إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل المتعلقة بالهبة والعطية: تصرف الوالد فيما وهبه لولده، سواء كان بعد رجوعه عن الهبة أو قبله، وسواء كان التصرف ببيع أو عتق أو إبراء، فكل حالة لها حكمها الشرعي، ويلحق بهذه المسألة حكم تصرف الوالد في مال ولده، وحكم مطالبة الولد لوالده بدينه ونحوه.. وهذه المسائل كلها مفصلة في هذه المادة.

    1.   

    أنواع التصرفات المالية للوالد في مال ولده

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيانُ جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق برجوع الوالد في هبته إذا وهب أحد أولاده، وبينا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت بجواز رجوع الوالد في هبته، ومن أسباب هذا الرجوع، ومن الحِكَم التي يمكن أن تستفاد من هذا الرجوع: أن الأب يستدرك ظلمه لأولاده فيما لو أعطى بعضهم ومنع البعض، فأجازت الشريعة له الرجوع حتى يستدرك هذا، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما منع والد النعمان بن بشير - وهو بشير - رضي الله عنه وأرضاه عن تخصيص بعض ولده بالعطية.

    ثم بعد ذلك بينا مسألة استحقاق الأب في مال ابنه، وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صحت عنه السنة بمشروعية أخذ الوالد من مال ولده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم).

    وبينا أن في ذلك الخير الكثير للولد، وأن الله يضع البركة في مال الولد إذا أحسن إلى والده، فمكَّنه من ماله وأكل الوالد من مالِه بالمعروف، فهذا من خير وأعظم ما يكون للولد براً لوالده.

    فقد بينا أن من حق الوالد أن يأكل من مال ولده، لكن يرد السؤال: هل من حق الوالد أن يبيع أملاك ولده، وأن يتصرف فيها فيهبها للغير؟! أو إذا كان للولد دَين على آخرين فأراد الوالد أن يسامحهم ويبرئهم من الديون نيابةً عن ولده بدون إذن الولد هل له ذلك؟!

    والجواب: إن كان هناك إذن ووكالة من الولد فلا إشكال، وقد تقدم أن الوكالة موجبة للإذن وصحةِ التصرف في حدود ما أذن به الموكل لوكيله؛ لكن الكلام أن يأتي الوالد إلى مال ولده ويتصرف فيه بالبيع، أو يشتري بمال ولده شيئاً، أو يبرئ مديوناً، ونحو ذلك من التصرفات المالية والتي تكون بعوض وبدون عوض.

    فمن الممكن أن يتصرف الوالد في مال ولده بالعوض، كأن يبيع سيارة ولده بعشرة آلاف مثلاً، فهذا تصرف بعقد فيه عوض، وقد يكون هذا أيضاً في المنافع، ومن أمثلته: أن يكون للولد عمارة، فيقوم الوالد بتأجير عمارته، أو أن يكون له مزرعة فيؤجرها، فهل هذه التصرفات التي بعوض صحيحة أو غير صحيحة؟

    النوع الثاني من التصرفات: تصرفات بدون عوض، مثل: الهبة، كأن رأى مالاً لولده فأخذ منه وأعطاه لشخص آخر، وقال: هذا هبة أو هدية أو عطية.

    أو كأن يأتي شخص إلى والد صاحب المال فيقول له: إن له عليّ عشرة آلاف، وأنا ضائق الحال وفي شدة وكربة، أو قال: لك نصفها، أو ربعها، أو ثلثها، فالتصرف بإسقاط الدين كله أو أغلبه أو أقله تصرف بدون عوض؛ لأن الوالد لم يقبض عوضاً لقاء هذا الشيء الذي تبرع به.

    وكما تكون التصرفات بدون عوض في الهبات تكون أيضاً في العتق، وفي القديم كان يُملك الرقيق، ويكون للولد أرقاء، فيقول الوالد لعبيد ولده: أنتم أحرار، أو يا فلان أعتقتك، أو أنت حر، ونحو ذلك.

    فأصبحت هناك نوعان من التصرفات: تصرفات بعوض، وتصرفات بدون عوض، فإن تصرف الوالد في مال ولده بما ذكرنا فإنه لا يخرج من حالتين:

    إما أن يقر الولد والده على تصرفه ويجيزه ويمضيه فلا إشكال، فحينئذٍ يمضي والتصرف معتبر؛ لأنه أشبه بما تقدم معنا في مسألة تصرف الفضولي، وبينا أن تصرف الفضولي يعتبر من العقود الموقوفة، والعقد الموقوف ينقسم إلى أقسام من حيث الصحة وعدمها، ومن حيث النفاذ وعدمه، وهذا الثاني منه العقد الموقوف والعقد النافذ.

    فالعقد الموقوف تبقيه حتى تسأل صاحب الحق: هل أنت راضٍ بهذا التصرف أم لا؟ فإن أمضاه صح، وإلا فلا.

    والإشكال: إذا اعترض الولد على تصرف والده، فقال: لم آذن لك ببيع العمارة، وهذه العمارة أريدها، أو قال: لم آذن لك أن تسامحه في الدين، وأنا محتاج لهذا الدين، أو أن هذا الرجل لا يستحق أن يسامح، أو نحو ذلك، فإذا امتنع الولد من إمضاء تصرفات الوالد؛ فهل تصرفات الوالد صحيحة أم غير صحيحة؟

    هذا ما شرع المصنف رحمه الله ببيانه، فأصبحت الأفكار مرتبة كالآتي:

    أولاً: تكلم عن الهبات، وبين أحكامها، ثم دخل في نوع خاص من الهبات وهو هبة الوالد لولده، وبين أحكامها من حيث الاعتبار، ومن حيث الصحة، ومن حيث الرجوع.

    وبعد أن فرغ من هذا تكلم على مسألة جواز أخذ الوالد من مال ولده، وينبغي لطالب العلم أن يفرق بين مسألة جواز الأخذ من مال الولد، وبين التصرف في مال الولد.

    فجواز الأخذ كأن يأتي ويجد -مثلاً- عشرة آلاف فيأخذ منها ألفاً، أو يقول: يا بني أعطني نصف راتبك، أو ربع راتبك أو ألفين من راتبك ونحو ذلك، أو كأن تكون للولد مزرعة فيأتي ويأخذ من رطبها وثمارها ونحو ذلك، أو يكون الأخذ في المنافع، مثل أن تكون هناك سيارة للولد، فيركبها الوالد لقضاء مصالحه أو نحو ذلك، فهذه كلها بينا أنها جائزة، لكن مسألة التصرفات المرتبطة بالعقود، وذلك بأن يتولى الوالد عن ولده عقوداً، فيمضي عقوداً عن الولد، سواء كانت عقود معاوضات مالية من البيع والشراء، أو كانت عقود إرفاقات كالقرض والهبة ونحو ذلك.

    قال رحمه الله: [فإن تصرف في ماله].

    قوله: (فإن تصرف) أي: الوالد، (في ماله) أي: في مال الولد، والتصرف في مال الولد كما ذكرنا: إما بعوض وإما بغير عوض.

    وقوله رحمه الله: (إن تصرف في ماله) أخرج غير الأموال، كأن يطلق زوجة الولد، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وقد بينا أحكام تطليق الوالد عن ولده، وفصلنا بين الصغير وغير الصغير، والمميز والذي لا يميز، لكن الكلام هنا في الأموال فقط.

    حكم تصرف الوالد فيما وهبه لولده

    قال رحمه الله: [ولو فيما وهبه له].

