إسلام ويب

التربية العبادية للنفسللشيخ : نبيل العوضي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تربية النفس قضية مهمة جداً، وقد أقسم الله على فضلها، وهي ترتكز على محورين: 1- تربية النفس في معاملتها مع الله. 2- تربية النفس في معاملتها مع الخلق. وفي هذين المحورين مقامات ترتقي فيها النفس حتى تبلغ أعلى الدرجات.

    1.   

    كيفية تربية النفس

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.

    أما بعد:

    التربية العبادية هي: أن يربي الإنسان نفسه، وهي قضية مهمة، فقد أقسم الله عز وجل على فضلها فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] واسمع للمقسم عليه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] قد أفلح من طهر هذه النفس ورباها، وكانت من غايات بعثته عليه الصلاة والسلام أن يربي الناس ويزكيهم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] والتزكية هي بمعنى التربية.

    وقضية التربية -أخي الكريم- ليست سنوات التزام، لو سألت بعض الناس: كم سنة أنت ملتزم؟

    قال: ست أو سبع أو عشر سنوات. فليست القضية في العمر أو في السنوات، لكن هل ربيت نفسك على عبادة الله جل وعلا؟ هل طهرت هذه النفس؟ هل زكيتها؟

    ألهم الله عز وجل هذه النفس الفجور والتقوى، ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: من زكى هذه النفس وطهرها عن الأدناس والأنجاس، ولهذا سوف نتكلم -يا عبد الله- في هذه الكلمات عن كيفية تربية النفس تربية عبادية، وسوف أقسم الموضوع إلى قسمين:

    أن تربى النفس على أن تكون هذه النفس عابدة لله جل وعلا في أمرين:

    أولاً: في معاملتها مع الله تعالى.

    ثانياً: في معاملتها مع الناس.

    أنت عبد لله جل وعلا.. أنت عندما تبيع وتشتري عبد لله، وعندما تتعامل مع الأم أو الأب أو الإخوة أو مع أي أحد من الناس جميعاً أنت عبد لله جل وعلا، فتربي نفسك حتى في معاملتك مع الناس، ولهذا سوف نقسم الموضوع -كما قلت- إلى قسمين: بينك وبين الله، ثم بينك وبين الناس.

    1.   

    تربية النفس في معاملتها مع الله عز وجل

    تربية النفس على استشعار عظمة الله جل وعلا

    أولاً: يا عبد الله! اسمع إلى هذه المقامات بينك وبين الله، إذا أردت أن تكون عبداً وتذل لله عز وجل بالعبودية فلا بد أن تستشعر عظمة الله جل وعلا.. من هو الله؟ قدَّر عظمته، ولن تستشعر عظمة الله جل وعلا إلا بعد أن تعلم صفاته جل وعلا، قال الله تعالى عن نفسه وعن صفاته: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

    أرأيت إلى الأرض بجبالها وأنهارها وبحارها وبما فيها! كلها يقبضها الله عز وجل يوم القيامة، بل أرأيت إلى هذه السماء! أتعرف كم بينها وبين السماء التي تليها؟ خمسمائة عام، ثم السماء التي تليها خمسمائة عام، وهكذا سبع سماوات يطويها الله كطي السجل للكتب بيده جل وعلا، بل يقبض السماوات والأرضين ويهزهن ويقول: (أنا الملك.. أنا الملك.. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟).

    انظر إلى عظمة الله عندما تكون لوحدك في البيت، وتدعوك نفسك للنظر لامرأة، أو استماع أغنية، أو تقوم لأذان الفجر ثم ترجع وتنام، أتعرف من تعصي يا عبد الله؟

    قال بعض السلف: "لا تنظر لصغر المعصية لكن انظر إلى عظمة من عصيت" تعصي الرب الجليل جل وعلا، اسمع إلى عظمته وهو يخاطب موسى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] يا رب! أريد أن أنظر إليك، اشتاق لرؤية الله جل وعلا، والله عز وجل لا يرى في الدنيا لكنه يراه المؤمنون في الجنة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] أي: يا موسى! في الدنيا لن تراني: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] وكان في ذلك المكان جبل عظيم جداً، قال: انظر إلى الجبل يا موسى! فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] قال: سوف أتجلى -يا موسى- للجبل، فإذا تحمل الجبل فسوف أتجلى لك يا موسى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] أي: نزه الله سبحانه عن كل شيء لما رأى الجبل صار دكاً على الأرض، يقول عليه الصلاة والسلام: (تجلى الله للجبل قدر هكذا وأشار برأس إصبعه) فصار الجبل دكاً.. أرأيت عظمة الله!

    انظر -يا عبد الله- إلى السماوات السبع العظيمات.. أتعرف كم قدر هذه السماوات السبع بالنسبة للكرسي؟! أتعرف ما هو الكرسي؟ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة:255] يقول ابن عباس: [هو موضع قدمي الرب جل وعلا] ولله جل وعلا صفات حقيقية ثابتة نثبتها كما أثبتها عليه الصلاة والسلام، صفات حقيقية نعقل معناها لكن لا نعقل، كيفيتها قال ابن عباس: [الكرسي موضع قدمي الرب] أريد منك -أخي الكريم- أن تتصور هذا الأمر، هذه السماوات السبع العظيمة بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في صحراء، هذه الحلقة هي السماوات السبع وهذه الصحراء هي الكرسي، أرأيت المقارنة والفرق!!

