيد أمي، أو كظهر أمي، أو كأمي، فبعض العلماء يرى أنه إن قال ذلك تصبح المرأة كلها محرمة من بداية اللفظ، يعني أن الجزء معبر به عن الكل.

    وبعض العلماء يقول: لا يتعلق التحريم مباشرة، وإنما تحرم اليد ثم يسري إلى جميع البدن؛ لأن اليد متصلة بالبدن. وقد بينا فائدة هذا الخلاف في الطلاق، وهي أنه لو قال لها: يدكِ طالق فإن المذهب الأول يقول: تطلق مباشرة، والمذهب الثاني يقول: لو قال لها: يدكِ طالق إن دخلت الدار. وقبل دخولها للدار قطعت يدها فلا طلاق، لأنهم يرون أنه أول شيء يقع باليد ثم يسري، فلو قطعت اليد التي علق الطلاق بها فإنه لا يسري؛ لأن الطلاق لم يصادف محلاً يتعلق به حتى يحكم بالسريان.

    ومسألة الظِهار تتفرع على مسألة الطلاق، وقد بينا هذه المسألة وفصلنا فيها، والخلاصة أن نقول: إن شبه الكل فقال: (أنتِ)، أو شبه بعضاً من أعضائها المتصلة كقوله: يدكِ رجلكِ بطنكِ فرجكِ رأسكِ، ونحو ذلك فالكل سواء، فاختيار الجزء للتعبير بالظهار كاختيار الكل، أما لو كانت منفصلة فسيأتي الكلام عنها.

    1.   

    النساء المعتبر التشبيه بهن في الظهار

    قال المصنف رحمه الله: [ ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً ]

    النساء اللاتي يحرمن على الإنسان ينقسمن إلى محرمات على التأبيد ومحرمات على التأقيت، والمحرمات على التأبيد هن المحرمات من النسب والسبب والرضاع، وقد تحرم المرأة على التأبيد لعارض مختص مثل مسألة الملاعنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع اللعان فرق بينهما فراقاً إلى الأبد، فلا يجتمعان أبداً، ولذلك قال الزهري رحمه الله: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً. والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله: مالي! قال: إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها).

    فالمفارقة بين الملاعن والملاعنة فرقة أبدية، لكن هذا التحريم الأبدي لا يوجب المحرمية.

    وأما بالنسبة للمحرمات فهن من جهة النسب والسبب، فأما من جهة النسب فسبع، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وأما من جهة السبب فأربع، وهن أم الزوجة وبنت الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن، والمحرمات من جهة الرضاع هن جهة اللاتي يحرمن من جهة النسب.

    فهؤلاء المحرمات تحريمهن مؤبد، وفي الرضاع والنسب جمهور العلماء -ما عدا الظاهرية والشافعية في قول عندهم على تفصيل- متفقون على أن هذا التحريم تحريم مؤبد.

    وهؤلاء السبع النسوة المحرمات بالنسب إذا شبه زوجته بواحدة منهن فإنه يقع الظهار، لكن الظاهرية يخصون الظِهار بالأم، والجمهور على أن غير الأم والأم سواء بالنسبة للمحرمات.

    فلو ظاهر من زوجته فشبهها بمحرمة من المحرمات من النسب فعند جمهور العلماء لو قال: أنتِ عليّ كبنتي، أو: كأختي، أو: كخالتي، أو: كعمتي، أو: كبنت أخي كبنت أختي فإنها محرمة ظهاراً، هذا من حيث الأصل عندهم.

    لكن بالنسبة للمحرمات من جهة السبب فبعض العلماء لا يرى أن تشبيه الزوجة بالمحرمات من جهة السبب يوجب الظهار، فلو قال لها: أنتِ عليّ كزوجة أبي، أو: كزوجة ابني، أو: كحليلة ولدي، أو: كفلانة وهي زوجة أبيه أو زوجة ولده فإنه لا يقع عندهم الظهار.

    والصحيح مذهب الجمهور أنه يقع الظِهار بالسبب كما يقع بالنسب.

    أما الرضاع فمن العلماء من أطلق وهو مذهب الجمهور، ومنهم من فصل وقسم الرضاع إلى رضاع طارئ ورضاع أصلي، فقالوا: إذا كانت المرأة المحرمة من جهة الرضاع تحريمها منذ ولادته فهذا رضاع موجب للتحريم أصلاً، مثالهُ: لو أن أمه أرضعت امرأة فصارت بنتها من الرضاع، وبعد سنتين أو ثلاث من الرضاع ولدته أمه، فإن هذه الأخت من الرضاع محرم له منذ ولادته، وهذا رضاع أصلي.

    أما لو طرأ الرضاع وولد وهي أجنبية، أو ولدت بعد ولادته ثم رضعت من أمه فهذا التحريم من الرضاع ليس في الأصل، فلو شبه بها لا يقتضي التحريم.

    والسبب في هذا أن الشافعية رحمهم الله الذين عندهم هذا التفصيل يرون أن النص جاء بالأم، والأم فيها وصف تحريم مؤبد.

    ولذلك فرق عندهم بين الشيء الطارئ وبين الشيء المؤبد، والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن المحرمات من جهة النسب أو السبب أو الرضاع، إذا شبه بهن الزوجة يوجب الظهار.

    والدليل على ذلك واضح؛ لأن المرأة حكم بكونها محرمة على الرجل، وشبهها بامرأة محرمة بغض النظر عن كونها من قبل كانت حلالاً له أو في المستقبل على الوجه الثاني الذي سيأتينا إن شاء الله في التحريم المؤقت، فالأصل عندنا أن الله تعالى يقول: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2]، فجعل المسألة قائمة على التحريم، وقائمة على الامتناع من الزوجة، وتنـزيلها منـزلة من تحرم عليه ولا يحل له نكاحها كل هذا من المنكر ومن قول الزور، وهو موجود في تشبيه الزوجة بالأخت من الرضاعة، أو بالبنت من الرضاعة، أو بالعمة من الرضاعة، وغيرهنَّ من المحرمات اللاتي ذكرن.

    وبناءً على ذلك فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن كل امرأة تحرم بنسب أو سبب أو رضاع تدخل في الظِهار، وأن الأمر ليس فيه التفصيل الذي ذكروه؛ لأن الموجب للتحريم موجود في الكل، فيكون الحكم ووجه الاشتراك بين الأم وغيرها موجود في النسب والسبب والرضاع.

    أما المحرمات من جهة التأقيت فكأخت الزوجة، وكعمة الزوجة وخالة الزوجة؛ لأن الله حرم أن نجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: المحرمة مؤقتاً إذا شبه زوجته بها فلا ظهار، أي: لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كأختك قالوا: لا ظهار.

    والصحيح والأقوى الذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول أنه ظهار؛ لأن المعنى موجود فيه، فهو يشبهها بها في حال حرمتها عليه، فيقول: أنتِ عليّ كأختك. وأختها محرمة عليه، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أختك. فهذا كله يعتبر في حكم الظهار.

    1.   

    حقيقة الخلاف في الأعضاء التي يصح المظاهرة منها

    للعلماء وجهان في قوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ [المجادلة:2] وذلك في لفظ الظِهار، وهو قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهل المراد بالظهر هنا الحقيقة وهو العضو المعروف من الكاهل إلى العجز، أم أن المراد به الظهر المركوب؛ لأن العرب تعبر بالظهر عن المركوب.

    ولذلك لما سأل رسول الله المرأة فقال لها: (ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: يا رسول الله! ما معنا ظهر -أي: ما عندي ظهر- ليس لنا إلا ناضح قد حج عليه أبو فلان) .. الحديث، وفيه: فقال لها: (فإذا كان رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة في رمضان كحجة معي).

