إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الرجعة [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد بين الشارع كل كبير وصغير من مسائل هذا الدين ومن ذلك تعامل الزوج مع زوجته وما يحل له منها وما يحرم عليه منها. وقد يقع خلاف بين الزوجين يؤدي بالزوج إلى بت طلاقها، وإذا بت طلاقها حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره. وإذا نكحت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر ثم فارقها حلت للأول، ولكن هذا النكاح المحلل ينبغي أن يتصف بصفات معتبرة خالية من الحيلة، ثم إذا تم ذلك فلابد من الوطء، وهذا الوطء المحلل لابد فيه من صفات اعتبرها الشرع، بحيث يكون قد أذن بها وكانت دالة على رغبة وزواج لا احتيال فيه. وقيد بين الشيخ ما يتعلق بذلك بياناً واضحاً.

    1.   

    تحريم المرأة على زوجها إذا استوفى الطلاق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمن طلق زوجته الطلقة الأخيرة، فاستتم العدد الذي جعله الله في الطلاق.

    الحكمة في اشتراط نكاح الزوجة بزوج آخر حتى تحل لزوجها الأول

    ومن حكم الله سبحانه وتعالى في المطلق ثلاثاً أنه لا تحل له زوجته حتى تنكح زوجاً غيره، وبيّن هذا الحكم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء كتاب الله عز وجل باشتراط النكاح الثاني، وجاءت السنة باشتراط الوطء وحصول ما يشترط من الإيلاج المعتبر للحكم بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.

    ونظراً إلى أن هذه المسألة مترتبة على الطلاق ذكرها المصنف رحمه الله في ختام كتاب الطلاق، فذكر أن المطلق إذا استتم العدد وذلك في قوله: [ إذا استوفى ما يملك ] أي: إذا استتم العدد الذي جعله الله له.

    فكأن الزوج يملك الطلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل له الطلاق، فإذا استتم العدد المعتبر فإنه لا تحل له الزوجة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] أي: الطلقة الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].

    وذلك بعد قوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] فبيّنت هذه الآية الكريمة من سورة البقرة أن من طلق الطلقة الثالثة أنه لا تحل له هذه الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأن كلا الزوجين أعطي المهلة.

    فالطلقة الأولى والثانية كان بإمكان كل منهما أن يصحح خطأه، فلو حصل أن الزوج تسرع في الطلقة الأولى فإن تسرعه يستطيع أن يتلافاه بما بقي له من الطلقتين.

    فإن كان الخطأ صادراً منه لأنه ربما يكون أول سبب للطلاق هو الزوج، ولربما كان السبب الزوجة، فإذا وقع من الزوج الطلقة الأولى بسبب خطأ أو تقصير منه؛ فإنه بوقوع الطلقة سيندم ويتأثر ويرجع إلى زوجته.

    فلو أنه استقام ربما أخطأت الزوجة، فجعل الشرع له أن يعطيها مهلة كما أعطى لنفسه المهلة، فجاءت الطلقة الثانية على فرضية أن يكون الخطأ من الزوجة، فبقيت الطلقة الثالثة فيصلاً بينهما، حتى ولو حصل أنه تكرر خطأ من الزوج مرتين فطلق الطلقة الأولى بقيت الثالثة، فيحترز كل منهما؛ لأنه إذا أخطأ الزوج المرة الأولى، وأخطأ المرة الثانية حرصت المرأة على أسلوب أشد من حالها في الطلقة الثانية على أن تعامل زوجها وتحافظ عليه إذا كانت تريد هذا البيت.

    فإذا طلقها فلا يخلو إما أن يكون الطلاق -في الثلاث تطليقات- بسبب الزوج أو يكون بسبب الزوجة، أو يكون مشتركاً بينهما.

    فإن كان بسبب الزوج فإنه يكتوي بنار الغيرة حينما يحس أن زوجاً آخر قد استمتع بهذه الزوجة، وعندها يتألم ألماً شديداً، بحيث لو فكر أن يتزوج امرأة ثانية فإنه يخاف من الطلاق ويهاب.

    كذلك أيضاً جعل الشرط تحقيقاً لهذا المقصود، أنها لا تحل له حتى يطأها الزوج الثاني، وهذا أبلغ ما يكون تأثيراً وزجراً ومبالغة في دفع الأذية من الأزواج.

    فإذا ما نكحت الزوج الثاني -والشرع اشترط أن يدخل بها الزوج الثاني- تأثر الزوج الأول واكتوى بنار الغيرة، هذا إذا حرص وعرف قيمة زوجته الأولى.

    ثم الفرض الثاني: أن يكون الخطأ من الزوجة فإذا كانت الزوجة هي التي تستفز زوجها، وهي التي ألجأته إلى الطلقة الأولى أو الثانية، أو ألجأته إلى أغلب الطلاق، أو إلى الطلقة الأخيرة التي بسببها حصل الفراق، فإن الزوج لا يحل لها أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره.

    وحينئذٍ فالغالب أنه لا يصبر وسيتزوج امرأة ثانية، أو يفكر في زواج الثانية، فتكتوي هي أيضاً بنار الغيرة، ولكنها لابد لحلها للزوج الأول من أن تتزوج الزوج الثاني، فإذا نكحت الثاني إما أن يكون الثاني أفضل من الأول فتحرص على عشرته على أحسن ما تكون الزوجة لزوجها.

    وإما أن يكون أسوأ من الأول، فتحرص على أن ترجع للأول، والشرع من كماله ووفائه راعى المعاني النفسية ولم يهدرها، ولذلك جاءت امرأة رفاعة حينما طلقها فبت طلاقها ونكحها عبد الرحمن بن الزبير؛ جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إن ما معه مثل هدبة الثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته).

    فاكتوت بنار الحرص على أن ترجع إلى زوجها الأول قبل أن ينكح غيرها؛ لأنها عرفت قيمة زوجها الأول.

    وهذا لا شك أنه من أكمل ما يكون، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] وقوم يعقلون.. وقوم يتقون.. وقوم يؤمنون؟ فالله يحكم ولا معقب لحكمه.

    فمن حكمته سبحانه وتعالى أن شرع هذا الأمر، وهو أن تحل الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بشرط أن ينكحها زوج آخر.

    ولهذا النكاح شروط شرعية وأحكام ومسائل وتفصيلات يعتني العلماء رحمهم الله بذكرها، وهذا ما سيبينه رحمه الله في هذا الفصل.

    جاء القرآن باشتراط الزوج الثاني، وهذا الشرط محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله.

    [ إذا استوفى ما يملك من الطلاق ] حراً كان أو عبداً على التفصيل المذكور عند العلماء، وقد تقدم بيان هذه المسألة وكلام العلماء رحمهم الله.

    [ إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت ]

    حكم بحرمة المرأة المطلقة، وهذا النوع من التحريم يوصف عند العلماء بالتحريم المؤقت؛ لأن تحريم المرأة ينقسم إلى قسمين:

    إما أن تحرم حرمة مؤبدة.

    وإما أن تحرم حرمة مؤقتة.

    فالحرمة المؤقتة من أمثلتها المطلقة ثلاثاً فإنها تحرم على الزوج الاول حتى تنكح زوجاً غيره، فأقتت باشتراط أن ينكحها زوج آخر، ومن التحريم المؤقت أن يكون عنده أربع نسوة، فلا تحل له الخامسة حتى يطلق واحدة من الأربع وتخرج من عدتها، ويسمى مانع العدد.

    ومن أمثلة الموانع المؤقتة مانع الرق ومانع الكفر مثل المجوسية قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم).

    فالمرأة إذا كانت مجوسية والعياذ بالله فلا يحل للمسلم أن ينكحها، وهكذا إذا كانت وثنية أو مشركة أو ملحدة أو لا دين لها والعياذ بالله، هذه لا يحل نكاحها.

    فيعتبر وجود هذا الكفر مانعاً؛ لكنه مانع مؤقت بحيث لو أسلمت أو صارت كتابية حل نكاحها على التفصيل الذي تقدم معنا.