    ثم يا عبد الله! هل تعلم نسبة الكرسي بالنسبة للعرش، الآن تصور الأمر هذا الكرسي بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة في صحراء، هذه الحلقة هي الكرسي، والصحراء هي العرش: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] سبحانه وتعالى على العرش استوى استواءً حقيقياً يليق بجلاله جل وعلا: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] يعلم ما توسوس به كل نفس، بل ما تسقط من ورقة إلا ويعلمها جل وعلا، أعلمت الآن عظمة الله جل وعلا؟!

    هل تصورت -يا عبد الله- هذه العظمة ثم بعدها تسأل نفسك: الواحد منا يعصي الله فإذا دخل أحد الناس ترك! أمام الناس لا يعصي لكن إذا خلا بينه وبين نفسه بدأ يعصي الله جل وعلا.. أتعرف من تعصي؟

    إنك تعصي الرب العظيم الجليل القهار الملك.

    تربية النفس على مراقبة الله جل وعلا

    المقام الثاني من مقامات العبودية: مقام المراقبة: اسمع إلى الإمام أحمد أتاه رجل فقال له: يا إمام! سمعت أحد الناس يقول شعراً، قال: ما هو؟ فأخبره بالشعر، فأغلق الإمام أحمد الكتاب، ثم دخل الغرفة وأغلق على نفسه الباب، فانتظره الناس فاستبطئوه، ثم جاءوا عند باب الغرفة، واستمعوا ماذا يقول فسمعوه يردد الشعر وهو يبكي.. أتعرف ما هو هذا الشعر؟

    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل      خلوت ولكن قل عليَّ رقيب

    ولا تحسبن الله يغفل ساعة      ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

    لهونا لعمر الله حتى تتابعت      ذنوب على آثارهن ذنوب

    فيا ليت أن الله يغفر ما مضى      ويأذن في توباتنا فنتوب

    وأخذ يبكي الإمام أحمد ويردد تلك الأبيات، فإذا جئت في الليل، وأغلقت الباب، وأطفأت الأضواء، وبدأت تعصي الله؛ لا تقل: خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14] ألا تعلم -يا عبد الله- أن الله يراك؟! يطلع عليك وأنت في هذه الحال!

    هذا عمر بن الخطاب يمر على بيوت الناس، فإذا به يستمع إلى صوت يخرج من بيت.. صوت من؟ صوت امرأة في بيتٍ لوحدها.. أتعرف ما قصة هذه المرأة؟ هذه المرأة خرج زوجها للجهاد أشهراً عديدة ومديدة ولم يرجع، ونحن نعلم -يا عباد الله- أن المرأة تشتهي، ولا يرد هذه المرأة شيء.. ما الذي يردها عن الحرام؟ لكن أتعرف ما الذي ردها؟ أخذت هذه المرأة تقول شعراً وعمر بن الخطاب يستمع إليها، تقول:

    تطاول هذا الليل واسود جانبه     وأرقني ألا خليل ألاعبه

    فوالله لولا الله رباً أراقبه     لحرك من هذا السرير جوانبه

    لِمَ يا عبد الله؟ لأن هذه المرأة في قلبها إيمان بأن الله عز وجل يراقبها ويطلع عليها: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:10] الله يعلم المستخفي في الظلمات وهو ينظر لها ويكلمها ويداعبها ويضاحكها؛ بل لعله يزني بها -أجلكم الله- فهو في علم الله ولو كان مستخفياً في الليل أو سارب بالنهار، أي: مجاهر بالنهار.

    عبد الله: راقب الله جل وعلا، ولا تظن أنك عندما تختلي أنه لا أحد يراك، أبو جهل حارب النبي عليه الصلاة والسلام وصد عن سبيل الله، أتعرف بم رد الله عز وجل عليه؟!

    قال لـأبي جهل ولأمثاله: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14] ألا يعلم هذا الكافر الفاجر أن الله يراه؟! والله لو علم حق العلم أن الله يراه ومطلع عليه ما تجرأ على هذه المعصية، ولما تجرأ على أن ينتهك حرمات الله جل وعلا!

    عبد الله: إذا أردت أن تربي هذه النفس على العبادات؛ فأكثر من العبادات، واستمع إلى سلفنا كيف كانوا يعبدون الله جل وعلا، كان الواحد يقضي وقته بالعبادة من قيام وصيام وقرآن وذكر وعبادة مطلقة، اسمع لهذه المواقف:

    صعدت جاريتان -بنتان صغيرتان- على سطح المنزل، وكانتا لا تصعدان إلا في الليل.. تعرف لِمَ؟ لأن الليل يستر الناس، وكان من حياء الجاريتين أنهما لا تصعدان إلا وقت الليل، فصعدتا على سطح المنزل، فنظرتا إلى بيت الجيران، ثم نزلتا فقالتا لأمهما: أين العمود -عمود الخشب- الذي كان في بيت جارنا؟ قالت الأم: ليس ذلك بعمود، إنما هو منصور بن المعتمر كان يقوم الليل فمات، كانتا تظنان أنه عمود واقف في بيت الجيران .. تعرف لِمَ يا عبد الله؟ من طول قنوته وقيامه، تعال إلى كثير من المسلمين بل حتى الصالحين منهم متى قمت الليل.. متى كان آخر مرة؟ يقول لك: منذ رمضان!