    ومما يدل على أن الظهر المراد به المركوب، قوله عليه الصلاة والسلام: (الظهر مركوب بنفقته)، فالظهر المراد به المركوب والناقة التي تركب، فيعبر به ليكنى به عن الشيء المركوب.

    فإذا قيل: إن الظهر المراد به المركوب فالمراد به الجماع وإتيان المرأة؛ لأن الرجل يجامع زوجته، فكأنه حرم جماعها، فهو يقول لها: جماعك عليّ حرام كجماع أمي، أو: جماعك عليّ حرام، كجماع من سمى ممن تحرم عليه.

    الوجه الثاني يقول: إنما المراد به الظهر نفسه حقيقة، والعرب عبرت بالظهر وهو مجمع الإنسان؛ لأن حركة الإنسان كلها موقوفة على هذا الظهر، وقيام الإنسان كله بهذا الظهر، فهو يشبه شيئاً بشيء، يعني الذات بالذات.

    وعلى كلا الوجهين لو قلنا: إن المراد به الظهر فمعنى ذلك أن الظِهار حكم الله بكونه ظهاراً مع أنه تشبيه بالجزء.

    ولذلك من العجيب أن بعض الظاهرية رحمهم الله رحمة واسعة -وهذا ليس من النقص لهم، فلا يظن أحد أننا ننتقص هؤلاء الأئمة والعلماء- قالوا: لو قال لها: أنتِ عليّ كأمي لا يقع الظهار، وإذا قال: أنتِ عليّ كظهر أمي يقع الظهار.

    وقولهم مرجوح، لكن لا ينقص من مكانتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وهذه الأمور التي تقع من بعض الفقهاء ينبغي أن يعلم أنها من الغيرة على النص والالتزام بظاهر النص والتقيد بالشرع، ولو أنه في بعض الأحيان يزاد في ذلك ويتجاوز به عن حده.

    لكن انظر إلى مدى الاهتمام بالفقه الإسلامي، وكيف بلغ من التقيد بالنصوص؛ حيث إن الظاهرية يتقيدون بالنص كما ورد، حتى إن بعضهم قال في مسألة البول: لو بال في إناء وصبه لما شمله التحريم كالبول مباشرة.

    وصحيح أن هذا كله من الجمود على الظاهر، لكن المقصود هنا أن نقول: إنه إذا حذف الظهر أو أبقاه فالحكم واحد.

    والدليل على هذا أن الشريعة تعبر بشيء وتنبه على أن ما هو أعلى منه من باب أولى أن يدخل تحت النص؛ لأنه إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي فمن باب أولى إذا قال لها: أنتِ عليّ كأمي. فإذا كان الظهر وحده أوجب التحريم فمن باب أولى إذا ذكر الكل.

    وعلى كل حال فكل المحرمة أو بعضها يوجب الظِهار، لكن ليس كل أجزاء المرأة المحرمة عند العلماء رحمهم الله يقع التحريم بالتشبيه به، فالحنفية خصوا الأعضاء التي يحرم النظر إليها، فلو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي فظهر الأم يحرم النظر إليه، ويحرم أن ينظر إلى فرجها أو فخذيها أو بطنها، فهذه هي الأشياء التي عندهم فيها الظهار.

    لكن لو قال لها: أنتِ عليّ كيد أمي قالوا: لا يقع الظهار؛ لأن اليد يجوز النظر إليها وليست بمحرمة، ويجوز أن يصافحها وأن يمس يدها، فقالوا: هذا لا يقتضي التحريم.

    وهذا اجتهادٌ منهم رحمهم الله، فهم نظروا إلى أن الظِهار فيه لفظ الظهر، وأعملوا المعنى ونقحوا مناط النص، فنظروا إلى أن الظهر يحرم النظر إليه ويحرم الاستمتاع به، وجمعوا أوصافاً موجودة في هذه الأربع دون غيرها وقالوا: الحكم مختص بهذه الأربع دون غيرها، فلو قال لها: أنتِ عليّ كرأس أمي لا ظهار ولو نوى به الظِهار، فلا يقع عندهم ظهاراً.

    ومذهب المالكية رحمهم الله من أوسع المذاهب في مسألة الظِهار، فعندهم لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كريق أمي. أو قال لها: كلي، أو: اشربي ناوياً به الظِهار وقع الظِهار؛ لأنهم يوسعون في ذلك، كما هو أيضاً عندهم في مسائل الطلاق، وفائدة معرفة الأقوال الفقهية والخلافات معرفة مسالك العلماء رحمهم الله في الأبواب.

    فالمالكية رحمهم الله يشددون في التحريم في الطلاق وفي الظِهار، وقد تقدم معنا بيان مسائل عديدة، وبينا أدلتهم في ذلك، ولكن الشافعية والحنابلة رحمهم الله فصلوا، فقال الشافعية في تفصيلهم: إما أن يذكر عضواً يعبر به عن التكريم والإجلال، أو يذكر عضواً لا يعبر به عن ذلك، فإن ذكر عضواً يعبر به عن التكريم والإجلال سألناه عن نيته، فإن قال لها: أنتِ عليّ كعين أمي، أنتِ عندي كرأس أمي، قالوا: نسأله هل قصدت الظِهار؟ فإن قال: قصدت الظِهار ليكون ظهاراً، وإن قال: لم أقصد ظهاراً، وإنما قصدت إعزازها وإكرامها وأنها عندي بمنـزلة أعز شيء من الناس وأغلاهم عندي وهو أمي، وأعز شيء في الإنسان رأسه، فقلت لها: أنتِ كرأس أمي فحينئذٍ لا ظهار. وهذا القول صحيح وأميل إليه، فإذا ذكر أعضاء يقصد بها التشريف والتكريم كالرأس والصدر، وقصد من هذا إكرامها فليس بظهار، وإن قصد الظهار فهو ظهار.

    ثم أيضاً فصلوا مع الحنابلة في مسألة الأعضاء المتصلة والمنفصلة، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في الطلاق إذا أسند الطلاق إلى عضو متصل أو إلى عضو منفصل، فإذا كان في الأجزاء المنفصلة فإنه ليس بظهار، وإن كان في الأجزاء المتصلة فإنه ظهار على التفصيل الذي ذكرناه.

    وأجزاء الإنسان منها ما هو متصل ومنها ما هو منفصل أو في حكم المنفصل، وما في حكم المنفصل متردد بين المنفصل والمتصل، ورجح أنه في حكم المنفصل، فالدمع والريق واللعاب كله في حكم المنفصل، فلو قال لها: أنتِ كريق أمي ليس بظهار؛ لأنه ليس بعضو متصل، ولم يقع التشبيه بالوارد فيه النص من كل وجه، ولذلك لا يقتضي التحريم من كل وجه.

    فالأعضاء التي اختلف فيها هل هي متصلة أم منفصلة هي كالشعر والظفر، وقد ذكر هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس (القواعد الفقهية)، وذكر شعر الإنسان هل هو في حكم المتصـل أو في حكم المنفصـل.

    وهذه المسألة تتفرع عليها ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الفقه، ومنها هذه المسألة، فإن قلنا: إن الشعر في حكم المتصل فإن قال لها: أنتِ عليّ كشعر أمي، أو شعركِ مني كشعر أمي، أو شعركِ عندي كشعر أمي فظهار.

    وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل فليس بظهار، وإن قال لها: شعرك طالق فليس بطلاق إن كان منفصلاً، وهو طلاق إن كان في حكم المتصل.

    ففصل العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والصحيح أن الشعر والعظم والظفر في حكم المنفصل لا في حكم المتصل.

    قوله: [ بنسب أو رضاع ].

