إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب تعليق الطلاق بالشروط [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تعليق الطلاق على ولادة الذكر أو الأنثى، وتعليق عدد الطلاق بولادة أحدهما؛ كل ذلك بين أحكامه العلماء، ويختلف الحكم بولادة التوأم في هذه المسائل سواء كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكراً وأنثى. وكذلك تعليق الطلاق على الطلاق فيه مسائل كثيرة؛ بين العلماء رحمهم الله أحكامها بالتفصيل.

    1.   

    تعليق الطلاق على الولادة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به ]

    هذا الفصل وصفه بعض العلماء بتعليق الطلاق بالولادة، والناس تختلف عباراتهم والجمل التي يستخدمونها في تعليق الطلاق، ولما كانت الجمل تشتمل على بعض الأمور المهمة التي يختلف فيها الحكم مع اختلاف الأحوال فإن العلماء -رحمهم الله- يعتنون بذكر المسائل فيها، لكي يكون في ذلك رياضة للذهن، ومعونة لطالب العلم على استيعاب هذه الصور وأمثالها، وقد بينا ذلك فيما تقدم في مسائل التعليق.

    وتعليق الطلاق بالولادة: أن يرتب الطلاق على وجود الولادة، وقد يكون الطلاق متوقفاً على معرفة نوعية الولد الذي تلده المرأة، فتارة يقول: أنت طالق إذا ولدتِ ذكراً، فيجعل الطلاق مرتباً على كون المولود ذكراً، وتارة يقول: إذا ولدتِ أنثى، فيكون الطلاق مقيداً بولادة الأنثى، وتارة يخالف في عدد الطلاق باختلاف نوعية المولود، فيقول: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإن ولدتِ أنثى فطلقتين، وتارة يقول: إن كان الذي في بطنكِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإن كان الذي في بطنكِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين، وفي القديم يتوقفون في مثل هذه الحالة إلى الولادة، فيتوقف العالم والمفتي عن الفتوى في الطلاق إلى خروج الولد، أو يعطي الحكم مرتباً على حسب نوعية الولد، لاختلاف عدد الطلاق باختلافه.

    والولادة مأخوذة من الولد، والولد في لغة العرب يطلق على الذكر والأنثى، فإذا قيل: ولد، شمل الذكر والأنثى، وإن كان بعض الناس يخصونه بالذكور، ولكن هذا خلاف الأصل اللغوي، وخلاف إطلاق القرآن كما قال سبحانه وتعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] فجعل الولد شاملاً للذكر وللأنثى، وسميت الولادة ولادة؛ لأنها تشتمل على الذكور أو على الإناث وهذا في الغالب، وقد تشتمل على الخنثى الذي لا يعرف أذكر هو أو أنثى؟ لكنه نادر الوقوع، والحكم للغالب، وقولهم: يعلق الطلاق على الولادة أي: على الإنجاب وإخراج الولد، ويختلف الحكم بحسب اختلاف هذا الإخراج وما علق عليه الطلاق من صفات.

    ومناسبة هذا الفصل للذي قبله: أننا كنا نتحدث عن تعليق الطلاق بالحمل، وبينا المسائل المتعلقة بتعليق الطلاق على الحمل، وبعد أن فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل تعليق الطلاق بالحمل شرع في بيان المسائل المتعلقة بالولادة، وهذا من باب الترتيب؛ لأن الولادة تأتي بعد الحمل، والناس يعلقون الطلاق على الحمل، ويعلقون الطلاق على الولادة، وقد تتصل أحكام تعليق الطلاق بالولادة بأحكام تعليق الطلاق بالحمل، كما لو قال لها: إذا كان حملكِ ذكراً فأنتِ طالق، وإذا كان حملكِ أنثى فأنتِ لستِ بطالق، أو قال لها: إن كان الذي في بطنكِ ذكراً فأنتِ طالق. فحينئذٍ ننتظر إلى الولادة، فنحكم بوقوع الطلاق إن كان ذكراً من حين تكلم به، وتكون قد خرجت من عصمته وذلك بانتهاء عدتها بالولادة؛ لأننا نحكم بطلاقها منذ أن تلفظ بقوله: إن كان الذي في بطنكِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة. فحينئذٍ إذا ولدت ذكراً علمنا أن الطلاق قد وقع من قوله: إن كان الذي في بطنكِ ذكراً، وقد كان الذي في بطنها ذكراً، فحينئذٍِ تطلق من حين تلفظه، ثم تبقى في عدتها إلى أن تخرج من العدة بولادة الولد؛ لأن المرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع حملها، فنحكم بخروجها من العدة بمجرد خروج الذكر.

    تعليق عدد الطلقات بنوع المولود

    قوله: (إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى).

    قال: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وأنتِ طالق طلقتين إن ولدتِ أنثى، فحينئذٍ اختلف عدد الطلاق باختلاف نوعية المولود، فالطلقة لازمة له إن كان الذي ولدته ذكراً، والطلقتان لازمة له إن كان الذي ولدته أنثى، وقد يعكس فيجعل الأكثر للذكر والأقل للأنثى، والحكم سواء، لكن من حيث التفصيل في الوقوع يختلف، فهو إذا قال لها: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة، وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين؛ فينبغي أن يعلم أن الطلاق موقوف على الولادة، فلا نطلق حتى تقع الولادة، فإذا حصلت الولادة حكمنا بوقوع الطلاق، إن كان ذكراً حكمنا بطلقة، وإن كان أنثى حكمنا بطلقتين.

    ولا يخلو الذي في بطن المرأة من حالتين:

    إما أن يكون مولوداً واحداً وإما أن يكون أكثر من مولود، فإن كان الذي في بطنها مولوداً واحداً؛ فإن أخرجته ذكراً فلا إشكال؛ وإن أخرجته أنثى فلا إشكال؛ لأنك ستحكم بوقوع الطلاق بمجرد الولادة، ثم تفصل في عدد الطلاق على حسب نوعية المولود، هذا إذا قال لها: إن كان ذكراً، إن كان أنثى، لكن لو قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً وسكت، فنتوقف على شيئين: على الولادة، وأن يكون المولود ذكراً، فإن ولدت أنثى فلا طلاق؛ لأنه قيد الطلاق فيما بينه وبين الله عز وجل بكون المولود ذكراً فلا يقع إلا إذا وقع الذي اشترطه.

    إذاً إذا قال لها: إن ولدتِ ذكراً، إن ولدتِ أنثى. وحدد الذكر أو الأنثى وجعل الطلاق لواحد منهما كأن يقول: إن ولدت ذكراً فأنتِ طالق طلقة، أو قال: إن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقة فلا تطلق عليه إلا بوجود الذكر إن اشترطه أو الأنثى إن اشترطها، لكن إذا جمع بين الذكر والأنثى في وقوع الطلاق فقال: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين حينئذٍ تنظر في ولادتها، وتخالف في حكم الطلاق من حيث العدد بحسب المولود.