    عبد الله! رجل صالح، عابد لله، لكنه لا يقوم الليل ولا مرة في الأسبوع أو الشهر، فكيف يريد أن يربي نفسه على عبادة الله جل وعلا؟ كيف يريد أن يذلل نفسه لله جل وعلا؟

    انظر إلى الله عز وجل ماذا يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [المزمل:1-2] قم الليل كله، ثم قال: إلا قليلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:4] نعم! بماذا يقوم؟ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4] لِمَ يا رب هذا القيام؟ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] وننصح الدعاة إلى الله جل وعلا بقيام الليل لأنك سوف تجد أمراً ثقيلاً، فاستعين بالعبادة على الأمر الثقيل: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153].

    سفيان -عليه رحمة الله- أتعرف كيف كان يقوم الليل، وكيف كان يتعبد الله جل وعلا؟

    أيها الإخوة! الواحد فينا يضحك ويحتقر نفسه أنه يصلي الصلوات الخمس، ويتنفل باثنتي عشرة ركعة، ويوتر قبل أن ينام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن أحدكم يجر على وجهه في سبيل الله) هل أحد منا يجر على وجهه في سبيل الله؟ يقول: (منذ أن ولد إلى أن يموت) تخيل إنسان هذه عبادته منذ ولادته يجر على وجهه إلى أن يموت، كل هذا في سبيل الله، قال: (لحقره يوم القيامة) لأتى يوم القيامة واحتقر عمله كله.

    أخي الكريم! انظر لعبادتك.. كم هي؟ حتى إن الواحد ينسى منذ متى قام الليل أو صام التطوع، بل متى ختم القرآن، بل منذ متى هلل مائة مرة بعد صلاة الفجر؟

    عبد الله! لنعرف أنفسنا ولنقدر أنفسنا حقها.

    كان سفيان -عليه رحمة الله- يقوم الليل، فإذا أذن الفجر وضع رجليه على الحائط لماذا؟ حتى يرجع الدم إلى رأسه من شدة قيامه لليل: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً [الزمر:9]... وهذه الآية نزلت في عثمان، يقول ابن عمر: [والله إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه] تعرف كيف كان فعله؟ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً [الزمر:9] وهو يقود أمة، خليفة من خلفاء المسلمين.. حينما وقعت الفتنة وحوصر جاءه الصحابة فقالوا له: ندفع عنك الثوار؟ قال: لا. وفدى بنفسه لهذه الأمة؛ قال: اتركوهم. قالوا: نقاتل معك؟ قال: لا تقتلوا أحدا،ً وكان في البيت يقرأ القرآن حتى يروى أنه كان يختم القرآن في ليلة، فكان يقرأ القرآن وزوجته عنده، فكسر الثوار الباب، ثم دخلوا عليه في البيت، ثم طعنوه تسع طعنات بخنجر، وتطاير الدم على المصحف، حتى قال هذا الشقي: أما ثلاث فلله -ثلاث طعنات- وأما الست فلشيء في نفسي! وكذب والله؛ فإن التسع كلها ليست لله جل وعلا، بل كلها لشيء في نفسه، فبكت زوجته ثم قالت: قتلتموه وإنه ليحيي الليل كله بالقرآن: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً [الزمر:9] لِمَ كل هذا يا عثمان؟! لِمَ يا أبا بكر؟ لِمَ هذا يا عمر؟ ما الذي تفعله بنفسك يا علي .. لِمَ كل هذا؟ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].

    عبد الله: سل نفسك: هل يسمع القرآن في بيتك؟

    هل إذا جاء الليل توقظ الزوجة لقيام الليل؟

    سلي نفسك يا أمة الله: هل تقومين في الليل وتوقظين الزوج؟ (رحم الله رجلاً قام يصلي فأيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) هل نرى بيوتاً مثل هذه البيوت؟ تمر في الليل فتسمع الزوج يقرأ والزوجة تصلي وراءه قيام الليل؟ هل هذه البيوت موجودة؟ هل بيتك هكذا؟ حتى إن بعض بيوت السلف كان لا يمر عليهم دقيقة في الليل إلا وأحدهم يصلي.

    كما يذكرون أن بيتاً كان فيه أم وابنيها، وكانوا صالحين، وكانوا يجزئون الليل ثلاثة أجزاء، ثلث يقوم هذا، وثلث يقوم هذا، وثلث تقوم الأم، فلما ماتت الأم جزءوا الليل نصفين كل واحد يقوم نصف الليل، فلما مات أحدهما كان الآخر يقوم الليل كله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9] هذا هو العلم ليس العلم أن نحفظ مسائل فقط، ليس العلم أن ندرس كتباً فقط ثم لا نقوم الليل، ولا نصوم النهار، ولا تدمع العين، ولا نرفع اليد ندعو الله جل وعلا.