    قوله: (ولو) هذه إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كان التصرف في مال كان الوالد قد وهبه لولده، مثال ذلك: قال: يا بني! هذه المزرعة وهبتها لك، وقد بينا أنه إذا قال: وهبتها؛ فلا تلزم الهبة إلا بالقبض، فإذا أخذ الولد هذه المزرعة وقبضها وتم القبض، وحكم بانتقال اليد فأصبحت المزرعة ملكاً للولد، فحينئذٍ يرد السؤال: لو أن الوالد يوماً من الأيام جاء وتصرف فيما وهبه لولده، فما الحكم؟

    والجواب: أن الوالد إذا تصرف فيما وهبه لولده لا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يتصرف بعد الرجوع، فيقول: رجعت عن هبة بستاني، أو يفعل فعلاً مع نيته أنه رجع، فقد بينا أنه يشرع للوالد أن يرجع في هبته، فإذا كان التصرف بعد الرجوع فلا إشكال في جواره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت للوالد الحق في الرجوع في هبته لولده.

    لكن الإشكال إذا تصرف فيما وهبه له قبل الرجوع، فقال رحمه الله: (ولو فيما وهبه له)، فهناك قول بجواز التصرف مطلقاً في كل ما وهبه له، وكأن هذا التصرف يعتبر رجوعاً في الهبة، وهذه هي الحالة الثانية.

    وزيادة في الإيضاح عندنا صورتان:

    الصورة الأولى: أن يقول: هذه المزرعة هبة لك، فقال: قبلت، وقبض المزرعة، وحكمنا بلزوم الهبة، وكتب صكها باسم الولد، وفي يوم من الأيام قام الوالد فباع المزرعة التي وهبها.

    فإن كان قد قال: رجعت عن هبتي، وبعد أن قال: رجعت عن هبتي باعها، أو قال: يا بني! هذه المزرعة التي وهبتها لك أنا راجع عن هبتي، أو قال: أيها الإخوان -وهناك عنده شهود- اشهدوا أني رجعت عن هبتي المزرعة لولدي، وقد بعتها لفلان، فإن وقع فلا إشكال أنه وقع التصرف بالبيع بعد الرجوع في الهبة، والبيع صحيح، وتصبح المزرعة راجعة للوالد وسقط حق الولد.

    والدليل: أن السنة أثبتت أنه يحق للوالد أن يرجع عن هبته.

    الصورة الثانية: أن يقول: بعت هذه المزرعة. وكان قد وهبها لولده، ولم يثبت رجوعاً لا بالقول ولا بالفعل المقترن بالنية، فحينئذٍ لا يصح هذا التصرف.

    أو قال: أوقفتها، فهذا تصرف بغير عوض، ولا يصح، أو قال: بدل أن يأخذها ولدي فلان قد وهبتها لفلان، للولد الآخر، فلا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعاً قبل تصرفه في مال ولده الموهوب.

    تصرف الوالد فيما وهبه لولده بيعاً أو عتقاً أو إبراءً

    قال رحمه الله: [ببيع أو عتق أو إبراء].

    قوله: (ببيع) قلنا: التصرفات إما أن تكون بعوض وإما أن تكون بدون عوض، والذي بدون عوض إما أن يكون بين المخلوق والمخلوق، وإما أن يكون بين المخلوق والخالق.

    وقوله: (ببيع) هذا تصرف بعوض.

    وقوله: (أو عتق) هذا بدون عوض فيما بين المخلوق والخالق؛ لأنه يعتق لوجه الله.

    وقوله: (أو إبراء) تصرف بدون عوض فيما بين المخلوق والمخلوق، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله، حينما قال المصنف: (ببيع) الفقيه يعرف أن المصنف لا يريد البيع وحده؛ بل يريد جميع عقود المعاوضات المالية التي تندرج تحت البيع، مثل: الإجارة، فلو سألك سائل وقال: والد وهب عمارة لولده، ثم لم يرجع عن هبته وأجرها قبل الرجوع، فما الحكم؟!

    فتقول: الإجارة باطلة، إلا إذا أجازها الولد، فهذا لا إشكال فيه، فهي باطلة إذا كان الولد امتنع منها.

    أو قال: وهب سيارة لولده ثم أجر هذه السيارة، فهذا تصرف بعوض وهو الإجارة، فتقول: لا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعه، وتدرج جميع عقود المعاوضات تحت هذه الصورة، حتى ولو شارك -جعلها شركة- أو ضارب بها فجعلها قراضاً، فأعطاه مالاً ثم بعد ذلك أمر الغير أن يضارب به، فجميع تصرفات المعاوضات المالية إذا تصرف الوالد فيما وهبه لولده قبل الرجوع باطلة.

    وقوله: (أو عتق) كأن أعطاه عبيداً، ثم جاء وقال: هؤلاء العبيد أحرار لوجه الله، قبل أن يثبت رجوعاً بالقول أو بالفعل المصحوب بالنية، فحينئذٍ نقول: هذا تصرف من الوالد فيما وهبه لولده، ولم يثبت رجوعه؛ فلا يصح هذا التصرف.

    أو يكون الولد نفسه يملك عبيداً، فجاء الوالد وقال: أنتم أحرار لوجه الله، أو قال: يا فلان -وكان من عبيد ولده- أنت حر أعتقتك كفارة عن ظهار أو قتل، أو غير ذلك مما يوجب العتق، فهذا كله لا يصح.

    وقوله: (أو إبراء) هذا فيما بين المخلوق والمخلوق، والإبراء: أن تبرئ المديون، والبراءة من الشيء توجب خلو التبعة والمسئولية عن الشخص من ذلك الشيء، فإذا قلت: أنا بريء من هذا الشيء، فحينئذٍ لست بمسئول عنه وليست عليك تبعة.

    ويستخدم الإبراء في الحقوق، وذلك أن كل شخص ثبت لك عليه حق؛ فإن ذمته تبقى مرهونة مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه، ولا يفك إلا بسداده أو تبرئة منك.

    فالإبراء أن تقول: أسقطت حقي، سامحتك عن الدين، عفوت عنك، أبرأتك، أبرأت ذمتك من الدين، ونحو ذلك من الإبراءات.

    فإذا أبرأ الوالد المديون لولده، فهناك صورتان:

    الصورة الأولى: أن يكون الوالد قد أعطى مالاً لولده فأقرضه الولد لشخص، مثلما يقع في بعض الأحيان بين الإخوة، كأن يعطي الوالد الأولاد جميعهم كل واحد عشرة آلاف ريال، فيستقرض زيد من محمد العشرة الآلاف التي له، فالعشرة آلاف في الأصل ملك للوالد وهبها لمحمد ولده، فلما استقرضها زيد من محمد أصبحت ذمة زيد مشغولة لأخيه محمد، فلو قال الوالد يوماً من الأيام: يا زيد! دين محمد عليك أنت منه بريء، أو أبرأتك من هذا الدين، أو لا دين عليك، أو أسقطته، أو عفوت عنك، فهذا إبراء من الوالد في مال ولده الذي وهبه له ولم يثبت رجوعه عنه، فهذا الإبراء ساقط.

    الصورة الثانية: أن تكون العشرة آلاف ملكاً لمحمد في الأصل، من ماله ولم يعطها له والده، فقام محمد وأعطاها ديناً لشخص، فجاء الوالد وأبرأ ذلك الشخص، فقد قلنا: ليس من حقه إلا إذا أجاز ذلك محمد، ولا يصح هذا التصرف بالإبراء.

    والإبراءات لها باب واسع، حتى في مسألة القصاص، فلو جنى شخص على شخص فقطع يده، فقال المجني عليه: لا أريد القصاص لكن أريد نصف الدية؛ لأن اليد فيها نصف الدية، فجاء الوالد وقال: عفوت عنك هذا النصف، أو أسقطت عنك هذا النصف، أو عفوت عن دين ولدي، فلا يملك الوالد الإبراء، وليس من حقه أن يبرئ عن مال ولده.