    الحرمة المؤبدة: مثل النكاح المحرم من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة، وقد تقدم بيان هذه الموانع وتفصيلها.

    قوله: [ حرمت ]

    أي: لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ [البقرة:230] عند علماء الأصول أن من صيغ التحريم الصريح القوية نفي الحل عن الشيء، مثل قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب:52] ، وَلا يَحِلُّ لَكُمْ [البقرة:229].

    هذه كلها تدل على تحريم الشيء، فقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] نص في تحريم المطلقة على من طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره.

    صفات النكاح المعتبر في تحليل الزوج الثاني للمطلقة ثلاثاً

    [ حتى يطأها زوج في قبل ] إذاً يشترط أن يكون هناك نكاح، فلو وطأها والعياذ بالله بالزنا فإنه لا يحللها لزوجها الأول، بل يجب رجمها.

    وأما إذا كان وطؤها بين الحل والحرمة وهو الذي يسمى بوطء الشبهة، بأن ظنها زوجته فوطأها ثم تبين أنها أجنبية مطلقة من زوج ثلاثاً فلا تحل أيضاً، فوطء الشبهة والحرام لا يحلل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، بل يحللها الواطئ في نكاح صحيح.

    إذاً يشترط وجود النكاح وأن يحصل مع النكاح وطء، وأن يكون هذا الوطء على الصفة التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).

    قال رحمه الله: [ ولو مراهقا ]

    (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: لو وطأها مراهق وحصل به ما يحصل بالبالغ من الاستمتاع واللذة فإنه يحللها، ولا شك أن المراهق الصغير لا يحصل بمثله الاستمتاع وذوق العسيلة الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك قالوا: (ولو مراهقاً) لأن ما قارب الشيء يأخذ حكمه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).

    فلو أن مراهقاً عقد على امرأة مطلقة ثلاثاً ودخل بها، وحصل منه الوطء فقالوا: إن هذا الوطء معتبر، فلو طلقها هذا المراهق حلت لزوجها الأول، ولو طلقت بعد بلوغه حلت لزوجها الأول ورجعت؛ لأن الوطء من المراهق يحصل به ذوق العسيلة.

    وأما إذا كان صغيراً فمثله لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر.

    التحليل للمرأة المطلقة ثلاثاً له ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن يكون مقصوداً يراد به تحليل المرأة لزوجها الأول باتفاق من أهل الزوج والزوجة، فهذا حرام بالإجماع، وملعون من فعله، والإعانة عليه من الكبائر؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها عند طائفة من العلماء رحمهم الله لورود الوعيد الشديد فيه، ولما فيه من التحايل على شرع الله عز وجل، ومخالفة مقصوده.

    لأن مقصود الشرع والمقصود من الآيات الكريمة في اشتراط نكاح الزوج الثاني أن يتألم الزوج الأول، فإذا حصل ترتيب من أنه يدخل بها وبمجرد دخوله بها يطلقها، فحينئذٍ الزوج الأول لا يتألم ذلك الألم، ولا يتحقق المقصود شرعاً من اشتراط هذا الزوج.

    ولذلك كان وجود نكاح المحلل وعدمه على حد سواء، ونص طائفة من العلماء على أنه من كبائر الذنوب لورود اللعن فيه كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له.

    فالزوج الذي يحلل له يقول: يا فلان اذهب إلى فلانة وانكحها وحللها لي، وحتى إن بعضهم والعياذ بالله ربما يقول له: وأنا أدفع المهر، فليس لك إلا أن تحللها.

    ولربما والعياذ بالله اتفق معه على أن يأخذ عقداً صورياً وأنه لا يدخل بها، ثم يدعي أنه دخل بها وتدعي هي أنه أصابها، ثم ترجع إلى زوجها الأول.

    وهذا كله والعياذ بالله اعتداء لحدود الله عز وجل وتحليل لما حرم الله، وجرأة على محارم الله، نسأل الله السلامة والعافية.

    الصورة الثانية: أن يكون مقصود الشخص أن يحللها ولا يطلع الزوجين على ذلك، ولا أهل الزوجة على ذلك ويفعله، ففيه الخلاف، وشدد فيه طائفة من السلف، حتى أن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( إن الله لا يخادع ) جاءه رجل وقال له: إن عمي طلق زوجته ثلاثاً وأنا أريد أن أنكحها حتى أحلها له، فقال له رضي الله عنه: (ويحكم! إن الله لا يخادع).

    يعني: أتخادع الله عز وجل؟ فإن الله لا يخادع سبحانه وتعالى يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9] نسأل الله السلامة والعافية، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] .

    فمن اجترأ على هذا الفعل أفتى ابن عباس رضي الله عنهما بأنه في حكم المحلل، وأنه اعتداء لحرمات الله عز وجل.

    وقال بعض العلماء: إذا لم يطلع أحد على ذلك وغيب ذلك في نيته فلا بأس ولا حرج، وفي الحقيقة الأصل في الظاهر قد يقتضي الحل بناءً على الظاهر، ولكن بالنظر إلى المعنى يقتضي التحريم، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمهم الله يقول: هذا النوع لا يفتى بحله ولا بحرمته زجراً للناس ومنعاً لهم عنه.

    لأنه ليس على السنن الوارد شرعاً، وليس بمخالف لكل وجه، ولذلك منعوا منه وقالوا: إنه يكون في هذه المرتبة فلا يفتى للناس بحله، ولا يفتى لهم بحرمته؛ لأن النية مغيبة، كما لو تزوج امرأة وفي نيته طلاقها.

    وأياً ما كان فإنا إذا نظرنا إلى معاني الشرع وجدنا أن الأصل يقتضي تحريم هذه الصورة، والسبب في هذا أن المعنى الذي أراده الشرع وهو زجر الزوج الأول، وحصول الرفق للمرأة بتغيير حياتها، فلربما وجدت الزوج الثاني أكرم من الأول، فانتظمت بيوت المسلمين، ووجدت كل زوجة ما يناسبها من الأزواج، واستقام النكاح على الوجه المعتبر.

    الصورة الثالثة من النكاح الذي يحصل به التحليل: أن يتزوج الرجل المرأة المطلقة ثلاثاً وفي نيته أنها إن كانت صالحة أمسكها، وإن كانت غير صالحة طلقها، ونكحها نكاحاً على السنن المعتبر شرعاً لا يقصد تحليلها للأول، ولم يدر بخلده ذلك، فهذا لا إشكال أنه معتبر شرعاً وأنه نكاح صحيح تنبني عليه الآثار الشرعية من حلها لزوجها الأول بشرط حصول الوطء.

    قال رحمه الله في بيانه للشروط التي ينبغي توفرها في هذا النكاح الثاني: [ ويكفي تغييب الحشفة أو قدرها ] فهذا شرط وطء الزوج الثاني للزوجة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فهذا نص في المطلقة ثلاثاً أنها لا تحل لزوجها الأول إلا إذا دخل بها الزوج الثاني.

    قوله: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أدب من رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه، حيث عبر بالألفاظ التي تتضمن المعاني مع مراعاة الأدب والحشمة والكمال في الخطاب فلم يصرح لها تصريحاً، ولا شك أن النساء كن على فطنة ومعرفة، واللسان العربي فيه أسرار عجيبة، ودلائل بليغة؛ ولذلك جعله الله لأفضل كتبه، وأفضل ما أنزل على عباده، تشريفاً لهذا اللسان وإكراماً له.

    ضابط الوطء المحلل للمطلقة ثلاثاً لزوجها الأول

    فقال لها: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) هذه الكلمة تنتظم شروطاً مهمة:

    أولاً: اشتراط الدخول؛ لأن المرأة قد عقد عليها زوجها الثاني، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحليلها لزوجها الأول حتى يدخل بها، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم على تفصيل.

