إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عوض القرني
  5. عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد العبادة (1، 2)

عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد العبادة (1، 2)للشيخ : عوض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ عن أقسام التوحيد، مبيناً توحيد العبادة؛ وأن العبودية أصل ملازم للإنسان، موضحاً أن تحقيقها يأتي انسجاماً مع الكون كله. لكن العبودية الحقة لله لا تتحق إلا بأمور، منها: العلم بالله تعالى وبدينه، والإخلاص له، ومتابعة نبيه عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    أقسام التوحيد

    اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، تقدست أسماؤك، وتعالت صفاتك، ولا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، نشهد أن لا إله إلا أنت، ونشهد أن محمداً عبدك ورسولك وصفيك من خلقك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها الأحبة في الله! لقد اصطلح علماء المسلمين عند الحديث عن مباحث ومسائل العقيدة الإسلامية على تقسيم مباحث التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة، وتحدثوا في توحيد الربوبية عن توحيد الله سبحانه وتعالى بأفعاله، وعدم نسبة أفعاله سبحانه وتعالى إلى أحدٍ سواه من الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والخفض والرفع، والإعطاء والمنع، وما إلى ذلك من أفعال الخلق.

    وهي التي جعلها القرآن الكريم -عند حديثه عن توحيد العبادة- جعلها مقدمة وتوطئةً للحديث عن توحيد العبادة، وجعلها حجةً وبرهاناً على أن العبادة لله وحده سبحانه وتعالى، إذ أن من استحق الربوبية فهو المستحق للعبادة وحده سبحانه وتعالى، وتحدثوا في توحيد الأسماء والصفات كما يظهر من اسمه عن أسماء الحق سبحانه وتعالى التي سمى بها نفسه، أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] . وتحدثوا عن صفات الحق سبحانه وتعالى التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وتوحيد العبادة أو توحيد الألوهية هو توحيد الخلق للخالق بأفعاله، فتوحيد الربوبية: هو توحيد الخالق بأفعاله سبحانه وتعالى، وعدم نسبة شيء من أفعاله إلى سواه، وتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة: هو توحيد الخالق سبحانه وتعالى في أفعال الخلق، بمعنى: ألا تصرف أفعال الخلق، ولا يتوجه بها، ولا يقصد بها إلا الخالق سبحانه وتعالى.

    وتوحيد الألوهية بمعنى توحيد الله سبحانه وتعالى بأفعال العباد إنما تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة عن أمر فطري فطر عليه البشر كافة، فالإنسان خلق وهو يحمل في كل ذرات كيانه وجسمه وروحه ونفسه وذاته معنى العبودية، ولا يمكن أن يخرج الإنسان في لحظة من لحظات حياته عن كونه عبداً، وذاك ما تحدثت عنه الآية الكريمة في قول الحق سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] .

    1.   

    ملازمة صفة للإنسان

    لقد جعل الله سبحانه وتعالى صفة العبودية ملازمةً للإنسان في صفة الخلقية، فالإنسان منذ أن خلق وركب كون لكي يكون عبداً في هذه الحياة، ومكونات أو مبررات عبودية الإنسان في هذه الحياة كثيرة جداً منها: فقره إلى من سواه، وعجزه أمام من سواه، وضعفه أمام من سواه، وجهله وحاجته إلى من سواه، فالإنسان فقيرٌ دائماً محتاجٌ إلى من خلقه وأوجده وفطره وبرأه في هذه الحياة، والإنسان ضعيفٌ دائماً أمام من خلقه وأوجده وبرأه في هذه الحياة، والإنسان جاهلٌ بذاته، جاهلٌ بحاله، ومستقبله ومآله، كل هذه المعاني تؤكد لنا أن الفقير الضعيف العاجز الجاهل المحتاج لا بد أن يبقى عابداً لسواه، والذي يبقى بيد الإنسان بعد ذلك هو أن يصرف هذه العبودية إما لله سبحانه وتعالى، وإما لغير الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا في حديث شريف عن هذا المعنى، وهو قدرة الإنسان على أن يصرف هذه العبودية التي تنطق بها كل ذرة في ذاته، والتي تنطق بها كل خلية في نفسه، هذه العبودية التي هي ملازمة له، ولا يستطيع أن ينفك عنها أبداً، ولا أن يتخلص عنها أبداً، بل هو عبدٌ شاء ذلك أم أبى، يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أصدق الأسماء حارثٌ وهمام) فهو يحدثنا صلى الله عليه وسلم عن قدرة الإنسان وإرادته، بمعنى: أن أصدق اسمٍ يمكن أن ينطبق على الإنسان، ويحدد صفة وطبيعة هذا الإنسان حارثٌ وهمام، حارثٌ كناية عن القدرة بمعنى: أن الإنسان لديه قدرة يستطيع أن يتحرك بها وأن يفعل بها، وهمامٌ بمعنى: أن الإنسان لديه إرادة متجددة مرة بعد أخرى، فهو صاحب قدرة وهو صاحب إرادة، ولذلك يستطيع بهذه القدرة والإرادة وإن كانت إرادةً محدودةً، وإن كانت قدرةً محدودةً يستطيع أن يصرف تلك العبودية إما إلى الله سبحانه وتعالى، وإما إلى غير الله سبحانه وتعالى.

    والإنسان يعلم علم اليقين بأن غير الله سبحانه وتعالى لا يملك لذاته نفعاً ولا ضراً، فكيف يملك لغيره نفعاً أو ضراً؟ وبالتالي فإنه لا يستحق أن يصرف له شيئاً من معاني العبودية، إذ إن الذي يجب أن تصرف له معاني العبودية هو من برئ من صفات الفقر التي تحدثنا عنها في العبيد، برئ من صفات الفقر والعجز والجهل والضعف، وما برئ من هذه الصفات إلا فاطر السماوات والأرض سبحانه وتعالى.

    يحدثنا القرآن الكريم عمن اتجهوا يمنة ويسرة يبحثون عن جهة يصرفون إليها عبوديتهم غير الله سبحانه وتعالى، فيقول سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الفرقان:1-2] أرأيت إلى قدرة الله وإلى غنى الله سبحانه وتعالى وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:2-3] هذا هو مفترق الطريق بين العبودية لله سبحانه وتعالى الذي يملك الأرض والسماوات، والذي خلق كل شيء، والذي قدر كل شيء سبحانه وتعالى، والذي هو غنيٌ عمن سواه سبحانه وتعالى، وبين من صرفوا العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وهم في الحقيقة يُخلقون ولا يَخلقون، وهم في الحقيقة عاجزون ضعفاء فقراء محتاجون، هذا هو مفترق الطريق بين العبوديتين.