    قال بعض العلماء: حتى ولو كان صغيراً؛ لأن الوالد يلي مال ولده بالمعروف، وفي الإبراءات والعفو إضرار بمصلحة الولد، ولذلك قلنا: لا يصح الإبراء.

    فلو عفا الوالد عن جانٍ جنى على ولده فقطع يده، فقال الولد: أريد القصاص، أريد أن تقطع يده كما قطع يدي، أو تقطع أصبعه كما قطع أصبعي، أو تقطع رجله كما قطع رجلي، أو أي جناية يمكن فيها القصاص، فإذا ثبت حق الولد في هذه الجناية وجاء الوالد وقال: سامحت هذا الجاني، فليس ذلك من حقه؛ لأن الإبراء إنما يكون للولد وليس للوالد، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسائل في مسألة العفو عن الحقوق في الدماء والقصاص.

    لكن إذا كان الوالد هو ولي الدم، فقيل له: هل تريد القصاص أو الدية؟ فقال: أريد الدية وعفا عن القصاص، فهذا يصح، وإن قال: لا أريد دية ولا قصاص قد عفوت لوجه الله فيصح؛ لأنه ولي الدم، أما إذا كان ولي الجناية وولي الحق في الجناية حياً عاقلاً له حق التصرف؛ فحينئذٍ لا يملك الوالد أن يدخل عليه وأن يتصرف بإسقاط حقه في الجناية.

    حكم أخذ الوالد ما وهبه لولده قبل الرجوع في هبته

    قال رحمه الله: [أو أراد أخذه قبل رجوعه].

    أي: أراد أخذ المال الذي وهبه قبل أن يثبت رجوعه -كما قدمنا-، كأن يكون قد وهبه سيارة ثم قال: أريد السيارة التي أعطيتك إياها، وذلك قبل أن يثبت رجوعها بالقول أو بالفعل، فبعض العلماء يقول: إذا قال له: أعطني السيارة؛ صار هذا بمثابة الرجوع ويكفي، ولا يشترط أن يكون معه النية.

    وقوله: [أو تملكه بقول أو نية].

    قلنا: الرجوع يثبت للواهب ملكية العين التي وهبها، فإذا قال: رجعت عن هبتي؛ رجعت الهبة ملكاً له، أي: تثبت الملكية للواهب، وحينئذٍ إذا كان التصرف قبل ثبوت الملكية بالرجوع، لم يصح إلا أن يأذن الولد، وأما إذا ثبتت ملكيته أو ثبت رجوعه وتصرف بعد ذلك؛ صح البيع وثبت.

    والعلماء يضعون هذه المسائل لأهميتها، ولوقوع الخصومات فيها، كرجل -مثلاً- وهب ابنه مزرعة، ثم باع هذه المزرعة في غيبة ولده لشخص ما، ثم توفي الوالد وجاء الشخص الذي اشترى يطالب بهذه المزرعة، فحينئذٍ القاضي إذا ثبتت ملكية الولد للمزرعة وثبتت الهبة؛ لا بد أن يثبت رجوع الوالد عن هبته، ولا يصحح هذا البيع إلا بعد ثبوت الرجوع، فهذه كلها مسائل يحتاج إليها خاصة إذا وقعت هناك استحقاقات، وأكثر ما تقع إذا توفي الوالد أو جُن -نسأل الله السلامة والعافية-.

    وقوله رحمه الله: [وقبض معتبر].

    كما ذكرنا: أنه يشترط في صحة الهبة وجود القبض، والقبض قلنا: مما ترك الشرع ضابطه للعرف، والقبض يختلف باختلاف الشيء، واختلاف العرف، واختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل ما عده الناس قبضاً وحيازة حكم بكونه قبضاً وحيازة، كما يقال في الحرز في السرقات -كما سيأتينا في كتاب الجنايات-: أن حرز كل مال على حسب العرف، وهذا مما يدرجه العلماء رحمهم الله تحت القاعدة المشهورة: العادة محكمة.

    فقال المصنف: (قبض معتبر)، وقد يكون هناك قبض غير معتبر، وهو الذي يكون بدون إذن الواهب، وقد بينا هذا، فالقبض المعتبر هو الذي أذن فيه الواهب، فإذا ثبتت الهبة وثبت القبض بإذن الواهب صحت وثبتت الهبة، وأصبح المال الموهوب ملكاً للموهوب له.

    أما لو كان قبضاً غير معتبر، كأن قال له: يا بني! وهبتك مزرعتي، فقال: يا أبتي! أعطني إياها، أعطني مفاتيح المزرعة حتى أتصرف فيها، فقال: انتظر إلى نهاية الأسبوع، ثم قبل نهاية الأسبوع توفي الوالد، فلا تثبت الهبة؛ لأنه لم يحدث فيها قبضاً معتبراً.

    إذاً: لابد أن يكون هناك قبض معتبر، كما جاء في الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين: (أي بنية! إني كنت قد نحلتك عشرين وسقاً جاداً، فلو أنك احتزتيه -وفي رواية: جديتيه- لكان ملكاً لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك؛ فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء).

    فدل على اشتراط القبض، ومن هنا أجمع العلماء على أنه لا تثبت ملكية الهبة للموهوب له إلا بالقبض المعتبر.

    وقوله: [لم يصح بل بعده].

    أي: لم يصح تصرف الوالد بما ذكر آنفاً، لكن يصح إذا وقع بعد الرجوع حصول القبض المعتبر كما سيأتي.

    فإذا كان قد باع السيارة بعد أن أثبت رجوعه عن هبته لولده؛ فإنه يصح بيعه، ولو باع العمارة التي وهبها لولده بعد أن أشهد أو أثبت رجوعه عن هبتها؛ فحينئذٍ يصح بيعه وتصح إجارته ويصح سائر تصرفه؛ لأن المال رجع لملكه.

    1.   

    حكم مطالبة الولد لوالده بدين أو نحوه

    قال رحمه الله: [وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه].

    قوله: (وليس للولد) أي: ليس من حق الولد أن يطالب أباه بمال ديناً كان أو غيره، إلا النفقة التي أوجبها الله عز وجل على الوالد لولده.

    وقد بين المصنف رحمه الله في هذه العبارة أنه لا يجوز للولد أن يطالب والده بالحقوق المالية التي تجري بينه وبين والده، ومن أمثلة ذلك: القرض، فلو أنه اقترض الوالد من الولد مالاً، ثم تأخر الوالد في السداد، فقام الولد بمطالبة والده، قال المصنف: ليس للولد أن يطالب، وإذا قلت: ليس له، فيتفرع على هذا أنه لا يجوز، ويحكم بإثم الولد إذا فعل ذلك؛ لأن الله يقول: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وهذا من أبلغ ما يكون وصية حينما جاء بالمصدر (إحساناً)، وكأنه يحتم على الولد أن يكون مع والده على سبيل الإحسان لا على سبيل الإساءة.

    ومن الإساءة أن يطالب والده بدين، ومن أعظم الإساءة أن يطالبه في القضاء أو يشتكيه أو يخاصمه، فهذا ليس من الإحسان في شيء، وليس من البر الذي أوصى الله به الأولين والآخرين، وحث عليه عباده أجمعين، حتى ولو كان الوالد من الكافرين، فقد أمر به وحتمه وقرنه بتوحيده سبحانه وتعالى تعظيماً لشأن البر.

    ويشمل هذا المطالبة الفردية فيزعج والده، يقول: أعطني ديني، يا أبتي تأخرت! يا أبتي أعطني مالي! يا أبتي كذا.. فليس من حقه، حتى ولو تلطّف في المطالبة فلا يطالبه: (أنت ومالك لأبيك) كما جاء في حديث السنن.

    وهذا كله مفرع على الأصل من أن الواجب على الولد أن يحسن إلى والده لا أن يسيء إليه.