    ثم لما قال: (حتى تذوقي عسيلته) دل على أنه لابد من الإصابة التي يتحقق بها الإيلاج والجماع المعتبر الذي يترتب على مثله ما يترتب من أحكام الشريعة.

    فبيّن رحمه الله أنه يشترط تغييب الحشفة في الفرج.

    فقال رحمه الله: [ ويكفي تغييب الحشفة ] الحشفة: هي رأس الذكر، ومعناه: هو الذي عبر عنه بمجاوزة الختان للختان.

    وتغييب رأس الذكر يترتب عليه من الأحكام الشرعية ما يقارب ثمانية أحكام ما بين العبادات والمعاملات، ومنها هذه المسألة، أنه إذا اشترط الوطء فلابد من تغييب الحشفة وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وسيأتي تفصيل ذلك أكثر في أحكام الجنايات والحدود في باب الزنا، فبيّن رحمه الله أنه لا بد من حصول الإيلاج.

    فلو أنه دخل بالمرأة وحصلت المباشرة دون إيلاج لم تحل، بل لابد من الجماع وأن يحصل إيلاج في الفرج فقال: [يكفي تغييب الحشفة]، إذاً لا يشترط أن يكون الوطء بكامل الذكر وإنمـا يكفي أن يكون ببعضه.

    وصرح العلماء رحمهم الله بهذا تصريحاً واضحاً؛ لأن المسائل الشرعية في بعض الأحيان يكتفى فيها بألفاظ الكنايات، ويتأدب ويؤتى بها مخفية، لكن في تعليم العلم وشرحه وبيانه لا بد من التوضيح والتفصيل؛ لأنه ربما فهم أحد غير المراد.

    وحينئذٍ كان العلماء رحمهم الله والأئمة في مجالسهم يصرحون ويبينون حتى يفهم الناس، حتى يعذروا إلى الله عز وجل ببيان العلم وتوضيحه، ولا يقع الإنسان في لبس.

    فمن هنا قالوا: لابد كما صرح رحمه الله [ ويكفي تغييب الحشفة ] أي: لابد من حصول إيلاج رأس الذكر في فرج المرأة المطلقة ثلاثاً.

    فإذا حصل المسيس دون إيلاج من رأس العضو فإنها لا تحل، والدليل على اشتراط هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته) ولا يمكن أن يوصف بهذا الوصف إلا إذا حصل الجماع، ويكفي قدر الإجزاء وهو رأس الذكر، فلو حصل الإيلاج الكامل فهذا من باب أولى وأحرى.

    قوله: [ أو قدرها ] جمهور العلماء أن المسائل المترتبة على الحشفة وهي رأس الذكر، إذا كان الشخص مقطوع الحشفة فإنه ينظر إلى قدرها من المقطوع، فإذا أولج في فرج المرأة هذا القدر حلت لزوجها الأول.

    وأما إذا حصل الاستمتاع بما دونه ولو وضع الفرج على الفرج فإنه لا يوجب الغسل، ولا يحكم بالإحصان، ولا بثبوت المهر كاملاً؛ ولا تحل لمطلقها ثلاثاً، إلى غير ذلك من الأحكام المعتبرة، وهكذا الزنا لا يحكم بثبوت حده ما لم يحصل إيلاج رأس العضو أو قدره من مقطوع الحشفة.

    قال رحمه الله: [ مع جب في فرجها مع انتشار ].

    (مع جب) أي: إذا كان مقطوع العضو وبقي منه شيء ينظر إلى القدر، فإذا كان هذا القدر المعتبر شرعاً والذي نص العلماء والأئمة على اعتباره موجوداً مثله مما بقي من العضو فإنه يكفي للحكم بالأحكام الشرعية التي ذكرناها، ومنها تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.

    قوله: [ مع انتشار ]:

    أي: فإذا كان العضو غير منتشر أي: غير منتصب فإنه لا يحكم بحلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ولذلك يقول بعض العلماء: من بلاغة السنة أن الكلمة الواحدة والجملة الواحدة تتضمن من المسائل كثرة.

    فهو عليه الصلاة والسلام بهذه الكلمة الجامعة أفتى، وفرع العلماء الأبواب والمسائل فيقولون: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وله مرابط وأوصاف لا بد من تحققها حتى يحكم بكون المرأة قد حلت لزوجها الأول.

    ومن هنا قالوا باشتراط الانتشار، وهذا معنىً ظاهر من الحديث وواضح؛ فإنه إذا كان العضو غير منتشر فإن المرأة لا يتحقق فيها هذا الوصف من إصابة العسيلة.

    قال رحمه الله: [ وإن لم ينـزل ].

    أي: لا يشترط الإنـزال، ومن هنا صح وطء المراهق، وأن المراهق إذا جامع المرأة المطلقة ثلاثاً حللها للأول.

    وقالوا: إنه لا يشترط الإنـزال لأن الشرع رتب الحكم على ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يشترط فيه ألا تزال، فالقدر المعتبر للإجزاء هو حصول الإيلاج، وأما الإنـزال فإنه ليس بشرط.

    الأحوال التي لا يصح بها تحليل المرأة لزوجها الأول

    قال رحمه الله: [ ولا تحل بوطء دبر ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط ذوق العسيلة، والمراد به الوطء المعتبر شرعاً، فالوطء المحرم شرعاً وهو وطء الدبر الذي لا يحل للزوج ولا لغيره؛ فإنه لا يحصل به التحليل ولا يحكم به بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.

    فلا تحل بوطء في غير المكان المعتبر، وهو مكان الحرث.

    [ وشبهة ]

    فلو أنها طلقت ثلاثاً ونكحها شخص نكاح الشبهة أو وطئها وطء شبهة، فإنها لا تحل بهذا الوطء لزوجها الأول.

    فلو أنها كانت نائمة مع امرأة ومعها زوجها، فجاء زوجها يظنها زوجته، أو أخطأ وجاء ووطئها يظنها زوجة له، فهذا الوطء وطء شبهة لا يوجب الحد كما سيأتي إن شاء الله، ولا يعتبر موجباً لحلها لزوجها الأول.

    والدليل على اشتراط أن يكون الوطء في نكاح صحيح قوله تعالى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ [البقرة:230] فبيّن هذا الشرط وجوب النكاح، والنكاح حقيقة شرعية لابد من وجود نكاح معتبر شرعاً، ونكاح الشبهة ليس بنكاح معتبر شرعاً للتحليل.

    قال رحمه الله: [ وملك يمين ]

    وهكذا لو وطئت يملك يمين، فلو أنها كانت أمة وطلقها زوجها الرقيق واستوفى عدد التطليقات ورجعت لسيدها، ثم بعد أن استبرأها سيدها وطئها وطء ملك اليمين، فإنه في هذه الحالة لو أرادت أن ترجع إلى زوجها الأول لم تحل له، بل لابد أن تنكح، فإذا حصل نكاحها فإنه حينئذٍ تحل لزوجها الأول بشروطها المعتبرة.

    قال رحمه الله: [ ونكاح فاسد ]

    وهكذا إذا كان النكاح فاسداً، بأن طلقها ثلاثاً فنكحها رجل نكاح شغار أو نكاح متعة، فنكاح الشغار والمتعة نكاح فاسد شرعاً، فلا تحل بهذا النوع من النكاح لزوجها الأول.

    قال رحمه الله: [ ولا في حيض ].

    أي: ولو أنه تزوجها الزوج الثاني فوطئها أثناء الحيض، ثم طلقها في الطهر، فإنه حينئذٍ لا يحكم بحلها لزوجها الأول.

    وهكذا لو وطئها في الحيض ثم مات عنها، وخرجت من حدادها وأراد زوجها الأول أن ينكحها نقول له: لا؛ لأن الوطء الذي حصل من الزوج الثاني حصل على غير الصورة المعتبرة شرعاً، ووطء الحيض والنفاس محرم شرعاً، والمحرم لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء.

    لأن الله عز وجل حرم الوطء في الحيض، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فالمراد به الذوق المأذون به والمعتبر شرعاً.

