إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب إزالة النجاسة [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تختلف النجاسات في أثرها وشدتها، ومن ثم يختلف ما تزال به بعض النجاسات عن بعض، فقد تزال نجاسة بشيء لا تزال به نجاسة أخرى، وهذا يؤدي إلى اختلاف وسائل إزالة النجاسات، على خلاف بين العلماء في بعضها.

    1.   

    ما لا يجزئ في تطهير المتنجس

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    حكم زوال النجاسة بالشمس

    فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك].

    (ولا يطهر متنجس بشمس) صورة المسألة: لو أنك رأيت النجاسة قد أصابت طرفاً من الأرض الذي تصلي عليه، ثم هذا الموضع أصابته الشمس أياماً أو فترة من الزمن، وجئت ووقفت عليه فلم ترَ أثراً للنجاسة فهذا يسميه العلماء: (المكان المتطهر بالشمس) أي: زال أثر النجاسة عنه بالشمس، وللعلماء فيه قولان:

    قال بعض العلماء: إذا زالت النجاسة بالشمس ولم يبقَ لها أثر في الموضع؛ فإنه يحكم بطهارة ذلك المكان، ويرجع إلى أصله. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .

    والقول الثاني يقول: إنه لابد من صب الماء ولو زال أثر النجاسة بالشمس، وبه قال جمهور العلماء، ويستوي في ذلك أن يكون أرضاً أو يكون ثوباً، فلو أن إنساناً أصابت النجاسة ثوبه ثم عرض ثوبه للشمس، وجاء بعد أيام فلم يجد لا لون النجاسة ولا ريحها ولا أثرها، فقال أصحاب القول الأول: نحكم بالطهارة، وهم الحنفية.

    والقول الثاني يقول: لا نحكم بالطهارة بل لابد من الغسل، وهو مذهب الجمهور.

    والذين قالوا: إنه يحكم بطهارة الموضع، استدلوا بدليل العقل، فقالوا: القاعدة في الشرع: (أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، فلما كان حكمنا بنجاسة الثوب مبنياً على وجود النجاسة في الثوب؛ فإنه ينبغي أن يزول هذا الحكم بزوال النجاسة، وقد زالت بالشمس، فيستوي عندنا أن تزول بالشمس أو بغير الشمس.

    وأصحاب القول الثاني -الذين قالوا بعدم طهارة الموضع بالشمس- استدلوا بما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة من قصة الأعرابي، أنه لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سَجلاً من ماء) قالوا: لو كانت الأرض تطهر بالشمس إذا زال أثر النجاسة أو ذهب ما يدل عليها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يتكلفوا صب الماء على الموضع.

    والقول الراجح في هذه المسألة والأقوى والأقرب للأصول: أنه لابد من صب الماء؛ وذلك لأمرين:

    الأمر الأول: أنه إذا اختلف في شيء هل هو لازم أو غير لازم؟ فإنه يرجع إلى الأصل، فهل الأصل في النجاسة أنها تغسل أو تشمس؟ الأصل أنها تغسل، وبناءً على ذلك: نحن شككنا في زوالها بالشمس: هل هو موجب لرجوعها إلى كونها طاهرة أو نبقى على اليقين من كونها نجسة؟ فكان هذا بمثابة القرينة على رجحان القول الذي يعتمد الغسل لإزالة تلك النجاسة.

    والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بصب الماء على ذلك الموضع، وقد كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم منه ما هو في الشمس ومنه ما هو في الظل.

    فلو قال قائل: يحتمل أن هذا الموضع الذي أُمر بصب الذنوب عليه كان في الظل، لقلنا: هذا مردود؛ لأن الأعرابي -كما في الصحيح- دخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في الحلقة، ومما هو معلوم أنه لو أراد أن يقضي حاجته فإنه سيتلمس أبعد المواضع عن الجلاس، وهذا أمر واضح بدليل الاستقراء للعرف، فإنه لن يأتي ويبول قريباً منهم، ومن عادته عليه الصلاة والسلام أن يكون في أقرب المواضع للظل أو في الظل، وبناءً على ذلك: فإن الغالب من صورة الحال أن يكون بوله في موضع لا ظل فيه، وهذا هو الأرفق والأقرب، وإذا ثبت هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء عليه، فلو كانت إصابة الشمس تطهر الموضع، لما أمر الصحابة أن يتكلفوا إحضار السجل وصبه على ذلك الموضع ولتركه للشمس تطهره؛ ولذلك لا شك أن الأصل هو كون الماء مطهراً لم يرد دليل صحيح يدل على أن الشمس تطهر، فنبقى على دلالة الأصل خاصةً على مسلك الجمهور الذين يقولون: إن تطهير النجاسة في بعض المواضع فيه شبهة التعبد، فتطهير النجاسة في بعض المواضع ألفنا من الشرع فيه شبهة التعبد، ومثل هذا يقوى فيه البقاء على الأصل، وإلغاء الأوصاف المعللة بالقياس والنظر.

    حكم زوال النجاسة بالريح

    وقوله: (ولا ريح، ولا دلك).

    أي: إذا أصابت النجاسة موضعاً وحكمت بنجاسته؛ فإنه إذا طهر بالريح لابد من غسله (ولا ريح) أي: لا يطهر الموضع بالريح، وصورة ذلك: لو أن إنساناً أصاب ثوبه نجاسة فنشره، فجاءت الريح وعبثت بالثوب حتى لم يبق للنجاسة أثر في الثوب؛ فحينئذٍ نقول: إن جريان الريح لا يوجب زوال الوصف المستيقن كونه نجساً، بل لابد من الغسل.

    حكم زوال النجاسة بالدلك

    وقوله: (ولا دلك)

    الدلك له حالتان:

    الحالة الأولى: ثبت الشرع باعتباره مطهراً فيها.

    الحالة الثانية: البقاء على الأصل من كون الموضع لا يطهر إلا بالغسل.

    أما الحالة التي ثبت الشرع باعتبار الدلك فيها مطهراً: فهي في نجاسة الحذاء وثوب المرأة؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصلاة بالنعال ومخالفة اليهود فقال: (صلوا في نعالكم) ثم قال: (فإن وجد أحدكم فيها أذى -يعني: نجاسة- فليدلكهما بالأرض ثم ليصلِّ فيهما) فدل هذا على أن النجاسة تطهر بالدلك.