    تعليق ذات الطلاق بنوع المولود

    إذاً من حيث الأصل إذا ولدت مولوداً واحداً وعلق الطلاق على ولادتها فله صورتان: إما أن يعلق الطلاق على جنس واحد ذكراً أو أنثى فلا نطلق إلا بوجود الجنس الذي علق الطلاق عليه، مثل أن يقول: إن ولدت ذكراً فأنتِ طالق مفهوم اللفظ: أنكِ إن ولدتِ أنثى فلست بطالق، فننظر إن كان الذي ولدته ذكراً طلقنا، وإن كان الذي ولدته أنثى فلا طلاق، هذا في حال تردد الطلاق بين الوقوع وعدم الوقوع في حال وجود الحمل الواحد، يعني: ذكراً أو أنثى، وأما إذا قال: أنتِ طالق إن ولدتِ ذكراً طلقة وأنتِ طالق طلقتين إن ولدتِ أنثى، فحينئذٍ الطلاق سيقع سيقع لكنه يختلف من حيث العدد.

    فالفرق بين الصورة الأولى والصورة الثانية، أن الصورة الأولى: لا يقع الطلاق إلا إذا تحقق ما ذكره من كونه ذكراً أو كونه أنثى، وفي الصورة الثانية سيقع الطلاق سيقع، إن ولدت ذكراً طلقة، وإن ولدتِ أنثى طلقتين، فحينئذٍ إما أن تلد ذكراً وإما أن تلد أنثى، فإذا ولدت وليس هنا أكثر من واحد، فإن ولدت ذكراً وقع الطلاق، وإن ولدت أنثى وقع الطلاق، لكن يختلف العدد بحسب ما جعل في شرطه للأنثى من عدد وبحسب ما جعل في شرطه للذكر من عدد.

    ففي الصورة الثانية يتنوع الحكم ويختلف بحسب اختلاف نوعية المولود، فإن جعل الأكثر من الطلاق للأنثى حكمنا بالطلقتين إن كان المولود أنثى، وحكمنا بطلقة إن كان المولود ذكراً، والعكس بالعكس، هذا في قوله: إن ولدتِ ذكراً أو أنثى وخالف في العدد، وكان المولود واحداً.

    الحكم إذا علق الطلاق بنوع وولدت توأمين

    لكن لو قال لها: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين وولدت توأمين، ففي الصورة الأولى إذا قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدت ذكراً، ننظر في التوأم، فلا نوقع الطلاق إلا إذا كان ذكراً، فلو كان التوأم صبيتين فلا طلاق؛ لأنه جعل الطلاق مرتباً على الذكر، وبينه وبين الله أن امرأته طالق إن ولدت الذكر ولم تلد ذكراً، وأما إذا علقه على الجنسين فقال: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً وطلقتين إن ولدتِ أنثى فأخرجت توأمين، إما أن تخرجهما ذكوراً أو تخرجهما أناثاً أو تخرجهما ذكراً وأنثى، فإذا كانت أخرجته ذكراً وقال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً وطلقتين إن ولدتِ أنثى نحكم بالطلقة الأولى بخروج الذكر الأول، وبمجرد خروجه يقع الطلاق، فتبقى المرأة معتدة بعد خروجه، فإن خرج المولود الثاني وهو الذكر الثاني أخرجها من عدتها ووقع الطلاق الثاني على امرأة خلو من نكاح؛ لأنها أجنبية عنه، فإنها بمجرد إخراج المولود الثاني أصبحت خارجة من عدتها، والطلاق الثاني لا يقع إلا بعد خروج الذكر الثاني، فخرج الذكر الثاني فأخرجها من عصمته وحينئذٍ جاء طلاقه ولم يصادف محلاً موجباً للوقوع.

    على هذا نقول: إن قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وطلقتين إن ولدتِ أنثى، وحملت بذكرين فولدتهما وكانت الولادة متعاقبة كما هو المعروف حكمنا بالطلقة الأولى بالذكر الأول، وحكمنا بكونها معتدة قبل خروج الذكر الثاني؛ لأن كل طلاق له عدته إلا ما استثناه الشرع، فنحكم بكونها معتدة قبل خروج التوأم الثاني، فلما خرج التوأم الثاني خرجت من عدة طلاق الأول؛ لأن الله يقول: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] فلما خرجت من العدة؛ والطلاق الثاني لا يقع إلا بعد تمام الولادة؛ لأنه قال: أنتِ طالق إن ولدتِ ذكراً، فيأتي الطلاق الثاني وهي أجنبية فلا يقع الطلاق الثاني فتطلق طلقة واحدة في هذه المسألة، والعكس في الأنثى، إن قال لها: أنتِ طالق إن ولدتِ أنثى طلقتين فولدت صبيتين فإن الطلقتين تقع بالأنثى الأولى ثم تخرج من العدة بالأنثى الثانية فلا تصادف الطلقة الثالثة محلاً، فلا تبين وإنما تكون أجنبية مطلقة طلقتين فقط.

    إذاً: في حال حملها بالتوأم إن تمحض ذكوراً طلقت بالذكر الأول وبانت بالذكر الثاني ولم يقع طلاقها بالثاني، وهكذا في الأنثى، واختلف الحكم في عدد الطلاق بحسب ما علقه على الذكر والأنثى، هذا إذا اتحد التوأم، وكان ذكراً أو أنثى، لكن لو قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وأنتِ طالق طلقتين إن ولدتِ أنثى، وحملت بتوأمين ذكر وأنثى، فإن حملت بتوأمين أحدهما ذكر والثاني أنثى فلا يخلو إما أن يخرج أحدهما قبل الآخر، وإما أن يخرجا مع بعضهما دفعة واحدة، فإن خرج الذكر طلقت طلقة واحدة، وأصبحت أجنبية بخروج الأنثى بعده؛ لأنها قد وضعت حملها فجاء طلاق الأنثى -وهما الطلقتان- على أجنبية، مثل ما ذكرنا في تمحض الذكور وتمحض الإناث، فنحكم بكونها طالقاً طلقة إن سبق الذكر وطلقتين إن سبقت الأنثى ولا نتبع الطلقة الأولى في الذكر ولا نتبع الطلقتين في الأنثى؛ لأنها تكون أجنبية بولادة التوأم الثاني، فنوقع الطلاق بالأول، ونخرجها من عصمته بولادة التوأم الثاني ثم نفصل في الأول على حسب ما رتب من العدد، إن طلقة فطلقة وإن طلقتين فطلقتين، لكن لو أنهما خرجا مع بعضهما، وقد قال: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة، وإن ولدتِ أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن كان قد قصد أن يكون الولد واحداً منهما، إن ولدتِ ذكراً متمحضاً أو ولدتِ أنثى متمحضة فحينئذٍ لا تطلق؛ لأنها لم تلد ذكراً محضاً ولم تلد أنثى محضة؛ لأنه ما قصد الجمع وإنما قصد أن يكون متمحضاً بالذكورة أو متمحضاً بالأنوثة، فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا تمحض الذي في بطنها مولوداً ذكراً أو مولوداً أنثى، هذا إذا كان قوله بصيغة التمحض، وقصد أن يكون مولودها ذكراً أو يكون مولودها أنثى دون أن يكون معه شريك، فلا تطلق؛ لأنه لم يتحقق الشرط الذي بنى عليه تعليقه، لكن لو قصد مطلق الولادة وقصد أنها إذا ولدت ذكراً أو أنثى مجموعين أو متفرقين فإنها تطلق ثلاثاً، طلقتان بالأنثى وطلقة بالذكر، ففي حال كونه يرتب الطلاق على الأنثى طلقتين وعلى الذكر طلقة ويخرجان مع بعضهما، إن قصد تمحض الولادة ذكراً أو تمحض الولادة أنثى وصرح بذلك فحينئذٍ لا تطلق؛ لأنها لم تضع ولداً ذكراً ولم تضع ولداً أنثى وإنما وضعت الاثنين، وهذه المسألة مشهورة حتى في الأيمان، لو حلف وقال: والله لا ألبس ثوباً من غزل فلانة، ثم لبس ثوباً فيه شيء من غزل فلانة، فالثوب ليس كله من غزلها، فهل ننظر إلى تمحض الثوب من غزلها؟ أو ننظر إلى مطلق الوجود؟ فإذا كنا ننظر إلى مطلق الوجود فحينئذٍ يحنث في يمينه، وإن نظرنا إلى التمحض فإنه لا يحنث في يمينه، وكلاهما وجهان في مذهب الإمام أحمد رحمه الله كما حكاه القاضي أبو يعلى وأشار إلى ذلك الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني.