    بالنسب كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وهن السبع اللاتي سمى الله عز وجل، والرضاع مثلهن، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وفي حكمه التحريم بالرضاع من جهة المصاهرة.

    قوله: [ من ظهر أو بطن أو عضو آخر لا ينفصل ]

    (من) بيانية، فسواء أذكر الظهر وهو الأصل، أم البطن أم عضواً آخر كاليد، لكن بشرط أن يكون غير منفصل، فالشعر ينفصل لأنه يقص فينفصل، فلو قال لها: أنتِ عندي كشعر أمي فشعر أمه منه ما يتساقط، فليس ذلك موجباً للتحريم من كل وجه.

    1.   

    الألفاظ الدالة على الظهار

    قوله: [ بقوله لها: أنتِ عليّ أو معي أو مني كظهر أمي ].

    قول المظاهر: أنتِ عليّ، أو: معي، أو: مني، أو: عندي، أو: لي كل هذا يعتبر دالاً على الظِهار.

    وكذلك قوله: أنتِ كأمي دون قوله: عندي، ولا: معي، ولا لي، فسواء أذكر هذه الصفة أم لم يذكرها فالحكم واحد ويقع الظهار.

    قوله: [ أو كيد أختي ] الأصل أن يذكر الظهر، وما لا ينفصل يكون حكمه كحكم الظهر.

    قوله: [ أو وجه حماتي ].

    الأم هي الأصل، وتمثيله بالأخت والحماة فيه نوع من التسلسل في الأفكار عند الفقهاء رحمهم الله في المتون الفقهية، وهذا يزيد طالب العلم فائدة، ويزيده علماً وبصيرة إذا أراد أن يخطب، أو يفتي، أو يوجه، أو يعلم، والعلماء بعض الأحيان يذكرون أشياء عجيبة، لكن يقصدون مغزىً ومعنى، وهذا نبهنا عليه أكثر من مرة.

    فقوله: [ ظهر أمي ] المراد بذلك القاعدة المتفق عليها والمجمع عليها، وهي أنه إذا قال: كظهر أمي فهو ظهار.

    ثم قال: [ كيد أختي ] فخالف في العضو الذي هو الظهر فاختار اليد، وخالف في الذات التي هي الأخت، فهذا مثال للمحرمة من جهة النسب من غير الأمهات.

    فجمع لك بين الأمرين، فتفهم منه أنه لا يشترط أن يذكر الظهر، وأنه يمكن أن يذكر بدلاً عنه أي عضو بشرط أن يكون متصلاً، وكذلك أيضاً لا يشترط أن يكون الظِهار منحصراً في الأم، ولذلك قال: [ كيد أختي ].

    وقوله: [ أو وجه حماتي ] لو قال: كيد حماتي ربما شك شاك أن العضو ينفصل في اليد، لكن قال: [ كوجه ] فانتقل إلى الوجه، والحماة: هي أم الزوجة، والأحماء: هم أقارب الزوجة.

    فقوله: (كوجه حماتي) استفدنا منه أنه لا يشترط العضو في المشبه به، ثانياً: التشبيه بالمحرمة من جهة السبب، وهنا استدرك بعض المتأخرين رحمة الله عليهم على المصنف فقالوا: كان الذي ينبغي أن يقول: بنسب أو سبب، أو رضاعة، فيذكر السبب.

    والحقيقة أنه لو ذكر السبب كان أفضل في الإشارة إلى المحرمات من جهة المصاهرة، لكن لما قال: [ وجه حماتي ] كان هذا بديعاً منه في الدلالة على أنه يرى أن المحرمات من جهة المصاهرة كالمحرمات من جهة النسب والرضاع.

    وبعض العلماء ربما يذكر في المتن قسيمين يدخل بينهما ثالث ولا ينبه على الثالث من باب الذوق في الألفاظ، فالعلماء رحمهم الله كانت عقولهم فذة في صياغة الكلام، لكن فرق بين أن تصاغ هذه المتون لقوم يعقلون يعرفون هذه النكت والأفكار، وبين من يتهجم أو يأتي يستدرك ويلاحظ، فيقول: هذا خطأ، وهذا كذا ...إلخ، وهذا ليس إلا نوعاً من اللطائف البديعة.

    فيذكر النسب ويذكر الرضاع والقسيم الثالث داخل بينهما من جهة السببية، وبعض الأحيان إذا ذكروا الرضاع مع النسب ينبهون على أن السببية تابعة له، خاصة في مسائل النكاح، لكن كما قال تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10].

    فهؤلاء العلماء رحمهم الله يُحذَّر من الاستدراك عليهم والتعقيب عليهم، خاصة إذا اشتمل الاستدراك على التهجين لرأيهم، نسأل الله السلامة والعافية، بل كانوا رحمهم الله على دقة، وأحياناً يتركون الأمور الظاهرة والأمور الخفية لأجل مخاطبة العلماء؛ لأن هذه الكتب غالباً ما كان يقرؤها إلا العلماء.

    ولذلك تجد العالم لما يأتي إلى تلك المتون يجد أمراً معتاداً، وطالب العلم المتمكن يجد أمراً يعمل فيه فكره أكثر، فيتعود على الدقة.

    ومن الفوائد التي أوصي بها طالب العلم، وأوصي بها كل شخص يتحرى الحق والصواب أنه من المجرب أنك إذا قرأت تآليف العلماء -وأقصد العلماء الأئمة الجهابذة خاصة أئمة السلف- وكان عندك اعتقاد في قرارة قلبك بعلمه وفضله ودقته وتركيبه للمسائل، ووجدت شيئاً في ظاهره الخطأ ستتعب في تحصيل السبب وكشف الأمر الذي من أجله أغفل هذا الأمر الذي لا ينبغي إغفاله، أو ترك ذكر هذا الشيء الذي ينبغي ذكره، فما إن تعمل فكرك وأنت عندك هذا الشعور إلا تفتح لك من العلم والفهم ما الله به عليم.

    وهذا شيء نحن جربناه ووجدناه، والعكس، فلن تجد شخصاً -والعياذ بالله- لا يقدر أهل العلم، ولا ينظر إليهم بما هم أهله، خاصة أئمة السلف، إلا وجدته سريع التخطئة، عجلاً في الفهم، قاصراً في الإدراك، بعيداً عن مستوى الأذكياء؛ لأنه لا يفهم العالم إلا عالم، ولا يعرف الفضل إلا أهله، وهذا من أراد أن يجربه في نفسه، أو في من يتعقب غيره أو ينتقد غيره سيجده جلياً.

    ومن أغرب ما ذكر لي أن شخصاً كنت أعرفه -نسأل الله السلامة والعافية- من بعض طلاب العلم، كان بعض مشايخنا يحذره كثيراً، وكان كثير الجرأة على تخطئة العلماء رحمهم الله وتتبع عثراتهم.

    فذات يوم كان يقرأ في كتاب (الإمامة) فقرأ قوله: (فإن استووا في القراءة فأطولهم ذكْراً -أي: لله عز وجل- فصحفها وقال: فأطولهم ذكَراً، وأخذ يشنع على من قال هذا..

    فنحن نقول هنا: لما ذكر المصنف النسب وذكر الرضاع فالقسيم الثالث لهما وهو السببية داخل في التحريم، فلو أنه شبهها بهن فالمعنى موجود في المحرمات من جهة السبب كالمحرمات من جهة النسب.

    وقوله: (ونحوه).

    نحو الشيء مثله، أو شبيهه، المراد: نحوه في الجانبين في الأعضاء، وفي التحريم، فنحوه في الأعضاء كاليد والرأس والرجل والظهر وغيرها من الأعضاء المتصلة، ونحوه في المحرمات كالأخت والعمة والخالة وغيرها.

    1.   