    ومن السُّنة للمرأة إذا لبست العباءة -وهذه سنة أضاعها كثير من نساء المؤمنين خاصةً في هذا الزمان- أن تجر عباءتها في الأرض، وألا تكون هذه العباءة مرتفعة؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء المؤمنات بجر الثوب؛ وسئل عما يصيبه ذلك الثوب من النجاسة فقال: (يطهره ما بعده) يعني: لو مرت المرأة بعباءتها على نجاسة ثم مرت على موضع يابس أو على تراب يابس؛ فإن احتكاك هذا الثوب بالتراب يعتبر منظفاً لـه كما لو صب الماء عليه، والصحابة يعلمون أن الثوب سيمر على تراب، ولكنهم واستنكروا بقاء هذه النجاسة مع كونه يمر على تراب، فدل ذلك على أن الأصل في النجاسات أنها تُغسل، إِذْ لو كانت تزول بكل طاهر لما استشكل الصحابة كون المرأة تمر بعباءتها وتجرها على الأرض اليابسة، فإذا ثبت هذا فإن الدلك لا يطلق أنه غير مزيل للنجاسة بل يفصل فيه، فما ورد الشرع باعتبار الدلك فيه مزيلاً للنجاسة؛ فيحكم بكونه مطهراً، وما لم يرد فيه دليل فلا يعتبر مطهراً.

    لكن بعض العلماء يقول: أنا أسلم بكون حذاء الرجل وثوب المرأة إذا مر على النجاسة ثم على الأرض فإنه يطهر، ولكن من باب الرخصة لا من باب الأصل، فيقول: هذا الثوب نجس؛ ولكن الشرع حكم بزوال النجاسة لا حقيقة وإنما اعتباراً من جهة الشرع، ولا أرى الدلك مطهراً. لأنه وإن كان هنا بمثابة المطهّر لكنه لا يحُكم بحقيقة زوال النجاسة، وإنما يرتفع حكمها، وفرق بين ارتفاع حكم النجاسة وبين ارتفاع النجاسة بذاتها وزوال عينها.

    حكم زوال النجاسة بالاستحالة

    قال رحمه الله: [ولا استحالة غير الخمرة]

    لو أن هذه النجاسة الموضوعة في الإناء تغيرت واستحالت فإنه لا يحكم بطهارتها.

    واستحالة النجس إلى طاهر لها أحوال:

    الحالة الأولى: أن يُكاثر بطاهر.

    والحالة الثانية: أن يستحيل بنفسه، فالظاهر من إطلاق المصنف العموم.

    لكن الأمر فيه تفصيل: فإن كانت استحالة النجس بتكثير، كأن يكون عندك سطل من الماء وقع فيه بول، فتغير لون الماء، فجئت بثلاثة سطول وصببتها على هذا السطل حتى ذهب عين النجاسة وأثرها فلم يبق لها أثر، لا طعم ولا رائحة ولا لون، فحينئذٍ نقول: إن الماء قد أصبح طاهراً، وإذا كان الماء الذي صب طهوراً فقد حكمنا باستحالة هذا الماء من كونه نجساً إلى كونه طاهراً أو طهوراً بحسب ما خالطه، وهذا لا يعنيه المصنف هنا، وإن كان الإطلاق يدل عليه؛ لكن المراد الاستحالة الذاتية، والاستحالة المؤثرة بنفسها، وصورة ذلك كما قلنا: أن يكون في إناء أو وعاء شراب، وهذا الشراب تنجس بنجاسة، وبعد أيام تبخرت هذه النجاسة أو وضعت في موضع فأصابته الشمس وبخرت ما فيه من النجاسة وأصبح ماءً نقياً، أو بالتقطير كما هو موجود الآن، فهل يحكم بكونه طاهراً بناءً على أنه رجع إلى أصله أو لا يحكم؟ للعلماء قولان في ذلك:

    القول الأول: يحكم بكونه طاهراً.

    القول الثاني: لا يحكم بكونه طاهراً، واختار المصنف الحكم بعدم كونه طاهراً، أي: يبقى على أصله من كونه نجساً، فإن النجاسة قد تتحلل في أجزاء الشيء، فتخفى بعض الخفاء، ولما كان الأصل واليقين أنه نجس، فنبقى على هذا الأصل واليقين حتى يُستحال بمكاثرة الطهور عليه.

    1.   

    القول في نجاسة الخمر

    وقوله: (غير الخمرة).

    (غير) استثناء (الخمرة) والخمر أصله: التغطية، ومنه الخمار؛ لأنه يغطي الوجه، وسميت الخمر خمراً؛ لأنها -والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان وتذهب إدراكه وشعوره، والخمرة تكون مائعة في الأصل، ولكن يلتحق بها كل ما كان مؤثراً في العقل ولو كان جامداً، سواء كان مصنعاً كما هو الموجود الآن في بعض حبوب المخدرات، أو كان طبيعياً كبعض النباتات كالشيكران، فإنه إذا أكل أثر في العقل، أو الخشخاش الذي هو أصل الأفيون، فكل ذلك يعتبر في حكم الخمر، لكن العلماء إذا أطلقوا الخمر فمرادهم به: الشراب المائع الذي يكون من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من غيرها من سائر الثمار، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها، وقد تكلمنا على هذه المسألة غير مرة، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام، فإن الذين قالوا بنجاستها -وهم جماهير العلماء- حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90] والرجس: هو القذر في أصل اللغة، والقذر في الشرع أصله النجس، وقالوا: خرجت الأزلام، أما الأنصاب فإنها نجسة؛ لأنها كانت حجارة يذبح عليها، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي بذلك نجسة بلا إشكال. أما الأزلام فقال العلماء: خرجت بدلالة الحس وبقي ما عداها على الأصل، وأما بالنسبة للخمر فليس هناك دلالة حس على طهارتها، فإنها مستقذرة، فتبقى على وصف الرجس في الشرع من كونها نجسة، وهذا الدليل نوزع بإراقة النبي صلى الله عليه وسلم لوعاء الخمر كما في قصة المزادتين، فإنه أمر الصحابي أن يريق الخمر من المزادتين، قالوا: ولم يأمره بغسلهما، وهذا استدلال فيه نظر كما نبه عليه غير واحد من أهل العلم، فإن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره بغسل مزادة الخمر إنما هو للعلم به بداهة، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً وأرقت اللبن فمعلوم بداهة أنك ستغسلها، فسكت عليه الصلاة والسلام لعلم الصحابي بذلك بداهة.

    وقال بعض العلماء في جوابه: لو قيل: إن ظاهر سكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على طهارتها لاحتج بذلك محتج وقال: يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها أن يصب فيها لبناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسلها، فيكون الجواب بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة، وكما أننا في المشروبات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، كذلك في العبادات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، فهي نجسة، وأما صبها في سكك المدينة فقد بين العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها؛ وذلك لأن الصحابة إذا صبوها في سكك المدينة ومشوا عليها بالنعال، فإن المشي على الأرض اليابسة يطهر النعال كما ذكرنا، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مراقة ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة؛ فإنها تطهره بذلك الجر، وبناءً على ذلك: لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبه عليه الشيخ الأمين رحمة الله عليه، وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] فأقوى الأقوال وأعدلها القول بنجاستها.