    هذا حاصل الكلام في مسألة اختلاف عدد الطلاق بالذكورة والأنوثة.

    (إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى، فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً، طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به).

    قال: (ولدت ذكراً ثم أنثى) لاحظ كلمة (ثم) وهي تقتضي الترتيب، إذا ولدت الذكر ثم ولدت بعده الأنثى؛ نطلقها بحسب السابق ذكراً كان أو أنثى، ثم نحكم بكونها معتدة، ثم نخرجها من العدة بمجرد وضعها للثاني، ونحكم بأن الطلاق الثاني لم يصادف محلاً، وهذا بيناه وفصلناه، لكن لو أنه قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وطلقتين إن ولدتِ أنثى، ثم ولدت ذكراً فلما جاءها في وضعها وعنائها فقالت له: هكذا طلقتني يا فلان، قال: راجعتكِ، فراجعها، فجاء المولود المبارك الثاني فحينئذٍ تكون في عصمته ويأتي طلاق الثاني موجباً للبينونة، إذا راجعها قبل خروج الثاني فإننا نحكم بوقوع طلاق الثاني؛ لأن سقوط طلاق الثاني محله أن تكون أجنبية ولم تقع مراجعة، أما لو راجعها وعادت إلى عصمته فإذا خرج المولود الثاني فإنه يوجب الطلاق.

    (حياً -كان المولود- أو ميتاً) لأنه قال: إن ولدتِ، والولادة تصدق بمجرد الخروج، فإذا أخرجته حياً فهو مولود وإن أخرجته ميتاً فهو مولود؛ لأن الولادة تقع على مطلق الإخراج، لكن إذا أخرجته ميتاً ففيه تفصيل:

    إذا كان كامل الخلقة فلا إشكال ويحكم بوقوع الطلاق، وأما إذا كان ناقص الخلقة، فهذه مسألة خلافية، بعض العلماء يقول: كل ما تخرجه المرأة وتسقطه من رحمها قبل تمام خلقته وفيه صورة الخلقة فإنه يتبعه أثر المولود في مسائل، منها: الدم، يعني: لو أنها أسقطت بعض الخلقة، وخرج معها الدم بعد إسقاطه أربعين يوماً، فهل نقول: يأخذ حكم المولود التام فيكون الدم دم نفاس؟ أو نقول: إن الإسقاط قبل تمام الخلقة لا يعتبر نفاساً فلا تأخذ حكم النفاس؟ والذي قواه غير واحد وانتصر له غير واحد من العلماء: أنها إن وضعت شيئاً فيه صورة الخلقة أنها تأخذ حكم النفساء، وعلى هذا فيكون دمها آخذاً حكم دم النفاس، ومن هنا تتفرع مسألة وقوع الطلاق؛ لأنها قد ولدت، والولادة تصدق على إخراج الحمل، وحينئذٍ قالوا: إنه يستوي في ذلك أن يكون تام الخلقة أو ناقص الخلقة، وبعض العلماء يشترط تمام الخلقة، ثم يبقى الإطلاق في كونه حياً أو ميتاً على التفصيل الذي ذكره المصنف رحمه الله.

    (طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به)

    (طلقت بالأول) لأن بينه وبين الله أنها إذا وضعت فهي طالق، وقد وضعت مولودها فهي طالق، (وبانت بالثاني) أي: أنها إذا طلقت الطلقة الأولى أو الطلقتين إن كان السابق أنثى فإن المولود الثاني يخرجها من عصمة الرجل؛ لأنها قبل ولادة المولود الثاني في عدتها، وكل امرأة حامل إذا وضعت حملها خرجت من عدتها على ظاهر نص التنزيل: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] فتصبح أجنبية بوضع الثاني، فإن أصبحت أجنبية بوضع الثاني فلا يقع عليها الطلاق الثاني على التفصيل الذي تقدم في حال التمحض أو حال الاختلاف.

    الحكم إذا علق الطلاق بنوع وولدت توأمين ولم ندر من السابق منهما

    قال المصنف رحمه الله: [ وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة ]

    أنت تلاحظ أن المصنف جاء بمسألة إذا قال: إن كان ذكراً، إن كان أنثى، وما إذا سبق أحدهما وتأخر الثاني، ولم يتكلم على بقية المسائل التي أشرنا إليها؛ لأن العلماء عندهم أشياء بدهية معروفة لا ينبهون عليها، خاصة في المختصرات، سواءً كانت من النظم أو النثر، وهم يذكرون المسائل المشكلة والمسائل التي تكون أصولاً لغيرها؛ لأنه حينما نبهك هنا على مسألة الاختلاف فقد وضع لك الأصل في حال التمحض الذي هو أخف حالاً من حال الاختلاف.