    فلما كان ذوقه لها في حال النقص وحال غير معتبرة شرعاً، كان وجوده وعدمه على حد سواء.

    قال رحمه الله: [ ونفاس ]

    أي: سواء كانت في حيض أو في نفاس، وقد تقدم أن الوطء لا يحل فيهما حتى تطهر وتغتسل.

    قال رحمه الله: [ وإحرام وصيام فرض ]

    أي: وهكذا لو كانت محرمة فقال بعض العلماء: إن الوطء في الإحرام محرم شرعاً، وكل وطء محرم شرعاً لا يوجب التحليل.

    لأن المراد بالوطء المشترط الوطء الذي أذن به الشرع، ووطء المحرمة لا يحل، فلو أنه عقد عليها قبل الإحرام، ثم أحرمت، ثم وطئها وهي محرمة، ثم مات عنها أو طلقها، فإنها لا تحل لزوجها الأول في قول طائفة من العلماء بهذا النوع من الوطء؛ لأنه محرم شرعاً، فوجوده وعدمه على حد سواء لا يوجب الحكم بتحقق الشرط المعتبر شرعاً.

    ادعاء المرأة أنها قد حلت لزوجها الأول بنكاح حال غيابها

    [ ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها، وانقضاء عدتها منه، فله نكاحها إن صدقها وأمكن ].

    امرأة طلقها زوجها ثلاثاً وغابت عنه، وقوله: [ غابت ] يقتضي أنها لو كانت حاضرة عنده في المدينة ويعرف أحوالها وأخبارها فلا إشكال.

    من المعلوم أن النكاح يشهر ولا يستر، ويعرف ولا يخبأ عادة؛ فإذا كانت موجودة ويطلع على أحوالها، ثم ادعت يوماً من الأيام بعد مرور أشهر قالت: أنا تزوجت ثم طلقني، فحينئذٍ يعرف أنها لم تتزوج ولم تطلق، ولم يحصل الأمر المعتبر شرعاً، وأنها تريد أن تحتال لرجوعها إليه، فحينئذٍ لا يجوز له أن يعمل بهذا لأنها تدعي شيئاً لمصلحتها.

    لأنه من مصلحتها أن تعود لزوجها الأول، ولربما طلقت المرأة فلم ينكحها أحد؛ لأن الغالب أن النساء المطلقات يحصل شيء من امتناع الأزواج منهن فتدعي شيئاً لمصلحتها.

    فإذا قالت: تزوجت ووطئت بالزواج، وحصل تحليل، وخرجت من عدتي، وكانت حاضرة ويعلم أخبارها فالظاهر أنها غير صادقة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، أنها امرأة محرمة عليه، فلا ينبني على مثل هذا القول حكم ولا يعول عليه.

    لكن لو أنه طلقها ثلاثاً، ثم سافرت إلى بلدها وغابت عنه، أو سافر هو وانقطعت أخبارها وغابت عنه، أو كانت في موضع لا يتيسر له العلم بحالها أو معرفة صدقها من كذبها.

    فإنه في هذه الحالة إذا جاءت وادعت أنها نكحت، وأنه دخل بها الناكح ثم طلقها، فإن كان الزمان الذي ادعت ممكناً في مثله حصول النكاح وحصول الطلاق مع العدة، فإن له أن يعمل بقولها، ولا حرج عليه في ذلك.

    إذاً: يشترط أن يكون ذلك ممكناً.

    لكن لو أنه طلقها وخرجت من عدتها، وبعد أسبوع جاءت وقالت: والله تزوجت! فلا، لأنها لم تخرج من عدتها فلا يمكن؛ لأنها مازالت تابعة لزوجها الأول، لكن لو أنها خرجت من عدتها وادعت الإصابة بعد خروجها من عدتها، وجاءت بعد أسبوع فنقول: لا يمكن؛ لأنه لابد من حصول طلاق حتى تحل للزوج الأول وحصول العدة من الطلاق الصادر من الزوج الثاني.

    ففي هذه الحالة لا يصح دعواها لأنه غير ممكن، لأنه لابد من وجود العدة والاستبراء، وهذا لا يتحقق في هذه المدة الوجيزة، فحينئذٍ لا يقبل قولها ولا يعول عليه.

    فاشترط رحمه الله غيابها، بأن لا تكون شاهدة يمكنه أن يعرف حالها وأن يطلع على صدقها من كذبها.

    ثانياً: أن يكون ما ادعته ممكناً، أما إذا كان غير ممكن فإنها لا تعطى بدعواها ما ادعت، وعليه أن يبقى على الأصل من كونها محرمة عليه.

    والله تعالى أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين الطلاق والوطء حال الحيض

    السؤال: أشكل عليّ أن الطلاق في الحيض يقع، وهنا لم يعتبر الوطء في الحيض، وذلك بالنسبة للتحليل؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    مسألة الطلاق في الحيض قدرنا أن هناك ما يقرب من اثنتي عشرة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عمر وعن بعض أصحاب ابن عمر رضي الله عنهم الثقات، مثل سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولاه، ومحمد بن سيرين وأنس بن سيرين ومن طريق خالد الحذاء .

    وهي روايات صحيحة ليس فيها إشكال، وأن ابن عمر نفسه كان يفتي أنها مطلقة وأن الطلاق قد وقع.

    وبينا أن هذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة، فإنهم يقولون بوقوع الطلاق والاعتداد به، فأوقعوا الطلاق بنص كتاب الله، فإن الله عز وجل نص على أن من طلق مضي عليه طلاقه، وهذا هو الأصل، فمن طلق في الحيض فقد طلق بكتاب الله عز وجل.

    فإن قال قائل: إن المرأة أثناء الحيض محرم عليه أن يطلقها، نقول: هذا مبتدع، والمبتدع يزجر بالعقوبة؛ لأنه حتى من جهة المعنى متفق على أنه يقع طلاقه، ومن جهة الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يفتون بوقوع الطلاق.

    والحقيقة للمحدث العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة بحث من أنفس البحوث في هذه المسألة، في الجزء السابع من إرواء الغليل، تكلم كلاماً نفيساً جمع فيه الروايات، وهناك رواية عن حنظل بن أبي سفيان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها احتسبت طلقة.

    فنحن نطلق بالكتاب والسنة، فالطلاق في الحيض يقع بالكتاب والسنة.

    أما مسألة الجماع في الحيض، فالجماع في الحيض جماع ناقص، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222].

    فاشترط الشرع أن يوجد ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يكون على وجه فيه ضرر: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222].

    ومن إعجاز القرآن أنهم وجدوا أن الجماع في الحيض يورث التهاباً وأمراضاً في غدد البروستات وغيرها، وهذا من إعجاز القرآن ومن الحكم العظيمة، والأسرار التي أطلع الله عز وجل عليها العباد، ولم يعرفوها إلا الآن، وقد عرفها أئمة السلف من قرون عديدة.

    حتى إن بعض الباحثين من الكفار لما تبجح أنهم اكتشفوا ذلك قال له بعض الموفقين: هذا الذي عرفتموه اليوم كان يعرفه المسلمون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً.

    كل هذا بفضل الله ثم بفضل هذا القرآن الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].

    فالوطء أثناء الحيض أذىً، حتى إن الأطباء يثبتون أنه ضرر، فكيف تثبت الوصف الشرعي (حتى تذوقي عسيلته)؟ فالوطء في الحيض لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر، لأن المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء وأصابها فإنه يؤذيها.

    حتى إن بعض الأطباء يستغرب من اشتراط كون المرأة لا تجامع في النفاس إلى الأربعين، وجدوا من ناحية طبية أنه يضر بالمرأة، ويؤذي جماعها، فكل هذه الأمور فيها أضرار.

    والوصف الذي اشترطه الشرع من كونه يذوق العسيلة وتذوق هي عسيلته غير موجود في حال الحيض وفي حال النفاس، حتى المرأة نفسها لا تذوق العسيلة على الوجه المعتبر، ومن هنا اختلف القياس.