    وقال بعض العلماء مستدلاً على طهارة الخمر: إن الله تعالى يقول: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] فوصف الخمر بكونها طهور؛ وقد فاته أن الله حكم بأن خمر الآخرة لا غول فيها، والغَول: هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا، فنجاسة الخمر في الدنيا مبنية على وجود هذه المادة التي تستحيل عند الخل، ولذلك لما استحالت هذه المادة في الخمر حكمنا بطهارتها، ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] وقلب بعض العلماء هذا الاستدلال فقال: بل هو دليل على نجاستها؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا والآخرة مستويان لما قال: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21].

    حكم تخلل الخمر

    قال رحمه الله: [فإن خُلّلت أو تنجس دهن مائع لم يطهر].

    لو أن إنساناً علم أن هذا الوعاء فيه خمر، فتخللت هذه الخمر -بمعنى: استحالت وصارت خَلاً- فلا تخلو صيرورتها إلى الخَل من حالتين:

    الحالة الأولى: أن تتخلل بنفسها.

    والحالة الثانية: أن تتخلل بفعل المكلف.

    فإن تخللت بنفسها؛ فإنها تطهر وتعتبر طاهرة؛ لدليل الشرع، كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الإدام الخَل) فأثنى عليه، والثناء يدل على أصل الإباحة، فأجاز لك أن تأتدم بالخل، والخل أصله خمر، وإذا ثبت هذا فإنها إذا تخللت بنفسها طهرت على ظاهر هذا الحديث.

    وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على الخل مطلقاً، سواء تخلل بنفسه أو تخلل بفعل المكلف؛ فجوابه ما رواه أحمد وأبو داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخليل الخمر، فإنه لما سُئل عن تخليلها نهى عن ذلك، وقال: لا) وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يريقها وأن يكسر الدِّنَّان -وهي: أوعية الخمر- ومعلوم أن هذا مال أيتام، فلو كانت الخمر تتخلل بفعل المكلف لقال له: خللها؛ لأنه مال يتيم يحفظ ولا يراق إذا أمكن استصلاحه، فإذا ثبت هذا فيقال في الخمر في تخللها: إنها لا تخلو من حالتين:

    إن تخللت بنفسها حكم بطهارتها على ظاهر السُّنة، وإن تخللت بفعل المكلف فلا يحكم بطهارتها ولا بجواز الانتفاع بها على ظاهر حديث السنن.

    1.   

    حكم وقوع النجاسة في الدهون

    (أو تنجس دهن مائع لم يطهر)

    الدهن له حالتان:

    إما أن يكون مائعاً أو جامداً، والدهن: مثل: السمن أو الزيت، فالسمن: كسائر ما يكون من بهيمة الأنعام، والزيت: كأن يكون زيتاً نباتياً، مثل: زيت الزيتون، والدهن إذا جمد -كالسمن- إن وقعت فيه نجاسة، فالحكم أنك تأخذ النجاسة وما حولها؛ لظاهر حديث الفأرة في الصحيح، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقائها وما حولها، أي: في السمن، فدل هذا على أنه -أي: الدهن- إن كان جامداً طهر بزوال عين النجاسة وما حولها، أو ما قاربها.

    وأما إذا كان الدهن مائعاً تسري فيه النجاسة وتتخلل فيه فللعلماء في نجاسة المائع قولان:

    القول الأول: يقول: نجاسة الدهون نجاسة مجاورة لا نجاسة عين، ومرادهم بنجاسة المجاورة أنك حينما ترى القطرة من البول وقعت في السمن فإنها تنحاز وتتميز عن السمن، قالوا: فنجاسته نجاسة مجاورة، ونجاسة المجاورة ليست كنجاسة العين، أي: ليست مثل وقوع البول في الماء؛ فإنه يتحلل فيه، وتصير طاقات الماء وطاقات البول ممتزجة، فصارت نجاسة ممازجة، ففرق العلماء بين نجاسة المجاورة التي يكون فيها جرم النجس منفصلاً، أو ترى فيه انحيازه وعدم ممازجته للعين التي أصابها، وبين النجاسة التي تمازج، والسبب في إفراد العلماء للدهون بالكلام في كتب الفقهاء وجود هذا الإشكال، وهو: أن النجاسة إذا وقعت فيها يقول بعض العلماء: إنه يمكن إزالة هذه النجاسة، لأنها نجاسة مجاورة وليست بنجاسة عين، والنجاسة إذا ضعفت عن التأثير بقي حكم الأصل من كونه طاهراً.

    فإذا علمنا أن عندنا قولين فما هو أقواهما؟ هل هي نجاسة عين أو نجاسة مجاورة؟ فالذي يقوى ورجحه غير واحد من المحققين: أن نجاسة الزيوت والدهون -إلا في بعض الصور المستثناة، وهذا يختلف باختلاف أنواع الزيوت- نجاستها نجاسة مجاورة وليست نجاسة ممازجة، فإن دليل الحس ظاهر، حتى إنك في بعض الأحيان تحكم بأن النجس قد صار إلى هـذا الركن أو هذا الجانب من المائع، فنجاسة هذه المائعات أو الدهون نجاسة مجاورة وليست بنجاسة ممازجة. وإذا ثبت في مسألة نجاسة الدهون أنها نجاسة مجاورة، فيرد هنا سؤال وهو: هل يمكن تطهير الزيوت أو لا يمكن؟

    هذه مسألة تكلم عليها العلماء في المذاهب الأربعة كلاماً مستفيضاً، ويترتب عليها مباحث مهمة ومسائل عظيمة في العبادات كالطهارات، وفي المعاملات كالبيع والشراء، فإنك إذا قلت: السمن يمكن تطهيره والزيت المتنجس يمكن تطهيره جاز بيعه، كالثوب يباع وفيه نجاسة؛ لأنه يمكن تطهيره، أما لو قلت: إن الزيت قد أصبح متنجساً، فإنه لا يجوز بيع النجس؛ لأنه لا يمكن تطهيره، فتحكم بعدم جواز البيع، فاختلف العلماء الذين قالوا بأن النجاسة فيه نجاسة مجاورة: هل يحكم بتطهيره أو لا؟

    وأصح الأقوال وأقواها: أن فيه شبهة التطهير، يعني: يقوى القول بأنه نجس ويصعب تطهيره، لكن إذا تيسر في هذه الأزمنة وجود بعض المواد التي يمكن بها سحب هذه المادة النجسة فيحكم بالطهارة، قالالذين يرون تطهيره: إنه إذا تنجس الزيت بوقوع بول فيه، فنصب من الماء قدراً يغلب على ظننا أنه لو مازج البول كاثره حتى تذهب مادة النجاسة، فلو كان البول قطرة، وصببت كأساً من الماء، فإن القطرة إذا صب عليها الكأس من الماء أذهب نجاستها، قالوا: فنصب هذا الماء على الزيت، ثم لهم طريقة في استخلاص الماء مع البول، فإن البول ينحاز عن السمـن، فإذا صببت الماء في هذه الحالة فإن الماء يختلط بالبول؛ لأن البول يمتزج مع الماء، ولا يختلط الماء مع الزيت -كزيت الزيتون ونحوه- فيبقى الماء في ناحية والزيت في ناحية أخرى، فيقومون باستخلاص الماء بطريقة معينة، قالوا: حتى لو بقي شيء من هذا الماء فقد بقي مكاثراً للنجس، فيحكم بطهارته، وهذا وجه من يقول بتطهير الزيت.