    في هذه المسألة: إذا قال لها: إن ولدتِ ذكراً فأنت طالق طلقة، وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين، وكان في بطنها توأماً ذكر وأنثى، فحينئذٍ يرد السؤال: إن سبق أحدهما الآخر ولم نعلم هل السابق الذكر أو الأنثى؟ فهل نحكم بطلقة أو نحكم بطلقتين؟

    هو قال لامرأته: إذا ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإذا ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين فوضعت توأمين، سبق أحدهما الآخر، وأحدهما ذكر والآخر أنثى، فهل نقول: إنها تطلق طلقة واحدة أو نقول: تطلق طلقتين؟ وقد ذكرنا أنه إذا سبق أحدهما فالطلاق للسابق، فإن سبق الذكر فطلقة وإن سبقت الأنثى فطلقتان، فبالتأكيد أنه سبق أحدهما، ولكن المرأة أثناء نفاسها لم يكن عندها أحد، أو وضعت في ظلام وأخرجت الأول ثم الثاني، أو وضعت وعلمت أن الأول أنثى والثاني ذكر أو العكس ثم نسيت، أو التي وضعت كانت لا تعي ولا تتنبه وجاءت التي تقوم على ولادتها فأخرجت ذكراً وأخرجت أنثى ولم نعلم هل الذي سبق الذكر أم الأنثى؟

    العلماء -رحمهم الله- عندهم قاعدة تقول: (اليقين لا يزال بالشك)، فإذا ولدت المرأة توأمين متعاقبين مختلفين، بهذين الشرطين: أن يكونا توأمين، وأن يكونا متعاقبين، أي: تلد الأول ثم الثاني بخلاف ما إذا ولدتهما مع بعضهما، إذا ولدت توأمين متعاقبين، وكان طلاقها مختلفاً بحسب اختلاف التوأمين جنساً، بأن يكون طلقة للذكر وطلقتين للأنثى أو العكس، طلقتان للذكر وطلقة للأنثى، وقد تأكدنا أن أحدهما سبق، فعند العلماء قاعدة، يقولون: نحن لا نشك في وقوع طلقة واحدة، أي: متحققون وعلى يقين أنها قد طلقت طلقة واحدة، وهذا ما فيه إشكال؛ لأنه إما أن يكون سبق الذكر وإما أن تكون سبقت الأنثى، والذكر يوجب طلقة والأنثى توجب طلقتين، فهناك طلقة لا إشكال في وقوعها، وهناك طلقة محتملة، حيث يحتمل أن الذي سبق هو الأنثى فتكون قد طلقت طلقتين وتأخر الذكر الذي يوجب الطلقة أو يكون الأمر بالعكس، بأن يكون سبق الذكر وتأخرت الأنثى فوقعت طلقة ولم تقع الطلقة الثانية؛ لأن الأنثى لا طلاق لها؛ لأن المرأة قد بانت بخروجها، فقالوا: اليقين عندنا طلقة والشك في الطلقة الثانية، فنقول: اليقين لا يزال بالشك، والأصل عدم وقوع الطلاق حتى يدل الدليل على وقوعه، فنحن ليس عندنا أمارة ولا غلبة ظن بسبق أحدهما، فتطلق طلقة واحدة، وهذا في حال ما إذا تحققنا أنه سبق أحدهما -بمعنى: التعاقب- ويكون قد خالف في عدد الطلاق، لكن لا تقع هذه المسألة إلا إذا حصل الشك، إذا شك في الذي سبق هل الأنثى أو الذكر؟ أما لو استطعنا أن نميز، ووجدت قرينة تدل على السبق، فحينئذٍ نحكم بالقرينة، مثال ذلك: لو أن المرأة دهمها الطلق فقذفت بالأول ثم قذفت بالثاني، فلما قذفت بالثاني حملته من بجوارها، فحينئذٍ الأول المتلطخ يمكن أن يعلم أو يعرف أنه الذي سبق فننظر فيه: إن كان ذكراً فذكر وإن كان أنثى فأنثى، فهنا علامة، إما أن يكون موضوعاً على الأرض والثاني حملته من تقوم على ولادتها، أو يكون المكان مختلفاً فوضعت الأول ثم نقلت إلى مكان آخر فوضعت الثاني، فنعلم أن الذي ولد في الغرفة الأولى هو السابق والذي في الغرفة الثانية هو اللاحق، فحينئذٍ إذا وجدت أمارة أو علامة تدل على سبق أحدهما على الآخر حكم بذلك، أو بالصوت الذي هو الصراخ، كأن تكون ولدت وكان الأول لا صوت له فوجد ميتاً، والثاني صرخ، فنعلم أن الحي هو الثاني، فإن كان ذكراً احتسبت الطلقتان بالسابق وهو الأنثى، والعكس بالعكس.

    فإذا وجدت قرائن أو أمارات أو علامات تدل على سبق أحد المولودين للآخر فإنه يحكم بهذه العلامات، فمحل التفصيل أن يستويا ولا يمكن التمييز، أما إذا أمكن التمييز فإنه يحكم به، والقاعدة الشرعية تقول: (الغالب كالمحقق)، فغلبة الظن والشيء الغالب الوقوع نحكم به، وما دام أنه غلب على ظننا -بهذه الأمارات والعلامات- أنه السابق حكم بذلك واعتد به.

    1.   

    تعليق الطلاق على الطلاق

    قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا علقه على الطلاق ثم علقه على القيام أو علقه على القيام ثم علقه على وقوع الطلاق فقامت طلقت طلقتين فيهما]

    يقول: إن طلقتكِ فأنتِ طالق وإن قمتِ فأنتِ طالق، أي: علق على الطلاق وعلق على القيام، فإذا علق على الطلاق وقال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق؛ فقدم الطلاق على القيام فإنها إذا قامت تطلق طلقة بالقيام ثم طلقة ثانية بقوله: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، لأنه قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق ثم قال: إن قمتِ فأنتِ طالق، إن قعدتِ فأنتِ طالق، إن خرجتِ فأنتِ طالق؛ فخرجت أو قعدت أو قامت حكم بطلقتها الأولى لوجود صفة الخروج أو القيام أو القعود، وحكم بالطلقة الثانية لأنه جعل بينه وبين الله أن يطلقها إن كان وقع طلاقه عليها، وقد وقع طلاقه عليها بوجود الشرط، وحينئذٍ نحكم بأن التعليق الأول وهو قوله: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، موجب لوقوع الطلاق الثاني.

    على هذا: إذا قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، يستوي أن يطلقها طلاقاً منجزاً أو طلاقاً معلقاً، فأي رجل يقول لامرأته: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فأي طلاق يقع بعد هذه الجملة يتبع بطلاق ثانٍ لمكان التعليق، فأصبح الطلاق يحمل على الطلاق؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل قد طلق امرأته وهو مطلق لامرأته إن طلقها، فنقول: إذا وقع القيام بعد اشتراطها وتعليقه للطلاق على تطليقها؛ فإننا نحكم بكونها طالقاً بالقيام أولاً، ثم نحكم بطلاق التعليق على الطلاق بعد وقوع الطلاق المعلق على القيام.