    العبودية لله هي القضية الكبرى

    ويحدثنا سبحانه وتعالى عن أهمية هذه العبودية، وأنها من أجلها خلقت الأرض والسماوات، وخلقت الدنيا والآخرة، وخلق الموت والحياة، وخلقت الجنة والنار، وخلق الوجود كله.

    إذاً فهي القضية الكبرى في هذا الوجود، وهي القضية الكبرى في تقدير الحي القيوم سبحانه وتعالى، وهي الغاية من خلق السماوات والأرض والوجود كله، يقول سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] هذا هو توحيد الربوبية الذي تحدثنا عنه الذي يؤكده القرآن الكريم ويجعله مقدمةً وبرهاناً ومبرراً لطلب العبودية لله سبحانه وتعالى وحده تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فليس هناك من مالكٍ على الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، وكل من عدا الله سبحانه وتعالى فإنما هم عبيدٌ لله مستخلفون في بعض ملك الله في تنفيذ شيءٍ من قدر الله سبحانه وتعالى، وليسوا بمالكين على الحقيقة، ولو كانوا أصحاب ملكٍ حقيقيٍ في هذا الوجود، لنفذت إرادتهم عندما يريدون، لكن الذي ينفذ هو قدر الله سبحانه وتعالى، وهو مراد الله سبحانه وتعالى، لذلك فهو سبحانه وتعالى يسلب الملوك ملكهم رغماً عن أنوفهم، ويسلب الأغنياء مالهم رغماً عن أنوفهم، ويسلب الأحياء حياتهم رغماً عن أنوفهم، أتوا إلى الدنيا بدون اختيارهم، وسيغادرونها بدون اختيارهم، فالملك بيده سبحانه وتعالى وهو مالكٌ قادرٌ، ليس بمالكٍ عاجزٍ سبحانه وتعالى تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1-2] .

    إذاً أرأيت كيف أن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة، أي: خلق الدنيا والآخرة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2] ليرى أتعبدون الله سبحانه وتعالى، أو تعبدون غير الله سبحانه وتعالى، ليرى أتوحدون الله سبحانه وتعالى بأعمالكم، أو لا توحدون الله سبحانه وتعالى بأعمالكم.

    العبودية لله انسجام مع الكون كله

    إن كل ما في الوجود يعبد الله سبحانه وتعالى إنما الإنس والجن أعطوا قدراً من الحرية يتحركون في خلال هذا القدر المحدود ليحققوا معنى العبودية الاختيارية في أرقى صورها وأعلاها، هذا القدر من الحرية الذي أعطيه الإنس والجن في هذه الحياة هو ما تحدثت عنه الآية السابقة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فإن عبدوا الله سبحانه وتعالى، وانسجموا مع موجودات الكون التي يقول عنها سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] فالأرض تسبح، والسماوات تسبح، والشجر يسبح، والحجر يسبح، وكل موجود يعبد الله سبحانه وتعالى إلا عصاة بني آدم هم الذين يشذون في هذه الحياة، ويذهبون بعيداً عن الصراط المستقيم والطريق القويم، لذلك كما ورد في بعض الآثار: [أنه حتى الحشرات في جحورها تلعن عصاة بني آدم] لأن المخلوقات كلها متوجهة إلى الله سبحانه وتعالى، والعصاة فقط في هذه الحياة أياً كانت هذه المعصية من الكفر فما دونه هم فقط الذين يجرون على خلاف نواميس الله وسنن الله، يصارعون كل شيء في هذا الوجود حتى أنفسهم وذواتهم، لذلك يعيشون في صراع مع مخلوقات الله سبحانه وتعالى.

    توحيد العبادة هو وظيفة الأنبياء والرسل

    توحيد العبادة هو وظيفة الأنبياء والرسل، وهو الذي دعا إليه المرسلون، وهو الذي بعث به المرسلون في هذه الحياة، وهو الذي افترق الناس فيه إلى مؤمنين وكافرين، وأصحاب جنة وأصحاب سعير، وحزب الله وحزب الشيطان، يحدثنا عن ذلك القرآن الكريم، يقول سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] إذاً فجميع الأنبياء في هذه الحياة من أولهم إلى آخرهم إنما كانت رسالتهم ووظيفتهم الدعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى واجتناب الطاغوت؛ وهو كل ما عبد من دون الله سبحانه وتعالى أياً كانت صورة تلك العبادة، وأياً كان شكل تلك العبادة، وهو ما سنتحدث عنه بعد قليل، ويقول سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ويقول سبحانه وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] يعلق على هذه الآية شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، فيقول: إن العبادة هي قلب رحى الدين التي يدور عليها الدين وتدور عليها بعثة الأنبياء والمرسلين، إن العبادة والعبودية لله هي قلب رحى الدين التي يدور الدين كله من حولها، إذ إنها هي المهمة والوظيفة التي جاء بها الأنبياء المرسلون في هذه الحياة.

    وفي الحديث الذي رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ أتعلم ما حق الله على العبيد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).

    ولذلك كانت منـزلة العبودية لله سبحانه وتعالى هي أعلى وأرقى وأعظم درجات المؤمنين التي يمكن أن يصلوا إليها، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في أشرف مقام وأعلى منـزلة وصل إليها ليلة الإسراء والمعراج وصفه بالعبودية لله سبحانه وتعالى، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يتحدث عن تشريفه وتكريمه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد اصطفاه وشرفه وكرمه على الخلق قاطبة، ثم زاده تشريفاً وتكريماً في ذلك المقام مقام الإسراء والمعراج والقرب من الحق سبحانه وتعالى، فنعته الحق سبحانه وتعالى ووصفه في هذه المنزلة العالية الرفيعة بالعبودية لله سبحانه وتعالى.

    1.   