    وأيضاً: هناك حقوق للوالد على ولده، وإحسان لا يستطيع الولد أن يجازيه ويكافئه، إلا أن يجد والده رقيقاً فيشتريه ويعتقه، فيفك رقبته من الرق كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الإحسان الذي قام به الوالد على ولده منذ صغره، وهذا البذل الذي كان يبذله على ولده بدون حساب، لا يمكن أن يكافئه عليه، وليس من شرع الله عز وجل أن يقف يوماً من الأيام يضيق على والده في حطام من الدنيا، فيقول له: أعطني الدين! يا أبتي تأخرت! يا أبتي سدد! يا أبتي أنا محتاج! فهذا كله -والعياذ بالله- من العقوق، ومما يوجب الله عز وجل بسببه محق البركة من المال، فإن هذا من كفران النعمة، والله تعالى قد أخبر في كتابه أنه يجازي كل كفور، فيسلبه بركة ماله، ولربما سلبه نعمة المال، فأصبح المال نقمة ووبالاً عليه -نسأل الله السلامة والعافية-.

    والخلاصة: أن المطالبة غير جائزة، فتثبت أولاً: أنه لا يجوز أن يطالبه لا فردياً ولا أمام الناس، وأمام الناس أشد وأعظم.

    ثانياً: تثبت أنه يأثم، فيحكم بإثمه إذا طالبه، وأن هذا من العقوق والأذية والإضرار.

    ثالثاً: لو تقدم إلى القضاء وطالب والده بالمال؛ فإن دعواه تسقط؛ لأن الدعوى من أصلها غير ثابتة وغير معتبرة شرعاً، فليس فيها استحقاق؛ إذ ليس للولد حق على والده أن يطالبه بمثل هذا.

    وقوله: (وليس للولد مطالبة أبيه) بعض العلماء يقول: ليس له مطالبة والديه، فيشمل الأب والأم، وحق الأم آكد، لكن بعض أهل العلم خص الأب لورود النص فيه؛ لأن الأب دائماً يتكفل بالنفقات، ولا شك أن السنة بينت أن الأم لها حق أعظم من حق الوالد، قال كما جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فجعل حق الوالد بعد ثلاثة حقوق للأم.

    ولذلك قالوا: إنه لو توفي والداه وأراد أن يحج عنهما؛ بدأ بالأم قبل الأب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببرها، ولو تعارض حق الأم والأب؛ قدم حق الأم على حق الأب، وهذا لثبوت السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد ذلك فقال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، وهذا كله يدل على عظيم حقها، وعظيم ما لها من المعروف العظيم، فإذا أثبتت السنة للوالد شيئاً وأمكن من حيث النظر في العلة إلحاق الأم؛ فإن الأم أولى به.

    لكن بعض العلماء يقول: إن هذه المسألة فيها خصوصية، وقد سبق التنبيه على هذا، وهي رواية عن الإمام أحمد ، أنه جعل الرجوع للأب دون الأم، وقد بينا أن الصحيح أن الأم تملك الرجوع كما يملكه الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل بقوله: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) وهذه علة مشتركة بين الأم والأب.

    وقد بينا وجه هذه المسألة، حتى إن الظاهرية مع أنهم يتمسكون بظاهر النص قالوا: الأب والأم في هذا سواء، ونص على ذلك الإمام ابن حزم رحمه الله في المحلى.

    والشاهد من هذا: أن المصنف نص على الأب، والأم تلتحق به وتأخذ حكمه.

    وقوله: (بدين ونحوه).

    كذلك الأم لا يجوز للولد أن يطالبها بدين.. نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم أن نقف هذا الموقف، أو يبتلينا وذريتنا بذلك، من يستطيع أن يقول لأمه ويطالبها بدين؟!

    قد يكون في بعض الأحيان لا يتحمل أن يرى أمه في ضائقة حتى يأتي ويجثو عند قدميها ويبذل ما يملك من ماله، كل هذا فداء لهذه الأم، فهو وماله فداء لهذه الأم الكريمة التي ربت وأحسنت، وقدمت الكثير الذي لا يمكن أن تجازى عليه إلا من الله سبحانه وتعالى، الذي يجزي الإحسان بأحسن منه.

    نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزي والدينا عنا أحسن ما جزى والداً عن ولده.

    وقوله: (بدين ونحوه) ونحوه مثل: الأروش التي تكون في الجنايات وغيرها، والمصنف رحمه الله ذكر الدين على الأصل، ويتبع هذا كل ما فيه استحقاق، فلا يطالب فيه الولد والده.

    فلو سكن الوالد في عمارة الولد؛ فلا يأتي ويقول له: ادفع أجرة هذا المسكن، أو ركب معه فيما يؤجره للناس فقال له: ادفع الأجرة مثلك مثل الناس، أو نحو ذلك، فلا يطالبه بدين ونحوه، أي: من الأشياء التي فيها استحقاقات.

    حكم مطالبة الولد والده بنفقته الواجبة عليه

    قال رحمه الله: [إلا بنفقته الواجبة عليه].

    قوله: (إلا): استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج من اللفظ الذي سبق حالة النفقة، فالنفقة من حق الولد أن يطالب والده بها، ومن حقه أن يطالب الوالد بذلك ولو بالقضاء؛ لأن هذا يضر بالولد كثيراً؛ فالله عز وجل أوجب على الوالد أن ينفق على ولده، وفرض عليه ذلك، وإذا كان ملزَماً بذلك؛ فلا يجوز له أن يضيع حق الله في ولده، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: علوم الاجتماع كلها في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، فلا يمكن لمجتمع أن يسعد إلا بهذا الحديث.

    فلو أن كل من يعول قليلاً أو كثيراً يقوم بحقوق الإعالة كما ينبغي لما حدثت مشكلة؛ لأن المشاكل كلها تقع بسبب تضييع حق الإعالة، سواء كانت زوجة أو أولاداً، وحتى إنه يضيع من يعول بالسهر، فيضيع الإنسان حق زوجته، فيضيع حق أولاده في مراجعتهم ومذاكرتهم ومتابعتهم في دروسهم، وفي أصحابهم وقرنائهم، وكل المشاكل إنما نشأت من عدم القيام بحق من استرعاك الله عليهم، وحينما يقوم كل راعٍ بحق رعيته تحل كل المشاكل، فما أبلغ قوله عليه الصلاة والسلام! وما أحسنه وما أجمله وما أجله وأكمله! (كفى بالمرء إثماً) بمجرد أن تسمع هذه الكلمة إذا بالنفوس تقشعر والقلوب ترجف.. ومن الذي يتحمل أن يلقى الله بالإثم والوزر سواء كان في الدين أم في الدنيا؟!

    والإثم لا يزال سبباً في هلاك الإنسان ودماره، حتى لربما تسبب في سوء خاتمته -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في أن يكون قبرُ الإنسان حفرةً من حفر النار -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في شقائه الأبدي بدخول نار جهنم خالداً مخلداً فيها بالإثم أو الشرك أو الكفر ونحو ذلك مما يوجب الخروج من الملة، فالإثم سبب كل بلاء وعناء، ولذلك قال تعالى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].

    هذا الإثم يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، فالوالد جعل الله عليه حق النفقة لأولاده، وجعله قائماً على بيته، يأمرهم بما أمر الله وينهاهم عما نهى الله عنه، فمن حقوقهم المادية: أن ينفق عليهم بالمعروف، فإذا امتنع الوالد مع القدرة على الإنفاق فحينئذٍ ظلم وجار، ومن حق الولد أن يقول له: يا أبتي! أعطني حق النفقة؛ لأن الولد لو لم يطالب والده بحقه لربما وقع في الحرام، ولربما تعرض للسرقة، ولربما تعرض للفواحش بسبب عدم وجود النفقة -عياذاً بالله- والسنة دلت على هذا، ومن ذلك قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، وفيهم الرجل الذي أراد الزنا بالمرأة فإنه لم يتمكن من الزنا إلا لما احتاجت إلى المال.