    حكم قول: أنتِ عليّ حرام أو كالميتة والدم

    قوله: [ أو أنتِ عليّ حرام ].

    هذه الكلمة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، وهذه المسألة فيها ما لا يقل عن عشرة أقوال لأهل العلم رحمهم الله، وكان يحكي بعض العلماء أن هذه المسألة بلغت عشرين قولاً من كلام السلف والخلف رحمهم الله، وهي قول الرجل لامرأته: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ مني حرام. أو: أنتِ لي حرام. وبعضهم يلحق بها: أنتِ الحرام، وحرمتكِ، وأنتِ محرمة، وعليّ الحرام منكِ، ونحو ذلك.

    فهذه الألفاظ اخُتلف فيها، فبعض العلماء يقول: توجب الطلاق. ثم اختلفوا على أقوال: فمنهم من يقول: تقع ثلاث تطليقات. ويروى هذا عن بعض السلف منهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، ومنهم من يقول: طلقة بائنة. ومنهم من يقول: طلقتان، ومنهم من يقول: طلقة إن نوى فيها.

    ثم قال آخرون: إنه ليس بطلاق، وإنما هو لغو لا شيء على قائله وبه قالت الظاهرية وغيرهم.

    ومنهم من يقول: إنه يمين يوجب الكفارة. وهذا مأثور عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيره.

    ومنهم من يقول: إنه إذا قال لها: أنتِ عليّ حرام فظهار، ويروى عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، واختار هذا القول الإمام أحمد بن حنبل .

    والحقيقة أن هذه المسألة ذكرنا الأقوال فيها والأدلة والمناقشة والردود في باب الطلاق، والصحيح في هذه المسألة أن هذا الكلام ليس بظهار مطلقاً، وإنما العبرة بالنية، فإن قال: أنتِ عليّ حرام قاصداً الطلاق فطلاق، ثم ينظر في قصده إن قصد الطلقة فطلقة، وإن قصد الطلقتين فطلقتين والثلاث فثلاث، إلا أن فيه وجهاً أن الطلقة تكون بائنة كطلقة الفسخ.

    وأما إذا قال: قصدت الظِهار فإنه ظهار، وإذا قال: لم أقصد شيئاً فالأشبه والأفضل أنه يكفر كفارة يمين خروجاً من الخلاف، وهناك وجه بأنه لا شيء عليه؛ لأن الله لم يحرمها؛ لأنه إذا قال: أنتِ عليّ حرام لم يوافق الأصل الشرعي، فليست بحرام حقيقة ولا شرعاً.

    فهذا ما يقال في قوله: أنتِ عليّ حرام، ويستوي في هذا: أنتِ حرام، وأنتِ الحرام، وحرمتكِ، وأنتِ عليّ أو مني أو معي.

    قال: [ أو كالميتة والدم ].

    قوله: [ أو كالميتة ] إذا قال لها: أنتِ عليّ كالميتة، فهذه ألحقوها بقوله: أنتِ عليّ حرام، والحنابلة قياساً يرون قوله: أنتِ الحرام ظهاراً، وعندهم قول الصحابي حجة، فلما أفتى عثمان بأنه ظهار قالوا: إن هذا يدل على أن لفظ التحريم في الأصل يقتضي الظِهار، فإذا ذكر محرماً كالميتة والخنـزير والخمر فشبهها به يكون في حكم الظِهار. ومنهم من يقصر على الميتة.

    لكن الصحيح ما ذكرناه، فإذا قال لها: أنتِ كالميتة يسأل عن نيته.

    وعند المالكية رحمهم الله إذا قال لها: أنتِ كالميتة فإنه طلاق بالثلاث فتحرم عليه. وهذا قول قوي جداً، وهو أنها تكون محرمة عليه بالثلاث، بخلاف قوله: أنتِ عليّ حرام، أما أنتِ عليّ حرام فتدخل في الاحتمالات؛ لأن الله قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1] ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، لكن إذا قال لها: أنتِ كالميتة، فهذا الوجه في تشبيهه إذا قصد به الظِهار فظهار، وإذا قصد به الطلاق فطلاق، لكنه أشبه ما يكون أن يقع ثلاثاً.

    لكن لو قال لامرأته: أنتِ عليّ كالميتة فهنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أن القاضي يعزره ويؤدبه، فإذا رأى تأديبه بالسجن سجنه، أو بالضرب ضربه، أو بالتوبيخ وبخه، فلابد أن يزجره؛ لأن هذا مما يوجب التعزير عند العلماء رحمهم الله.

    قوله: [ والدم ] كذلك لو قال لها: أنتِ عليّ كالدم.

    قوله: [ فهو مظاهر ] أي: كل ما تقدم يحكم بكونه مظاهراً.

    1.   

    حكم قول الزوجة لزوجها: أنتَ عليَّ كظهر أبي

    قال رحمه الله تعالى: [ وإن قالته لزوجها فليس بظهار وعليها كفارته ]

    في هذه الجملة سيبين المصنف رحمه الله أن الظِهار لا يصح إلا من الزوج، فلا يصح من الزوجة أن تظاهر من زوجها بأن تجعله في مقام أبيها أو أخيها أو ابنها، أو نحو ذلك ممن هم من القرابة، وعلى هذا جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، واستدلوا بقوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:3] .

    فدلت هذه الآية الكريمة على أن الظِهار إنما يقع من الزوج لزوجته، ولهذا لو قالت المرأة لزوجها: أنتَ عليّ كأبي، أو أنتَ عليّ كأخي، أو نحو ذلك فليس بظهار.

    قوله: (وعليها كفارته).

    اختلف العلماء رحمهم الله في الواجب عليها، فجمهور الأئمة على أن المرأة لو خاطبت زوجها وقالت له: أنتَ عليّ كأبي قاصدة الظِهار، فإنه لغو ولا شيء عليها، فلا كفارة يمين ولا كفارة ظهار، وإنما قالت منكراً من القول وزوراً مما لا يعتد به ولا يشتغل به، ولكن لا شك أنها قالت أمراً يحرم عليها قوله، فتستغفر الله وتتوب إليه.

    وذهب طائفة من العلماء إلى أنها لو قالت لزوجها: أنت عليّ كأبي، فإنها تكفر كفارة اليمين، كما قاله الإمام الأوزاعي الفقيه الشامي المشهور. وقال بعض العلماء: بل تكفر كفارة الظهار.

    والصحيح القول الأول: أنه لا كفارة عليها؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على ثبوت كفارة الظِهار في الظِهار المعتبر، وهذا ليس بظهار، وثبوت كفارة اليمين في اليمين المعتبرة، وهذا ليس بيمين، وبناءً على ذلك فإنه لا يصح إلحاقها بالزوج في إيجاب الكفارة عليها.

    ولذلك لو قال رجلٌ لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي لزمته الكفارة بالعود -أي: بالجماع- ولم تلزمه لمجرد القول، فما دام أنهم يقولون: إن الظِهار لا يقع فمعنى ذلك أنها تعود إلى زوجها، ولذلك يقوى القول بأنه لا تجب عليها الكفارة أصلاً، وأن هذا لغو، ولا شيء عليها إلا الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عـز وجـل.

    وهذا إذا لم تقصد بقولها: أنت عليّ كأبي التكريم؛ لأنها ربما قالت لزوجها وبعلها -من باب الإكرام-: أنتَ عليّ كأبي. أو أرادت أن تعزه وتجله فتقول له: أنت في مقام أخي، أو: أنت عليّ كأخي، ولا تقصد بذلك تحريماً.

    1.   