    قال رحمه الله: (إذا علقه -أي: الطلاق- على الطلاق) ومثال ذلك: أن يقول: أنتِ طالق إن طلقتكِ، (ثم علقه على القيام) يعني: علق الطلاق على القيام، فإنها تطلق طلقتين إذا قامت، فالقيام أوجب طلقة بالتعليق الثاني، وأوجب تطليق القيام طلقة بالتعليق الأول، إذا قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق وإن قمتِ فأنتِ طالق فتطلق بالقيام طلقة وتطلق طلقة ثانية بوجود الشرط من كونه مطلقاً لها، إذاً: قوله: إن طلقتكِ فأنتِ طالق يستوي فيه أن يطلقها منجزاً أو يطلقها معلقة.

    (أو علقه على القيام ثم علقه على وقوع الطلاق).

    (علقه على القيام) فقال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، وإن وقع مني طلاق فأنتِ طالق، فحينئذٍ علق على الوقوع ليس على التطليق، وفرق بين التعليق على التطليق وبين وقوع الطلاق، هناك فرق بين الأمرين، فإنه إذا قال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق فمراده إن وقع منه طلاق، فهذا يضاف للمستقبل ولا يضاف للماضي حتى لا تشكل علينا المسائل الآتية، إن طلقتكِ فأنتِ طالق، يعتبر تعليقاً مسنداً للمستقبل، بدليل أنه لو كان قد طلقها من قبل فإنها لا تطلق؛ لأنه يقول: إن طلقتكِ، والكلام مضاف إلى المستقبل، فلا يقع الطلاق فيما مضى ويقع فيما يأتي، فلو أنه قبل هذا التعليق علق الطلاق على قيام أو قعود أو جلوس فهذا مسند إلى الماضي وسيأتي، وإنما يؤثر في هذه الصيغة: (إن طلقتكِ) أن يكون مضافاً إلى المستقبل، وأن يكون تعليقه للطلاق بعد وجود التعليق على الشرط، يعني: على كونه مطلقاً لها.

    بناءً على هذا: إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ثم قال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق؛ فحينئذٍ لا نطلق إلا إذا وقع طلاق في المستقبل، فلو قامت طلقت بالتعليق الأول ولم تطلق بالتعليق الثاني؛ لأن التعليق الأول سابق للتعليق الثاني، والتعليق الثاني متعلق بما يقع من الشروط بعد تطليقه، وإنما طلقها قبل التعليق الثاني.

    الآن عندنا لفظان:

    اللفظ الأول: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، بينه وبين الله أنه إن وقع منه طلاق في المستقبل فهي طالق عليه، أي رجل يقول لامرأته: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، ويوقع صيغة تعليق أو لفظ طلاق بعد هذه الكلمة نطلق عليه.

    اللفظ الثاني: أن يكون طلق في الماضي أو علق في الماضي ووقع ما علقه في المستقبل فلا يؤثر؛ لأنه لم يطلق في الحال وإنما طلق فيما مضى بصيغة سابقة.

    فهناك أمر لازم في صيغة (إن طلقتكِ فأنتِ طالق) وهو وقوع الطلاق منه في المستقبل وهو يقول: إن طلقتكِ يعني: إن وقع مني تطليق بعد هذا، فكل شخص قال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، نقول له: انتبه، فكل طلاق منك سواءً كان معلقاً أو منجزاً بعد هذه الصيغة تنشئه -أي: تحدثه- فحينئذٍ يقع ويلزمك الطلاق الذي علقته على هذه الصيغة، وتطلق عليك مرتين، لكن لو علق طلاقاً قبل ذلك، نحو: إن ذهبتِ إلى أبيكِ، إن خرجتِ من البيت، إن قمتِ، إن قعدتِ، إن تكلمتِ، إن أكلتِ، إن شربتِ، ثم قال: إن طلقتكِ، فإن التعليق الأول مسند إلى الماضي، وسابق لشرطه فيما بينه وبين الله عز وجل، حيث إنه لم ينشئ طلاقاً؛ لأن التعليق قد وقع؛ ولذلك يقع التعليق منذ أن يعلقه فيما بينه وبين الله، بدليل أنه لو وقع منها الأكل أو الشرب قبل الصيغة الثانية التي فيها التعليق طلقت عليه، فإذاً التعليق الأول لا يتوقف على التعليق الثاني، والتعليق الثاني يتوقف على وقوع طلاق معلق أو منجز منشأ ومحدث بعد الصيغة.

    إذاً فرق بين قوله: إن طلقتكِ وقوله: إن وقع مني طلاق، فقوله: إن طلقتكِ أضاف الأمر إلى المستقبل، فإذا سكت بعد هذه الجملة ولم يتلفظ بالطلاق، ولم يعلق الطلاق فالمرأة امرأته، وإن كان هناك تعليق سابق نحكم بالتعليق السابق مستقلاً عن هذه الجملة الثانية، هذا إذا قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فنضيفه إلى ما بعده، والشرط عندنا أن يقع التعليق أو التنجيز بعد هذه الكلمة، وأنه لو قال قبل هذه الجملة: إن تكلمتِ فأنتِ طالق أو قمتِ فأنتِ طالق أو شربتِ فأنتِ طالق ثم قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق نقول: إن هذا التعليق مضاف إلى الماضي، وصحيح أن الطلاق الذي كان في التعليق السابق يقع بعد وقوع التعليق الثاني لكنه غير مرتبط به، ولا ينشئ طلاقاً ثانياً بالصيغة الثانية، وعلى هذا نقول: لو قال لها: إن قمتِ أو إن قعدتِ أو أكلتِ أو شربتِ ثم أتبع ذلك بقوله: إن طلقتكِ فأنتِ طالق لم يقع طلاق بالجملة الثانية حتى ينشئ تطليقاً بعدها.

    لكن إن علق التطليق على وقوع الطلاق، قال: إن وقع مني طلاق فأنتِ طالق، لاحظ: (إن طلقتكِ) غير (إن وقع مني) فإن وقوع الطلاق شيء وإنشاء الطلاق شيء آخر، ففي الصورة الثانية تعلق تطليقه بالشرط الثاني على صفة، وبناءً على ذلك متى ما وجدت الصفة وجد التطليق، هو يقول لها: إن وقع مني طلاق، يعني: بسببي، فحينئذٍ يشمل ما إذا كان قبل التعليق الثاني أو بعد التعليق الثاني، وعليه: فإنه إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ثم قال: إن وقع مني طلاق فأنتِ طالق؛ فإنها إن قامت بعد الصيغة الثانية تطلق؛ لأن وقوع الطلاق قد وقع، فالصفة وجدت بخلاف الإنشاء الذي لم يوجد.

    نختصر المسألتين ونقول: إن علق التطليق على الطلاق إنشاءً لم يقع حتى يطلق بعد الإنشاء تنجيزاً أو تعليقاً، وإن علق الطلاق على الطلاق وقوعاً لا إنشاءً فإنها تطلق بالطلاق المعلق قبل إنشاء الطلاق الثاني، فإن وجدت صفته حكم بالطلاق الثاني وطلقت به.