    وهذه حكم نبهت عليها الشريعة، ونبهت عليها السنة الغراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن من أعظم الإثم إضاعة من يعول، فإذا ضيع الوالد ولده ولم ينفق عليه، كان من حق الولد أن يطالب والده بالنفقة.

    وقوله: (إلا بنفقته الواجبة عليه) هناك نفقة واجبة ونفقة مستحبة، فإذا كان طعام الولد وشرابه وكسوته في حدود المائة، فلا مانع أن يزيد ويحسن إلى ولده، ومما يضع الله فيه البركة للإنسان، ويحسن به العاقبة في الأمور كلها دائماً ألا يبقى على قدر الفرض الواجب الدائم؛ بل يسمو إلى الكمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).

    فإذا أراد أن ينفق على أولاده فالنفقة واجبة ومستحبة، والنفقة الواجبة التي يكون بها السداد ويحصل بها سد الحاجة والكفاية، والنفقة المستحبة إذا وسع الله عليك وسعت على ولدك.

    ولا يجلس الإنسان يدقق في ولده ويحاسبه على الصغير والكبير، قد تكون المحاسبة في حدود معقولة، لكن إذا رأى أن الله بسط عليه وأحسن إليه، فكما أحسن الله إليك تحسن، ولذلك قيل لـقارون : وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

    فتحسن إلى ولدك، ومن المجرب المعروف ما ذكره العلماء بالتجربة: أنك لن تجد رجلاً في بيته يعامل زوجته وأولاده بالسماحة واليسر، ولا يشعرهم بالتضييق والعناء، سمحاً إذا أعطى، وسمحاً إذا أخذ، وسمحاً إذا أمر، وسمحاً إذا نهى، وسمحاً إذا جاد؛ إلا وجدت أموره ميسرة مكفياً من الله سبحانه وتعالى، فكما تدين تدان، ومثلما عاملت الناس يعاملك الله، فلا تجد منه سبحانه إلا الرفق والإحسان والحلم؛ بل أضعاف أضعاف ما ترجوه.

    فالنفقة المستحبة: هي الفضل والزيادة على النفقة الواجبة.

    فلو أن والداً أعطى ولده المائة، وهي سد الحاجة والكفاية، والولد يريد أن يدرس ويريد الزيادة فقال: أريد مائة وعشرين، أو أريد مائة وخمسين، فإنه يطالب فوق المائة بالعشرين والخمسين، وهي في قدر المستحب وليس في قدر الواجب، فهذا ليس من حقه أن يطالب به، لكن إذا أراد أن يتفاهم مع والده على أن والده يكرمه ويزيده؛ فهذه شئون بين الولد ووالده، فيلاطفه ليحاول أن يعطيه القدر الزائد، فمثلاً: ولد أعطاه والده مائة وهو يريد مائة وعشرين، فتلطف مع والده حتى يعطيه العشرين، وبحث عن أمور مؤثرة والمفاتيح التي تفك قفل والده، فهذا ليس بالمحرم.

    أما النفقة المستحبة فالأمر فيها واسع، فإن الإنسان إذا كان بينه وبين أحد ود ومحبة وأراد أن يوسع عليه، وكان بينهما من الأخوة، وبين الوالد وولده من الصفاء والنقاء ما يطلب فيه الولد الأكثر دون أن يعنت الوالد، فلا بأس بذلك.

    قال رحمه الله: [فإن له مطالبته بها].

    أي: بالنفقة الواجبة.

    حكم حبس الوالد لنفقة ولده الواجبة عليه

    قال رحمه الله: [وحبسه عليها].

    أي: أن يطلب من القاضي أن يحبسه، وهذا كما قيل:

    إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها

    فإذا كان هناك أب ظالم مانع لنفقة ولده، وأصبح الولد يخشى على نفسه أن يقع في الحرام أو الآثام، فقال: يا أبتي -بالمعروف- أعطني حقي، فلم يمكنه من حقه، ثم قال له: يا أبتي! أعطني حقي، فسأله وحاول معه فلم يعطه حقه، فحينئذٍ له أن يشارعه إلى القضاء، وأن يطالب القاضي بحبسه حتى ينفق عليه بالمعروف.

    ومن حق الزوجة أيضاً أن تشارع زوجها وتطلب من القاضي حبسه حتى ينفق عليها، وهذا كله من الحقوق الواجبة، فإن الحقوق الواجبة من النفقات تحكم الشريعة فيها، وإذا حكم القاضي بأن النفقة وجبت لفلان على فلان، فالواجب على من وجبت عليه النفقة وهو قادر على بذلها أن يبذلها، فإذا امتنع وطلبه القاضي فقال له: ادفع، وقال: ما أنا بدافع فمن حق القاضي أن يسجنه حتى يدفع الحق الواجب عليه، ويبذل لأولاده حقوقهم ويعطيهم ما فرض الله عليه إعطاءهم.

    فإذا طالب الولد القاضي بذلك كان من حقه؛ لأنه قد يصل إلى مقام الضرورة إذا لم يعط النفقة، وهكذا الزوجة من حقها أن تطالب ولو بسجن الزوج حتى يبرئ ذمته من الحق الواجب عليه.

    وتشدد الشريعة في النفقات يدل على عظمة وكمال هذه الشريعة، فالمشاكل التي تعج بها المجتمعات من السرقات والاعتداء على أموال الناس، كثير منها يقع بسبب إضاعة الحقوق كما ذكرنا.

    فإذا كان الذي يماطل منع ذا الحق حقه، فإن هذا قد يدفع الممنوع من حقه أن يلتمس وجوهاً محرمة، وسبلاً مشبوهة، فيطلب الحرام، وقد يتعامل بالمعاملات المحرمة، فالشريعة تقفل هذه الأبواب، وقد تأتي إلى شخص يقع في حرام فتقول له: لم تفعل هذا؟! فيقول: أنا مضطر ليس عندي من حيلة، وقد تقع المرأة -والعياذ بالله- في الزنا، فيقال لها: لماذا؟ فتقول: لئلا يضيع أولادي.

    ولذلك شدد الشرع في هذا، وزجر كل من يمتنع من النفقات حتى ولو بالحبس، حتى ولو كان والداً فيسجن بحق ولده، ولا شك أن هذا من أكمل ما يكون في زجر الناس وإيقاف كل إنسان عند حدوده، وإلزاماً لما فرض الله عليه مما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات.

    والوالد نفسه يأمن من الشر والبلاء من هذا، ولهذا فإن المجتمعات الغربية والمجتمعات الكافرة كثيراً ما يقع الاعتداء من الأولاد على الوالدين بسبب الظلم في الحقوق، سواء في حقوق النفقة وغيرها.

    وإنما نبهنا على هذا الأمر لأنه قد يستغرب الإنسان كيف يحبس الولد والده بسبب النفقة؟! وينبغي لكل طالب علم بل للناس عامة أن يعلموا علم اليقين أن أي حكم في شرع الله عز وجل وفي الفقه الإسلامي مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوة وفيه شدة، فلن تستطيع أن تدرك الحكم الموجودة فيه إلا إذا خالفت هذا الحكم ونظرت إلى الأسباب المترتبة على عكسه.

