إسلام ويب

تفسير سورة فاطر (5)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من رحمة الله بالعباد أنه يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات، ومن عدله وحكمته أنه لا يحاسب أحداً بذنب أحد ولا يأخذه بجريرته، ويوم القيامة ينصب الموازين، فيفلح هنالك المؤمنون الصالحون، ويخسر المبطلون الكافرون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    وها نحن الليلة مع سورة فاطر المكية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله، والله نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:15-18].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات تحوي علوماً ومعارف ما أحوجنا إلى علمها ومعرفتها.

    بيان فقر العباد إلى ربهم وحاجتهم إليه

    أولاً: قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [فاطر:15] هذا نداء الله عز وجل لنا مؤمنين وكافرين، عرباً وعجماً، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15] والله! لحقيقة قطعية يقينية لنحن الفقراء إلى الله محتاجون حتى إلى تردد أنفاسنا، ومحتاجون إليه في طعامنا، في شرابنا، في كسوتنا، في راحتنا، في علاج مرضانا، في وجود هذه الحياة، والله! لنحن الفقراء.

    ثانياً: قال تعالى: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] الله جل جلاله وعظم سلطانه رب العالمين، أرحم الراحمين، مالك يوم الدين، هذا الله الإله الأعظم الذي لا إله غيره ولا رب سواه هو الغني الغنى المطلق الحميد على كل أفعاله، يحمده أهل الأرض وأهل السماء على ما أعطى وعلى ما تفضل به وأجاد، وهو الغني الغنى المطلق الذي لا يكون معه فقر في أي قضية، وفي أي زمان ومكان، وهذا العلم الذي يجب أن نعلمه:

    أولاً: أننا فقراء إلى الله.

    ثانياً: أن الله هو لا غيره الغني، والغني هو الذي يعطي وهو الذي يُسأل، وهو الذي يتضرع له، وهو الذي يقرع بابه، وهو الذي يطلب لأنه الغني، وليس مع غناه شح ولا بخل، بل حميد أعطى لكل شيء ما يحتاج، فلهذا هو محمود في الأرض والسماء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد)

    ثالثاً: قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [فاطر:16] الله لا إله إلا هو لو يشاء إذهابنا لأذهبنا، ولا يصبح منا أحد، ثم ها نحن نشاهد ما تمضي علينا مائة سنة، والله! ما يبقى أحد منا أبداً، فيذهبنا الله، وقادر عز وجل أن يذهبنا بالزلزال والخسف، أو بالصواعق، أو بالإبادة والفناء.

    رابعاً: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر:16] لا أنه يذهبهم فقط ويزيلهم ويفنيهم ولا يأتي بمثلهم، بل يأتي بخلق جديد، ومن هنا وجب أن نقول: لا إله إلا الله، وأن نعد أنفسنا لعبادة الله بما شرع لنا من أنواع العبادات، من الصلاة إلى الزكاة.

    إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر:16] أذهب عاداً وثمود وفرعون وأتى بغيرهم، -كما قلت لكم-: فقط مائة سنة تمر على الحاضرين لن يبقى أحد، ويأتي الله بخلق جديد.

    ومعنى هذا: أنه ذو القدرة العظيمة، وأنه ذو التدبير العليم الحكيم، وهو الذي يستحق أن نركع له، وهو الذي يستحق أن نسجد له، وهو الذي يستحق أن نرفع أكفنا إليه، وهو الذي يجب أن نحبه، وهو الذي يجب أن نخافه، فهو ذو القدرة العظيمة، وهو أهل لهذه العبادة من الحب والخوف والطاعة والرجاء، وليست لأصنام ولا لأحجار ولا لأهواء ولا لشهوات ولا لرجال ولا لفروج ولا لنساء.

    فالآيات تقرر عبادة الله فلا يُعبد إلا الله؛ إذ هو صاحب هذه الصفات؛ صفات الجلال والكمال، أما عبادة الأصنام والأهواء والشهوات، فهي عبادة في الحقيقة للشيطان، وليست لتلك الأصنام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما ذلك على الله بعزيز)

    خامساً: قال تعالى: وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:17] أي: بممتنع أبداً، إن يشأ يذهبنا ويأتي بآخرين، وهذا والله! لا يصعب على الله أو يعتز عليه أو لا يستطيعه، وما هو على الله بعزيز، بل سهل ميسر؛ إذ يقول للشيء: كن فيكون، لو قال لأهل الأرض كلهم: موتوا، ماتوا. لو قال لمثلهم: كونوا مثلهم والله كانوا بكلمة: كن، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى ...)