    الأسئلة

    حكم قول الزوج: أنت علي حرام كحرمة مكة

    السؤال: قول الرجل لامرأته: أنتِ حرام عليّ كحرمة مكة، هذا يكون طلاقاً أو ظهاراً؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالتحريم ذكرنا فيه الخلاف بين العلماء رحمهم الله، وهنا شبه تحريمها بمحرم؛ لأن مكة لها حرمة، وأصل الحرام مأخوذ من: حرم الشيء يحرم حرمة فهو حرام، والحرام هو الممنوع؛ لأن مكة لها حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) وقال -كما في الصحيحين- : (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض).

    فهذا يدل على أن لها حرمة، وتشبيه الزوجة بأنها محرمة عليه وممنوعة منه كالممنوع من مكة مما حرم الله عز وجل لا يختلى خلاها ولا يقطع شوكها ولا يسفك بها الدم، هذا وجه شبه واضح من جهة التحريم، فالمعنى فيه كما لو شبهها ببقية المحرمات.

    وأما هل هو ظهار؟ أم طلاق فهذا يفصل فيه على ما تقدم من خلاف العلماء رحمهم الله في مسألة التحريم، وهو أنه يسأل عن نيته إن قصد به الطلاق فهو طلاق؛ لأنها تحرم عليه وتمنع منه كما حرم أي شيء من المحرمات، فإذا قصد به الطلاق فهو طلاق، وإن قصد به الظهار فهو ظهار؛ لأن المعنى موجود، وإن قصد به اللغو فقال: خرج مني هذا اللفظ ولا أقصد معناه فلغو، لكنه يعزر. والله تعالى أعلم.

    حكم ثقب إذن المرأة لتعليق الذهب

    السؤال: ما حكم ثقب الأذن للنساء لتعليق الذهب وغيره؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلاف، لكن جمهور العلماء وجماهير أئمة السلف والخلف على جواز ثقب أذن المرأة من أجل وضع الحلي، والذين قالوا: إنه لا يجوز؛ قالوا لأنه مثله وتعذيب للصبية، وتعذيب للإنسان نفسه إذا كان كبيراً ولأن الزينة مرتبة كمالات، وتعذيب البدن لا يجوز إلا في الضروريات والحاجيات.

    والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من جواز ثقب أذن الصبية، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها في حديث أم زرع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن أم زرع أنها قالت: (وأناس من حُلِيِّ أذني) وهذا لا يكون إلا بالقرط المعلق في الأذن، وفي الصحيحين من حديث بلال رضي الله عنه: ( فجعلن يلقين من حليهن وأقراطهن )، والقرط لا يثبت في الإذن إلا بالوخز والحفر، فهذا الدليل يدل على مشروعية وجواز ثقب أذن الصبية، ولا بأس في ذلك ولا حرج فيه. والله تعالى أعلم.

    حكم إنزال الجنين في الشهر الأول لعذر

    السؤال: إذا حملت المرأة في الشهر الأول وأرادت أن تسقط حملها لأنها مريضة، هل يجوز لها القيام بذلك؟

    الجواب: في إسقاط الجنين قبل الأربعة الأشهر الجمهور على أنه لا يجوز؛ إعمالاً للأصل، ومن العلماء رحمهم الله من رخص بجواز إسقاط الأجنة قبل الأشهر الأربعة، ومن حيث الأصول الشرعية لا شك أنه لا يجوز التعرض للأجنة إلا بدليل شرعي واضح.

    وحديث ابن مسعود : (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه) يدل على أنه خلق، والجمع هذا جزء من الخلق، ولا يجوز التعرض للخلق، والشريعة لا تجيز للأطباء أن يتدخلوا في أبدان الناس إلا في جانبين:

    الجانب الأول: الطب الوقائي.

    والجانب الثاني: الطب العلاجي والدوائي.

    وغير هذين الجانبين لا يجوز للطبيب أن يتدخل في بدن الإنسان، ولذلك نقول: قالوا في تعريف الطب المشروع: حفظ الصحة حاصلةً واستبدادها زائلة بإذن الله عز وجل، فقولهم: (حفظها حاصلة): هذا الطب الوقائي، فالطبيب يعطي المريض إرشادات ونصائح تحافظ على صحته ولا يبتلى بمرض، فهذا من حفظ الصحة حاصلة.

    وقولهم: (واستبدادها بإذن الله زائلة) كمريض أصابه المرض يعالج، وغير هذين الجانبين عبث، وتدخل في خلق الله عز وجل، واعتداء على حدود الله ومحارمه.

    فلا يجوز للأطباء أن يقدموا على شيء يخرج عن هذين الهدفين، وما خرج عن هذين الهدفين يعتبر تدخلاً في خلق الله عز وجل مثل العبث في الجينات الوراثية، ومثل تغيير صفات الجنين قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فقوله : أَلا لَهُ الْخَلْقُ [الأعراف:54] هذا أسلوب حصر وقصر، أي: ليس لأحد أن يتدخل في الخلق، فالخِلقة للخالق، فهو الذي يصور، وهو الذي يدبر سبحانه وتعالى أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

    فإذا جاء الطبيب يريد أن يتدخل في الخلقة جاءته اللعنة، ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة والمتفلجة، وهي المرأة لا تستطيع تفلج أسنانها إلا بطبيب يحسن ذلك، فلعن الله المرأة التي تفعل، ولعن الله من يقوم بذلك الفعل، الواشـرة والمستوشـرة والواصـلة والمستوصـلة، كلهن مغيرات للخلقة، ثم قال في : (المغيرات خلق الله).

    والطبيب يحافظ على الصحة في الأبدان، ويدفع عنها بإذن الله؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله)، وأمر إنزال الجنين خرج عن هذا فليس بطب بل هو عبث ومجاوزة للحدود الشرعية، فالخلق إذا تخلق في بطن الأم نقول: فيه تفصيل، ولو كان يعرف الجنين بليلة واحدة، فلا نستطيع أن نقول: افعل أو لا تفعل إلا بنص شرعي، فهذه أبدان لها حرمات، وهذه أمور لا يجوز التسرع فيها؛ لأنها خلقة الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى كما في الحديث : (فليخلقوا حبة وليخلقوا شعيرة) تعظيماً منه سبحانه وتعالى لما يفعله المصورون، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)؛ لأنه تدخل في الخلقة، ولو بالمشاكلة، فحينما يرسم تمثالاً، أو يرسم صورة تأتيه اللعنة ويعذب (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) .

    فإذا كان هذا في مشاكلة الخلقة فكيف بالذي يتصرف بالخلقة نفسها، فهذه أمور لا تجوز، وهناك أمور ينبغي أن يسلم بها تسليماً، فنقول لهم: افعلوا كل شيء فيه مصلحة أو دفع مضرة، فإذا جئتم في أمر خارج عن هذا فليس من اختصاصكم.

    فإن قال: نريد أن نتصرف في هذا الجنين، أو: نريد أن نسقطه نقول: أعطونا المبررات، كما لو كان خوفاً على الأم فعلاً وقرر ذلك الأطباء، ويسمى هذا النوع من الحل الحل المنتدب والمهاجر والقانوني.

    فإن حملت فتخلق الجنين في القناة، وغلب على الظن أنه سينفجر ويقتل الأم ويموت، فلا الجنين باقٍ ولا الأم باقية، فلهذا المعنى يمكن أن يتدخل الطبيب ويسقط الجنين، فلا يتدخل إلا لحفظ النفس المحرمة، ومحافظة على الروح، وهذا له مبرور.