    هذا الجواب الأول، فنقول: لا اعتراض؛ لأن تلك الصورتين كل صورة تخالف الصورة الثانية، فهنا يتحقق وصف الشرع بأنه مبتدع ووصف الشرع أنه يزجر، مع نص القرآن على أن طلاقه نافذ.

    أما رواية أبي الزبير (ولم يرها شيئاً) فهذه رواية محتملة؛ لأن رواية أبي الزبير ليست كالروايات الصريحة عن ابن عمر نفسه رضي الله عنه صاحب القصة، والذي هو أدرى بما رواه، وليس أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي رحمه الله بمنـزلة نافع مولى ابن عمر ولا بمنـزلة سالم بن عبد الله بن عمر في الضبط عن ابن عمر وهؤلاء الأئمة الأثبات في الرواية والضبط أدرى بروايتهم عن ابن عمر .

    ولو سلم أن أبا الزبير له مكانته في الحفظ والرواية، لكنه خالف من هو أوثق منه وأقوى منه رواية، ثم إن اللفظ الذي قاله: ( ولم يرها شيئاً ) معناه: لم يرها على السنة ولم يرها موافقة على السنة.

    فحينئذٍ يكون لفظه: (لم يرها شيئاً) محتملاً لأمرين: لم يرها طلاقاً، ولم يرها على السنة، والقاعدة أنه إذا روى الراوي وجاءت روايته معارضة لرواية الأكثر والأشهر، وعارضت الأصل، ولها معنىً يوافق الأشهر ويوافق الأصل، وجب صرفها لما هو موافق للأشهر والأصل.

    فنقول: (لم يرها شيئاً) أي: لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، وهذا جواب الإمام الشافعي رحمه الله برحمته الواسعة، فإنه أجاب على رواية أبي الزبير من أنها ليست صريحة، إنما تكون صريحة ومعارضة حينما يقول ابن عمر : (احتسبت) ويفتي ابن عمر بالطلاق المحتسب فتأتي رواية: ولم يحتسبها طلاقاً.

    إذا قال: (لم يحتسبها طلاقاً) تعارض صريح مع صريح كما هو معروف في الأصول، لكن (لم يرها شيئاً) يحتمل أنه لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، ويحتمل أنه لم يرها طلاقاً، هذا كله محتمل.

    فاللفظ ليس بصريح، والقاعدة (أنك لا تحكم بالتعارض في الروايات إلا بشيء صريح) حتى لا تضرب بعض النصوص ببعض، إذ الكل خارج من مشكاة واحدة، وشرع الله عز وجل إذا جاءنا بنقل الثقات لا شك أنه في الأصل مقبول غير مردود، وينبغي التسليم له والعمل به.

    ولذلك نقول: إن الحيض ألزمنا الطلاق به إعمالاً للأصل من أن المطلق ينفذ عليه طلاقه، وعملاً بالروايات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعة كما في مسند عبد الله بن وهب رحمه الله وهي رواية صحيحة، واحتسبت الطلقة.

    وكذلك الروايات الموقوفة عن ابن عمر أفتى فيها بالطلاق، وإعمالاً لأصل الشرع، فإن المبتدع الأصل فيه أنه يزجر ويعاقب لا أنه يخفف عليه بأنها لا تقع طلقة.

    هذا ليس مقام عبادات يثاب عليه، الفقه أن تنظر إليه من أنه إنسان متعد لحدود الله؛ لأن الله لما ذكر الطلاق الشرعي في الطهر قال: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:230].

    فبيّن أن الطلاق في الحيض اعتداء على حدود الله عز وجل، والمعتدي على حدود الله نعرف من أصول الشريعة أنه يزجر ويعاقب، هذا مبتدع الأشبه به أنه يزجر.

    ولذلك تجد من يطلق في الحيض ويجد من يخفف عنه ويقول له: لا ليس عليك شيء؛ يستخف بهذا الأمر، ولا يراه شيئاً.

    لكن لو قيل له: إن الطلاق ماضٍ عليك وإنك ابتدعت واعتديت على حدود الله عز وجل؛ فإنه يكون أبلغ في تحقيق مقصود الشرع.

    وأما بالنسبة لجماع المطلقة ثلاثاً في الحيض فإنه ليس بالجماع المأذون به شرعاً حتى نرتب عليه الأحكام الشرعية.

    وقد اشترط الله عز وجل جماعاً مأذوناً على السنن الشرعي، فنقول: لا يتحقق به الحل على القول الذي اختاره المنصف رحمه الله.

    والله تعالى أعلم.

    حرمة نكاح الرجل المرأة لقصد التحليل تصريحاً أو ضمناً

    السؤال: لو طرأت نية الطلاق بالتحليل للزوج الأول بعد أن كان الزوج الثاني على غير علم بأن الزوجة تريد زوجها الأول أو هو يريدها، فهل لو طرأت عليه هذه النية يجوز أن يطلقها؟

    الجواب: الزوجة إذا أرادت أن ترجع أو تزوجت ووطئها الثاني، أو عقد عليها وأحبت الرجوع إلى الأول، هذا لا حرج عليها فيه، يعني: من حيث الأصل لا تلام.

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على امرأة رفاعة لما جاءت تشتكي عبد الرحمن وقالت: يا رسول الله! إن معه كهدبة الثوب، وكان معه طفل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قال: ابني.

    فعلم أنها تدعي شيئاً ليس بالصحيح؛ لأنه لو كان الأمر مثلما ذكرت ما حصل له ولد من الزوجة الأولى التي قبل هذه الزوجة المطلقة ثلاثاً.

    ففطن عليه الصلاة والسلام إلى أنها اختارت زوجها الأول إما لعشرة وإما لأمور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتى تذوقي عسيلته) فهذا حكم بيّن أنها فعلاً تريد الرجوع إلى رفاعة ، ثم هي أقرت وسكتت.

    والنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أورع الخلق وأكملهم أدباً وأبعدهم عن اتهام الناس ليس بمعقول أن يقول لها: (تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟) بالباطل والزور، حاشاه!

    بل ذكر لها أنها تريد أن ترجع إلى رفاعة بدليل وحجة، وهي سكتت وأقرت، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن من طلقها ثلاثاً حتى لو طلقها زوجها اليوم، وحنت إليه ورغبت أن تعود إليه فلا بأس، هذا مقصود الشرع؛ لكن الذي يحلل وينكح لا يجوز له أن ينكح بقصد أن يحللها للأول.

    هناك فرق بين الاثنين، وهي بالعكس فحينما تحن لزوجها الأول فمن المصلحة أن تعود إليه، ولربما كان الزوج الثاني أسوأ، ولربما كان ظالماً مؤذياً، ومقصود الشرع أن تعرف النعمة التي كانت فيها، ولذلك كان الحكماء يحدثون عن الرجل العاقل الذي يريد زوجة أنه يقول: اطلبوا لي امرأة أدبها الدهر.

    اطلبوا لي امرأة أصابت النعمة ثم أدبها الدهر، فعندما تكون في نعمة وتزول عنها، وتعظها الأيام والسنون، وتجد الشدة والحاجة، تعرف قيمة النعمة.

    فإذا تزوجها أحد بعد ذلك عادت من أعقل النساء، وأعرفهن بالأمور، ومن هنا عندما تطلق ثلاثاً وتحن إلى زوجها الأول، فإنه قد عضها وآلمها ما وجدت من فراق النعمة، فهذا لا تلام عليه، فانظر حكمة الشريعة التي لم تلم المرأة ولكن لامت الرجل.

    فهناك فرق بين الرجل وبين المرأة، فالرجل لا ينكح بقصد التحليل لا صراحة ولا ضمناً على التفصيل الذي ذكرناه.

    والله تعالى أعلم.