    قال المصنف رحمه الله: [وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة]

    إن قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فمعنى ذلك: طالق طلقة واحدة، ثم قال: إن قمتِ فأنتِ طالق، فقامت نطلقها طلقتين، طلقة بقيامها وطلقة بتعليق الطلاق على تطليقها؛ لأنه اشترط فيما بينه وبين الله: إن أنشأت أو وقع مني طلاق لك في المستقبل فأنتِ طالق، فأنشأ طلاقاً معلقاً بعد هذه الجملة فتطلق بوجوده إن حصل، فنطلق طلقة بوجود شرط القيام، ونطلق طلقة ثانية بوجود شرط الطلاق، هذا بالنسبة للصورة الأولى.

    الصورة الثانية: العكس، قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ثم قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فقد أسند الطلاق إلى وجود القيام فنطلقها بمجرد وجود القيام، ثم وجدنا شرطه بالتطليق بالطلاق مضافاً إلى مستقبل لم يُنشِئْ فيه طلاقاً، فلا نحكم بكونها طالقاً الطلقة الثانية.

    فاختلفت الصيغتان: الصيغة الأولى التي توجب وقوع الطلاق طلقتين مبنية على كونه علق الطلاق على وجود طلاق في المستقبل، وقد طلق بعد هذه الجملة بالقيام، فتطلق بالقيام طلقة وتطلق بصيغة الشرط طلقة ثانية، وأما الصيغة الثانية فقد تمحض شرطه مضافاً إلى المستقبل أي: أنه إن أنشأ تطليقاً منجزاً أو معلقاً في مستقبله فتطلق، وإن لم ينشئ وإنما وقع طلاقه بناءً على تعليق سابق، ولم يكن هناك شرط منه بوقوع الطلاق على مثله، فلا نطلق عليه.

    الخلاصة: من قال لامرأته: أنتِ طالق إن طلقتكِ طلقة، ثم قال لها: أنتِ طالق إن قمتِ فقامت؛ طلقت طلقتين، وإن قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق ثم قال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فقامت؛ طلقت واحدة فقط بالقيام للتعليق الأول، ولم تطلق الثانية بالتعليق الثاني؛ لأنه لم ينشئ بعده طلاقاً لا منجزاً ولا معلقاً.

    1.   

    الأسئلة

    إذا قال: إن ولدت ذكراً فأنت طالق، فهل يقيد هذا الطلاق بالحمل الموجود أم بأي حمل

    السؤال: إذا قال: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق، فهل يقيد هذا الطلاق بالحمل الذي في بطنها أم يبقى التعليق على أي وضع تلد فيه بذكر؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد: .. فيتقيد الحكم بهذا الذكر، وبناءً على ذلك: يقع الطلاق بخروجه، ولا يتبع بعد ذلك إلا إذا قال لها: كلما ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق، فهذه مسألة ثانية، إذا قال لها: كلما ولدتِ، وجاء في صيغته بما يدل على التكرار أو يدل على البقاء فإنه يحكم به، والله تعالى أعلم.

    الجمع بين قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، والعمل بالشبهة بين الشبهتين

    السؤال: ما الفرق بين قاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) ومسألة الشبهة بين شبهتين، أعني: التي في مسألة اختصام سعد وعبد بن زمعة في الغلام؟

    الجواب: قاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) قاعدة مجمع على العمل بها واعتبارها؛ لدلالة نصوص الكتاب والسنة عليها، وهي إحدى القواعد الخمس المجمع عليها، والتي قامت عليها أكثر مسائل الفقه الإسلامي، وهي: (اليقين لا يزال بالشك) و(الأمور بمقاصدها)، و(المشقة تجلب التيسير)، و(الضرر يزال)، و(العادة محكمة)، هذه خمس قواعد انبنى عليها فقه الإسلام في أكثر مسائله، وقاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) تدل على أن الأصل أن يعمل المسلم بما استيقنه ويلغي الشكوك والوساوس.

    أما مسألة الشبهة بين الشبهتين فهي عند استواء الاحتمالين، وإذا استوى الاحتمالان أشبه الحلال من وجه وأشبه الحرام من وجه، فحينئذٍ ليس هناك أصل، يعني: إذا جئت -مثلاً- إلى شيء متردد بين أصلين فإنك لا تستطيع أن تغلب أحد الأصلين من كل وجه، بل تقول: إنني أتورع، فأتقي هذا وأستبرئ لديني، وأحتاط في أمري ونحو ذلك.

    ومسألة الرضاع، ومسألة الولد للفراش، ومسألة إلحاق الولد بالشبه هذه كلها مسائل بُني فيها على غلبه الظن، وقصة عبد بن زمعة مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه عند دخوله عليه الصلاة والسلام إلى مكة، وأمره عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين أن تحتجب منه لوجود الشبهة، هذه المسألة يقول بعض العلماء فيها: إذا كان هناك رضاع، وهذا الرضاع فيه شبهة، وتكلمت به امرأة، والشبهة فيه قوية، يقول: أعملِ الرضاع موجِباً لمنع النكاح، وأَسقطْه موجباً للمحرمية، فيعمل بالشبهتين، فيقول: أعملُ بالرضاع فأقول له: لا تتزوج هذه المرأة، وأُسقطُ الرضاع فأقول له: ليست بمحرم لك، وهذا مبني على الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (كيف وقد قيل؟) في قصة المرأة التي ادعت أنها أرضعت صحابياً وزوجته، فقال له عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟)، فبعض العلماء يقول: الأمور المحرمة كالفروج والإرضاع ونحوها أمور ينبغي أن يحتاط فيها، فالنبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الرضاع عمل بالشبهتين، فجعل للرضاع تأثيراً من جهة عدم جواز النكاح، ومنع الرجل أن يستبقي المرأة، وأيضاً أسقط حكم الرضاع واستند إلى الأصل من أنها أجنبية فمنعه من الدخول عليها ومصافحتها على أنها محرم له، فهذا يلجأ إليه الفقيه في بعض المسائل من باب الاحتياط والاستبراء للدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبراء لدينه وعرضه)، وبعض العلماء -رحمهم الله- عندهم إشكال في هذه المسألة، ويقول: إذا تردد الأمر بين شبهين محرم ومبيح فإنني أغلب المحرم؛ لأن القاعدة: (إذا تعارض حاظر ومبيح يقدم الحاظر) لأن التحريم فيه زيادة حكم وزيادة علم، فالمبيح باقٍ على الأصل ومستند إلى الأصل، والأصل يرجحه، لكن كونه يأتي شبه من الحرام فقد جاءت زيادة علم، وزيادة العلم توجب التقديم، فأقدم الحرام من هذا الوجه، وبعض العلماء يقول: لا، أقدم الحلال؛ لأن الأصل إباحة الأشياء؛ والشريعة شريعة تيسير؛ والنبي صلى الله عليه وسلم ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.