    ولذلك قد تجد الابن يعق والده، ولربما يقتله -والعياذ بالله- بسبب الدينار والدرهم، وقد وقع في بعض المسلمين -نسأل الله العافية والسلامة- أن والداً كان ظالماً بخيلاً، فكان يهضم أولاده وزوجته، وقد فتح الله عليه من أموال الدنيا الشيء الكثير، فلما بلغ هذا البخيل الظالم لولده سكرات الموت، قام ولده وجثا على صدر أبيه، وانتزع دفتر الشيكات من صدره، فقال له: اذهب -نسأل الله السلامة والعافية- إلى كذا وكذا.. من غضب الله عز وجل، فلم يرحم والده في آخر عمره، ولم يرحم حالته تلك، وهي حالة تنكسر فيها القلوب القاسية وتلين فيها مما ترى، وليس شيء بعد الدين أعز من الوالدين، وبعدما أمر بتقديمه على الوالدين ليس هناك أحد أعز عليه من والديه.

    وصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- حينما قال: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، فهلاك الناس بالدنيا والمال، ولذلك لا ينبغي التساهل في هذا، فالشريعة تحكم بما يزجر؛ لأنه ربما يأتيك شخص بشبهة ويقول: كيف تأمر الشريعة ببر الوالدين، وتجيز للولد أن يحبس والده في النفقة؟!

    فقل: نعم، هذا أمر له تبعات وله آثار وله تداعيات مترتبة عليه، والشريعة دائماً تنظر إلى العواقب، ولذلك قال الله عز وجل: أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، ودبر الشيء: آخره، فإذا كنت تنظر إلى آخر الشيء فمعنى ذلك أنك قد أحطت بالشيء، وإذا بلغ النظر أنك استوعبت الشيء إلى أن وصلت إلى آخره فقد تم نظرك في هذا الشيء.

    فكل حكم مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: (لقد أوتيت القرآن ومثله معه) تنظر إلى دبره وعواقبه وآثاره فيما لو عكس هذا الحكم من حيث السلب، وفيما لو حكمنا بهذا الحكم من جهة الإيجاب، فلا ترى حكماً أتم من حكم الله عز وجل، ولا أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ولقوم يعقلون، ولقوم يفقهون، ولقوم يدركون، ففيه الخير وكل الخير، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا حسن التدبر في شرعه وحكمه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم تصرف الوالد في مال ابنه من الرضاعة

    السؤال: هل يحق للوالد التصرف في مال ابنه من الرضاعة؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فالرضاعة لا توجب ما ذكرناه من الحكم، ولذلك فليس من حق الوالد أن يتصرف بمال ولده من الرضاعة، فإنه يختص الحكم فيما يكون من النسب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فجعل الحكم بالمحرمية، فدل على أن بقية الأحكام لا تأخذ فيها الرضاعة حكم النسب، والله تعالى أعلم.

    حكم أخذ الولد دينه لأبيه المتوفى من تركته

    السؤال: إذا مات الأب وللابن عنده دين فهل يسقط أم يطالب إخوته أم يأخذه من التركة؟

    الجواب: هذا على ما تقدم، من حيث الأصل: أن الوالد إذا أخذ الدين من ولده وهو يريد سداده، فالمنبغي على الورثة ما دام أن هذا هو الأصل وهو المستصحب أن يسددوا عن والدهم، خاصة وأنه يكون فيه نوع من التفضيل، ويتحمل فيه الولد الذي دين تبعة ذلك الدين أكثر من غيره، فحينئذٍ يسدد له الدين، وأما إذا كان الوالد قد امتنع عن السداد مع القدرة، وفهم منه عدم إرادته للسداد، فلا إشكال، وحكمه حكم ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    متى تسقط نفقة الوالد على ولده

    السؤال: النفقة تجب من الوالد لولده، فمتى يزول هذا الوجوب، هل بمجرد بلوغ الابن؟

    الجواب: إذا بلغ الولد وكان قادراً على الكسب، قادراً على أن يعول نفسه، ويقوم بكفايتها؛ سقطت النفقة عن الوالد، وحينئذٍ فلا يلزم الوالد بالنفقة على ولده، مثال ذلك: إذا بلغ ووجد وظيفة أو وجد عملاً؛ فحينئذٍ تسقط النفقة عن الوالد ويقوم الولد بإعالة نفسه.

    أو كان الولد عنده قوة ويستطيع أن يعمل عملاً أو يتكسب بالعمل المباح، فحينئذٍ يتكسب، وللوالد أن يقول له: اذهب وتكسب، فإذا قصر وامتنع من التكسب كان من حق الوالد أن يمتنع من النفقة عليه ما دام قادراً على الكسب، فالشريعة لا تدعو إلى البطالة، ولا تعين على البطالة.

    ومن هنا ننبه على أن من أفضل ما يكون للإنسان أن يربي الوالد ولده دائماً على الكسب باليد؛ لأنه خُلُق الأنبياء الذين اختار الله لهم الكسب الطيب، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أكلوا من كسب أيديهم، فداود كان في الحدادة يأكل من كسب يده، وكذلك يحيى وزكريا عليهم الصلاة والسلام، فهذا كله لا ينقص قدر الإنسان.

    والشاب الذي تجده يكدح ويتعب من أول شبابه، ويستفتح حياته بأن يكون متوكلاً على الله، آخذاً بالسبب؛ فإن الله يبارك له في صحته، ويبارك له في وقته، ويبارك له في ماله وكسبه، لكن إذا نشأ عالة على والده، يحمل والده النفقة، ولو كان الوالد راضياً بذلك، فإن هذا لا تحمد عقباه، وليس بالأكمل والأفضل.

    بل على الإنسان دائماً أن يسعى في طلب المباح، وقد أخبرني الوالد رحمه الله: أن جدي كان يحفظهم القرآن من وقت الحر إلى طلوع الشمس، فكان يوقظهم من السحر، وكان رحمة الله عليه كثير التهجد والعبادة، حتى إن العمات الآن يقلن: لا يأتي قبل الفجر بساعة ونصف إلا وهن مستيقظات؛ لأنه عودهن من الصغر رحمة الله عليه.

    فمما كان من سيرته: أنه كان إذا صلّى الفجر يجلس مع أولاده إلى الإشراق، وإذا أشرقت الشمس أخذ الألواح التي يحفظون بها -كانوا يكتبون القرآن فيجمعون بين حفظه بالكتابة والرسم والتلقي والسماع-، فإذا طلعت الشمس سحب هذه الألواح منهم وأمرهم أن يذهبوا لكسب العيش، فيذهبون، ومن المعروف أنهم كانوا في بادية، فيذهبون ويطلبون القوت، ولم تكن هناك أعمال لهم، فالذي يذهب يحتطب، والذي يذهب ويقوم على رعي الغنم ومراعي الإبل، المهم ألا يبقى عاجزاً، وألا يبقى عالة.

    وقد كان عنده من الخدم ما يسد حاجته، لكن لابد أن يكدح كل شخص منهم ويلتمس رزقه، ولا يكون عالة على غيره، فهذا هو الأكمل والأفضل؛ أن يعود الوالد ولده، وإذا نشأ الشباب على هذا الشعور فإنهم سيجدون المال الطيب بالكسب المباح الذي ليس فيه شبهة ولا حرام، ويبارك الله لهم في أوقاتهم.

    ولذلك تجد الشاب الذي يتعود على البطالة وعلى والديه لم يهنأ له العيش، حتى إنك تجد الواحد منهم تصب في حجره عشرات الألوف وهو من أنكد الناس -نسأل الله العافية والسلامة- ومن أبأسهم حالاً، وتجده في أشد ما يكون من الضيق والعناء.

    ولذلك ينبغي البعد عن هذه البطالة، وعلى الإنسان أن يبحث عن الكسب الطيب الذي يصون به نفسه وماء وجهه عن سؤال الناس أو الحاجة إلى الناس، قيل لـإبراهيم بن أدهم -وهو من عباد الناس الصالحين وقد كان في البحر في سفينة، فأصابتهم الريح، فمالت السفينة وكادت أن تغرق، ثم نجاهم الله عز وجل، فقيل: (يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة وهذه الكربة؟ فقال رحمه الله: إنما الشدة الحاجة إلى الناس).