    حكم وطء العنين في تحليل المرأة للزوج الأول

    السؤال: إذا كان الزوج الثاني عنيناً فكيف تذوق المرأة عسيلته ويذوق عسيلتها؟

    الجواب: العنين له حكم، وتقدم معنا قضاء الصحابة رضوان الله عليهم فيه، وقضاء الفاروق رضي الله عنه أنه يمهل سنة حتى يطأ، فإذا حصل الوطء خلال السنة ولو مرة واحدة فإنه يحصل به التحليل للأول.

    وأما قبل الوطء فإنها لا تحل لزوجها الأول بهذا النكاح، فإن شاءت صبرت معه، وإن شاءت عوضها الله غيره.

    والله تعالى أعلم.

    حكم من أوتر بركعة ثم سها فقام للثانية

    السؤال: إذا أوتر شخص بواحدة فسها وقام إلى الثانية، فهل يسجد للسهو أم يجعلها شفعاً ويوتر بواحدة، لأن الوتر مرتبط بعدد الفرد؟

    الجواب: هذه المسألة للعلماء فيها تفصيل، ولها نظائر، فمن أمثلتها أيضاً أن تصلي بالليل ركعتين ركعتين وفجأة قمت إلى الثالثة فهل ترجع وتجلس وتسجد للسهو وتلغي الزيادة، أو تستمر فيها وتضيف ركعة فتشفعها؟

    هذه فيها وجهان للعلماء:

    بعض العلماء يقولون: الإعمال أولى من الإهمال، فما دام أنك تكسب الأجر والخير أكثر فتضيف هذه الركعة وتزيدها وتصبح الثنائية رباعية.

    وهكذا لو صليت أربعاً ثم قمت إلى الخامسة قالوا: تضيف سادسة، وإذا صليت سبعاً تضيف ثامنة، فهذا بعض العلماء يستحبه.

    لكن في مسألة الوتر كان بعض مشايخنا رحمه الله يقول: إنه إذا قام إلى الوتر وأوتر فإنه لا يعرف في الشرع ركعتان يدعى بعد الأولى منهما، فإذا كان قد قنت ودعا بعد الركعة الأولى في وتره، فإنه الأشبه به أن يجلس مباشرة وأن يسجد سجود السهو؛ لأن الشريعة لم تجعل صلاة ركعتين يكون الدعاء في الأولى منهما، وإنما الدعاء في الشفعية بعد الركوع الثاني كما في قنوت الفجر ونحو ذلك مما ورد به الشرع.

    إلا أن الأولين ردوا وقالوا: إن هذا الدعاء فعله لإذن شرعي، كما لو أنه جلس للتشهد الأول ثم قام وتذكر أنه يصلي شفعاً فإنه يكون معذوراً بجلوسه، وهنا كان معذوراً لنيته الوتر.

    لكن الأشبه والأولى أنه يصليها وتراً وينقض هذه الزيادة، وإن أتمها ركعتين فلا حرج على ما ذكرناه في اختيار بعض العلماء رحمهم الله؛ لأن الأجر أكمل له وأعظم، ولذلك يقولون: إن الثانية تنقض وتره الأول.

    والله تعالى أعلم.

    حكم دخول المأموم مع إمام يصلي العشاء بنية المغرب والعكس

    السؤال: دخلت المسجد ولم أصل المغرب فانتظرت الإمام حتى قام للثانية من صلاة العشاء، ثم دخلت معه، وذلك من أجل عدم الاختلاف عليه، فما الحكم؟

    الجواب: فعلت هذا من أجل أن تجتنب المخالفة ووقعت في مخالفة ثانية، فأنت إذا دخلت المسجد فأنت مأمور بأن تدخل مع الإمام (إنما جعل الإمام ليؤتم به).

    فلا يجوز للمسلم إذا دخل المسجد أن ينفرد عن الجماعة، ولو أدركت الإمام قبل السلام بلحظة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فما أدركتم فصلوا) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن كل من أدرك جماعة تصلي في المسجد أنه لا يجوز له أن يشذ عنها وينتظر.

    وأما مذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وبعض أهل الرأي فإنهم يقولون: إنه ينتظر إذا كان قبل السلام بلحظة حتى يحدث جماعة ثانية، وهذا اجتهاد مع النص.

    النص يقول: (فما أدركتم فصلوا) ومعروف أن (أدركتم) لم يفرق فيه بين إدراك قليل أو كثير؛ لأن الإنسان يعتبر مدركاً للجماعة الأولى ولو قبل السلام بلحظة، فما دام أنه كبر قبل تسليم الإمام، فعندنا نص صحيح يدل على أنك إذا دخلت المسجد والإمام في جماعة فواجب عليك أن تتبع جماعة المسلمين.

    والإسلام يحارب الشذوذ خاصة في العبادات، ولذلك شرع الله صلاة الجماعة وأمر بها، ووضع عليها الفضائل والعواقب الحميدة تحقيقاً لجماعة المسلمين، وأمر من حضر هذه الجماعة أن يركع لركوع الإمام، ويسجد لسجوده، وألا يختلف على الإمام.

    فكما أن الاختلاف يكون داخل الصلاة -كما ذكر العلماء- كذلك يكون الاختلاف والشذوذ قبل الصلاة، فتجد الإمام ساجداً وتجده الرجل واقفاً ينتظر أن يرفع الإمام رأسه، وهذا خلاف السنة وشذوذ عن الجماعة؛ لأنه لو سجد لرفع الله درجته، وكفر خطيئته وأعظم أجره، وأجزل مثوبته.

    ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأي حالة أدركتمونا عليها فصلوا) أي: على أي حال وجدتمونا فصلوا معنا.

    فلا يجوز الشذوذ عن الجماعة والخروج عنها، هذا مبدأ إسلامي، ولذلك لما صلى عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين ورأى رجلاً لم يصل قال: (ما منعك أن تصلي في القوم؟) وفي حديث أنه قال: (ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟).

    فدل على تشديد الشرع في متابعة الجماعة، فكما أن المتابعة تكون أثناء الصلاة تكون كذلك قبل الصلاة، فإذا كنت في داخل المسجد وجب عليك أن تتبع الإمام وأن تدخل معه، حتى ولو أنك صليت في مسجدك وفي حيك وفي بيتك لزمك أن تدخل مع الجماعة (فإذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا).

    فنهى الشذوذ عن الجماعة وأمر بإعادة الصلاة مرة ثانية، تحقيقاً للأصل الذي ذكرناه.

    وإذا ثبت هذا فإذا دخلت والإمام في صلاة العشاء فعليك تدخل وراءه، وإن كنت لم تصل المغرب، فإن جمهور العلماء رحمهم الله على أنك تصلي وراءه نافلة، ولا يجوز إيقاع صلاة المغرب وراء العشاء؛ لأنها مخالفة لشرع الله عز وجل، فالرباعية لا تؤدى وراء الثلاثية والثلاثية لا تؤدى وراء الرباعية.

    والاختلاف واضح، ولو أنك أدركت الركعتين الأخريين فإن الأصل في صلاة المغرب أن تدرك إماماً في ركعتين أوليين أن يجهر لك بقراءتهما.

    ولذلك تدخل وراءه بنية النافلة؛ لأنه لا يصح أن تصليها عشاءً لأنك لم تبرئ ذمتك من المغرب، ولا يصح أن تصليها مغرباً؛ لأنك لا تصليها على الصورة المعتبرة شرعاً، ولا تؤديها على السنة.

    وأما اجتهاد بعض العلماء في هذه المسألة ونظائرها قالوا: إذا صلى المغرب وراء العشاء يجلس بعد الركعة الثالثة، وهذا قول شاذ لأنهم قاسوه على صلاة الخوف، وهذا قياس ضعيف؛ لأن القاعدة في الأصول (أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس).

    وصلاة الخوف صلاة ضرورة جاءت بصورة خاصة، والقياس في التعبديات ضعيف، فجاءت على هذه السنن وهذه الصورة، فلا ينقاس غيرها عليها، وقد نبه الأئمة على ضعف هذا، حتى إن الشافعية عندهم هذا الوجه، نبه الإمام النووي في روضة الطالبين وغيره على ضعفه، وعدم الاعتداد به.