    مسائل هامة في توحيد العبودية

    لا يعبد الله إلا بما شرع

    ومن أهم مسائل توحيد العبودية وقضية العبودية وتوحيد العبادة لله سبحانه وتعالى، من أهم مسائلها: ألا عبادة لله سبحانه وتعالى بدون علم، إن الله سبحانه وتعالى قد فرض علينا عبوديته، وفرض علينا سبحانه وتعالى أن نعبده بما شرع سبحانه وتعالى، فلا معبود بحق إلا الله، ولا يعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما شرع، لا يعبد الله سبحانه وتعالى بالأهواء، ولا بالشهوات، ولا بالخيالات، ولا بالأوهام، ولا بالعادات، ولا بالتقاليد، ولا بالاستحسان، إنما يعبد الله سبحانه وتعالى بوحيٍ نزل به على نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] يقول العلماء: لقد جعل الله سبحانه وتعالى العلم سابقاً للعمل، وجعل العمل لاحقاً وتابعاً للعلم، فالعمل هنا هو الاستغفار للذنب، لكن لا يتأتى الاستغفار حتى يكون العلم قبل ذلك بمن الذي يغفر سبحانه وتعالى؟ من الذي يُسْتَغْفَر؟ وكيف يُسْتَغْفَر؟ ومماذا يُسْتَغْفَر! فيكون العلم سابقٌ للعمل في هذه القضية، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أن خشية الله سبحانه وتعالى وهي من أعلى درجات العبادة القلبية لا تتأتى إلا لمن قد رسخ في العلم قبل ذلك، فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] إذ لا تتحقق الخشية إلا بعد أن يسبقها العلم بذلك؛ يسبقها العلم بالله سبحانه وتعالى كما سنرى، ويسبقها العلم بحال العبد وفقره وحاجته إلى ربه سبحانه وتعالى، فخشي ربه سبحانه وتعالى، وأخبت لربه سبحانه وتعالى.

    إن العلم المحمود شرعاً، والعلم الضروري للعبادة، والعلم الضروري لتوحيد الحق سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول هو العلم بالله سبحانه وتعالى، والعلم بالله سبحانه وتعالى يتحقق من خلال النظر والتأمل لأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته وتنـزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به من خلال التأمل بأسماء الله سبحانه وتعالى والتأمل في صفات الله سبحانه وتعالى، فإذا علم العبد أن من أسماء الله سبحانه وتعالى العليم، وعلم أنه لا تخفى عليه خافية، وعلم أن من أسمائه سبحانه وتعالى السميع وأنه يسمع ما جل وما قلَّ من الأصوات، وعلم أن من أسمائه البصير وأنه يبصر كما ورد في الحديث: (دبيب النملة السوداء، في الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء) وأقل من ذلك.

    وإذا كان من أسمائه سبحانه وتعالى القدير، وأن قدرته لا يعجزها شيء، ولا يحدها شيء.

    وكان من أسمائه سبحانه وتعالى الحي، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، إذا تأمل الإنسان في أسماء الله وصفاته وعرف ربه سبحانه وتعالى وهو أشرف العلوم على الإطلاق، فالعلم بالله هو من أشرف العلوم، وكل علمٍ بعد ذلك إنما هو فرعٌ للعلم بالله سبحانه وتعالى، فيعلم بالله سبحانه وتعالى علماً يورثه اليقين، ويورثه الانقياد لله سبحانه وتعالى.

    إذا تأمل في آيات الله في هذا الكون، وما أكثر آيات الله في هذا الكون كما ورد في الحديث عن أم المؤمنين رضي الله عنها أنها استيقظت وإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبكي حتى بلًّ لحيته الشريفة، فقالت له رضي الله عنها وأرضاها: (ما أبكاك يا رسول الله؟ فداك أمي وأبي -أو كما ورد في الحديث- فتلا صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] ) كما قال ذاك الأعرابي، يقول: الخطوة تدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الواحد القهار.

    إن المصنوع يدل على الصانع، وإن المخلوق يدل على الخالق سبحانه وتعالى، فآثار حكمته، وآثار قدرته، وآثار قوته، وآثار علمه سبحانه وتعالى تظهر واضحةً جليةً في آياته الباهرة الظاهرة في هذا الوجود، فتعرف إلى سبحانه وتعالى من خلال آياته التي بثها في هذا الوجود، وكما سمعنا من الآيات الكريمة من خلال التأمل في آيات الله في الأرض وفي السماوات، هذا التأمل المستبصر لأصحاب العقول والألباب أورثهم اللهج بذكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، أصحاب عقول نظروا إلى آثار الله سبحانه وتعالى في الكون وفي خلقه فانطلقت ألسنتهم تذعن لله وتذكر الله وتتذكر الله وتشهد بعظمة الله سبحانه وتعالى. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ [آل عمران:190-191] وما أكثر آيات الله الباهرة! سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] .. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] كما يحدثنا القرآن الكريم.

    ثم أيضاً من خلال النظر في أقدار الله سبحانه وتعالى، ومن خلال النظر في أفعال الله سبحانه وتعالى، وما فيها من الآيات الباهرة.

    أيها الأحبة في الله! وأنا أتلو في كتاب الله وأتلو في قصة موسى وفرعون أرى عظيم أقدار الله، وأرى آيات الله الباهرة، هذا الجبار المتجبر الطاغوت المتكبر الذي ادعى الربوبية في الأرض واعتدى عليها، ولم يكن من قبله، ولا من بعده كما حدثنا القرآن من ادعى هذا الأمر وهو قضية الربوبية، هذا الجبار حين قيل له: سيلد في هذا العام من سيكون على يديه زوال ملكك، أصدر قراراً وقرر أن يفني جميع المواليد في تلك السنة واستنفر قوته وجنده، وقال: لن يبقى في هذا العالم مولودٌ حيٌ على الإطلاق، صدر قرار فرعون، وصدر قرار رب العالمين بأن يبقى هذا المولود، وأن يعيش في بيت فرعون، وأن يتولى تربيته فرعون رغماً عن أنفه، وأن يكون على يديه هلاكه وزوال ملكه، فقدر من الذي نفذ؟ أقدر الله سبحانه وتعالى، أم قدر فرعون؟ بل الذي نفذ هو قدر الله سبحانه وتعالى، هو قرار الله سبحانه وتعالى، هو تقدير الله سبحانه وتعالى، وما أكثر العبر والعظات في آيات الله سبحانه وتعالى.

    فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو في ذلك الغار الضيق والدنيا كلها تغلي من حوله، والدنيا كلها تضطرب من حوله، والدنيا كلها تطلب رأسه وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى معه، فيقول لصاحبه: (لا تحزن إن الله معنا) ومن كان الله سبحانه وتعالى معه فهو المنتصر لا محالة، وهو الفائز لا محالة، وهو الأعلى لا محالة بإذن الله سبحانه وتعالى.

    آيات الله في أقداره التي تتقلب في الليل والنهار، من تأملها بنفسٍ صافيةٍ وبصيرةٍ يقظةٍ وعقلٍ مستيقظٍ وتأمل في هذه الأقدار وما فيها من الآيات الباهرات عرف الرب سبحانه وتعالى، وبعد ذلك أن ينزه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق به من صفات النقص التي اتصف بها المخلوقون القاصرون الفقراء الجهلاء الضعفاء في هذه الحياة، فيعتقد أن الله سبحانه وتعالى يتصف بكل صفة كمال على الإطلاق منزهٌ عن كل صفة عيب على الإطلاق، يعتقد ذلك، ويعلم ذاك بالتفصيل الذي ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى. إذاً العلم الذي نحتاجه لعبادة الله سبحانه وتعالى هو العلم بالله سبحانه وتعالى.