    اسمع إلى مسروق -عليه رحمة الله- هذا الرجل كان يقوم الليل وتجلس زوجته خلفه تبكي رأفة لحاله من شدة قيامه لليل، تقول: فإذا أذن الفجر يزحف كما يزحف الصبي:

    عباد ليل إذا جن الظلام بهم     كم عابد دمعه في الخد أجراه

    وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم      هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه

    يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً      يشيدون لنا مجداً أضعناه

    يا عبد الله! الذي يخذل في قيام الليل، وفي صلاة الفجر، يخذل في الجهاد في سبيل الله.

    اسمع لـابن المبارك، أحد المجاهدين، تعال إليه في الليل! إذا نام الناس قام إلى الفجر يصلي، فإذا أصبح الصباح رفع السلاح مجاهداً في سبيل الله، هذه هي العبادة يا عباد الله! ليس أننا أمام الناس صالحين، وأمام الناس ساجدين راكعين، فإذا جئنا في البيت، وإذا جن الظلام، وإذا نزل الرب إلى السماء الدنيا لا تجد من يقوم لله جل وعلا، ولا تجد عبادة السر، ولا تجد صيام نافلة ولا قرآن ولا تدمع العين!

    عبد الله: اسمع إلى زوجة رياح، وكان رجلاً صالحاً، فتزوج امرأة فكانت أصلح منه، فأراد أن يختبرها في ليلة العرس -ليلة الزواج- فنام الرجل، فلما نام قليلاً قامت الزوجة لتصلي في الليل، كانوا متعودين على القيام، قالت له: قم يا رياح وصلِّ؟ فقام فقال: لا زال في الوقت متسع، ثم نام وهي تصلي، ثم لما صلت شيئاً قليلاً، قالت له: قم يا رياح! فقام ثم قال: لا زال في الوقت متسع، وهو يختبرها، وهو أحد القائمين، الراكعين الساجدين، لكن أراد أن يختبر المرأة، ثم نام قليلاً حتى اقترب الفجر، قالت له: قم يا رياح فقال: لا زال في الوقت متسع، فلما أذن الفجر، قالت: قم يا رياح! فلما قام، قالت: ما الذي غرني بك يا رياح؟ ما الذي غرني برجل لا يقوم الليل إلا لصلاة الفجر.

    عباد الله: هل هذه هي أحوالنا لا نقوم إلا لصلاة الفجر؟

    هذا رجل قام لصلاة الفجر، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! فلان نام حتى الفجر- قام يصلي الفجر لكنه ما قام يصلي الليل -قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) .

    لو جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ونظر إلى أحوال المسلمين حتى الفجر إلا من رحم الله.. ماذا سوف يقول؟! هل هي فقط قضية بال الشيطان في أذنه أم أن الأمر أخطر وأكبر؟

    تربية النفس على الورع

    أيضاً من مقامات العبودية بينك وبين الله: أن تربي النفس على مقام يسمى الورع، وهو مقام عظيم لا يصله إلا قليل من الناس، وهو أن تترك المكروه خشية أن تقع في الحرام، وتفعل المستحبات خشية أن تترك الواجبات، حتى قيل عن بعض الصالحين: إنهم تركوا كثيراً من المباح خشية أن يقعوا في الحرام، وشق الواحد على نفسه خشية أن يقع في يوم من الأيام في الحرام، اسمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمر في الطريق فيرى تمرة، فتركها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن تكون هذه التمرة من تمر الصدقة؛ لأنهم معشر آل النبي صلى الله عليه وسلم حرم الله عليهم هذه القاذورات والصدقات، فرماها النبي صلى الله عليه وسلم تورعاً.

    اسمع لـأبي بكر -رضي الله عنه- وهو يأكل طعاماً صنعه له غلامه، ثم قال أبو بكر بعد أن أكل الطعام: من أين لك هذا الطعام؟ قال: جئت به من مال؟ قال أبو بكر: من أين حصلت على هذا المال؟ قال هذا الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية. ونحن نعرف أن الكهانة والشعوذة والعرافة كلها شرك بالله جل وعلا، يقول: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، فأعطاني مالاً، واشتريت به طعاماً وأعطيتك، الآن أبو بكر معذور لأنه أكل الطعام وهو لا يعلم، فكان يكفيه أن يستغفر الله جل وعلا وينتهي الأمر، لكن انظروا إلى ورع أبي بكر.. أتعرف ماذا فعل؟

    وضع إصبعه في حلقه حتى أخرج كل الطعام الذي في باطنه، قال: [والله لو لم تخرج إلا مع خروج روحي لأخرجتها] تعرف لِمَ يا عبد الله؟ إنه الورع!

    الواحد منا الآن يسأل: هل هذه المعصية صغيرة أو كبيرة؟ تعرف لِمَ؟ لأنه إذا كانت صغيرة يقول: ليس فيها بأس، وإذا كانت كبيرة يكف عنها، ولم يعلم أن الإصرار على المعصية كبيرة، وقد قال السلف: "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظم من عصيت".

    الإمام أحمد واسمع لهذه القصة العجيبة التي تتحدث عن امرأة بلغت القمة في الورع، هذه المرأة جاءت تسأل الإمام أحمد، فتقول له: يا إمام! نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية -أي: حرس الإمام أو الحاكم يمرون بجوار البيت وعندهم مشاعل أو سرج- فيقع الشعاع علينا، قالت: فهل يجوز الغزل في ضوئها؟ أي: هل يجوز أن ننسج الثياب بهذه الأضواء، لأن هذه الأضواء لعلها جاءت من حرام، ولعل هذا الضوء لا يحل لنا أن نستفيد منه.. هل سمعت بهذا الورع؟! إنسان يخاف أن يستخدم الضوء الذي يأتيه لعله من حرام!