    ومن هنا نقول: إن من أدرك الإمام يصلي العشاء ولم يكن صلى المغرب فإنه يدخل وراءه بنية النافلة، ودخوله وراءه بنية النافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول مع الجماعة.

    فلا يصح أن نصليها مغرباً لاختلاف صورة الصلاة، ولا يصح أن نصليها عشاءً لأن الذمة لم تبرأ من المغرب، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] فلا يصح أن يصلي العشاء قبل أن تبرأ ذمته من المغرب.

    وإذا ثبت هذا فإنه يصح ما ذكرناه من مذهب جمهور العلماء أنك تصلي نافلة، ثم تقيم وتصلي المغرب، ثم تصلي العشاء، وفائدة هذا أن الله يأجرك عن الثلاث الصلوات اتباعاً للسنة، واتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة مع الجماعة، وتؤجر عن صلاة فرضك في المغرب والعشاء.

    أما لو كانت صورة الصلاتين متحدة كأن تدخل والإمام يصلي العصر وأنت لم تصل الظهر، فيجوز أن تصلي الظهر وراء العصر، فحينئذٍ تكبر وتنوي وراء الإمام الظهر، فإذا سلم الإمام أقمت وصليت العصر أو تدخل مع جماعة ثانية تصلي العصر، ولا بأس؛ لأن صورة الصلاتين متحدة على أصح قولي العلماء.

    والله تعالى أعلم.

    التورك يكون في التشهد الثاني من كل صلاة فيها تشهدان

    السؤال: إذا قصر المسافر الصلاة فهل يشرع له التورك، أم أن التورك خاص بالصلاة الرباعية؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: يشرع التورك في جميع الركعات، ومنهم من قال: يشرع التورك في كل تشهد بعده سلام، ومنهم من قال: لا يشرع التورك في الثنائية، وإنما يتورك في الرباعية والثلاثية.

    ومن هنا يقولون: لا يتورك إلا في التشهد الثاني والأخير، لحديث أبي حُميد وأظن هذا هو أقوى الأقوال وأقربها إن شاء الله للسنة.

    ولكن لو تورك أحد فله وجه من السنة ولا ينكر عليه، وهو قول طائفة من العلماء وبعض أئمة السلف رحمهم الله أن التورك مشروع في الثنائية، ومنهم من يقول: يسن التورك مطلقاً كما هو مذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين.

    فهذه مسائل لا ينكر على أحد فيها، وأنبه على أن المسائل الخلافية كالصلوات ونحوها إذا كان هناك نصوص محتملة وترجح عند إنسان أو عند شيخه الذي يعمل بقوله قولاً، فلا ينبغي له أن ينكر على غيره.

    إنما يقول: هذا الأقوى وهذا الأقرب إلى السنة، فإذا عمل بالقول الآخر الذي قال به أئمة السلف ودواوين العلم؛ فإنه لا ينكر عليه، ولا يثرب عليه؛ تأسياً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح كما ذكر العلماء والأئمة، أنه لا إنكار في الفروع المختلف فيها ما دام أن الأدلة تحتملها، وهذا من شرع الله عز وجل؛ لأنه يحتمل أن يكون الصواب والحق معه.

    وذلك لأن النصوص إذا وردت محتملة فإنه إذن من الله عز وجل بالخلاف؛ فإن أصاب المصيب كتب الله له أجران وهو صاحب السنة والحق، وإن أخطأ من أخطأ بعد اجتهاد وتعاطٍ للسبب كتب الله له الأجر الواحد.

    والله تعالى أعلم.

    نصيحة لطلاب العلم في استغلال أوقاتهم وجدولتها

    السؤال: كيف يجدول طالب العلم وقته، وذلك بالنسبة للمراجعة والضبط والتحضير للدرس، والاستفادة من أهل العلم خصوصاً إذا أراد أن يجمع إلى ذلك تلاوة للقرآن وقياماً لليل؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فلا شك أن من أعظم نعم الله عز وجل على العبد بعد الهداية نعمة العلم إذا صحب بالعمل والدعوة إلى الله عز وجل، وكمل الله نعمته على العبد بالقبول.

    فمن جمع الله له بين الهداية والعلم النافع والعمل والتطبيق والدلالة على الخير، والحرص على نفع الأمة وتعليم المسلمين وإرشادهم، حتى يجعله الله إماماً من أئمة الدين، ثم يكمل الله له بالقبول ويزيده فضلاً بالثبات حتى يختم له بخاتمة السعداء فليس هناك عبد بعد الأنبياء أسعد من هذا العبد.

    هذه هي النعمة العظيمة، والمنة الجليلة الكريمة، نعمة العلم والعمل مع القبول والإخلاص والثبات وحسن الخاتمة، نسأل الله بعزته وجلاله وكماله أن يرزقنا ذلك، وأن يبارك لنا في علمنا وعملنا.

    ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد صلاة الفجر كما صح عنه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً) .

    فكان يستفتح يومه بسؤال الله عز وجل أن يجعله من أهل العلم، وأن يزيده علماً، فإذا كان الإنسان في إجازة أو فراغ، فنسأل الله عز وجل أن يبارك له في هذا الفراغ.

    والعاقل الحكيم يعلم أن أعظم ما تنفق فيه الأعمار، ويمضى فيه الليل والنهار، الاشتغال بكتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما بني عليهما من الأحكام الشرعية المتعلقة بأصول الدين من العقيدة، أو متعلقة بفروع الدين من أحكام العبادات والمعاملات التي تحتاجها الأمة، فسد ثغور الإسلام في هذا لاشك أنه من أعظم النعم التي يوفق الله لها وليه الصالح.

    والعبد لا يكون صالحاً إلا إذا أصلح الله له قوله وعمله، ولا يصلح القول والعمل إلا بعلم وبصيرة، على كل حال طالب العلم لا يمكن أن يبارك له في طلبه للعلم إلا إذا عرف قيمة العلم الذي يطلبه، وقيمة العلم الذي يريده، وأنت طالب علم كلما سمعت كلمة أو حرفاً من العلم فأنت طالب علم.

    فإن شئت فاستزد، وإن شئت فاستقل، والسعيد من استزاد من رحمة الله عز وجل، فأنت طالب علم ما طلبت كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما بني عليهما، فتحرص كل الحرص على معرفة قيمة هذا العلم، ومن عرف قيمة العلم عظّمه، وأحبه وأحب أهله، ووقرهم وأجلهم وعرف قيمة كل كلمة وكل حرف.

    ولذلك تجد طلاب العلم على مراتب، منهم من يطلب العلم وهو يعرف قيمة العلماء ولكن على نقص، فلا يعرف قيمة العلماء من السلف الصالح والأئمة المتقدمين ولا المتأخرين.

    وتجده يأخذ العلم بعضاً، وهم أنصاف طلاب العلم الذين يأخذون بعض العلم، فإذا تعلم الكلمة والكلمتين تطاول بها على الناس، ولربما خطأ ولربما.. فاجترأ على العلم قبل أن يتمكن وقبل أن يحصل، فهذا تجده يعظم العلم بقدر ما أخذ من العلم فتجد تعظيمه ناقصاً، حتى إنه لربما يجلس المجلس يتتبع الزلة والخطأ، فتجده يبحث عن الخطأ أكثر من بحثه عن النفع، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا ولو كان فيه نوع من الخير لكنه لا يأمن من مكر الله عز وجل به، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجربه.

    فسنن الله لا تتبدل ولا تتحول، فإن الله عليم حكيم، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته في الأنبياء والرسل، فهو أعلم كيف يجعل العلم ونوره آيات بينات : بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلم [العنكبوت:49].

    من الذي آتى أهل العلم العلم؟ الله عز وجل، لا يستطيع أحد أن يطلب العلم إلا إذا عرف قدر العلماء خاصة من أئمة السلف ودواوين العلم، وتأدب الأدب الكامل معهم.