    كما أن العلم بالله سبحانه وتعالى يورثنا بعد ذلك الرغبة والمسارعة إلى البحث والاستقصاء للعلم بدين الله سبحانه وتعالى، والعلم بدين الله الذي أمر به وشرعه في هذه الحياة لتسيير هذه الحياة كلها، وهو ما سنتحدث عنه بعد قليل، والعلم بدين الله وهو جزءٌ من دين الله، أي: بما أعد الله لأوليائه من الثواب، وما أعد الله لأعدائه من العقاب، هذا هو العلم أيها الأحبة الذي لا تستقيم الحياة بدونه، وهو الذي يجعل الإنسان يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة.

    الإخلاص شرط في قبول العبادة

    المسألة الأخرى التي لا تتحقق العبادة بدونها هي: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، فلا عبادة بدون إخلاص، والإخلاص هو قلب العبادة وهو لبها وهو روحها، والعبادة بدون إخلاص إنما هي جثمان وهيكل ميت لا روح فيه، يقول الله سبحانه وتعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3] ويقول الله سبحانه وتعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] ويقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] لا يمكن أن تكون عبادة لله بدون إخلاص لله سبحانه وتعالى.

    إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل وقيل: (يا رسول الله! الرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل للمغنم، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

    إذاً: لا بد أن يتوجه الإنسان بكليته إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يقصد ولا يكون له مقصد ولا غاية غير الله سبحانه وتعالى، لأنه -كما ذكرنا قبل قليل- ليس هناك أصلاً من يستحق أن تتوجه إليه غير الله سبحانه وتعالى، فغيرك يا عبد الله يحمل الضعف الذي تحمله، ويحمل العجز الذي تحمله، ويحمل الفقر الذي تحمله، أفيعقل أن يتوجه فقيرٌ إلى فقيرٍ فيسأله أن يفك ضائقته؟! أيعقل أن يتوجه ضعيفٌ إلى ضعيفٍ فيسأله أن يعينه؟! أيعقل أن يتوجه عاجزٌ إلى عاجزٍ مثله فيسأله أن يرفع من شأنه ويشد من عضده؟! لا يعقل هذا في العقول، لذلك صرف أصحاب العقول أعمالهم إلى من يستحقها سبحانه وتعالى، وإلى من يستطيع سبحانه وتعالى أن يستجيب لدعائهم، وأن يعطيهم سبحانه وتعالى من خزائنه التي لا تنفد.

    يقول ابن القيم عليه رحمة الله وهو يتحدث عن الإخلاص: الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهداً غير الله، ولا مجازياً سوى الله سبحانه وتعالى، لا تلتفت إلى غير الله سبحانه وتعالى، ولا تفكر في غير الله سبحانه وتعالى، ولا تجعل في اعتبارك غير الله سبحانه وتعالى، ولا تسأل الجزاء من غير الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يستطيع أيضاً أن يجازي إلا الله سبحانه وتعالى، هو سبحانه وتعالى الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، والمؤمن ينتظر الجزاء في جنة عرضها السماوات والأرض (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وهذه الجنة لا يملك مفاتيحها، ولا يملك إعطاءها إلا الله سبحانه وتعالى، فأولو العزم من الرسل يقول كل منهم: نفسي نفسي، فكيف بغيرهم من عباد الله سبحانه وتعالى؟!

    فالإخلاص ألا تطلب على عملك شاهداً غير الله، ولا مجازياً سواه.

    يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيمة الإخلاص في تزكية الأعمال وأنه روحها ومحركها من داخلها، فيقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) فرب عمل قليل بإخلاص عظيم ارتفع إلى عنان السماء وملأ ما بين السماء والأرض، ورب عملٍ في ظاهره مثل الجبال يؤتى يوم القيامة به فإذا هو هباء منثور -والعياذ بالله-.

    أما حدثنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أول ثلاثة تسعر بهم النار، وأنهم أناس في ظاهر أعمالهم وحالهم كانوا من خيار البشر في هذه الحياة، أحدهم كان عالماً بالقرآن معلماً بالقرآن مفقهاً للناس في دين الله، داعياً إلى الله سبحانه وتعالى، والآخر كان مجاهداً في سبيل الله حتى يراق دمه وهو يجاهد ويقاتل في ظاهر عمله، والآخر أنفق ماله يمنةً ويسرةً، من في موازيننا في الحياة أعلى من هؤلاء الثلاثة؟ من أعلى ممن يعلم دين الله وينشره بين الناس بعد أن تعلمه؟ أو يجاهد في سبيل الله ويحامي عن ثغور الإسلام؟ أو ينفق ماله في سبيل الله؟ ينفقه في سبيل الله ويتصدق به في سبيل الله، لكن هذه الأعمال رغم ظاهرها الجميل العظيم وظاهرها الذي هو في الحقيقة أعلى قمة العبادة لله والعبودية لله سبحانه وتعالى، كان مآل أصحابها يوم القيامة أن يكونوا أول من تسعر بهم النار -والعياذ بالله- كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ثلاثة تسعر بهم النار: رجلٌ تعلم القرآن وعلمه، فيؤتى به يوم القيامة فيعرف نعم الله عليه، ويقال: ماذا فعلت؟ فيقول: يا رب! تعلمت القرآن فيك وعلمته، ويقال له: إنما تعلمت لكي يقال: قارئ، وقد قيل، خذوه واذهبوا به إلى النار -والعياذ بالله- ويؤتى بالآخر، وكان قد قاتل في سبيل الله، فيعرف نعم الله ويقال له: ماذا فعلت؟ فيقول: يا رب! قاتلت في سبيلك حتى قتلت، فيقال: إنما قاتلت ليقال جريء أو يقال: شجاع، فقد قيل، خذوه واذهبوا به إلى النار، ويؤتى بالثالث وكان ذا مال وقد أنفق ماله، فيعرف نعم الله، ثم يقال له: ماذا فعلت فيها؟ فيقول: أنفقتها في سبيلك يا رب، فيقال له: إنما أنفقت ليقال: جواد، وقد قيل، خذوه فاذهبوا به إلى النار) هذه الأعمال في حقيقتها وظاهرها ليست معاصي ولا آثاماً حتى يقول الإنسان: أنا لا أجاهد، أنا لا أتعلم القرآن ولا أعلمه، أنا لا أنفق في سبيل الله، لا، بل هو مأمورٌ بالجهاد، مأمورٌ بالعلم والتعلم، مأمورٌ بالإنفاق، ومأمورٌ بعد ذلك، ومأمورٌ أثناء ذلك وبعد ذلك بأن يقصد ذلك كله وجه الله سبحانه وتعالى، لذلك ورد أيضاً في الحديث الشريف أن (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يريد به إلا عرض الدنيا لا يجد ريح الجنة، وإن ريح الجنة ليوجد من مسيرة كذا وكذا).