    وهذا كله مما يكون فيه اختلاف أنظار العلماء، وتحتك وتصطدم فيه الاجتهادات بين الأئمة، وعندها يظهر فتح الله على من فتح عليه من واسع علمه.

    نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يلهمنا الحق ويرزقنا اتباعه، وأن لا يجعله ملتبساً علينا فنضِل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم من علق الطلاق بوضع ذكر أو أنثى فوضعت خنثى

    السؤال: ما الحكم لو ولدت خنثى وقد قال لها: إن ولدتِ ذكراً أو إن ولدتِ أنثى؟

    الجواب: الخنثى في الأصل أن العلماء -رحمهم الله- يعطونه حكم الأنثى، ولذلك يعتبرونه مندرجاً تحت القاعدة المشهورة: (اليقين لا يزال بالشك)، فهو متردد بين الأنثى وبين الذكر، فاليقين أنه أنثى حتى نتيقن أنه ذكر، وإن كان في الواقع أنه بين الذكر والأنثى، فإذا ولدته على أنه خنثى وكان فيما بينه وبين الله قد اشترط تمحض الذكورية أو تمحض الأنوثة فلا طلاق؛ لأنه ليس بذكر محض ولا بأنثى محض، فإذا قصد أن يكون ذكراً محضاً أو أنثى محضاً، وكان أثناء الولادة لم يتمحض ذكراً ولم يتمحض أنثى، فاختار بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- أنه في هذه الحالة يحكم بعدم الطلاق؛ لأنه شرط فيما بينه وبين الله عز وجل أن يطلق الطلقة إن تمحض ذكراً وأخرجته ذكراً، ويطلق طلقتين إن تمحض أنثى وأخرجته أنثى، والخنثى ليس بذكر محض ولا بأنثى محض، ولذلك إذا تلفظ بهذا اللفظ وبينه وبين الله عز وجل أنه يقصد كونه ذكراً محضاً أو أنثى محضاً، فإنه لا يحكم بالطلاق، وزاد من ذكرنا من مشايخنا فقال: أما لو تبين بعد وضعه مباشرة أنه ذكر أو أنثى فحينئذٍ لا إشكال ويحكم بما تميز وآل إليه حاله، وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: عندي شبهة إذا كان التميز طارئاً بعد زمان، لاحتمال أن يكون مراده متمحضاً الذكورة والأنوثة أثناء الخروج وليس مراده أن يتميز بعد ذلك؛ لأنه ربما خرج مشكلاً أثناء الوضع والولادة، ثم تميز بعد الوضع والولادة بسنوات، وقد يتميز عند قرب البلوغ، ولذلك فالأصل يقتضي أنه إذا كان مراده أثناء الوضع، أن يكون ذكراً محضاً أو أنثى محضاً فلا طلاق، وهذا مثل قوله: إن كان أول ما تلدينه ذكراً فطلقة، وإن كان أول ما تلدينه أنثى فطلقتان، فولدتهما معاً فإنها لا تطلق، وهذا قول جمهور العلماء؛ لأنه قال: إن كان أول ما تلدينه، مع أن الذكر موجود والأنثى موجودة؛ لأنه علق على صفة، فهو إذا استصحب الولادة صفة مؤثرة كأن يكون بينه وبين الله أن تتمحض الولادة بالذكورة أو بالأنوثة فحينئذٍ تؤثر الصفة ويحكم بالطلاق على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    بالنسبة للمسألة الماضية كنا نركز في الجواب على مسألة الشبهة وتردد الشبهة، لكن السائل لعله يقصد تعارض قاعدة (اليقين لا يزال بالشك)، مع قاعدة العمل بالشبهين أو إعمال الشبهتين، إذا كان له شبه من حرام وشبه من حلال، أنا فيما يظهر لي من السؤال: أنه كيف يُجمع بين كوننا نعمل بالشبهتين، ولماذا لم نرجع إلى قاعدة (اليقين لا يزال بالشك)؟ إن كان هذا مراده فالجواب هو: أن قاعدة (اليقين لا يزال بالشك) في حال وجود الغلبة، مثلاً: شخص توضأ للظهر، ثم حضرت صلاة العصر وشك هل خرج منه شيء أو لا؟ فاليقين والغالب أنه لم يخرج شيء؛ لأن الأصل كونه متوضئاً متطهراً، وحينئذٍ لا تعارض، فعندنا أصل ثابت، لذا قالوا في القاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، لكن في الشبهين تعارض أصلان بدون ترجيح، ففي قصة ابن زمعة إذا جعلت الولد المختصم فيه ابناً، فحينئذٍ يكون ابن زمعة ويجوز أن يدخل على أم المؤمنين سودة بنت زمعة وتثبت المحرمية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش) فالمرأة كانت تحت زمعة وزنى بها الرجل، فإذا جئنا ننظر إلى الأصل الموجود من كونها فراشاً لـزمعة فهذه الأمة تبعٌ لـزمعة فولدها تبعٌ لـزمعة ، ولا إشكال ويحكم بكونه ولداً للفراش.

    لكن إذا جئنا ننظر إلى القرائن الموجودة من كونه فيه شبه ممن يُدعى أنه ولده بالزنى، فحينئذٍ يقال: إنه ولده، ويؤثر فيه، وهذا على حكم الجاهلية؛ فبعض الأمور أبقيت على حكم الجاهلية، مثل الأنساب، فما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أنكحة الجاهلية لم تتوفر فيها شروط الإسلام فتكون باطلة، فالأنساب نبه العلماء على أنها تبقى على حكم الجاهلية، فإذا جئنا ننظر إلى الولد من حيث الشبه والصفات وجدنا فيه الشبه بمن زنى، فهذا يقتضي أن يلحق به، لكن في الشرع لا يلحق به وإنما يكون ولد زنى فلا يكون محرماً لـسودة بنت زمعة رضي الله عنها وأرضاها، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تحتجب منه، لأن فيه شبهاً يدل على أنه ليس للفراش، وأبقى حكم الفراش بناءً على الأصل، فأعمل الأصلين، وهذا من باب تردد الشبهين، ولم يوجد أصل نرجح به أحدهما على الآخر، بخلاف الوضوء، فعندنا أصل أنه متطهر، وهو يشك هل خرج منه شيء أو لا؟

    فنقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ونعمل بقاعدة: (اليقين لا يزال بالشك)، ثم القاعدة تدلك على هذا، فاليقين لا يزال بالشك، معناه: أن هناك أصلاً يمكن الرجوع إليه، وشبهة عارضة، وشكاً عارضاً، لكن في الشبهتين المستويتين يكون من باب تعارض الأصلين، مثل مسألتنا التي معنا، الأصل أنه أجنبي، والأصل أنه ولد، فهذان أصلان متضادان، فهو ولد لـزمعة لأنه صاحب الفراش، وولد لذاك على أنه ألحق بالشبه، والشبه مؤثر، فتعارض الأصلان وكلٌ منهما معتبر في بابه.