    فالذي لا يتعود على الكسب بيده، ولا يتعود على طلب رزقه، وسؤال الله المعونة، فإنه سيكون في أسوأ الأحوال، فليس هناك أشد من أن يقف الإنسان أمام الغير ليسأله حاجة من حوائج الدنيا، فنسأل الله العظيم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، والله تعالى أعلم.

    حكم استدانة الولد لتلبية متطلبات والده الضرورية

    السؤال: أحياناً يطلب مني الوالد أكثر مما أطيق، كأن يطلب زيادة على ما أعطيه، ولا أجد قدرة على ذلك، فهل أستدين وألبي رغبته؟

    الجواب: هذا الحقيقة فيه تفصيل، فمن حيث الأصل لست بملزم، لكن هناك ظروف تطرأ على الوالد، وهذه الظروف صعبة؛ كعلاج ضروري، وهذا العلاج بخمسمائة ريال، وحدود النفقة التي تعطيها أنت للوالد مثلاً مائتا ريال، لكن العلاج هو محتاج إليه الآن، ولو أنك استدنت الخمسمائة وفرجت -بعد الله- كربة أبيك، ثم استعنت بعد ذلك على سدادها من راتبك دون أن تقع في حرج وضيق، فهذا من أفضل وأكمل ما يكون، وتحتسب ذلك عند الله.

    فمن حيث الأفضل والأكمل أقول لك: لن تعدم من الله عز وجل الخير والبركة ما دمت باراً لوالدك، وأكمل ما يكون البر في الشدائد، أما من حيث الواجب فلا يجب عليك الشيء الزائد عن حاجتك، والزائد عن قدرتك، والذي لا تستطيع: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

    لكن كن على علم ويقين أن الله لن يضيعك، وأن الله سيفتح لك من أبواب البركة والخير ما لم يخطر لك على بال، فما وجدنا البر سيئ العاقبة أبداً؛ بل إن البار في أحسن الأحوال وأكمل ما يكون عليه المآل في الدنيا والآخرة، ولذلك تجد البار ما يسلك طريقاً إلا سهله الله له، ولن يقرع باباً إلا فتحه الله في وجهه ميسرة أموره.

    وأنت إذا أخذت الأمر بالدقة وقلت: أنا لا أستطيع! أنا لا أريد! لا تحملني ما لا أطيق! وكفحته في وجهه، وأنت ترى ظرفاً قاهراً وأموراً تحتاج منك أن تكون الابن الأكمل والأفضل، وأن تسمو بنفسك إلى معالي الأمور، وتحس عندها أن الله يسمعك، وأن الله يراك، وأن من أعظم ما يكون من الخير سرور تدخله على مسلم، فكيف بوالديك؟!!

    فإذا ألزمت نفسك الشدة وأنت متوكل على الله، مفوض أمرك إلى الله؛ فإن الله لن يخيبك، فسيفتح الله لك من اليسر والمعونة والتوفيق، ويربط على قلبك وييسر لك من أمرك ما لم يخطر لك على بال، والله حتى ولو أصبحت في ضيق لكن الله سيبارك لك في عيشك، وليقرنّ الله عينك عاجلاً أو آجلاً، وليجمعن الله لك بين حسن العاقبة من برك وحسن النظر في أهلك وولدك غداً، فمن برّ والديه برّه أبناؤه وبناته، وقرّ الله عينه بالبر حياً وميتاً.

    فلا يظن الإنسان أنه إذا وقف عند الحدود الواجبة أنه يعدل عند الله المعونة إذا خاطر بماله ووقته.. لا؛ بل إن الله يعينه ويوفقه.

    وأياً ما كان فليس بفرض، ولكن الأفضل والأكمل أن تحتسب، ونسأل الله عز وجل أن يمدنا وإياكم بعونه وحوله، والله تعالى أعلم.

    تفسير قاعدة (العادة محكمة)

    السؤال: نرجو منكم توضيح هذه القاعدة: العادة محكمة؟

    الجواب: العادة محكمة هي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي، وهي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، واليقين لا يزال بالشك، والعادة محكمة.

    والعادة مأخوذة من العود؛ لأن الإنسان إذا اعتاد شيئاً رجع إليه مرة بعد مرة، ولذلك سمي العيد عيداً؛ لأنه يتكرر ويعود إليه الإنسان في كل عام مرتين.

    والمراد بالعادة: ما اعتاده أهل العرف الإسلامي، وعند العلماء ضوابط، فليس كل عادة في بلد يحتكم إليها، وليس كل شيء يعتاده الناس يحتكم إليه ويعمل به، فالشريعة جاءت بأشياء حكم فيها بأحكام معينة، وحددت هذه الأحكام، وفصلت فيها، فمثلاً: بينت مقادير الزكوات، وفرضت على الناس أداءها، فبينت زمانها والأصناف التي تجب فيها، ومن تدفع إليه الزكاة، والأوقات التي تجب.. إلى آخره.

    لكن هناك أشياء أوجبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، وهناك أشياء دعت إليها واستحبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، والسبب في هذا: أن العقول جعلها الله نوراً للناس، ولذلك جعل الله نور العقل ونور الوحي، فالشخص تكمل عليه نعمة الله إذا جمع بين نور الشرع ونور العقل الذي وهبه، كما قال تعالى: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].

    فالذي عنده عقل سليم لا يفعل إلا الشيء السليم؛ لأن العقل يعقل ويمنع عما لا يحمد، فالمسلَّم من حيث الأصل أن الناس في الأعراف الإسلامية في الغالب يعتادون أجمل الأشياء وأكملها وأحسنها، فإذا جئنا -مثلاً- إلى عرف بلد إسلامي فوجدناهم اعتادوا أمراً، وهذا الأمر نحتاجه لتقدير حكم أو ضبط شيء أمر الشرع بضبطه بعرف الناس؛ رجعنا إليه، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) وهذا يعتبر من خوارم المروءة، فإذا جئت تبحث ما هي المروءة تقول: المروءة أن يكون الإنسان في أكمل وأحسن الأحوال التي تليق به في خاصته، فالعالم له وضع، وطالب العلم له وضع، وعامة الناس لهم وضع.

    فمثلاً: الأكل في المطعم أمام الناس، أو مثلاً: الأكل في الشارع، فقد يأتي شخص ويأخذ طعامه ويضعه في فمه أمام الناس، فهذا لا يمكن أن يقبل من عالم أن يأتي أمام الناس ويأكل إلا في أمور مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب القدح أمام الصحابة، وأكل أمام الصحابة للتعليم في السفر، فهذه أمور مستثناة، لكن في داخل المدينة وبإمكانه أن يأكل في بيته، فيخرج طعامه أمام الناس في السوق أو في المجامع ويجلس أمامهم، فهذا يسقط المروءة، ومع أنه مباح وجائز، لكن الناس إذا رأوا هذا الشيء استهجنوه، وليس له حكم في الشريعة، فإن الشريعة لم تحرم علينا أن نأكل، فالأكل جائز، لكن الأكل أمام الناس بهذا الشكل أصله مباح:

    وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان

    فنقول: هذا مردود، ولا نقبله منك أيها العالم، ولا نقبله منك يا طالب العلم؛ لأن عادة المسلمين وعرفهم لا يقبلون هذا.

    ولو خرج إنسان بملابسه الداخلية، أو بملابس النوم، فهو أمر مباح، فإنه يجوز للشخص أن يخرج بالقميص، ولا بأس به، لكن في عرفنا وما اعتاده الناس أن هذا يزري بالإنسان، ولا شك أن هذا الشيء من خوارم المروءة.