    أما الطريقة الثانية لهم في التطهير: أن يُغلى بالماء، فإذا غلي بالماء تبخرت النجاسة وبقي الزيت؛ لأن الزيت إذا غلى انقدح، ولكن الشيء الذي فيه يتأثر بهذا الغليان، فمن شدة الحرارة على البول أو على الماء المتنجس الذي وقع يزول مع الغليان.

    وقد ذكر المصنف رحمه الله أن الدهن لا يطهر؛ لأنه يرى أن النجاسة نجاسة ممازجة، وهذا مبني على حديث الفأرة -وهو حديث ضعيف- حيث جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان مائعاً فلا تقربوه) ولو صح حديث الفأرة لقطع النـزاع في هذه المسألة.

    1.   

    حكم النجاسة التي خفي موضعها

    قال رحمه الله: [وإن خفي موضع نجاسةٍ غُسل حتى يجزم بزواله]

    عرفنا كيف نزيل النجاسة، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يتكلمون على الصور المعروفة، ثم بعد ذلك يتكلمون على فرائد الأحوال وبعض الصور الغريبة، وأنت الآن قد علمت أنك إذا أردت تطهير النجاسة غسلتها ثلاثاً، وعلمت كون غير الغسل من دلك وريح وتشميس أنه لا يؤثر.

    فيرد السؤال الآن: عن نجاسة لم تعلم موضعها؟

    مثال ذلك: لو أن إنساناً مر على موضع، فتطاير من ذلك الموضع النجس ذرّات من نجاسة، وتحقق أنها أصابت ثوبه، ولكن لا يعلم أين المكان الذي هو محل تلك النجاسة بعينه، فهذه صورة.

    والصورة الثانية: أن يعلم موضع النجاسة ثم ينسى ذلك الموضع، وإن كان عنده غلبة ظن أنه أسفل الثوب -مثلاً- لكن يخفى عليه هل هو في جانب الثوب الأيمن أو في جانبه الأيسر، فما الحكم؟

    هذه المسألة التي ذكرها العلماء مرادهم: أن المكلف يصل إلى درجة لا يستطيع أن يميز فيها، أي: إذا ذكروا مسائل الشكوك فمرادهم بها أنك قد وصلت إلى درجة لا تستطيع أن تجتهد، بمعنى: أن موضع النجاسة خافٍ تماماً، أما لو أمكنك الاجتهاد مثل: من مر على بول فأصابه طشاش بول والثوب أبيض، ويمكنه أن ينظر في موضع النجاسة؛ فالقاعدة تقول: (القدرة على اليقين تمنع من الشك) ولذلك قالوا: من قدر على اليقين فلا يطالب بالشك، فإذا أمكن الإنسان أن يتحرى ويجتهد فهذا لا إشكال فيه، فعليه أن يتحرى ويجتهد، ولكن الكلام إذا لم يمكنك أن تتحرى وتجتهد، فتعلم أن هذا الثوب أصابته نجاسة، وعندك يقين بأنها لا تجاوز الربع الأسفل من الثوب، ولكن لا تدري أهي في اليمين أم هي في اليسار أم هي وسط بين اليمين واليسار أم أهي في وجه الثوب أم هي في قفاه، فأنت تعلم أن أسفل الثوب متنجس، ولكن لا تعلم أين موضع النجاسة، فما الحكم؟

    قالوا: يغسل القدر الذي يجزم معه أن النجاسة قد زالت، فنقول لك: ما رأيك لو أخذت هذا القدر؟ تقول: لا. أشك. نقول: خذ هذا القدر. تقول: نعم. إذا بلغ هذا القدر فإني أتيقن أن هذه المساحة لم تجاوز النجاسة قدرها، فنقول: اغسل هذا الموضع، وهكذا لو أصابت النجاسة اليد ولكن لا تدري موضعها، تجزم بأن نصف اليد الأسفل فيه النجاسة، ولكن أهي في أوله أم في الربع الثاني؛ فحينئذٍ نقول: تغسل نصف اليد، وهكذا يغسل ما يجزم معه أنه قد طَهَّرَ موضع النجاسة بغسله.

    1.   

    كيفية تطهير بول الغلام الذي لم يأكل طعاماً

    قال رحمه الله: [ويَطهُر بول غلامٍ لم يأكل الطعام بنضحه]

    لما قال: (بول غلام) عرفنا أن عذرته لا تطهر إلا بالغسل، فمفهومه أن العذرة لا تطهر إلا بالغسل.

    [غلام]: فهمنا أن الأنثى والصبية لابد فيها من الغسل؛ ودليل هذه المسألة ما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة لما جاءت أم قيس بصبيها ورفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره، وكان صلوات الله وسلامه عليه يؤتى بالمولود فيحنكه ويدعو له بالخير صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من مكارم خلقه صلوات الله وسلامه عليه، فأجلسه في حجره كأنه ابنه، فلما أجلسه في حجره بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما بال فيه قالت أم المؤمنين: (فأخذ ماءً فرشه) وفي رواية: (فنضحه ولم يغسله) كما هي رواية السنن، فهذا الحديث يدل على أن بول الغلام يرش وينضح، والنضح: أن تأخذ كفاً من ماء وترش به، وأما الغسل فإنك تصب وتعمم الموضع بالماء، فالرش والنضخ أخف والغسل أثقل، فخُفف في نجاسة بول الغلام، وجاء حديث علي رضي الله عنه يؤكد هذا المعنى، فكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقاله بلسانه: (يُغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام) وهذا القول هو قول الجمهور من العلماء، وممن قال به أيضاً: أهل الحديث. وهنا مسائل:

    المسألة الأولى: أن الحكم يختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام، أي: مدة الرضاعة، فإن فُطِمَ فإنه يجب غسله؛ وحديث علي نص في الغلام الذي لم يأكل الطعام، ولذلك يقولون: إذا فطم وانتهت مدة الرضاع فيجب غسل بوله كالجارية سواءً بسواء، وهنا يرد السؤال عن مسألة: لماذا فرق بين الغلام وبين الجارية؟

    أولاً: ينبغي على المكلف أن يسلم بالشرع، وألا يتكلف البحث عن العلل، وأن يتعبد الله عز وجل بما ثبت به دليل الكتاب والسُّنة؛ وقال الإمام الشافعي رحمه الله: على الله الأمر وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، ولذلك من كمال إيمان المكلف أنه إذا جاءه الحكم قال: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، وأثنى الله على هؤلاء الذين يسلمون، ولا يتكلفون في بحث العلل والتقصي فيها؛ لكن العلماء ذكروا العلة هنا لكي يقيسوا عليها حكماً آخر، أي: أنهم يحتاجون لهذا التعليل فإن وجدت الحاجة للتعليل فلا حرج.