    ومن أمثلة تعارض الأصلين وأحدهما طارئ والثاني قديم: إذا رفع المصلي رأسه من الركوع هل يقبض يديه أو يسبلهما؟ إذا جئت تنظر إلى الأصل تقول: الأصل أن المصلي لا يتحرك حركة زائدة، ولا يقف بصفة زائدة إلا بدليل صريح؛ لأنه إذا قبض يديه سيعمل حركة، والأصل يقتضي أن يسبل يديه، فالأصل العام أن يسبل حتى يدل الدليل على القبض، فتغلب جانب الإسبال، أو تقول: الأصل أنه قابض قبل الركوع، والأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا رفع رأسه من الركوع رجع إلى الأصل الذي كان عليه.

    فالقول الأول معتمد على أصل في الصلاة معتبر ولذلك قالوا: الأصل السكوت حتى يدل الدليل على الكلام، والأصل عدم الحركة حتى يدل الدليل على الحركة، فالأصل القديم مستند إلى نص في الصلاة (مالي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس، أسكنوا في الصلاة) أي: لا تتحركوا ولا تفعلوا شيئاً إلا إذا أُمرتم بالحركة والفعل.

    فشككنا في هذه المسألة هل قبضه عليه الصلاة والسلام قبل الركوع يستصحب لما بعد الركوع؟ أم نقول: إن ما بعد الركوع حالة مستقلة تحتاج إلى نص في القبض؟

    من قبض يرجح هذا الأصل فهو على سنة، ومن أسبل يرجح هذا الأصل فهو على سنة، فهذا يعتبر من باب تعارض الأصلين، فهذه أصول متضادة ما تستطيع أن ترجح أحدها، لو قلت مثلاً: الأصل أن يسبل يديه؛ لأنه ما عندي دليل على القبض، يرد عليك ويقول: الأصل في الصلاة أن يقبض، فترد عليه وتقول: أصل القبض يكون قبل الركوع، وما بعد الركوع ليس له حكم ما قبل الركوع؛ لأن ما قبل الركوع فيه قراءة، وبعد الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يقرأ، وقد جاء النص: (حتى عاد كل فقار إلى موضعه...) المهم أن هذا من باب تعارض الأصلين وله نظائر كثيرة، والمقصود من هذا: أنه لا يتعارض تقديم الأصل مع مسألة الشبهات لما ذكرنا من الأدلة.

    وصية في تربية الأولاد

    السؤال: بعض الآباء يقتصر في تربيته لأبنائه على توفير المأكل والمشرب ويغفل عن التربية من حيث التأديب والتهذيب، فهل من وصية حول هذا الأمر؟

    الجواب: أما بالنسبة لتربية الأولاد فالكلام حولها لا شك أنه يحتاج إلى وقت طويل، لكن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وإذا أراد الله أن يقر عين الوالد في ولده رزقه أموراً تهيئ له البركة فتوضع له في ولده، وهذه الأسباب:

    أولها وأعظمها: دعاء الله أن يصلح له الذرية والولد، كما حكى الله عن أنبيائه وصالح عباده، فقال نبيه: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38] أي: لا تهب لي ذرية فقط، ولكن أسألك أن تكون طيبة، رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] وقال الله عن عباده الصالحين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فيسأل الله في أوقات الإجابة أن يصلح له ذريته؛ لعلمه أنه إذا صلحت ذريته فإن الله عز وجل يقر عينه بهم في الدنيا والآخرة، فكم من بهجة للنظر، وكم من سرور للقلب، وكم من طمأنينة للنفس وراحة وبهجة بالولد الصالح، فهو خير معين بعد الله عز وجل على شدائد الدنيا، بل حتى إن الرجل في بيته مع زوجه لربما نزلت به مصيبة حتى كادت امرأته أن تطلق عليه، فيدخل الولد الصالح فيصلح ما بينه وبين زوجه، وهذه من بركات الذرية الصالحة، وإذا كان الولد صالحاً كان قائماً عليه إذا مرض، يقوم على شأنه ويحتسب أجره عند الله عز وجل، فيجد خيره وبركته ما شاء الله أن يجد.

    وكذلك من الأسباب التي تهيئ الذرية الصالحة والولد الصالح: التربية الصالحة، والتربية تفتقر بالاختصار إلى أمرين مجملين:

    أولهما: أن ينظر الولد إلى الصلاح في قولك وعملك، وتكون قدوة له، فإذا رآك بمجرد أن تسمع داعي الله إلى الصلاة تبكر وتبتكر، وتشحذ همتك بالتبكير إلى بيوت الله، وعمارتها بذكر الله، خرج كما خرجت وبادر كما بادرت، ولربما غيبك لحدك وغيبك قبرك فتذكرك عند كل صلاة فترحم عليك، فالأب الصالح الذي يترجم بالقدوة الصالحة وبالعمل الصالح معاني للصلاح، يخط لولده صراطاً مستقيماً، وسبيلاً قويماً، يهتدي به ولده وولد ولده من بعده، حتى ينال أجره وأجر من اقتدى بذلك الهدي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    أما الأمر الثاني في القدوة: إذا كانت القدوة هي الأساس، فينبغي على الوالد أن يهيئ لنفسه جميع أسباب القدوة، فإذا دخل البيت فليدخل بالحنان والبر والإحسان فيكون خير والد لولده، وما جُبلت قلوب الأبناء على حب الآباء بشيء مثل الإحسان، ومثل الرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهو ساجد بين يدي الله يأتي ولده ويمتطي ظهره، فلما امتطى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سكن عليه الصلاة والسلام ولم يزعجه ولم يقلقه، فشهد ابنه بحنانه ورحمته وبره عليه الصلاة والسلام، قال بعض العلماء: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن الحسن والحسين -على اختلاف الرواية- في الخلوة من ركوب الظهر لما ركبه أمام الناس، معناه: أنه كان إذا خلا مع الحسن والحسين يدللهم، ويدخل السرور عليهم إلى درجة أنهم يمتطون ظهره، ففعلا ذلك أمام الناس، فالقدوة بالإحسان وبالكلمة الطيبة وبالبر.

    الكلمة الأخيرة: أن يكون هناك تعليم وتوجيه وإرشاد بكلمة طيبة، ونصيحة صادقة، وينبغي على كل والد وكل والدة أن تفرق بين النصيحة التي تكون ناشئة من أسباب دنيوية وغيرة على العرض وعلى النفس، وبين النصيحة الخارجة من قلب يخاف الله، يريد أن يقي نفسه وأهله من نار الله.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهب لنا ولكم ذرية صالحة تقر بها العين.

    اللهم بارك لنا في أزواجنا وذرياتنا، وارزقنا خير الولد وخير الذرية إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756618954