    قالوا: لأن الإنسان الذي لا يبالي بالناس ليس عنده عقل، فكونه يخرج أمام الناس لابساً هذا اللبس الذي لا يليق إلا أن يلبسه داخل البيت، يدل على نقصان عقله، فانخرمت مروءته، لكن هذا الحكم ما أخذناه من نص من الكتاب والسنة، لكن أخذناه من أعراف المسلمين الكاملة الفاضلة.

    وإذا جاء شخص وجلس أمام الناس وهو -مثلاً- من أعيان الناس وكبارهم، فيحتاج إلى أن يكون على وقار وعلى سمت وعلى جلالة قدر تليق به؛ كالعالم، وطالب العلم، فجلس يضحك ويفعل الأمور التي لا تليق به، ويتهكم ويستخف، أو يأتي بالنكت ويسخر من هذا ويضحك من هذا، ويمزح مع هذا، فماذا نعد هذا؟!

    تجد عامة الناس العاقل منهم ينظر إليه نظرة غريبة، مع أنه لم يفعل محرماً، فاللهو مباح، والضحك مباح، لكن من مثله في هذا المكان بهذه الصفة لا يليق، فيعتبر خارماً للمروءة، لكن لما حكمنا بكونه لا يليق ليس بنص من الكتاب ولا من السنة، ولكن من عرف المسلمين وعادتهم الكريمة التي جبلوا فيها على أحسن وأكمل وأفضل ما يكون عليه الناس، ولأن الله اختار لهم أفضل الأديان وأحسنها، فاختار لهم أحسن العادات.

    ومن هنا تتخرج مسألة لبس المرأة للقصير أمام النساء، فالذي يحدث من بعض من يلبس على الناس دينهم ومن أنصاف المتعلمين يقول: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، إذاً تكشف المرأة ساقيها، ولها الحق أن تكشف عن صدرها وتلبس الملابس العارية؛ لأنها مباحة، ولا يوجد دليل على التحريم.

    فنقول: إن هذا الشيء من حيث الأصل العام أن عورة المرأة مع المرأة من جهة حد التحريم الأصلي، لكن لا يقتضي هذا الهجوم على عادات الناس ومكارم الأخلاق، وسل العادات الحميدة من النفوس الطيبة التي ألفت هذه العادات، وسنّ القدوة السيئة حتى يقتدى بها الغير والتي تفتح شراً على المجتمع، هذا هو الذي يعاتب عليه، وهذا الذي يمنع منه، فالمرأة التي تأتي كاشفة عن ساقيها ساقطة المروءة، سقطت عدالتها، وهذا ذكره العلماء، وبينوا أن الأمور المباحة إذا فعلت في العيان في الحفلات وفي مجامع الناس أوجبت سقوط المروءة، ودلت على نقصان عقل الإنسان، وقد تدل على نقصان دينه.

    وعندما تجد الشخص يأتي ويقول لهم: هذا الفعل ليس فيه شيء، واتركوا بناتنا يفعلن هذا الشيء، واتركوا نساءنا يفعلن..! هذا إنسان يريد أن يهدم المجتمع، ويريد أن يقوض العادات الكريمة المستقيمة.

    والشاب الآن حينما يأتي وهو رجل فيأتي كاشفاً عن فخذيه ويقول: هناك من العلماء من يقول: إن العورة هي السوءتان فقط، وأن الفخذ ليست بعورة، فيأتي أمام مجامع الناس لابساً هذا اللباس معتدياً على حرمات المسلمين؛ لأن للمسلمين حرمة، فليس من حق أحد أن يكشف محاسنه فيفتن الغير بها؛ لأن هذا أمام الناس، ولو كان في بيته فهو حر في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا كله: (الله أحق أن يستحيا منه) حتى مع كون الإنسان وحيداً، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! عورتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قالوا: يا رسول الله! أحدنا يكون خالياً، قال: الله أحق أن يستحيا منه)، وقال في الحديث الصحيح: (إن معكم من لا يفارقونكم)، وهم الملكان الكرام الكاتبون، الذين يعلمون ما تفعلون: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوهم وأكرموهم).

    ثم الشاب الذي يأتي فيكشف عن فخذه لا ينبغي أن يسكت عليه الغير، فحينما تراه تأتي وتنصحه بالتي هي أحسن.

    وقد رأيتُ شاباً ذات مرة بهذه الصفة فناديته وقلت: يا أخي! أولاً: هذا الذي تفعله ليس من حقك شرعاً، فليس من حقك شرعاً أن تكشف شيئاً مما يوجب الفتنة لغيرك.

    ثانياً: أنا أريد أن أسألك سؤالاً: لما رأيتني بالثوب ورأيتني بهذا اللباس ناشدتك الله هل ترى في ثوبي عيباً؟

    قال: لا.

    قلت: لبسك لهذا الشيء طعنٌ في هذا الشيء، أنت في أمة كاملة وفي بلد قدوة للأمة كلها تنظر إليهم النظرة الفاضلة الكاملة، وتعتدي على مكارم العادات ومحاسن العادات!

    ومن ناحية شرعية: لا إشكال في كونه يقلد الغرب، وهذا سنأتي عليه، وقد بينته له بعد ذلك، وبينت له أن لبسك لهذا اللباس تبعاً لغيرك يدل على انهزامك، وأنك تبع للغير، (من أحب قوماً حشر معهم) وأنت خيرت بين لباسين:

    - لباس الكمال والفضيلة.

    - ولباس النقص والذي يقود إلى الرذيلة.

    فهل هناك عاقل يرضى لنفسه أن يلبس هذا اللباس؟!

    إن هذا اعتداء على قيم الناس.

    ثم الرجل الواحد والمرأة الواحدة التي تأتي في الحفلة وتلبس لباساً فيه نوع من الاشتهار، يدخل في لباس الشهرة، وقد جاء في الحديث: (ومن لبس لباس شهرة ألبسه الله ثوباً من نار)، نسأل الله السلامة والعافية، ومن لبس لباس الشهرة شهَّر الله به في الدنيا والآخرة.

    فالحذر! والله لا ترضى المسلمة أنها تربت في بيت ترى فيه أمها كاشفةً عن فخذيها، والمرأة التي تكشف عن فخذيها أمام بناتها وأمام المجتمع تسأل نفسها: لو أنها استفاقت يوماً من الأيام وقد رأت أمها كاشفة فخذها هل ترضى ذلك لأمها؟! فكيف ترضاه لبناتها؟! فنحن لا ننظر إلى القدوة، مع أن القدوة لها أثر.

    إذاً: (العادة محكَّمة) قاعدة صحيحة، ويرجع إليها في تقدير النفقات، فالنفقة الزوجية يُرجَع فيها إلى العادة، ونقول: إذا كنتَ غنياً تقدِّر بنفقة الغنى، وإذا كنتَ فقيراً تقدِّر بنفقة الفقر، وإذا كنتَ متوسطاً بنفقة الوسط، والمهور يُرجَع فيها إلى مهر المثل، وهذا من الرجوع إلى القاعدة والاحتكام إلى العادة، وقس على ذلك.

    لكن الذي يُنبَّه عليه: أنه لا يحتَكَم إلى العادة الخاطئة، ولذلك قالوا: لو تعارف الناس على أمر محرم انتشر بين المسلمين فأصبح عادةً لم يرتبط به حكمٌ شرعي، حتى قالوا: لو اعتادوا -مثلاً- على حلق اللحى وأصبح عادةً فإن هذا لا يُحتكم إليه؛ لأن شرط العادة:

    أولاً: أن تكون في المشروع، لا في الممنوع.

    ثانياً: أن تطرد اطراداً في أغلب الناس أو أكثر الناس، خاصة إذا شملت المجتمع كله، فهذا مما يُحتكم إليه ويثبت العمل به.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756335159