    تقول: هل يجوز لنا أن نغزل في هذا الضوء؟

    فقال الإمام أحمد: من أنتِ؟ فقالت هذه المرأة: أنا أخت بشر الحافي - وهو أحد الورعين والصالحين الزاهدين، زهدوا في الدنيا، فبكى الإمام أحمد ثم قال: من بيتكم يخرج الورع، ورع وأي ورع يا عباد الله؟!

    الآن المرأة تقول لزوجها: ادخل في هذه التجارة أو ساهم في هذه الشركة، يقول الرجل: والله كأن فيها ربا، فتقول: كل الناس يفعلونه، ليس هناك بأس أن ندخل في هذه التجارة، لعلنا نكسب بعض المال انظروا -يا عباد الله- إلى ضعف الإيمان، وقلة الورع، وضعف اليقين بالله جل وعلا.

    تربية النفس على التقلب بين الصبر والشكر

    أيضاً من المقامات -يا عبد الله- بينك وبين الله جل وعلا أن تتقلب بين الصبر والشكر، وإياك والثالث، فأنت إما أن تكون صابراً وإما أن تكون شاكراً: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).

    اسمع يا -عبد الله- إلى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في مكة.. أتعرف ما الذي جرى بهم؟ حاصرهم المشركون في شعبٍ حتى إنهم كانوا يتضورن من الجوع، والأطفال يبكون، والمشركون أمامهم يأكلون من اللحوم والأطعمة، حتى إن الصحابة من شدة الجوع أكلوا أوراق الشجر! انظر يا عبد الله إلى هذه الحالة التي كانت عند الصحابة، والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    ماشطة ابنة فرعون، كانت تمشط شعر بنت فرعون؛ فإذا بالمشط يسقط من يدها، فقالت هذه الماشطة: باسم الله! وأخذت المشط، فقالت البنت: من؟ أتعنين أبي؟ فقالت الماشطة المؤمنة: بل ربك ورب أبيك الله رب العالمين! فقالت البنت: سوف أخبر أبي؟ فقالت الماشطة: أخبريه وليكن ما يكون.. انظروا يا عباد الله! على الثبات، فاستدعاها فرعون، وتعرفون من هو فرعون! الذي قتل الرجال، واستحيا النساء، واستعبد الناس، الطاغية الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى! وهل تعرف من وقفت أمامه؟ إنها امرأة خادمة، كانت ماشطة لبنت فرعون! هذا الموقف الذي لا يستطيع أن يقفه الرجال الأشداء ووقفته تلك المرأة.

    فقال فرعون لها: يا ماشطة! ألك رباً غيري؟ فقالت الماشطة: نعم! ربي وربك الله رب العالمين، انظر للجرأة.. وللقوة، قالت: ربي وربك الله رب العالمين، قال: يا ماشطة! توبي وارجعي، قالت: ربي وربك الله رب العالمين، فجاء فرعون بأطفالها الصغار -والأم لا تصبر على أذية أولادها حتى لو كان في ذلك موتها- فجاء بقدر فيه زيت، ثم أحماه حتى أصبح يغلي، ثم جاء بأولادها واحداً تلو الآخر، ورماهم في القدر أمام أمهم وهم يبكون، واللحم ينفصل عن العظم!

    انظر يا عبد الله إلى هذا الموقف! هل تتحمله أنت أيها الرجل؟! والمرأة صابرة رابطة الجأش، فقالت له: أطلب منك طلباً، فظن فرعون أنها سوف ترجع، فقال: ما هو؟ قالت: أطلب منك أنك إذا قتلتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفننا في قبر واحد: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214].

    يا عبد الله: لا تظن أن النعمة تدوم، ولا تظن أن الأمر ميسر إلى أبد الدهر.. لعلك تبتلى، حتى قال عليه الصلاة والسلام لـحذيفة : (أحصني كم يلفظ الإسلام؟ قال: لِمَ) هذا أول إحصاء في الدولة الإسلامية، قال: (أحصني كم يلفظ الإسلام؟ قال: ولِمَ؟ قال: أربعمائة نفس، قال عليه الصلاة والسلام لا تدري لعلكم أن تبتلوا) يقول حذيفة: مرت علينا أيام لا يستطيع أحدنا أن يقضي حاجته.

    اسمع لـأبي ذر رضي الله عنه، لما أسلم قام في الناس، وهو ينطق الشهادتين، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فجاءه المشركون يضربونه من كل جهة، حتى أدموه فصار كتمثال من الدم، حتى جاء العباس يفكهم عنه وكان مشركاً في تلك الأيام، ثم جاء في اليوم الثاني.. هل أيس؟ وهل تراجع؟ وجاء في اليوم الثاني وقام بين المشركين وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهم يضربونه حتى صار كتمثال من الدم، وجاء في اليوم الثالث يعلنها صريحة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله... صبروا يا عبد الله!