    ومن هذه المعارف والعلوم قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18] أيما نفس تحمل ذنباً وتزره، لا يمكنها أن تحمل وزر أخرى، ففي يوم القيامة أهل الذنوب في مجمع واحد لا يستطيع مذنب أن يقول: أنا أحمل من ذنبك ذنباً، أو أنت احمل علي ذنباً.

    وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18] والوزر: الإثم، والذنب المسئول عنه، والوازرة نفس، أي: ولا تحمل نفس وازرة أي مذنبة ذنب نفس أخرى أبداً، حتى ولو كانت أمك أو أبوك أو ابنك، فلا يحملون وزرك ولا تحمل وزرهم، وهذه حقيقة يجب ألا تخفى عنا.

    بيان صعوبة الموقف في عرصات القيامة عند وضع الميزان ووزن الأعمال

    ففي عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء يحملون الناس ذنوبهم، فلا يستطع أحد أن يخفف عن الآخر، حتى ولو كانت أمك تقول: أي ولدي! لقد كان بطني وعاءً لك، لقد كان ثديي سقاء لك، لقد كان حجري وطاء لك فخذ مني كذا أو أعطني كذا.. والله! ما يعطيها ولا يأخذ منها.

    وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18] أولاً: لا تزر نفس وازرة وزر أخرى.

    ثانياً: وإن تدع مثقلة بحملها الثقيل بالإثم إلى حملها: يا فلان! خفف عني، احمل عني.. لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى، كالأب والأم والابن والأخ.

    لطيفة: يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: هي المرأة تلقى ولدها في ساحة فصل القضاء، فتقول: يا ولدي! ألم يكن بطني لك وعاء؟ ألم يكن ثديي لك سقاء؟ ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول: بلى يا أماه، فتقول: يا بني! قد أثقلتني ذنوبي، فاحمل عني منها ذنباً واحداً، فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول، وهذا معنى قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18].

    بيان أن الإنذار والتخويف من عذاب الله لا ينتفع به غير المؤمنين الصالحين

    بعد هذا يقول تعالى لمصطفاه صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [فاطر:18] أي: إنما تنذر المؤمنون الذين يستجيبون لك ويأخذون بنذارتك، أما الفاسقون الكافرون الفاجرون لا يستجيبون لك فلا تحزن ولا تكرب، إنما تنذر وتنجح في نذارتك الذين يخشون ربهم بالغيب، وهذه صفة من صفات الجلال والكمال، فالذين يخافون ربهم وهو غائب عنهم لا يرونه منذ أن خلقهم، فوق عرشه بائن من خلقه لا تراه أعيننا، هؤلاء هم المؤمنون الذين يخافون ربهم ويخشونه وهم ما رأوه، ترتعد فرائصهم، وتقشعر جلودهم، ويبكون إذا سمعوا الله عز وجل.. وهؤلاء هم الذين تنفعهم نذارتك؛ لأنهم أحياء يسمعون ويبصرون.

    الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [فاطر:18]، وهذه لطيفة أخرى: الخشية بالغيب: الخوف من الله تعالى ونحن لا نراه، وهذه الصفة يجب أن تكون في قلب كل مؤمن ومؤمنة، وصاحبها حي يقبل النذارة ويستجيب للدعاء، وفاقدها ميت لا يستجيب لنداء ولا لدعاء ولا يأخذ بنذارة.

    ثانياً: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [فاطر:18] الذين يقيمون الصلاة، أي: الذين يقيمون الصلاة ويؤدونها على الوجه المطلوب بأدائها أداءً صحيحاً كاملاً على أساس أركانها وشروطها، وسننها وآدابها، وفي أوقاتها في جماعة المسلمين. فهؤلاء يستجيبون لنذارتك ويقبلون كما تقول؛ لأنهم أحياء كالمؤمنين بالغيب، ولا ننسى أن المقيمين للصلاة أحياء يقبلون النذارة والتخويف، ويستجيبون للنداء، ويستجيبون للدعاء؛ وذلك لكمال حياتهم.

    وحقاً لا يقيم الصلاة كما ينبغي أن تقام في أوقاتها الخمسة المحددة ثم بأركانها وشروطها وآدابها، والله! لا يفعل هذا إلا مؤمن، والمنافق أو شبه المؤمن لا يؤديها الأداء اللازم أبداً، بل يصلي صلاة ويترك أخرى، ويصلي يوم ولا يصلي آخر.

    الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ [فاطر:18] هذه صفة، والذين أقاموا الصلاة صفة ثانية، وكلتا الصفتين تدل على حياة هذا الإنسان الذي يقبل النذارة، أما تارك صلاة، وأما كافر بالله ولقائه لا يخاف الله لو تدعوه الليل والنهار لن يستجيب، وفي هذا تخفيف على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتهوين على ما يعانيه من التعب والعناء، فقال له: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [فاطر:18] وهؤلاء مستعدون لقبول نذارتك، فخوفهم وأنذرهم يستجيبون، أما ما عدا هؤلاء فهم أموات غير أحياء.

    أقول: الذي يقيم الصلاة ويؤديها على الوجه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأداها عليه، كما بينها جبريل وأداها للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي يحافظ على الصلاة في خشوع وخضوع من أكبر المؤمنين، وهذا يستجيب للنداء ويقبل النذارة، ومن أنذره خاف واستجاب.

    تقرير حقيقة: أن من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها

    ثم قال تعالى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فاطر:18]، أي: من تطهر من الذنوب والآثام وأوضار وأوساخ الشرك والمعاصي فتزكيته لنفسه، الله غني غنىً مطلقاً، وليس بحاجة إلى صلاتك ولا صيامك، ولا ذكرك ولا شكرك أبداً، وإنما ذلك يعود عليك أنت بالفوائد، وبالطهارة والصفاء بالجنة دار السلام.

    إذاً: فمن تزكى منكم يا عباد الله! إنما يتزكى لنفسه، وتلك التزكية تعود عليه هو فينجو من النار ويدخل الجنة، أما الله فهو في غنى عن هذا؛ إذ الله هو الغني الحميد، ومن تزكى منكم يا بني آدم، يا بني الجان، فليعلم أنما يتزكى لنفسه لا لله، فقط لله الطاعة والاستجابة والقبول لما أمر به ونهى عنه، أما عوائد التزكية فلا تعود على الله في شيء، فالله غني عنها، ولكن تعود على الذي زكى نفسه.

    قال تعالى مقسماً بالقسم الإلهي العظيم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] وهذه الأيمان الثمانية من أجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فأي حكم أعظم من هذا الحكم؟

    فيجب على كل إنسان أن يعي هذا الحكم، وأن يذكره ولا ينساه، (أفلح) من زكى نفسه، وتزكى النفوس وتطيب وتطهر حتى تصبح كأنفس الملائكة بمادة العبادة التي تعبدنا الله بها، فإذا أديتها على الوجه المطلوب في أوقاتها وفي كيفياتها وأعدادها؛ إذ هذه العبادات أدوات تزكية، والله! لآلات تزكية.

    الماء والصابون يزكيان الثوب والبدن، والصلاة والصيام يزكيان والله! الروح.

    قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: من زكى نفسه.

    ومعنى أفلح: فاز، والفوز بينه تعالى في كتابه؛ إذ قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فليس هناك من يقول: إلا نفسي، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] وهذا حكم الله الصادر لم يتخلف؛ لقدرة الله وعظمته.

    كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، فأيتها الشغيلة! أيها العاملون! لا تطالبون بالأجر اليوم، فهذه ما هي دار جزاء، وإنما هذه دار عمل فقط، فالأجر في الدار الآخرة.

    وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] فلهذا قد تعبد الله سبعين سنة وأنت فقير، وقد تعبد الله ثمانين سنة وأنت مريض، وقد تعبد الله خمسين سنة وأنت في السجن، ولن يكون هذا جزاء أبداً، فجزاؤك يوم القيامة لا في دار الدنيا.

    إذاً يقول تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، والفوز سماه فلاح في الحكم، قال: هو الفوز، أي: أفلح بمعنى فاز.

    فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب من دسّا نفسه، ومعنى خاب: أي: خسر، يقول تعالى في بيان الخسران الحق: قُلْ [الزمر:15] أي: يا رسولنا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15]، وليس خسران بعير أو شاة أو وظيفة أو ولد أو بنت.

    أي: قل لهم يا رسولنا: إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] يلقى الرجل في عالم الشقاء في جهنم يعيش ملايين السنين، والله! لا يرى أمه ولا أباه ولا أخته ولا أخاه ولا ولده ولا صديقه أبداً، وقد يوضع في تابوت من حديد ويغلق عليه ويرمى في جهنم، والله لا يأكل ولا يشرب، ولا يسمع، ملايين السنين وهو في ذلك الصندوق، وهذه هي الحقيقة التي تجاهلها الناس.

    وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فاطر:18] لا لرسول الله ولا لأصحابه ولا لله عز وجل، بل تزكى لنفسه، ومعنى تزكى: طاب، وطهر.

    والتزكية التطيب والتطهر، والذي يزكو النفس فتطيب وتطهر، والأنفس الزكية معروفة، فصاحب النفس الزكية لا يسب، ولا يشتم، ولا يلعن، ولا يأخذ حق أحد، ولا يظلم أحداً أبداً؛ لأن نفسه مشرقة كالنور، فلا يستطيع أن يعصي الله ولا يقدر، فالذي يمشي في النور لا يقع في حفرة، والذي يظلم ويفسق ويفجر صاحب النفس المظلمة التي علتها الذنوب والآثام وغطتها، وأصبحت في الظلام، صاحبها يتخبط طوال الحياة.

    مصير العباد إلى الله عز وجل

    وأخيراً يجب أن نعلم أن المصير إلى الله، قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:18] فاعلموا أن مصير الخليقة كلها إلى الله والله العظيم! أبيضنا كأحمرنا، والإنس كالجن، والأولون كالآخرون.. والمصير إلى الله في ساحة واحدة ساحة فصل القضاء، ثم يحكم الله فيدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وهذا هو المصير الأبدي.

    إذاً: فهيا نحسن صلتنا بالله، وما دام مصيرنا إليه كيف نغضب عليه، وكيف نعصيه، وكيف لا نحبه، وكيف لا نتملقه؟! وكيف لا نتزلف إليه؟ لِم لِم والمصير إليه؟!

    ولكن الغفلة والجهل والعياذ بالله تعالى.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    من هداية هذه الآيات: [أولاً: بيان فقر العباد إلى ربهم وحاجتهم إليه]، بيان فقر العباد إلى ربهم وحاجتهم إليه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15] وهذه الآية الأولى.

    [ وإزالة فقرهم وسد حاجتهم يكون باللجوء إليه والانطراح بين يديه يعبدونه ويسألونه.

    ثانياً: بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة].

    بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة، فلا يظلم ربك مثقال ذرة أبداً، ولا يظلم أحداً، فمن جاء بألف صاع من الذنوب عليه ألف صاع، ومن جاء بذنب واحد عليه ذنب، لا يأخذ الذنوب من هذا ويضعها على هذا أبداً، ولكن بالعدالة الإلهية.

    [ثالثاً: بيان صعوبة الموقف في عرصات القيامة لا سيما عند وضع الميزان ووزن الأعمال].

    والله! لا يوجد يوم أصعب من هذا اليوم، كيف والناس حفاة عراة والشمس تدنو منهم والعرق قد يصل إلى أعناقهم، وهم ينتظرون متى يحكم الله فيهم، في يوم طوله خمسون ألف سنة، أي يوم أعظم من هذا اليوم؟

    ثم الحكم إذا كان إلى الجنة فنعم الحكم، ولكن إذا كان إلى النار والخلود فيها نعوذ بالله من هذا الحكم.

    [رابعاً: بيان أن الإنذار والتخويف من عذاب الله لا ينتفع به غير المؤمنين الصالحين].

    كما قدمنا المقيميون للصلاة الذين يخشون ربهم ويخافونه هم الذين ينتفعون بما يسمعون من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الذين لا يخافون الله ولا يرهبونه ولا يحبونه كيف ينتفعون؟

    فتارك الصلاة والعابثون بها والمستهزئون بها كذلك قلوبهم ميتة لا ينتفعون أبداً.

    [خامساً: تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة].

    علمنا أن السور المكية كلها تقرر أن هناك يوماً هو يوم القيامة يجمع الله فيه الخليقة كلها أولها وآخرها، ويستنطقهم ويستجوبهم ويحاسبهم، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، والذي لا يؤمن بهذا المعتقد والله لا خير فيه، وكثيراً ما أقول: لا يوثق فيه أبداً؛ لأنه شر الخلق، الذي لا يؤمن بالدار الآخرة وما يجري فيها، فمستحيل أن يستقيم في الدنيا ويصبح صالحاً..

    [وأخيراً: تقرير حقيقة وهي أن من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها].

    وهذه حقيقة دائمة: من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعلى نفسه أيضاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755955737