    فهذا إجراء وقائي وداخل تحت الطب الوقائي، لكن أن يقال: ثبت ومن خلال الجينات والمعادلات أن هذا الجنين مشوه، فإن هذا ليس من اختصاصك، فالكون له رب، والخلق له رب يدبره ويصرفه، فلست أنت الذي تستدرك على الله عز وجل، وكم من مشوه في الخلقة فاق الكامل بصيرة وعلماً وخبرة، فـعطاء بن أبي رباح إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم كان أشل أفطس مولى رحمه الله برحمته الواسعة، فالذي يأخذ ويعطي هو الله، وهذه أمور لها حكم ولها أسرار، فترى شخصاً مشلولاً فإذا رأيته تذكرت نعمة الله عليك، فهذه أمور لها حكم ترفع درجات المبتلى، وينبه غير المبتلى.

    وهي أسرار وحكم إلهية ليست من اختصاص الأطباء، والأطباء لهم علم معين محدود لكن هناك أمور إلهية وأمور عقدية، وأمور لها تبعات، ولها أسرار وحكم، ولا يستطيع أحد أن يقف عليها.

    ولذلك ينبغي أن يتقيد بهذا الأصل، وأقول من ناحية شرعية: إنه ينبغي على الإنسان أن يعلم أنه لا يحل لأحد أن يتصرف في خلقة الله عز وجل إلا بدليل شرعي، فإذا وجد الدليل الشرعي سار وفقاً له، فإن قالوا: لا ينفخ الروح فيه إلا بعد مائة وعشرين يوماً فهل نفخ الروح شرط في جواز إسقاط الأجنة، بحيث يجوز إسقاطها قبل؟! فأين المسوغ الشرعي للتصرف؟

    وفي بعض الأحيان تجرى بعض العمليات بالكشف عن العورة، أو بالإيلاج في العورة، أو بالنظر إلى العورة، فأين الأدلة التي تعطي هذه المبررات؟! حتى إن بعض الأطباء يفتي بالجواز، دون النظر في حقيقة الإسقاط وطريقته والمحاذير الموجودة فيه، فهل كل امرأة جاءت تشتكي من أنها تتألم أو تجد بعض المتاعب في حملها نعطيها حبوباً لمنع الحمل أو نسقط أجنتها؟ فهذا كله مخالف للأصول الشرعية.

    الأصول الشرعية والضوابط الشرعية ينبغي للأطباء والعلماء أن يتقيدوا بها، وإسقاط الأجنة ليس أمره من السهولة بمكان، وعلى كل عالم أن يذكر الناس بنعمة الله في الولد، أو يذكره بالعقيم الذي لا ينجب، وأن يذكر المرأة بالعقيم التي لا تنجب، وأن المسألة فيها أجور وحسنات، فالحمل كره والوضع كره، فلا يوجد حمل مبني على الراحة والطمأنينة.

    ولماذا جعل الله فضل الأم على الأب مضاعفاً؟ ولماذا جعل الله طاعتها من البر والحق؟ وجعل لها رفعة الدرجة حتى جعل النفساء التي تموت في نفاسها شهيدة، فأعلى درجتها ومكانتها لهذه الأمور، وهذه أمور قدرها الله عز وجل لا يتدخل الإنسان فيها طبيباً ولا غيره، حتى الأصول الشرعية العامة تمنع، فعندما يتأمل أي إنسان عنده ذرة من الفقه أن مقصود الشرع تكثير نسل وسواد الأمة يعلم أن هذا مصان.

    حتى النكاح ما وجد إلا من أجل كثرة الأمة، فكيف يقال: يجوز أن تسقط؟ وبكل سهولة تأخذ المرأة حبوب منع الحمل، وتأخذ ما يسقط الأجنة، وتعمل العمليات التي تسقط الأجنة، وكل هذا بناء على أن الجنين لم يكتمل خلقه إلا بعد مائة وعشرين يوماً.

    مع أن حديث ابن مسعود فيه اختلاف في اللفظ، ويحتمل أن النفخ يكون في الأربعين يوماً.

    وهذا أمر ينبغي أن يدرك، حتى إن بعض الأطباء يستشكل هذا، وعلى كل حال فالذي أريد أن أنبه عليه ألا يتوسع في الفتاوى، وأن تدرس بعمق، وأوصي طلاب العلم -خاصة في هذا الزمن- بعدم قبول أي فتوى طبية تصدر دون أن يكون الذي أفتى بها قد جلس مع الأطباء، ودرس وعرف المصلحة أو المفسدة من تلك الفتوى.

    وأنا أحببت أن أنبه على هذا لأهمية الأمر، ووالله ثم والله إنه لأمر يحزن أن تجد المسلمين يتناقصون وأعداء الإسلام يكثرون، ففي بلاد الكفر لا يمكن أن تصرف حبوب منع الحمل إلا بوصفات طبية، وتحت إشراف الأطباء، ونحن على عكس ذلك، وهم لا يريدون من المسلمين أن يكثروا.

    والمرأة تجدها تشتكي تقول: إنها قد كان منها حمل قبل ذلك. ولا تنظر إلى أمها التي حملت أربعة عشر ولداً، ومن النساء من أنجبت عشرين ولداً، وأنجبت وهي ترعى الغنم في الصحراء والقفار، وما ازدادت الأمة إلا عزة ومنعة وكرامة، لكن هذه أمور ينبغي أن تدرس بعناية، وعلى من يفتي فيها أن يكون عنده إلمام ونضج تام بالأمور الشرعية.

    فالخلقة خلقة الله، والمسألة عقدية يرد فيها اللعن.

    فالشاهد من هذا كله مدى خطورة الأمر؛ لأنه متعلق بالاعتقاد.

    والقضية الأخيرة التي أنبه عليها أنه قل أن تجد أحداً يسأل في مسائل إسقاط الأجنة من النساء أو الرجال إلا وجدت عنده خللاً في الاعتقاد، إلا من كان له مبرر شرعي.

    فامرأة لا تريد الولد، وفي الظاهر تقول: الأولاد أتعبوني هي امرأة تنظر إلى المادة وتنظر إلى المال، فينبغي للفقيه أن يدرك وأن يكون بعيد النظر، فهذه ليست مبررات، وكل امرأة تعلم أن هناك تعباً وعناءً، لكن المسألة راجعة إلى فساد الاعتقاد.

    ولذلك كان بعض مشايخنا يقول: يرد الشرع باللعن على الواشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجة بالحسن المغيرة لخلق الله عز وجل؟ قال: لما تأملت وجدت الأمر يرجع إلى الاعتقاد؛ لأن التي نمصت شعر حاجبها، أو شعر وجهها، أو التي تفلجت بحسن كأنها لم ترض بخلقة الله عز وجل لها بهذا الشكل، ولذلك جاء في آخر الحديث: (المغيرات خلق الله)، فجعل الأمر راجعاً إلى محبة تغيير الخلقة.

    فعلى كل حال علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نعلم علم اليقين أن ما نقول عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك سنحاسب عنه، وأن المسائل الاجتهادية والأمور التي تنبني على الرأي ينبغي أن تفهم، وأن يكون هناك تصور كامل للوقائع والنوازل، وألا تستغل الفتاوى، وأن يكون هناك علم وبصيرة عند تناول المسائل، خاصة المستجد منها.

    ومن الأمور التي ينبغي للفقيه والعالم أن يدركها أنه كلما أكثر من الجلوس مع الأطباء تكشفت له أمور لم تكن له بالحسبان، وقد تجد أقوالاً متناقضة، فتجد الأول يقول لك: هذه عملية بسيطة، وما فيها شيء، ونسبة النجاح فيها (90%)، وتجد الثاني يقول لك: هذه عملية خطرة، ونسبة النجاح فيها (30%).