    إذاً: لا بد في العبادة لله سبحانه وتعالى من الإخلاص، لا بد من أن نخلص القلب لله سبحانه وتعالى، وأن نجعل مقصدنا وغايتنا هو الله سبحانه وتعالى، وألا نطلب الجزاء ولا المحمدة ولا الثواب من أحدٍ غير الله سبحانه وتعالى.

    متابعة النبي عليه الصلاة والسلام شرط في تحقق العبودية

    أما الأمر الثالث الذي لا يمكن أن يتحقق توحيد العبودية بدونه فهو: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الحق سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] كثيرٌ من الناس الذين يدعون محبة الله سبحانه وتعالى وقد يكونون من الصادقين في محبتهم لله سبحانه وتعالى، لكن ذلك لا يكفيهم من النجاة من النار عند الله ما لم يقرنوا محبتهم لله بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أغلق الله كل طريق في هذه الحياة يتوهم الناس أنه يوصل إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، وفتح طريقاً واحداً هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فمن التمس رضوان الله سبحانه وتعالى فمن خلال طريق محمد صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، قد يكون الإنسان محباً لله مخلصاً لله، لكنه ليس من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، قد يكون في رهبان النصارى وأحبار اليهود من يحب الله حباً حقيقياً، لكن لا ينفعه ذلك غداً، بل وهو من حطب جهنم -والعياذ بالله-، والسبب في ذلك: أنه ما كان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الحق سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] ويقول سبحانه وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ويقول صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد) من أحدث في هذا الدين غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو مردودٌ على صاحبه منبوذٌ هو وصاحبه، لا يقبل من صاحبه -والعياذ بالله-.

    وهذان الشرطان: الإخلاص، والمتابعة، هما معنى الشهادتين، معنى قولنا وترديدنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمعنى قولنا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يعبد إلا بما شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أو بما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى، لذلك كان السلف عليهم رحمة الله يقولون: سبيل النجاة أن تعمر باطنك بمراقبة الله سبحانه وتعالى، وأن تعمر ظاهرك بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أن تجعل باطنك مراقباً لله لا يتوجه إلا إلى الله سبحانه وتعالى، وأن تجعل جوارحك معمورةً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشرط الثالث من شروط العبودية لله سبحانه وتعالى.

    العبودية يجب أن تشمل جميع جوانب الحياة

    أما المسألة الرابعة من مسائل توحيد العبودية لله سبحانه وتعالى فهي: أن العبادة يجب أن تكون شاملةً لكل جوانب الحياة المختلفة، تستوعب حياة الإنسان منذ أن كلف إلى أن ينتقل إلى ربه سبحانه وتعالى، فلا يبقى في مرحلة حياته، ولا في جزء من جزئيات حياته نصيبٌ لغير الله سبحانه وتعالى، بل لا بد أن تكون عبوديتك كاملةً شاملةً لله سبحانه وتعالى، ولذلك عندما عرف شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله العبادة، قال: هي اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. أي: مستوعبةٌ لحياتك كلها في سرها وفي علنها، وفي عباداتها وفي معاملتها، أي: أن تستوعب عبوديتك لله بيتك وسوقك ووظيفتك وأسرتك ومجتمعك وحبك وبغضك وولاءك وبراءك وشتى جوانب حياتك وجميع مناحي حياتك: في الحياة الفردية، والحياة الاجتماعية، والحياة الفردية، وحياة الأمة في حياة الدولة، وحياة الرئيس، وحياة المرءوس في شتى جوانب الحياة، أن نكون أمة عابدة لله سبحانه وتعالى، فليست العبودية لله فقط موطنها في المسجد، بل العبودية لله موطنها الحياة كلها، يقول سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] أي: يجب أن تكون الحياة كلها مستوعبةً لشرع الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وعندما يعي المسلمون هذه الحقيقة، ويوجهون حياتهم كلها عبوديةً لله سبحانه وتعالى ومتابعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فثقوا أن المعاني التي نتحدث عنها في التاريخ عن ذلك الجيل وتلك الصفوة ستكرر مرةً أخرى في هذه الحياة.

    إن كل الذي فعلوه أنهم وجهوا حياتهم كلها لله سبحانه وتعالى، فكان سمعهم لله سبحانه وتعالى، وكان بصرهم لله سبحانه وتعالى، وكان منطقهم لله سبحانه وتعالى، وكان فكرهم وعلمهم وثقافتهم وإعلامهم وتعليمهم وأقلامهم وكتابتهم لله سبحانه وتعالى.

    ولنتأمل أيها الأحبة في الله في حياة المسلمين، ولنفتش في واقع حياة المسلمين، وخذوا مثالاً واحداً من حياة المسلمين وانظروا هل هو محققٌ لمعنى العبودية لله سبحانه وتعالى، خذوا الإعلام في ديار الإسلام، وفتشوا في الصحف، وفتشوا في المجلات، وانظروا في الإذاعات، واسمعوا في التلفاز، وتأملوا، سترون بعد ذلك هل هي تحقق معنى العبودية لله سبحانه وتعالى، أو تحقق معنى العبودية للأهواء والشهوات والرغبات، والإخلاد إلى الأرض، والركون إلى التراب؟ ثم نرى بعد ذلك هل نحن فعلاً في واقع حياتنا نحقق معنى العبودية لله سبحانه وتعالى؟

    أيها الأحبة! إن في عرف الإسلام، وفي عرف الشرع الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى، السياسي في سياسته عابدٌ لله، والاقتصادي في اقتصاده عابدٌ لله سبحانه وتعالى، والمعلم في مدرسته عابدٌ لله سبحانه وتعالى، والمرأة في بيتها وفي أسرتها عابدةٌ لله سبحانه وتعالى، والرجل في رعايته لأولاده عابدٌ لله سبحانه وتعالى، والجار في جواره عابدٌ لله سبحانه وتعالى، والموظف في وظيفته عابدٌ لله سبحانه وتعالى، ففي كل جانب من جوانب الحياة حدودٌ لله سبحانه وتعالى من رعاها حق رعايتها فهو العابد لله سبحانه وتعالى، ومن أهملها وضيعها فهو المتجاوز لحدود الله المنتهك لحرمات الله سبحانه وتعالى، أما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (قد يقول الرجل الكلمة لا يلقي لها بالاً، أو ليضحك بها الناس تهوي به في جهنم سبعين خريفاً) -والعياذ بالله- لو يتأمل هذا الحديث العظيم حملة الأقلام ورجال الصحافة والإعلام، ليحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا، ويقفوا عند حدود الله سبحانه وتعالى، ويعبدوا الله حق عبادته، ويعلموا أن هذه الكلمة مسئولية، وأنها عبادةٌ وعبوديةٌ يجب أن تصرف لله سبحانه وتعالى، لاستقامت حياة المسلمين.

    يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا عن معنى استيعاب الحياة كلها في عبادة الله سبحانه وتعالى، يقول: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفي ماذا أنفقه) أي إنسان في هذه الحياة لا يمكن أن يخرج لحظة ولا دقيقة من حياته عن هذه الأسئلة الأربعة؟ والسؤال بين يدي الله سبحانه وتعالى، في يوم يقول عنه سبحانه وتعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] الأجسام عاريةٌ، والقلوب والهةٌ خائفةٌ مضطربةٌ، والأبصار خاشعةٌ، والتاريخ الذي كان يخفى ويستر ويغطى مكشوفٌ ومفضوحٌ على رءوس الأشهاد، في ذلك اليوم يقف العبد بين يدي ربه سبحانه وتعالى، والسائل له هو من لا تخفى عليه خافية، من السر عنده علانية، من يحصي القليل والكثير فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] .

    هذا دليلٌ آخر على معنى العبودية الشامل الكامل الذي تشوه في أذهان المسلمين، ففي ذلك اليوم لا يتحرك العبد يمنةً ولا يسرةً حتى يسأل عن أربعة أسئلة تستوعب الحياة كلها في شتى جوانبها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، عن هذه الطاقات، وهذه الجوارح، وهذه القوى التي زودك بها الله سبحانه وتعالى، وأعطاك إياها الله سبحانه وتعالى لتعبده وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ما خلق لك السمع والبصر والفؤاد، وما خلق لك اليد والرجل، وما خلق لك الماء والهواء والغذاء، وما خلق لك الأرض والسماوات إلا من أجل عبادته سبحانه وتعالى، لذلك تسأل يوم القيامة عن هذه الحياة والعمر والزمان، والأمكنة والمؤهلات التي أعطيتها لتعبد الله سبحانه وتعالى، وتسأل عن حياتك الفكرية والثقافية والعلمية.

    إن الذين يقولون: الفكر والثقافة والإبداع لا علاقة لها بالدين، تريدون أن تدخلوا الدين في كل شيء؟ الدين في المسجد وفي المحراب، ما علاقة الدين بالأدب؟ ما علاقة الدين بالفكر؟ إن عليهم أن يتذكروا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى: (وعن علمه ماذا عمل به) سيسأل يوم القيامة عن كل ما تعلم، وعن كل ما علم، وعن كل ما قال.

    (وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) وليت أصحاب الربا وأهل الغش وأهل البلاء في الحياة الاقتصادية ترى الانفصام العجيب العظيم في حياة المسلمين، يصلي الرجل في المحراب ويصوم ويتعبد، ثم بعد ذلك يذهب فيتعامل بالربا الذي هو حربٌ لله ورسوله، والذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا أشد من ستٍ وثلاثين زنية) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (الربا بضعٌ وسبعون، أو كذا حوباً أدناها مثل أن يأتي الرجل أمه) -والعياذ بالله-، ثم تراه بعد ذلك يأخذ الملايين من الربا -والعياذ بالله-، يجب أن يتذكر الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، والسؤال عن كل ماله، لو طلب من الإنسان أن يحصي ماله ربما بعشر سنوات، أين أنفقت؟ ومن أين اكتسبت؟ لما استطاع، بل ربما في سنة، بل ربما في شهر، أو في يوم، لكنه يوم القيامة لن يغادر عرصات القيامة حتى يحاسب على جميع أمواله دخولاً وخروجاً، كسباً وإنفاقاً، هذا هو معنى العبودية الشامل الكامل لله سبحانه وتعالى.

    يحدثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض جوانب العبودية، فيقول سبحانه وتعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] كل كلمة ينطقها في الحياة مسجلة عند الله سبحانه وتعالى.

    ويحدثنا عن جانب آخر من جوانب العبودية، فيقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] إذاً حتى الحكم والسياسة لا بد أن تكون عبودية لله سبحانه وتعالى، ليس هناك في الحياة شيء يجل ويعظم عن أن يكون عبودية لله سبحانه وتعالى، بل لا بد أن يكون كل شيء في هذه الحياة عبودية لله سبحانه وتعالى.

    وهناك بعض الأحاديث التي تحدثنا عن هذا المعنى، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم إذا أنفق على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة) أرأيت كيف أن الإنفاق على الأهل عبادةٌ لله سبحانه وتعالى؟ ويقول صلى الله عليه وسلم: (من غرس غرساً، فأكل منه إنسانٌ، أو طيرٌ، أو سبعٌ، أو دابةٌ، فهو له صدقة) هذه هي حضارة الإيمان، هذه هي مدنية الإسلام التي جاء الإسلام لإنشائها في الحياة، المؤمن يعمل في الورشة ويعمل في المزرعة وهو يعلم أنه يعبد الله سبحانه وتعالى، وهو يحرك منجلة، أو يحرك مطرقته، يعلم أن بهذه الحركة يعبد الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى، ويلتزم في ذلك بشرع الله سبحانه وتعالى، فلا يتجاوز حدود الله سبحانه وتعالى، ويريد بذلك أن يحقق مقاصد شرعيةً أمره الله سبحانه وتعالى بتحقيقها.

    بل قد يتعجب الناس إذا نظروا فرأوا أن الله سبحانه وتعالى جعل أعظم شهوات الدنيا لذة للإنسان دنيوية جعلها عبادة لله سبحانه وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، فيقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر) وهذه هي المفارقة، ليس هناك في الحياة فراغ، ليس فيها ضياع، إما أجر وإما وزر، إما عبادة لله وإما عبادة لغير الله، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا عن بعض صور العبودية لغير الله، يقول: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) إن الذين تحدثنا عنهم من أصحاب الربا عبدوا الدرهم والدينار وأهدروا عبودية الله سبحانه وتعالى (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) إن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليه بالانتكاس والتعس -والعياذ بالله-، لماذا؟ لأنه حين يتعارض في نفيه أمر الله وشهوة كسب هذه الخميصة، يقدم هذه الخميصة على أمر الله تعالى، حين يتعارض في نفسه حب الدرهم والدينار وحب الله ورسوله، يغلب حب الله والدينار، أما العبد الحقيقي لله سبحانه وتعالى فلا تساوي الدنيا عنده في مقابل إغضاب الله أو معصية الله لا تساوي جناح بعوضة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