    وللعلماء في التحليل أوجه:

    قال بعض العلماء: خفف في بول الغلام وشدد في بول الجارية لذات البول، فإن بول الجارية أثقل من بول الغلام؛ ولذلك خفف فيه أكثر من بول الجارية، فبقي بول الجارية لمكان حرارته، فقالوا: إنه يجب غسله وأما بول الغلام فإنه ينضح.

    الوجه الثاني: خفف فيهما لصورة البول. فالأول قال: لذات البول، والثاني يقول: لصورة البول، قالوا: لأن بول الغلام لا ينتشر وبول الجارية ينتشر، وهاتان العلتان ضعيفتان، فأما علة من قال: إن بول الجارية أثقل من بول الغلام، فهذا محل نظر، حتى أن بعض الأطباء تكلم على هذا، وأما من قال: إن بول الغلام لا ينتشر وإنما يكون منحصراً، وبول الجارية ينتشر فهذا أمر عجيب؛ لأن الغلام حينما يؤتى غالباً إنما يوضع في لفافة أو خرقة، فلما وضع في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بال، فلو قال قائل: يمكن أنه كان عارياً، فنقول: هذا بعيد؛ لأنه من المعلوم أن الغلام إذا ذهب به إلى أهل فضل أو نحوه فإنه يكون ملفوفاً في لفافة أو نحوها، ولذلك نقول: هب أنه على النادر كان منكشف العورة، فإنه إذا بال سينتشر بوله؛ لأن الثوب يسمح بالانتشار كبول الجارية في الموضع، فالتعليل بكونه لا ينتشر أضعف من التعليل بكونه أخف وأثقل.

    وأقوى العلل هو القول الثالث: أن الشرع خفف في بول الغلام أكثر من الجارية؛ لأنهم كانوا يحملون الغلمان أكثر من الجواري في محضر الناس، وكانوا يتعاطون الكمال في إخفاء المرأة، فكانوا يحملون الصبيان ويحضرونهم إلى المجالس أكثر، وقد يحضرون الفتاة -كما في حديث أمامة لما حملها النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا في النادر فخفف من أجل هذا، هذا بالنسبة لقضية بول الغلام وبول الجارية.

    وكما قلنا الحكم يختص بالبول، فلا يسري إلى دمه، فلا يقال مثلاً: في دم الغلام ينضح وفي دم الجارية يغسل؛ لأن الحكم خرج من صورة الأصل؛ والقاعدة: (أنه إذا ورد الحكم مستشنىً من الأصل فإنه يبقى على الصورة التي ورد بها الشرع ولا يقاس عليها غيرها).

    1.   

    حكم الدم نجاسة وطهارة

    قال رحمه الله: [ويعفى في غير مائعٍ ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر]

    الـدم نجس، وهو قـول جماهير العلماء رحمة الله عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم) وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة: (إنما ذلك عـرق) قالوا: فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان خارج من عرق، ولذلك قالوا: إن الدم نجس، وظاهر القرآن يقويه في قـولـه تعالى: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها وتذكيتها ويكون كذلك من الآدمي، فهو الدم الذي يراق في حال الحياة، ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يراق عند ذبح الشاة أو نحر البعير أنه نجس، وهذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، حيث نقل إجماع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية نجس، وذلك لظاهر قوله تعالى: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا: إن القرآن أطلق، فوصف كل دم مسفوح بكونه رجساً، والدم المراق في الحياة هو دم مسفوح؛ لأن الدم المسفوح هو الذي خرج عند الذكاة والبهيمة حية، ولذلك إذا سكنت البهيمة وماتت بالتذكية فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً.

    والذين قالوا بطهارة الدم احتجوا بحديث الجزور، أي: لما نحر عليه الصلاة والسلام الجزور ثم سلخه وصلى ولم يغسل أثر الدم فيه. وهذا محل نظر، فإن الدم الذي يكون عند السلخ لا يعتبر نجساً حتى يكاد يكون عليه الإجماع، ألا ترى أنك تأخذ كتف البهيمة ويطبخ ويشوى وفيه أثر الدم، فالاستدلال بهذا الحديث استدلال بما هو خارج عن موضع النزاع.

    واستدلوا كذلك بحديث عباد بن بشر لما جاءه السهم وهو قائم يحرس، فنـزعه فنـزف، فقالوا: لو كان نجساً لقطع صلاته، وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه: (اغسلي عنك الدم) وجوابه كما نبه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي في النـزيف، والنـزيف سواءً كان بسهم أو كان باستحاضة -كالمرأة المستحاضة- فإنه متفق على أنه يعتبر رخصة، يعني: يصلي الإنسان ولو جرى معه الدم، كما صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يوقف النـزف؛ وإنما يستقيم الاستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها قليلاً بمعنى: أنه يرقأ، فلو كان الدم يرقأ لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص ولكنه في مسائل مستثناة، ولذلك لا يعتبر حجة على الجمهور؛ لأن الجمهور يقولون: من نزف جرحه أو رعف أنفه أو المرأة المستحاضة غلبها الدم فهذه تصلي على حالتها ولو خرج منها الدم، وكذلك الذي رعف لو غلبه الرعاف فإنه يصلي على حالته ولو كان على ثوبه ولو كان على بدنه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، فليس هذا دليلاً في موضع النزاع.

    وكذلك قصة عمر لأنها في النزف؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم) قالوا: إن هذا دم حيض، ولا شك أن صورة السؤال تقتضي أنه دم حيض، ولا فرق بين دم الحيض وغيره. قالوا: لا. هناك فرق فإن دم الحيض يخرج من الموضع ولذلك حكم بنجاسته، فنقول: الموضع لا تأثير له، ألستم تقولون: إن مني المرأة طاهر وهو خارج من الموضع؟! فلو كان خروجه من الموضع -أي: دم الحيض- هو المقتضي لنجاسته لكان المني الخارج من الموضع نجساً، ولذلك فخروجه من الموضع لا يقتضي نجاسته بدليل أن الولد يخرج من الموضع وهو ليس بنجس، والولد أصله علقة ودم ومع هذا لم نحكم بنجاسته، فدل على أنه نجس لذات الدم، وانتفى في الولد لاستحالته؛ فإنه بعد العلقة خُلِّق فاستحال من كونه دماً إلى كونه مخلوقاً، فلم يكن نجساً من هذا الوجه.