    سواء كانوا علماء في التفسير أو الحديث أو الفقه، نتأدب معهم ونعرف قدرهم، ومن عرف قدرهم ومكانتهم أحب العلم منهم، ولذلك كان علماء الأئمة والسلف يتأدبون مع مشايخهم، حتى قال بعض المحدثين رحمهم الله لشيخ: أعطني لسانك الذي رويت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله.

    لما عرف قيمة السنة أجل كل شيء، حتى إنه يريد أن يقبل لسانه إكراماً لهذا العلم وإجلالاً له، فالمقصود أن الإنسان الذي يعرف قيمة العلم، ويعرف قيمة من يأخذ عنه العلم، وعرف ما وضع الله عز وجل في صدور أهل العلم من أئمة السلف، ودواوين العلم الذين زكاهم الله لهذه الأمة، وجعلهم أئمة صالحين هداة مهتدين، يقولون بالحق وبه يعدلون، ووضع لهم القبول بين الناس يحبونهم كمال المحبة لله وفي الله، وتعظيماً لشعائر الله.

    فإذا أحب السنة انحرف على كل كلمة ما وافقت شرع الله، فعند معرفته بقيمة السنة والعلم بها، يعطيه الله عز وجل النور الذي يهتدي به بهدي الكتاب والسنة؛ لأن هؤلاء العلماء ما وضعتهم الأمة في هذه المكانة وهذه المنـزلة إلا بعد أن عرفت منهم العلم والعمل.

    إذا عرف قيمة العلماء حرص على أخذ هذا العلم عن أهله، وعرف قيمة كل كلمة في العلم؛ فسهر ليله، وأضنى جسده، وتلذذ بهذا السهر، وتلذذ بهذا التعب، فيا لله من طالب علم يحس أن ذلة العلم عزة، وأن مهانته كرامة، وأن تعبه راحة.

    ولذلك تجد أئمة السلف رحمهم الله كانوا يسافرون ويتغربون، ويجتهدون ويتعبون، فانظر إلى آثار رحمة الله عز وجل عليهم حينما وضع الله لهم الدعوات الصالحة لمن جاء بعدهم من الذكر الحسن، وأحسن لهم المآل، الله أعلم كيف ختم لهم بخاتمة السعداء؟

    وكيف يتقلبون الآن في منازل العلى من جنات عدن؟! وهذا من رحمة الله عز وجل وبركته سبحانه عليهم بفضله أولاً وآخراً، ثم بما وضع لهم من هذا العلم الذي هو سبب كل رحمة وكل خير وبركة.

    فطالب العلم الذي يعرف قيمة العلم يحرص عليه، ولذلك إذا كانت عندنا هذه المعرفة، وكان عندنا هذا المبدأ، حرصنا على كل دقيقة من العطلة وكل ثانية قد تستنفذ في هذا العلم، ولكن يعلم كل طالب علم أنه يعتري كل ذلك عقبات ومخذلات ومنغصات ومكدرات وهجنة ونكد، ولكن إن صبر رفع الله منـزلته، وأعظم أجره، وأجزل مثوبته، فيصبر ويصابر.

    فإذا جئت تطلب العلم تجد عقبات بينك وبين السلف وبين العلماء وبين الأئمة، حتى لربما وجدت أشياء يصعب عليك فهمها من كلامهم، فتصبر وتصابر، وترابط حتى يفتح الله عليك.

    مما وجدنا من سنن الله عز وجل ورحمته وعظيم فضله أننا كنا نقرأ بعض الكتب ونجلس عند بعض العلماء ما نفقه منه إلا القليل، وبفضل الله أولاً وآخراً -لا بحولنا ولا بذكائنا ولا بقوتنا ونبرأ إلى الله من الحول والقوة- ما مضت إلا أسابيع، بل بعض الأحيان أيام وإذا بذلك الأمر المعقد الصعب أصبح ألذ في قلوبنا وفي نفوسنا وفي أرواحنا من الطعام والشراب.

    وأقسم بالله أن بعض طلبة العلم ما كان يجلس على طعامه لغداء وعشاء إلا وكتابه مفتوح، ومنهم من كان لا يدخل حتى دورة المياه إلا ويفتح مسجلاً يذكره بالعلم من حرصه.

    حتى كان بعض أئمة السلف كما جاء عن أبي حاتم البستي كان إذا دخل الخلاء أمر ابنه يقرأ الروايات كلها حتى لا تذهب عليه ساعة أو لحظة أو دقيقة دون أن يكون هناك اتصال بهذا العلم.

    فالذي يريد أن يبارك في وقته وجده وتحصيله فليعرف قيمة هذا العلم، فإذا عرفت قيمة هذا العلم فتح الله لك أبواب الرحمة؛ لأن تعظيم شعائر الله مظنة التوفيق والبركة، ولذلك لما ذهبت كرامة العلماء ومكانتهم ومنزلتهم، وسب الخلف السلف وانتقصوهم، وأصبحت مكانة العلماء لا شيء؛ حتى إنك لتسمع الآن العالم يريد أن يفتي في مسألة فمن معقب وناقد ومن مداخلة!

    متى كنا نسمع أن العالم عنده مداخلة أو إضافة أو زيادة؟ ما تربت الأمة على هذا، ولا عرفت الأمة هذه الأساليب التي تنقص من مكانة العلماء، حتى أصبح يتكلم في العلم من لا يحصى كثرة ويقول: عندي مشاركة، وكل يشارك وكل يتكلم، حتى ذهبت كرامة العلماء، وأصبح العالم كغيره، حتى إنك تسمع الكلام المعسول من الرجل اللبق البليغ ولكن لا تجد نور العلم، ولا بهاءه عليه، ولن تجده حتى تطلبه من أهله، وتأخذه من مكانه، ممن ورث العلم وأخذه بحقه، فهذا هو الذي بورك له في علمه، المقصود أن طالب العلم إذا عرف قدر العلم فتح الله عليه وبارك له في وقته وعمره، وكل ما يعانيه، وأكثر ما يعاني طلاب العلم اليوم بل الناس جميعاً، من الجهل بقدر العلم والعلماء.

    ومما يدلك على جهل كثير من الناس بقدر العلم والعلماء أن العلماء في انتقاص والجهال في ازدياد، وكل زمان يذهب من الأمة عالم لن تجد من يسد ثغرته إلا من رحم الله؛ لأنه لو كانت الأمة تعرف قيمة هذا العلم ما مات عالم إلا وخلف وراءه أمة ممن هم مثله ممن يأخذ عنهم العلم.

    والسبب في هذا أن الكثير ممن يجلس مع العلماء لا يلبث أن يتعلم بعض العلم حتى يخرج، ويذهب لكي يدعو ويعلم وينسى ضبط العلم كاملاً، فيموت العالم وقلَّ أن تجد من ضبط العلم ضبطاً كاملاً، لأننا ما عرفنا قدر العلم على التمام والكمال، ولو عرفنا قدر العلم على التمام والكمال للزمنا حلق العلماء والعلماء حتى تشيب رءوسنا، ونعلم بقدر ما عندنا، حتى إذا توفاهم الله عز وجل وجدت أمثالهم ممن سار على نهجهم وتأدب بآدابهم.

    فالحث على طلب العلم، وعلى معرفة قدر العلم، وطول الزمان في هذا العلم، وعدم التصدر للناس في الفتوى، وعدم أخذ العلم ممن ليس بأهله؛ هذا كله مما يعين على ضبط العلم وإتقانه وأخذه من أهله.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجبر كسر هذه الأمة في ذهاب علمائها، ونسأله بعزته وجلاله أن يبارك في العلماء الباقين، وأن يبارك في أعمارهم وأوقاتهم، وأن يفتح على طلاب العلم لمحبتهم ومعونتهم على طاعة الله عز وجل ومحبته ومرضاته، وأن يجمعنا بهم في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756001666