    انظروا حتى إلى الجانب الأخلاقي، الجانب السلوكي، الجانب العبادي، كل هذه الجوانب يجب أن تكون عبادةً لله سبحانه وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل معروفٍ صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) سبحان الله! هذا الإله العظيم الرحيم الذي يجعل حتى الابتسامة عبادة، سبحان الله العظيم! الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، الله يريد لنا الخير، الله يريد لنا الكرامة، الله رءوف رحيم يريد أن تسجل لك الحسنات على الابتسامة، والنظرة، والكلمة تقولها أو تسمعها، على الحركة، واللقمة ترفعها على فيك (وابتسامتك في وجه أخيك صدقة) إنما يحتاج ذاك إلى قلوب حية يقظة متعلقة بالله سبحانه وتعالى تحتسب كل عمل عند الله سبحانه وتعالى وتجعل حدودها التي تقف عندها هي حدود الله سبحانه وتعالى، ومحارم الله سبحانه وتعالى، وشرع الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    دلائل تيسير الله العبادة لعباده

    إن الله سبحانه وتعالى حين كلفنا بهذه العبادة التي هي في حقيقتها تشريفٌ لنا؛ لأننا -كما قلنا قبل قليل- إما أن يصرف الإنسان عبوديته -فهو عبد شاء أم أبى- إما أن يصرفها لله أو يصرفها لغير الله سبحانه وتعالى.

    فالعبودية لله تشريفٌ وتكريم، وقد شرفنا الله سبحانه وتعالى بهذه العبودية، ويسر لنا طريقها، ويسر لنا سبيلها، ويسر لنا صراطها المستقيم الذي نسلكه لتحقيقها في هذه الحياة، وقد يسر الله أمر عبادته بثلاثة أمور رئيسية:

    فطر الله النفس البشرية على عبادته

    أول هذه الأمور: أن أمر العبودية لله سبحانه وتعالى فطرةٌ فطر الله عليها البشر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يمجسانه، أو يهودانه، أو ينصرانه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا الأمر الذي يطلبه الله سبحانه وتعالى منك هو أمرٌ فطريٌ فطرت عليه، ليس بأمرٍ عليك فيه مشقةٌ ومنازعةٌ وتعبٌ وجهدٌ حتى تنازع نفسك، بل هو أمرٌ تجد نفسك فيه الراحة، وتجد فيه الاطمئنان، وتجد فيه السعادة، وتجد فيه الهدى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] .

    ولذلك يحدثنا القرآن الكريم عن أن من أعرض عن عبودية الله تصبح حياته جحيماً وشقاءً وضنكاً، يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126] .

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في الدنيا جنة من لم يدخلها فلن يدخل جنة الآخرة.

    السعادة التي يحس بها الإنسان في هذه الحياة، لا يمكن أن تتحقق له من أي طريق آخر مهما جمع من الأموال، ومهما جمع من وسائل السعادة المادية، ومهما كان له من الجاه، ومهما كان له من الصحة سيبقى في ضنك، وسيبقى في شقاء، ولن يرفع عنه هذا الشقاء إلا العبودية لله سبحانه وتعالى، إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

    إنه أمرٌ أعاننا الله به على عبادته أن تجد كل ذرة في جسمك وكل خلية في ذاتك تهفو إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وتجري إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وتسعى إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، إنه دافعٌ ذاتيٌ من نفسك يدفعك إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، واقرءوا سير وأخبار الذين كانوا يعيشون في لفح وسموم الجاهلية، ثم انتقلوا إلى أفياء وظلال الإيمان قديماً وحديثاً، اقرءوا لتروا كيف تبدل حالهم.

    أسيد بن حضير عندما أرسله سعد بن معاذ لكي يبعد مصعب بن عمير عن حي بني عبد الأشهل، فوصل إلى مصعب ، فأسلم، وحينما رجع قال قومه: لقد رجع والله أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، لقد انطبعت السعادة على وجهه سريعاً، وحينما ذهب بعده سعد بن معاذ وجلس فأسلم، ثم عاد، قالوا: والله لقد عاد سعد بغير الوجه الذي ذهب به.

    نعم اقرءوا قصص الذين أسلموا في هذا القرن، اقرءوا بعض الذين كانوا في النصرانية المحرفة، أو في اليهودية الضالة، أو الذين عاشوا في ضلال المذاهب المادية الكافرة، ثم هداهم الله سبحانه وتعالى، وانتقلوا إلى روح الإسلام وريحانه، ما هي السعادة التي يعيشون فيها؟ وما هو السرور الذي يعيشون فيه؟ ما ذاك إلا لاتفاقهم مع نوازع الفطرة التي تجري في دمائهم وفي أنفسهم.

    ربما سمعتم جميعاً عن قصة يوسف إسلام الذي كان مغنياً بريطانياً ، وحدثني بعض من جلس معه، يقول: جمعت من الأموال المليارات، ويقول: ظننت السعادة في الأموال، فما وجدتها، فظننت السعادة في النساء، فانغمست في الجنس في جميع صوره وأشكاله، قال: فازددت شقاء، قال: فظننت السعادة في المخدرات والخمور، فازددت شقاء، قال: ظننت السعادة في الشهرة والجاه، فأنشأت شركات على مستوى أوروبا في الإعلان عني والدعاية لي حتى أصبحت أشهر رجل في الغرب، قال: وما ازددت بذلك إلا شقاء، وما وجدت ذاتي، ولا عرفت حقيقتي إلا حين عرفت ربي سبحانه وتعالى. حين أسلم لله سبحانه وتعالى. إذاً هذه وسيلة من وسائل تيسير عبادة الله سبحانه وتعالى.

    تسخير الله تعالى ما في الكون لخدمة الإنسان

    الأمر الآخر: أن الله سبحانه وتعالى خلق لك كل ما في هذا الكون، فالله أوجد لك كل شيء وطلب منك شيئاً واحداً حتى لا يقول الإنسان: لقد شغلت عن عبادة الله في طلب الرزق، أو يقول الإنسان: لقد شغلت عن عبادة الله بالحفاظ على الحياة.

    إن الله سبحانه نزع ذلك من كل قوة في الوجود، وجعلها بيده وحده سبحانه وتعالى، فليس هناك من يحيي ويميت إلا الله سبحانه وتعالى، وليس هناك من يعطي أو يمنع إلا الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] .. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] .