    أسمعت بلالاً كيف كان يجر على الرمضاء؟ أما سمعت ببعضهم كان يحمى الحديد حتى يحمر، ثم يطفأ في ظهره، وبعضهم كان ينام على الجمر، وكان أحدهم يقول: أحد أحد، صابر على دينه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    المقام الثاني: الشكر: اشكر النعمة التي أنت فيها، وأخص النساء ممن لا يشكرن نعمة الله جل وعلا عليهن، واسمع يا عبد الله! إلى هذا الموقف الذي يذكره أحد المشايخ، وقد نقلته تقريباً بالنص، ولعلك تقول لي: هذا من نسج الخيال، لكن أقول لك: إن هذا الموقف حال كثير من الناس، ممن لا يشكرون نعمة الله جل وعلا، ممن يرزقهم الله عز وجل رزقاً حلالاً، ينامون في بيت واسع، ورزقهم الله عز وجل زوجة صالحة، ورزقها الله عز وجل زوجاً صالحاً وأولاداً وذرية ولكن لا يشكرون نعمة الله، يريدون أكثر من هذا بالحرام، اسمع إلى هذه المرأة تقص حالها، وحال كثير من النساء، ولعلك تعتبر بهذه القصة، ثم انظر حال كثير من الناس.

    تقول هذه المرأة واصفةً نفسها مع زوجها وكيف أنها كفرت نعمة الله، تقول: كنا معاً في أطيب حال، وأهنئ بال، زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله، عندنا القناعة والرضا، طفلتنا مصباح الدار، ضحكتها تفتق الزهور، إنها ريحانة تهتز، فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة، قمت مع زوجي نسبح الله، يؤمني ويرتل القرآن ترتيلاً، نعمة وأي نعمة، لا يحصل على هذه النعمة كثير من الناس، يتمنونها فلا يحصلون عليها، وتصلي معنا الدموع، في سكينة وخشوع، كأني أسمعها وهي تفيض قائلة: إنا إيمان فلان وفلانة، وذات يوم -اسمع لكفر النعمة- أردنا أن تكثر عندنا الفلوس، اقترحت على زوجي أن نشتري أسهم ربوية -انظر الإغراء- لتكثر عندنا الأموال وندخرها للعيال-انظروا الحجة- ووضعنا فيها كل ما نملك، حتى حلي الشبْكة، تقول: ثم انخفضت أسهم السوق، وأحسسنا بالهلكة، فشربنا من الهموم كأساً، وكثرت علينا الديون والتبعات، فعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات، وفي ليلة حزينة خلت فيها الخزينة، تشاجرت مع زوجي فطلبت منه الطلاق، فصاح: أنت طالق، أنت طالق، فبكيت وبكت الصغيرة وعبر الدموع الجارية تذكرت جيداً يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

    عبد الله: لا تنظر إلى من هو أقوى منك وأكثر منك، وأفضل منك نعمة، لكن انظر إلى من هو دونك، ولا تزدري نعمة الله جل وعلا.

    عبد الله! هذا هو القسم الأول الذي أردت أن أتحدث عنه.

    1.   

    تربية النفس في معاملتها مع الخلق

    القسم الثاني -وهو أمر مهم-: أن يربي الإنسان نفسه في تعامله مع الناس، مع إخوانه في الله جل وعلا، اسمع يا عبد الله إلى هذه المقامات التي لا بد أن نتحلى بها، في تعاملنا مع البشر، ربِّ نفسك عليها، ولا تظن أن هذه الأوراق صفراء وقديمة، وهذه الأمثلة من نسج الخيال ولا يمكن أن توجد في صفحاتنا اليوم، لا يا عبد الله! يمكنك أن تعمل بها وأنت تربي نفسك على هذه الأخلاق وتلك المقامات، فاسمعها يا عبد الله وعشها ثم حاسب نفسك هل أنت تتعامل بهذه الأمور أم لا؟

    تربية النفس على التواضع مع الخلق

    أول ما تربي نفسك على التواضع، أن تذل نفسك بين الناس، هل جربت أن تمشي بين الناس وتعتبر نفسك أذلهم وأحقرهم وأدناهم منزلة؟ هذا رجل يسمى: بكر بن عبد الله المزني أحد الصالحين الزاهدين، رجل سطره التاريخ في زهده وعبادته، يوماً من الأيام كان واقفاً في عرفة، تعرف ما الذي يحصل في عرفة؟ الناس بين باكٍ وخاشع وساجد وراكع وداعٍ لله جل وعلا، في عرفة تكثر الدموع والبكاء، وبكر بن عبد الله المزني جالس في عرفة -لعل هذا الرجل أفضلهم- قال: لا إله إلا الله، لولا أني فيهم لقلت: قد غفر الله لهم، قال: المصيبة أني موجود بينهم، لو كنت خارجاً عنهم لجزمت أن الله قد غفر لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] على إخوانهم في الله، على عباد الله الصالحين ذليل، أما شدته وقسوته على من؟ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] كم تجد من الناس مع النصارى واليهود ذليل؟ متواضع لين هين ومع إخوانه في الله قاس.. كم ترى من الناس أمثال هؤلاء؟