    وبناءً على ذلك أمر عليه الصلاة والسلام المرأة الحائض أن تغسل الدم، ويُشعر هذا بأن العلة معلقة على كونه دماً لا كونه دم حيض، وإذا ثبت كونه دماً استوى أن يكون دم حيض أو يكون من غيره؛ ويقوى هذا بحديث المستحاضة فإنهم يقولون: إن المستحاضة تغسل الدم أيضاً، فأمروها بغسل الدم، وقالوا: نحكم بنجاسته لورود الشرع به وهو مستثنى، فنقول: إن دم المستحاضة قيل فيه كما في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق) وجاء في الحديث الآخر: (إنه العاذل) والعاذر، والعاند وكلها أسماء لهذا العرق كما يقول بعض العلماء، فما دام أنه قال: (إنما ذلك عرق) أي: دم خرج من عرق فسائر الدماء التي تخرج من البدن إنما هي من عرق، ولذلك قال جمهور العلماء: إن الدم نجس، ولم يخالف في ذلك إلا بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث، والأقوى في هذه المسألة أن الدم نجس، وبناءً عليه فإنه يفرق بين كثيره وقليله، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه، وفيه حديث ضعيف وهو حديث الدرهم البغلي، والصحيح: أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء هذا القدر؛ وإنما استثني بالإجماع.

    مقدار الدم الذي يعفى عنه

    يبقى السؤال: ما الفرق بين الدم القليل الذي يعفى عنه والدم الكثير؟

    الدم القليل والدم الكثير للعلماء في ضابطه وجهان:

    قال بعض العلماء: يسير الدم ما كان قدر الدرهم البغلي.

    وقال بعضهم وهو الوجه الثاني: يسير الدم: هو الذي لا يتفاحش في النفس.

    والسؤال: ما الفرق بين القولين؟

    أولاً: الذين قالوا: يسير الدم هو مقدار الدرهم البغلي، فما هو الدرهم البغلي؟ الدرهم البغلي على قدر الهللة القديمة، أي: القرش الموجود الآن ينقص منه قليلاً، فهذا هو الدرهم البغلي، فلو خرج من الجرح دم على قدر هذا البياض؛ فإن هذا معفو عنه، ولو نقص عنه فهو معفو عنه أيضاً، فإن جاوزه وكان أكثر من هذا القدر فلابد من غسله، ولابد من إزالة تلك النجاسة إلا إذا وجد ضرراً.

    ثانياً: الذين قالوا: ما لا يتفاحش في النفس، قالوا: هو الذي إذا نظرت إليه احتقرته، وقلت: هذا قليل، ولاشك أن القول الأول -أي: أنه بمقدار الدرهم البغلي- هو الذي عليه قول المحققين من العلماء رحمة الله عليهم.

    ثم الذي يتفاحش في النفس، لو قلنا: إنه هو الضابط، لاختلف الناس، فقد يكون اليسير عندي كثيراً عند غيري، ثم يدخل باب الوسوسة، فتجد الموسوس لو عثرت بثرة صغيرة لقال: هذا من الدم الكثير الذي لا يغتفر؛ لأنه موسوس لا يستطيع أن يفرق بين القليل والكثير، ولذلك فالقول بأنه ما لا يتفاحش في النفس يؤدي إلى اختلاف الأحكام؛ فقد يصلي الرجلان أحدهما عليه بقعة دم كبيرة، فيقول هذه قليلة وليست متفاحشة، ويصلي الآخر بجواره وعليه ما هو أقل ويحكم على نفسه بعدم صحة صلاته؛ فتختلج الأحكام، والأقوى أنه قدر الدرهم البغلي.

    السؤال الأخير: إذا علمنا أن يسير الدم معفو؛ فهل يشترط فيه الانحصار أو يستوي فيه الانحصار والانتشار؟

    مثال ذلك: لو أن إنساناً عنده بثرة في يده، وبثرة في وجنته، وبثرة في يده الثانية، فلو أن كل واحدة من هذه البثرات أخرجت قليلاً من الدم، بحيث لو جمعت هذه الثلاث فإنها لا تصل إلى قدر الدرهم، فتقول: الحكم يستوي فيه أن يكون منتشراً أو يكون منحصراً، وبناءً على ذلك يرخص للإنسان إذا كان الدم قدر الدرهم فما دون أن يصلي؛ ولكن محل هذا كله كما قال المصنف: (في غير مائع) بحيث ما يقع في المائع؛ والسبب في هذا: قضية القلتين؛ فإنهم يرون أن المائع إذا وقع فيه النجاسة أثرت فيه سواءً كانت قليلة أو كثيرة، وقد قلنا: إن الصحيح: أن العبرة بالتغير والتأثر، وهذا هو الذي اختاره العلماء ودلت عليه السُّنة كما بيناه في موضعه.

    1.   

    الأسئلة

    إباحة الصلاة في مرابض الغنم لا يعارض منع التطهير بالشمس

    السؤال: كيف نجمع بين القول بأن تطهير النجاسة بالشمس غير جائز والقول بجواز الصلاة في مرابض الغنم وعدم جوازها في مرابض الإبل؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل لا يعارض قولنا: بأن الشمس لا تطهّر؛ بل هو دليل على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الصلاة في معاطن الإبل، وعلل العلماء ذلك بكونها -أي: الإبل- خلقت من الشياطين، قيل: إنها على الحقيقة، وقيل: إن فيها شبهاً من الشياطين، ولذلك أُمر بالوضوء من لحمها، ولم يؤمر بالوضوء من لحم غيرها، وبقي الحكم في الشرع على أنه يجب الوضوء من لحم الجزور دون غيره.

    الشاهد: أن كونه يحكم بجواز الصلاة في مرابض الغنم لا يدل على نقض المسألة التي معنا من كون الشمس لا تطهّر، فليس هناك تشابه بين المسألتين، فهذا حكم له علاقة بمسألة طهارة فضلة الحيوان، وهذا حكم له علاقة بتأثير النجاسة، فالأول يتعلق بوجود النجاسة في معاطن الإبل ومرابض الغنم أم لا، والذي نبحثه نحن هو زوال النجاسة بالشمس، فالاعتراض ليس وارداً؛ لأن شرط الاعتراض والتناقض بين الحكمين: أن يتحد المورد، فإذا كان الحكم الأول يتعلق بكون هذا يؤثر في إزالة النجاسة أو لا يؤثر، والثاني يتعلق بكون هذا يُصلى فيه أو لا يصلى فيه ولا علاقة له بالنجاسة، فلا تشابه بين الموضعين، فهذه مسألة وهذه مسألة، والإشكال إنما يكون إذا اتحد مورد المسألتين، فهذا الاعتراض ليس فيه وجاهة، والاستشكال ليس بوارد أصلاً؛ لأن الصلاة أجيزت في مرابض الغنم لطهارتها، ومُنعت في معاطن الإبل إما تعبداً وإما لعلة -وهي كما قلنا- وجود الشياطين فيها، والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة الجزار بثوبٍ عليه دم

    السؤال: ما حكم الصلاة في الثوب الذي يلبسه الجزار وفي معظم ثيابه دم؟

    الجواب: الجزارون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الدم الذي يخرج هو دم البهيمة فهذا نجس؛ الحالة الثانية: أن تأتيه البهيمة وقد ذكيت؛ فالبهيمة التي أمامه مذكاة، وبناءً على ذلك: ما يكون منها من الدم أثناء ضرب الأعضاء وتفصيلها وتقطيعها دم طاهر، وحتى لو وقفت عند الجزار فطار عليك طشاش دم من تفصيل الأعضاء، فإنه ليس بنجس؛ لكن النجس هو موضع الرقبة، وينتبه إلى هذا الموضع الذي هو موضع الذكاة فإنه يعتبر متنجساً، والدم الذي يخرج عند الذكاة هو النجس، وأما لو أراد أن يبين الظهر أو يبين اليد أو يقطعها أو يُفصّل الأعضاء أو يَفْصِل اللحم عنها وتطاير منه دم؛ فهو طاهر ولا يؤثر، والله تعالى أعلم.