    فتجد التضارب الذي تستطيع أن تصل به إلى الحق في الأمر، وتكون أنصح للأمة وأتقى في فتاويك وفي أقوالك، وأنا أوصي بذلك طلاب العلم؛ لأن بعض الناس أصبح يتساهل في هذه الأمور، ويسمع بعض الفتاوى كقول كثير: إنه ما دام الجنين قبل مائة وعشرين يوماً فلا بأس ولا حرج بإنزاله. فمن يقول بهذا القول من العلماء؟ وهل العلماء الذين قالوا بالإسقاط ينظرون إلى للمسألة بهذا الشكل الموجود، ففي القديم كان الذي يتولى كثيراً من أمور الإسقاط الخبيرات من النساء.

    فينبغي أن ننظر بعمق إلى الذي يقوم بهذه العمليات والذي يفعلها، فأغلبهم رجال، وتتم مع الإيلاج، ومع النظر، ومع اللمس، فهذه أمور ليست من السهولة بمكان، فهذا أمر أحب أن أنبه عليه، وقد ذكر لي بعض الأطباء المختصين أن مسألة منع الحمل ومنع العادة قد ثبت طبياً أنها من أعظم الأسباب التي تتسبب في سرطان الرحم.

    فهذه أمور تحتاج إلى الرجوع إلى أهل الخبرة حتى يستطيع العالم أن يفتي في هذه الأشياء على بصيرة، والذي نريده -فقط- أن نعرف الحق وأن نصل إلى الحق، ولا يمكننا ذلك إلا بفضل الله عز وجل، ثم بتهيئة الأسباب، نسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه. والله تعالى أعلم.

    حكم قضاء الوتر وقت الضحى واندراج الضحى في القضاء

    السؤال: رجل فاته الوتر من الليل ثم قضاه بعد طلوع الشمس -أي: في وقت الضحى- فهل يقوم قضاؤه هذا مقام صلاة الضحى أم لا؟

    الجواب: النوافل تنقسم إلى قسمين: نوافل مقصودة، ونوافل غير مقصودة.

    فالنوافل المقصودة التي يتحقق مقصود الشرع في الاندراج فيها يحكم فيها بالاندراج، والنوافل التي لا يتحقق بها مقصود الشرع في الاندراج لا يحكم فيها بالاندراج.

    فمثلاً قال صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك... ) الحديث، فلو صلى الضحى، أو صلى راتبة الظهر القبلية أو البعدية، وبعدها استخار يصح؛ لأنه قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة).

    وقال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فلو دخل وصلى راتبة الظهر القبلية أجزأت عنه؛ لأن مقصود الشرع ألا يجلس حتى يصلي، لكن إذا كان مقصود الشرع الراتبة بعينها -أي: للنافلة بعينها- فبالاندراج لا يحصل مقصود الشرع، فلا يحكم بالاندراج.

    ومن ذلك: مسألة الوتر، فإن الوتر إذا قضي في النهار يشفع، فيضيف ركعة واحدة ويصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها- صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة.

    فدل على أن قضاء الوتر في النهار يكون شفعاً، فإذا صلى الوتر فالصلاة ليلية في الأصل وليست بنهارية، ومقصود الشرع في كلا الصلاتين معتبر، فلليل صلاته وللنهار صلاته، وحينئذٍ لا يحكم بالاندراج، فيصلي الضحى بركعتين خاصتين على الأقل، وإن شاء أن يزيد بأربع، أو ست، أو ثمان إلى اثنا عشر فإنه أفضل وأكمل، وأما للاندراج فإنه لا يتحقق في مسألة قضاء الوتر. والله تعالى أعلم.

    حكم إعطاء الزكاة في شراء بضاعة لمن لديه بقالة بها بضاعة قليلة حتى يتحسن دخله

    السؤال: أخي معاشه لا يكفيه هو وعائلته، وعنده بقالة بها بضاعة قليلة، فهل يجوز أن أعطيه من زكاة المال لكي يشتري بضاعة للمحل فيتحسن دخله ومعاشه؟

    الجواب: لا يجوز صرف الزكاة لأخيك إلا إذا أصابه النقص في نفقته على ولده، فتعطيه المال من باب استخدامه في الإعانة ثم هو وشأنه إن أراد أن يصرفه في الدكان، أو أراد أن يصرفه في تجارة، لكن لا تشتر أنت له البضاعة، ولا تقل له: خذ هذا المال واشتر به بضاعة.

    فإذا كان الأخ عنده -مثلاً- مال، أو سيارة يستخدمها أجرة، ودخله في اليوم -مثلاً- ثلاثون ريالاً، وهو مع أسرته يحتاج إلى خمسين ريال، فالعجز عنده يصل إلى العشرين، ففي هذه الحالة تعطيه زكاة تغطي هذا العجز، وكونه يملك هذا الشيء لا يمنع أن يكون من أهل الزكاة؛ لأن الله تعالى يقول: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ [الكهف:79]، فأثبت أنهم مساكين مع أنهم يملكون سفينة.

    وهذا يدل على أن الأمر يتأثر بالعرف، فإذا جرى العرف أنه يكون في حدود المسكنة فهو مسكين، فإذا كان لا يكفيه دخل الدكان تعطيه من الزكاة على أنه سد لعوزه وعجزه، والفرق بين كونك تعطيه على أنه سد لمسكنة أو فقر وكونك تعطيه من أجل الدكان أنه ربما كان الدكان يحتاج لإصلاحه إلى خمسة آلاف ريال، وهو في عجزه يحتاج إلى ألفين، فحينئذٍ واجب أن تعطيه الألفين ولا تعطيه الثلاثة الآلاف الزائدة، وإذا أعطيته الثلاثة الآلاف وجب عليك قضاؤها؛ لأنها ليست بزكاة.

    فهذا إذا كان عنده عجز، لكن إذا كان يريد أن يشتري بضاعة هناك حل آخر، وهو أنه يمكن أن يتحمل ليشتري هذه البضاعة ويستدين بالدين، فإذا وقع في الدين وكان هذا في حدود ما يصرح به دون زيادة فإنه في هذه الحالة يجوز أن تسدد من دينه على قدر حاجته وسد عوزه، وهذا من باب سهم الغارمين، فتعطيه سداداً لدينه من جهة الغرم؛ لأن الغرم إذا كان لسبب شرعي ليس فيه سفه أو حرمة فإنه يجوز صرف الزكاة سداداً للدين فيه. والله تعالى أعلم.

    كيفية الجمع بين إنكار المنكر وستر المسلم

    السؤال: كيف نميز بين إنكار المنكر وستر المسلم؟

    الجواب: يمكن أن تنكر المنكر وتستر، فإذا رأيت عاصياً ارتكب معصية وأطلعك الله على معصيته. جئته وقلت له: يا فلان اتق الله! فهذا الذي تفعله لا يجوز، ولا يرضي الله عز وجل، فخف من الله سبحانه وتعالى. فتأمره وتنهاه، ثم تستره، فلا تذهب تقول للناس: فعل فلان.

    وهنا أنبه -كما يذكر بعض العلماء رحمهم الله- أنه كم من مذنب شقي الصالح بذنبه، فتجده مذنباً لكنه في قرارة قلبه نادم، ويتألم على هذا الذنب، ويتمنى أن الله يعافيه، ويبكي كلما أصاب الذنب، ويسأل الله أن يغفر له وأن يرحمه، وآخر يشمت به، ويكشف ستر الله عز وجل عليه، ويجلس في المجالس يتحدث عنه إما تصريحاً وإما تلميحاً، حتى -والعياذ بالله- يأخذ من حسناته على قدر ظلمه له حتى يشقى والعياذ بالله.

    فهذا من الشقاء؛ لأنه -والعياذ بالله- يتحمل السيئات بشماتته بالمذنب، فهذه مصيبة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية، فيخسر من حسناته، ولربما فنيت حسناته بالكلام في الناس، كما قالوا: رب قائم صائم حسناته إلى غيره، نسأل الله السلامة والعافية، وكل هذا بآفات اللسان التي يطلقها الإنسان في عورات المسلمين دون رادع وخوف.