    موقف آخر في هذا المقام: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، هذا التابعي أبوه وجده صحابيان، وهو من أشرف التابعين في علمه وعبادته، هذا الرجل كان في منى، وأظن من حج منكم يعرف كيف يكون الناس في منى، زحام وكل واحد يدفع الثاني في زحام منى، هذا الرجل كان يمشي في منى فإذا برجل يدفعه، فالتفت إليه سالم، تظنه ماذا يقول؟ ولِمَ التفت سالم إليه؟

    قال الرجل لـسالم بن عبد الله: إني لأظنك رجل سوء، سبحان الله! أولاً دفعه ثم شتمه، والآن ماذا تظن سالم يرد عليه، تخيل يا عبد الله! تمشي في الطريق فيدفعك رجل، فتلتفت إليه فلا يتأسف، ويسبك، ويقول: أنت رجل سوء، كيف ترد عليه يا عبد الله؟! تعرف ماذا قال سالم؟ قال: والله ما عرفني إلا أنت: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] قلوب متواضعة لينة، الواحد يحقر نفسه، حتى قال بعضهم في تعريف التواضع: ألا ترى لنفسك حقاً أو فضلاً على أحد، فتظن أن الناس كلهم خير منك.

    تربية النفس على نقاء النفس مع المسلمين

    المقام الثاني: تربي نفسك على هذه المقامات، فالقضية ليست آيات نحفظها، أو دروس نحضرها ثم نصلي بعض الصلوات ثم ماذا؟ النفس-نسأل الله العافية- لا يتحملها إنسان، واسمع إلى المقام الثاني وهو مقام عظيم، بل سوف نعرف أن هذا المقام لا يصل إليه إلا قلة من الناس ممن اصطفاهم الله جل وعلا، سلامة الصدر والقلب للناس.

    هل جربت يوماً من الأيام، أن تنام وليس في قلبك على أحد من المسلمين غل، هل جربت يوماً من الأيام أن تنام وليس في قلبك على أحد حقد.

    اسمع إلى هذا الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) يقول الصحابة: فخرج رجل، وهذا الرجل غير معروف، نعلاه تحت إبطه، ولحيته يقطر منها أثر الوضوء، فعجبنا من أمره وهو يمشي على الأرض وهو مبشر بالجنة، ثم قال في اليوم الثاني: (يطلع عليكم رجل من أهل الجنة) فخرج نفس الرجل، وفي اليوم الثالث نفس الرجل: (يطلع عليكم رجل من أهل الجنة).

    عبد الله! تخيل أنك مبشر بالجنة وتمشي على الأرض، تتمنى أن تموت اليوم قبل الغد، من أهل الجنة! يقول عبد الله بن عمرو فتبعته وطرقت الباب عليه، فقلت: يا فلان! إني قد لاحيت أبي -صارت بيني وبين أبي خصومة- وأقسمت ألا أرجع إليه ثلاثة أيام، فإن شئت أن تضيفني، فقال: تفضل، يقول ابن عمرو: جلست عنده ثلاثة أيام، فما رأيته كثير عبادة ولا كثير صوم ولا شيء -أي: يقوم الليل لكنه قليل والصحابة أكثر منه في قيام الليل وصيام النهار- يقول: فجئته في اليوم الثالث فأخبرته الخبر، فقلت: يا فلان سمعت رسول الله يقول عنك كذا وكذا، فأخبرني عن حالك؟ قال: يا فلان! ليس إلا ما رأيت- أي: ما عندي عبادة أكثر من هذه التي رأيتها - فذهب عبد الله ثم ناداه، فقال: يا بن أخي! تعال ارجع، قال: فرجعت، فقال لي: تذكرت أمراً، قال: إنني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد مسلماً على خير آتاه الله إياه، فقال الصحابي: هذه التي بلغت بك.

    نعم! هذه التي أدخلتك الجنة، ثم قال: وهي التي لا تطاق، يقول الصحابي: هذه المنزلة لا تطاق. وهذه المنزلة عظيمة يا عبد الله! ولا تخدع نفسك فتقول: أنا لا أحمل في نفسي أبداً، فتش وفتش، فسوف تجد في نفسك على فلان غلاً، وعلى فلان حقداً، وعلى فلان حسداً، ولفلان غش، ولفلان كره، وعلى فلان إساءة ظن.

    يا عبد الله! هلا سلمت صدرك، يقول الله جل وعلا عن المؤمنين: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] اسمع للدعاء: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].. (هل يستطيع أحدكم كـأبي ضمضم؟ من أبو ضمضم يا رسول الله؟! قال: هذا رجل كان إذا أصبح يقول: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه) كل يوم يقول: يا رب! كل من تكلم فيَّ فقد حللته، هلا جربتها لتسلم صدرك وتدعو لإخوانك بالعفو، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].

    بعض الصالحين وللأسف -وهذا إذا كان في بعض الصالحين كيف لك بغيرهم- تجده يتذكر لأخيه موقفاً قبل عشر سنوات! وإلى اليوم لم ينسه وما عفا عنه، إلى اليوم يقول: لا أعفو عنه حتى يأتيني ويعتذر لي.

    سبحان الله! أين هذه المقامات التي بلغها أولئك؟

    سامح أخاك إذا خلط      ممن أصابك بالغلط

    وتجاف عن تعنيفه      إن زاغ يوماً أو قسط

    واعلم بأنك إن طلبت مهذباً رمت الشطط

    من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

    تريد يا عبد الله من إخوانك ألا يخطئوا لن تجد أحداً من الناس مبرأ من الزلل والخطأ.