    حكم إزالة النجاسة بماء زمزم

    السؤال: ما الحكم في استخدام ماء زمزم في إزالة النجاسة من الاستنجاء وغيره؟

    الجواب: إزالة النجاسة بالمطعوم مشدد فيها، وبالنسبة لماء زمزم وإن كان أصله مشروباً لكنه لوجود احترامه شرعاً وإمكان إزالة النجاسة بالبديل عنه وهو الماء المطلق شدد العلماء في ذلك، وكان العباس رضي الله عنه صاحب السقاية -كما ثبت في الصحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص له أن يبيت في مكة من أجل السقاية- يقول: (لا أحلها -يعني: زمزم لا أحلها- لمغتسل وهي لشارب حلّ وبل) أي: لا أحل ماء زمزم لمغتسل أن يغتسل به، وفي القديم كان نزحه صعباً، ولذلك كان الاغتسال به يحتاج إلى أن يأخذ منه دلواً أو نحو ذلك، فيضر بالناس التي تريد منه ولو شربة واحدة فكان يقول: (لا أحله لمغتسل وهو لشارب) أي: لمن يريد أن يشربه (حل وبِل)، قيل: (حل)، حلال، وبِل أي: (بِلٌ) لحرارة قلبه أو حرارة جسده من العطش، وقيل: (بِل): إنها للاتباع ولا يراد معناها كقولهم: حيص بيص، وكقولهم: حياك وبياك، فإن بياك ليس لها معنىً، فقالوا: إن بِلّ بهذا المعنى، والمقصود: أنهم كانوا يكرهون الاغتسال بماء زمزم، وهذه الكراهة لغسل ظاهر الجسد مع طهارته فكيف بغسل النجاسة، والمحفوظ من فتاوى أهل العلم رحمة الله عليهم أنهم كانوا يشددون في هذا الأمر ولا يستحبون تطهير النجاسات به، والله تعالى أعلم.

    حكم قيء الغلام

    السؤال: هل يُعتبر ما يخرج من طفلي من القيء نجساً، وما الحكم إذا صليت ثم علمت بوجوده في ثوبي؟

    الجواب: الذي يخرج من الطفل لا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون متغيراً وقد وصل إلى جوفه، فهذا يعتبر في حكم القيء وهو نجس، كأن تسقيه لبناً فيخرج اللبن وفيه صفرة قد تغيرت مادته وتغيرت رائحته فهذا يحكم بتنجسه.

    الحالة الثانية: أن يكون الذي خرج لم يتغير وصفه، كأن يكون حديث عهد برضاعة، فلما جاءت تحمله قلس عليها، وهو القلس، فالذي يدفعه الصبي أو الصبية عند الشبع والري من اللبن ونحوه يعتبر طاهراً، فالأول: نجس، والثاني: طاهر، فإذا كان الذي خرج عند استفراغه طاهراً فلا إشكال، وإن كان نجساً قد تغيرت مادته فهو نجس يجب غسله.

    المسألة الثانية: لو أنها حملت صبياً فقاء عليها، وكان قيئاً متغير اللون والرائحة فعلمت بنجاسته، ثم نسيت أن تغسل الموضع فصلت الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ثم انتبهت؛ فلا تجب عليها الإعادة في أصح أقوال العلماء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلى بأصحابه في نعليه، ثم خلعهما أثناء الصلاة؛ فخلع الصحابة نعالهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ما شأنكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين) فدل هذا على أن من نسي النجاسة أو لم يتذكرها أنه لا يحكم بوجوب الإعادة عليه؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره جبريل بنى ولم يقطع الصلاة، فلو كان ذكر النجاسة يوجب الإعادة لقطع النبي صلى الله عليه وسلم صلاته ولاستأنف؛ لأنه أوقع تكبيرة الإحرام -وهي أقل ما يمكن أن يكون قد أوقعه- وهي ركن، ولربما يكون قد صلى بعض الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يعد دل على أن من نسي النجاسة ثم بعد الصلاة رآها، أو لم يعلم بها أصلاً ثم بعد السلام نظر فإذا النجاسة في ثوبه أو بدنه، فحينئذٍ لا تجب الإعادة في أصح أقوال العلماء، والله تعالى أعلم.

    حكم حرمان الزوجة من صلة أبويها

    السؤال: زوجي ملتزم ومتدين ولله الحمد، ولكن -يا شيخ- أشتاق إلى رؤية أبواي وإخواني، فعندما أطلب من زوجي أن أذهب لزيارتهم مرة كل عام فإنه يرفض، وأحياناً يغضب غضباً شديداً، وذلك يحزنني كثيراً فماذا أفعل؟

    الجواب: لا يخلو والدا المرأة من حالتين:

    أن يكونا في نفس الموضع الذي فيه الزوج، أو يكونا في غير الموضع، فإن كانا في الموضع الذي فيه الزوج والزوجة فإنه تنبغي الزيارة بالمعروف، فيجعل وقتاً يستطيع أن يصل فيه رحمه ويقوم فيه بحق الله وتقوم المرأة أيضاً بحق أبويها، فإن منعها وأبواها في نفس المدينة والسائلة تقصد ذلك، فلا أشك أنه -نسأل الله السلامة والعافية- قد قطع رحمه وأعان على القطيعة وعقوق الوالدين والعياذ بالله؛ والسبب في ذلك: أن زيارة الوالدين والقرابة الذين هم ملتصقون كالإخوان ونحوهم لا تشق على الزوج مع اتحاد المكان، فكونه يقصر ويمنعها لا شك أنه مخالف لأمر الله عز وجل بصلة الرحم والإحسان إلى القرابة والله يقول في كتابه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] وهذه والله مصيبة عظيمة، إذا كان الزوج يبلغ به أن يمر العام الكامل ولا يري زوجته أبويها فوالله بئس ما فعل، ووالله إنه لمن اللؤم بمكان، ولا شك أنه إنسان لئيم، فإن لئيم الطبع هو الذي يمتنع.

    إن والدي المرأة أكرما الإنسان وقبلانه زوجاً لعورة من عوراتهما، وفلذة من فلذات أكبادهما؛ لكي يكون لها ستراً، ويكون لها زوجاً فتنعم عينها بزواجها منه وعشرتها له، ثم تمكث سنة كاملة -والعياذ بالله- لا ترى أبويها!

    لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة دخول فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم سواءً دخلت لحاجة أو دخلت زائرة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما في حديث الترمذي - (كانت إذا دخلت عليه، قام لها، فأجلسها في موضعه)، وفي الصحيحين: قالت: (جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما تخالف مشيتها مشيته) فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعي إلى بيتك، وكان يزورها صلوات الله وسلامه عليه في بيتها، فقضية كون الزوج يبلغ به أن يمر عام كامل ولا ترى زوجته أهلها، والله لا أشك أن هذا من اللؤم بمكان، فإن النفس الكريمة إذا أحسنتَ إليها ملكتها بالإحسان، وأصبحت كأنك ملكت رقبة تلك النفس المؤمنة الكريمة.

    وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حفظ العهد من الإيمان) فلوالدي الزوجة عهد عند الزوج، بل المنبغي على الزوج الكريم أنه هو الذي يفاتح امرأته بزيارة أهلها، وخاصةً إذا كان ملتزماً ديناً، وكثير من النساء يشكين من بعض الأزواج الذين فيهم خير وفيهم صلاح؛ لأن كثيراً منهم لا ينتبه لمشاعر الزوجة ولا لمشاعر القرابة، فيجلس أحياناً شهوراً وهو غافل عن صلة الرحم، مع أن حقيقة الالتزام هي القيام بمثل هذه الواجبات، فلا تنتظر من الزوجة أن تقول لك: اذهب بي إلى أبي وأمي، بل أنت الذي تبدأ بهذا؛ لأنك تعلم أنك إذا أمرتها بهذا أمرتها بطاعة الله، وأمرتها بمرضاته، وكان لك أجرها، وكان لك أجر صلتها لوالديها، بل إذا بلغ بالإنسان الخير وكان إنساناً كريماً يريد مرضاة الله عز وجل وجدته هو الذي يعرض عليها، ووجدته يذهب إلى أبي الزوجة وأمها، ولا ترضى نفسه إلا أن يذهب إلى أبي زوجته، فيسلم عليه ويجلس معه، ولقد حكى لي بعضهم فقال: قد يكون عندي الظرف الذي لا أستطيع أن أتركه، وتركه من المشقة بمكان، ولكن لا ترضى نفسي أن آتي وأنزلها عند بيتها دون أن أذهب وأقبل رأس أبيها وهو كبير السن، وأدخل على أمها وأحييها، وأدخل السرور عليها؛ فلكونهم اختاروني زوجاً لابنتهم ينبغي أن أرد هذا المعروف.

    إن هذا أقل ما يرد به المعروف، الزيارة فيها جلب للمحبة والمودة، ثم إن الإنسان بهذه الزيارة يترجم عن الوفاء للجميل، وهذه من الأمور المهمة في المشاكل الزوجية، فالزوجة إذا رأت الزوج غافلاً لا يبالي بقرابتها، ولربما تأتي وتقول له: أريد أن أزور أمي أو أبي، فيضايقها ويتأخر عنها ويماطلها ويؤخرها، بدلاً من أن يكون كريماً، فيدخل الشيطان عليها، فيقول: زوجك لا يحب والديك، زوجك كذا وكذا؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والخطأ ليس من الزوجة أن تسيء الظن، ولكن الخطأ من الزوج أن ينسى المعروف والفضل، ولذلك يعاقبه الله عز وجل فلربما تتنكر عليه الزوجة، وكم من مشاكل زوجية عرضت عليَّ فوجدت من الأسباب الخفية التي كانت سبباً في فساد الزوجة على زوجها وتأثرها في معاملة زوجها: تقصيره في الوفاء لوالديها، وهي في هذا معها حق، ولا شك أن الزوج إذا كان بهذه المثابة فإنه ضعيف الإيمان؛ لأن من كمال الإيمان كمال الوفاء والعشرة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان).

    لقد كان عليه الصلاة والسلام وفياً لزوجته خديجة رضي الله عنها حتى بعد وفاتها، فكان إذا ذبح شاة يقول: (هل أهديتم لصويحبات خديجة منها شيئاً؟) صلوات الله وسلامه عليه، حتى أن النساء يغرن من خديجة وهي ميتة ومتوفاة رضي الله عنها وأرضاها، فلا يزال ذاكراً وحافظاً لها العهد، ولما دخلت المرأة العجوز الكبيرة السن الضعيفة الحال على النبي عليه صلوات الله وسلامه ما أن سمع صوتها حتى قام يجر رداءه لها، فقالت عائشة : (يا رسول الله! من هذه العجوز التي تقوم لها هذا القيام؟ قال: إنها هالة ، إنها هالة ، أخت خديجة ) صلوات الله وسلامه عليه، فالوفاء والبر والخير في صلة الأرحام، وفي بر الوالدين والإعانة على ذلك، وينبغي على الزوج أن يكون عنده الإحساس والشعور، ويحاول أن يكرم امرأته وأهلها، وخاصةً إذا كانت المرأة صالحة، فالمرأة الصالحة في هذا الزمان نعمة عظيمة ينبغي على الزوج أن يدخل السرور عليها، ودائماً إذا جلس معها ذكر فضل أهلها وذكر أهلها بخير، والله إن من الأزواج الأخيار من يقول: لقد أوذيت من رحمي ومن أهل زوجتي، ومع ذلك لا أذكر أني في يومٍ من الأيام قد ذكرتهم بسوء؛ لأني لا أريد أن أكسر خاطر هذه المرأة المؤمنة حينما أتذكر التزامها وديانتها واستقامتها، وهذا هو شأن الأخيار، فالمرأة إذا رأيتها صالحة فأكرمها وأسكنها في قلبك، وأدخل عليها من المودة والرحمة ما تلتمس به رضوان الله عز وجل، وصل الرحم يصلك الله، فإنها تعلقت بحقوي الرحمن وقالت: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟) فرضيت بذلك، فطوبى لمن وصلها فوصله الله، وويل ثم ويل لمن قطعها وأعان على قطيعتها، وقد قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23] نسأل الله السلامة والعافية، فقد يكون الشاب ملتزماً صائم النهار وقائم الليل، وتأتيه لعنة بسبب قطيعة رحم أو عقوق والدين أو منعه الزوجة من أن تصل رحمها أو تبر والديها، فيحرم -والعياذ بالله- من خشوع في عبادته، أو يحرم من بكاء، أو يحرم من قيام ليل أو صيام نهار، ويقول: ما أدري ما الذي أصابني؟ وكثير من الشباب الأخيار يصاب بنكسة في التزامه أو ضعف إيمان ولا يدري من أين أُتي، وقد يكون هذا من قبل حقٍ لمظلوم دعا عليه فحرمه الله عز وجل هذا الخير، فنسأل الله العظيم أن يُحيي قلوبنا بطاعته، وأن يرزقنا الوفاء لعباده بما يرضيه عنا، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأدواء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756222326