    وأعظم ما يكون كشف الستر إذا كان في الأمانات، فلو جاء شخص وبث له سراً من أسراره فإن تكلم بذلك وأخبر به فقد خان وضيع الأمانة، ووزره عظيم، وبعض أئمة المساجد والخطباء يأتيه المذنب ويتكلم معه، فيذهب يقول: فلان يفعل. وهذا من أعظم الذنوب، ومن أعظم الخيانة للأمة.

    وحدث للوالد رحمة الله عليه حادثة ذات مرة أنه كان معه شخص يستفتيه في مسألة، وكنت صغير السن، فسألته عن بعض ما استفتاه، فقال لي: يا بني! والله لو ضربت مني هذه ما أخبرتك، فهذه أسرار وعيوب الناس.

    فوالله ما نشأت من الصغر إلا وأنا أستشعر هذه الكلمة، وقلّ أن يأتي أحد عنده مشكلة زوجية، أو أمر خاص إلا تذكرت قوله: لو تضرب مني هذه ما أفشيت منها سراً.

    فهذا أمر عظيم جداً، فالذي يكتب للقاضي عليه أن يتقي الله، وأي شخص يبتلى بمسئولية أمام الناس فتأتيه أسرارهم فلا يهتكها، ولو كانوا عصاة، ولو كان مجرمين فلا تتكلم فيهم وتهتك ستر الله عز وجل عليهم.

    ولذلك لما تنتشر الأخبار بالسيئات يدمر المجتمع، ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: إنكم تسمعون عن الرجل زلة فلا تنشروها؛ فإنها ثلمة في الإسلام. فالله ستيّر، ويحب الستر من عباده، وهو الذي ستر المذنب وأمده بعفوه وعافيته، وهو قادر أن يخسف به الأرض التي هو عليها.

    فالمقصود أن الإنسان دائماً يحرص أن ينكر المنكر وأن يستر أخاه المسلم، ولذلك لما جاء ماعز واعترف بأنه زنا -وقد حرضه قومه على ذلك حتى جاء- قال النبي صلى الله عليه وسلم لـهزال : (هلا سترته بثوبك).

    فالله يحب الستر على عباده وأمر بالستر، فالإنسان يمكنه أن ينكر المنكر ويستر أخاه المسلم، حتى لو أنك جلست مع أخيك لحظة ورأيت فيه عيباً في كلامه، أو ملاحظة عليه في شيء فلا يجوز لك أن تخون هذه الأمانة، وإذا استأثر بك ودخلت عليه في غرفته وسكنه، ورأيت أموراً خاصة، فهذه كلها أسرار، وما قام الدين إلا على التعظيم لحرمات الله عز وجل، وقد وصف الله أهل الجنة بأنهم حافظون لحدود الله عز وجل فيما بينهم وبين الله عز وجل، وفيما بينهم وبين الناس.

    ومما يعينك على أنك تستر الناس أن تنـزل نفسك منـزلة هذا الرجل، أو أن تنـزل المرأة نفسها منـزلة هذه المرأة، فما الذي تحب منها، وما الذي تنتظر منها؟ ولذلك أحب الله الستر، ومن حبه سبحانه للستر أنه يستر من ستر عباده، وأعان من سترهم.

    حتى إن الشخص يستر فيأتيه الشيطان يقول له: تكلم، وقل كذا، فيأتيه الشيطان يأزه لأجل هذا، فالله يمده بعونه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، فالله يعينك في مدة عونك لأخيك، فمن عونك لأخيك أنه كلما رأيت أمراً فيه خير لأخيك المسلم وجب عليك أن تفعله، والشيطان يمنعك من فعله ويأتيك بمبررات، حتى إن الشيطان في بعض الأحيان يسول للإنسان المعصية باسم الطاعة، وهذا أمر -نسأل الله السلامة والعافية- يزين فيه سوء العمل ويجعله حسناً.

    فعلى كل إنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الستر يحبه الله عز وجل، وكم من قضايا نعرفها والله ما صلحت أحوال أهلها إلا بفضل الله ثم بالستر، وكم من بيوت استقامت، وكم من أسر حفظت، حتى إن رجلاً كان مبتلى -والعياذ بالله- بشرب الخمر، وشاء الله عز وجل أن يقع في يد رجل صالح وكان من أسرة طيبة، فكاد أن يفضح، فقام هذا الرجل الصالح وستره قبل أن تبلغ الحدود إلى السلطان، فقام وستره ونصحه وذكره بالله عز وجل، ثم رده إلى بيته وهو في حال السكر، ولما أصبح الرجل وعلم بالحقيقة جاء إليه وبكى عنده، وعاهد الله عز وجل ألا يعود إلى الخمر، واهتدى وصلح حاله، وهذا بفضل الستر عليه.

    وكل العلماء متفقون مجمعون على أن الرجل لو رأى رجلاً يزني بامرأة في ستر الله عز وجل فالأفضل والأكمل ستره ما لم يكن فاجراً ينشر الفاحشة، أو امرأة -والعياذ بالله- تقود إلى بيتها وتفتح بيتها للدعارة، أو نحو ذلك من المعاصي التي ينتشر خطرها كالمخدرات ونحوها، فهذه لا تستر، ولا يجوز الستر عليها، ولا التستر على أهلها.

    فنحن نتكلم عن شخص وقع في معصية وذنب فيما بينه وبين الله، من شرب خمر، أو زنا، أو نحو ذلك فابتلي بهذا الشيء، فهو يحتاج إلى ستر، ويحتاج إلى أن تهيئ له الأسباب، فالله يحب الستر، ولا تغتر بالطاعة وأنت تنعم في نعم الله عز وجل فرحاً بما أعطاك الله عز وجل، وتقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به، وتحس أن أخاك يقوده الشيطان ويأزه إلى الباطل أزاً، فتمد له يداً أمينة صالحة تنقذه فيها لعل الله عز وجل أن يحجبك بهذا العمل عن النار.

    إن العبد ليعمل العمل من طاعة الله عز وجل يكون سبباً في دخوله للجنة، وربما يحبه الله بسبب هذا العمل ويكون سبباً في دخوله الجنة، ومن أفضل الأعمال وأحبها عند الله -كما قرره أئمة الإسلام رحمهم الله- الأعمال التي يتعدى نفعها إلى الآخرين.

    ولذلك جعل الله فضل العلم على العبادة عظيماً؛ لأنه متعد إلى الآخرين ونفعه ديني، ولذلك صرف الله النار عن عبد قاضى الناس وأعطى الناس ديناً، فكان يرحمهم إذا أراد السداد، فتعدى نفعه إلى غيره، فكفاه الله عز وجل ما أهمه، وغفر له ذنبه، وقال: (يا ملائكتي نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عن عبدي).

    فالإنسان إذا أحسن إلى الناس فالله سبحانه وتعالى لا ينسى المعروف، وقد قيل:

    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان

    فتأسر قلوب الناس بالمحبة لك، فإن كنت إماماً أحبوك، وإن كنت واعظاً رضوا بك، وإن كنت موجهاً قبلوك، وكل هذا بفضل الله عز وجل؛ لأنه ما يستر إلا من سكنت الرحمة في قلبه، وهل الإسلام إلا دين الرحمة قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

    فـماعز جاء يقول: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني -كما في صحيح مسلم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) وأربع مرات يصرفه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دين الرحمة ودين الستر، فعلى المسلم أن يحرص على هذه الأعمال الصالحة الطيبة المباركة، ولا يزال العبد بخير ما نوى الخير وفعله لإخوانه المسلمين.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ونسأله بعزته وجلاله أن يستر عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756522925