    تربية النفس على إحسان الظن بالناس

    اسمع يا عبد الله إلى المقام الثالث! وهو مقام عظيم جداً، وأيضاً أقول لك: من الصعب أن تجد من الناس من يقوم بهذا المقام؛ وهو مقام إحسان الظن، أن يخطأ عليك إنسان أو يتكلم بكلمات فتحسن الظن به.. كم وكم من الناس -والله يا إخوة- لا يتحمل الكلام، بل يحمله على أشد محمل، فتجده يقول: ما تكلم إلا وهو يقصدني، وما تكلم إلا وهو يريد كذا وكذا، وما قال هذه الكلمات إلا وهو يريد كذا وكذا، وما أدراك؟ أشققت عن قلبه؟ هل فتشت فيه؟ هلا جئت وسألته!

    اسمع يا عبد الله! إلى أولئك السلف الذين سلمت صدورهم وقلوبهم لإخوانهم، يقول ابن معين: إنا لنطعن على أقوام -أتعرف من هو ابن معين؟ إنه جراج ليس في الطب، بل جراح، أي يقول: فلان ثقة.. فلان كذاب.. فلان وضاع.. وعلمه هذا واجب وخدمة لدين الإسلام، يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم حطوا رحالهم في الجنة، يقول: أنا أتكلم في أناس يمكن أنهم دخلوا الجنة ونتكلم فيهم، انظر إلى الورع وإلى إحسان الظن في إخوانهم، واسمع إلى المقامات:

    من المقامات التي ذكرناها قبل قليل العفو والصفح، واسمع للإمام أحمد مع المعتصم، الإمام أحمد جلد جلداً لو جلد هذا الجلد بعير لمات، حتى كان بعضهم يجلده فإذا تعب أتاه آخر فيجلده حتى يسقط على الأرض ويستمرون في الجلد.

    وهذا الإمام عندما أطلق سراحه، جاءه طبيب يعوده، فلما نظر إلى ظهره قال: يا إمام! لقد مات الجلد -أي: اللحم- ولا بد أن يستأصل ونقطع اللحم، قال: وإلا استشرى في الجسد، فتموت وتهلك، وما عندهم بنج ولا مخدر، فاستلقى الإمام أحمد على بطنه، وجاء الطبيب بالمشرط، أتعرف من السبب في هذا كله؟ إنه المعتصم الذي أمر بجلد الإمام أحمد، وهو السبب في هذا كله، وهل الإمام أحمد مخطئ أو ظالم؟ لا والله، إنه يحمي عقيدة المسلمين، عقيدة أهل السنة.

    فجاء الطبيب وأخذ يقطع لحمه، فلما بدأ بالقطع وضع الإمام أحمد يده على رأسه، فلما بدأ بالقطع قال الإمام أحمد: اللهم اغفر للمعتصم، اللهم اغفر للمعتصم: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].

    بكى في ليلة من الليالي بكاء شديد، فقال أهله وتلاميذه، بكيت الليلة بكاء ليس ككل ليلة، ما الذي جرى؟ قال: مر علي في الدرس آية.. أتعرف ما هي هذه الآية؟ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40] فتذكرت المعتصم، فقمت الليل وبكيت في السجود ودعوت الله أن يحله.

    أيها الإخوة: هذه مقامات عظيمة، وهذه النفس إذا لم تترب على هذه المقامات ولم تذل لله جل وعلا، وتذل نفسها لإخوانها -والله يا إخوة- فلن ينصرنا الله جل وعلا، ولذلك تجد هذه الدعوة دائماً تتقدم ثم تتأخر، ومع هذه الأعمال والجهود المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يقتلون.. لِمَ هذا يا عبد الله؟ النفوس ضعيفة، ولهذا من قال: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم.

    ونختم بهذه القصة حتى نعلم أيها الأخ الكريم أن هذه النفس تحتاج إلى تربية، ونتيقن أنها مراحل عظيمة حتى نصل إلى هذه المستويات، فاسمع يا عبد الله! إلى هذه القصة الأخيرة، وهي قصة الحسن بن الحسن رضي الله عنه، فقد دخل على علي زين العابدين -وقد سمي بـزين العابدين من شدة عبادته- وهو جالس بين تلاميذه فدخل عليه الحسن، فأغلظ له في الكلام وكان بينهم خصومة وخلاف، فشتمه وسبه وتكلم فيه، ولم يرد عليه زين العابدين بكلمة واحدة حتى انتهى من سبه وشتمه ثم ذهب، فجاءه في الليل، وطرق الباب عليه، ففتح الحسن بن الحسن الباب، وتعجب من زين العابدين هل جاء الآن يأخذ حقه؟ هل جاءه يسبه الآن ويشتمه؟ أتعرف ماذا قال؟ سلم ثم قال: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك، والسلام. ثم ولى وتركه، فجاء الحسن بن الحسن في الطريق وأمسكه وعانقه، ثم بكى وطلب منه أن يحله، ثم قال: والله لا أعود إلى أمر تكرهه أبداً ما حييت: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].

    وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755901295