    إن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء، خلقك أنت ابتداءً، وخلق لك كل شيء، خلق لك ما في السماوات وما في الأرض هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29] .. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] .. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:2-3] فليس لأحد عليك سلطان سوى معبودك، يقول صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا كلهم أولهم وآخرهم على أن ينفعوك فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، أو على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

    إذاً: خلق الله لك كل ما في هذا الوجود، فهذا الماء من الذي خلقه؟ من الذي أوجده؟ يقول علماء المختبرات: الماء يتكون من غاز الأكسجين والهيدروجين، إذا امتزجا بنسبة اثنين إلى واحد، كان منهما هذا الماء، فمن الذي أوجد الأكسجين أصلاً؟ ومن الذي أوجد الهيدروجين أصلاً؟ ومن الذي جعل فيهما هذه الخاصية؟ ومن الذي جمع خلق الماء لك في الأرض؟ ومن الذي حفظه لك في الأرض؟ أمطار تهطل، وينابيع تخرج، من الذي خلقها؟ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] من الذي جعل الأرض منبتة، وكان يمكن أن تكون الأرض سبخة فلا تنبت؟

    يقول العلماء: إن الأمطار وهي في السحب فيها نوع من الأملاح لو سقطت بها على الأرض لتحولت الأرض إلى أرض بور لا تنبت بأي نبات، فيرسل الله البرق، فيختزل هذه الأملاح، يختزلها حتى تصبح هذه المياه عذبة نستطيع أن نعيش فيها، فمن الذي جعلها كذلك؟ إن البشر اكتشفوا فقط بعض آيات الله في هذه الحياة، من الذي خلقها وأوجدها؟ إنه الله سبحانه وتعالى.

    من الذي خلق لك هذا الهواء؟

    يقول العلماء: كنا نظن الهواء في الفضاء كله، قالوا: لا، الآن لما اخترعوا الطائرات، قالوا: ليس في الجو كله، بل في طبقات معينة، فمن الذي يحفظه في الأرض؟ قالوا: في الأرض جاذبية، فمن الذي جعل الجاذبية؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فلو خفت هذه الجاذبية لحظات لارتفع الهواء من سطح الأرض، فمن الذي يستطيع أن يعيد لنا الهواء حتى نتنفس؟ إن هي إلا لحظات وتنتهي الحياة كلها.

    إذاً: خلق الله سبحانه وتعالى لك كل شيء في هذا الوجود، وطلب منك أن تعبده سبحانه وتعالى، وهذا تيسير لأمر العبادة حتى لا يقول الإنسان: إنني منشغل بهذا الهواء لكي لا يذهب، ومن أجل أن أخرج الماء، وأحول الأرض إلى منبتة، كلا، فالأرض منبتة حتى من قبل أن تخلق، وستبقى منبتة حتى بعد موتك ما دام كتب الله على هذه الأرض أن تنبت، والماء موجود قبل أن تخلق، والهواء موجود من قبل أن تخلق، خلقك أنت فسواك، وسواك فأحسن تصويرك، وجعل فيك من الآيات الباهرات ما يعينك على هذه الحياة، وليس المجال مجال الحديث عنها، إنما مجال الحديث عنها عند التحدث عن توحيد الربوبية الذي سيحدثكم عنه بعض المشايخ.

    إذاً: لتيسير العبادة لله سبحانه وتعالى خلق الله لك كل ما في هذا الوجود.

    جعل الله تعالى عبادته واضحة ومحددة

    وهناك أمرٌ ثالثٌ يسر الله به أمر العبادة: ذلك أن الله سبحانه وتعالى حدد لك تفاصيل هذه العبادة وأبعادها، فما ترك لنا أن نقول: نعبد الله في الضحى، ويقول آخر: نعبد الله في الظهر، ويقول ثالث: نعبد الله في العصر، أقصد في الصلاة مثلاً، وما ترك لنا سبحانه وتعالى أن نقول في الصلاة مثلاً: الصلاة قيام لا ركوع فيه، فيقول الآخر: بل سجود لا قيام فيه، فيقول الآخر: بل قعود لا قيام فيه. لكن (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) ويقول سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فدين الله سبحانه وتعالى أصبح واضحاً كاملاً شاملاً لا يحتاج من الإنسان إلا أن يطبقه، فقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه.

    فالوسيلة الثالثة التي يسر الله بها أمر عبوديته هي: إيضاح هذا الدين وهذه الشريعة وهذه العبادة لله سبحانه وتعالى إيضاحاً كاملاً شاملاً شافياً، وقد تكفل الله بحفظ هذا الوضوح وهذا البيان، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فلم يكل الله سبحانه وتعالى حفظ دينه إلى نبي، ولا إلى عالم، ولا إلى أمة، وإنما وكل أمر حفظه إليه سبحانه وتعالى حتى يصل إلى الناس كافة، وقد ختمت الرسالات، فيصل إليهم واضحاً جلياً كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الحب والخوف والرجاء محركات ومثيرات للعبودية لله تعالى

    تحدث العلماء عن أمور قالوا إنها مثيرات ومحركات للعبد في طريق العبودية إلى الله سبحانه وتعالى، وقالوا: إن هذه الأمور هي الحب والخوف والرجاء، قالوا: إن مثيرات ومحركات العبد للرقي والتدرج في طريق العبودية إلى الله سبحانه وتعالى هي الحب لله سبحانه وتعالى المترتب عليه الحب لله وفي الله والبغض لله وفي الله سبحانه وتعالى، ومن أحب لله وأبغض لله فقد ذاق طعم الإيمان، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله فقد استكمل الإيمان، والحب في الله والبغض في الله أكمل عرى الإيمان، وما الحب في الله والبغض في الله إلا فرعٌ عن حب الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هو المستحق لأعلى درجات الحب المتصورة من الإنسان لذاته سبحانه وتعالى، لأنه صاحب صفات الكمال، وصاحب كل جميلٍ يسدى إلى الإنسان، وكل من عدا الله سبحانه وتعالى فإنما هو منفذٌ لأمر الله سبحانه وتعالى.

    والخوف من الله سبحانه وتعالى، لأنه صاحب القدرة المطلقة سبحانه وتعالى، ولأنه سبحانه وتعالى إذا غضب فلا يقوم لغضبه شيء سبحانه وتعالى، ولأنه لا يأمن من مكره إلا من جهل به سبحانه وتعالى.

    والرجاء فيما عند الله سبحانه وتعالى. والمزج بين هذه الثلاثة الأمور كما يقول ابن القيم رحمه الله: عبادة الله مثل الطائر: المحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه اللذان بهما يطير إلى الله سبحانه وتعالى.

    ويتحدث شيخ الإسلام رحمه الله، فيقول: المحبة هي إلقاء النفس في طريق السير إلى الله سبحانه وتعالى، ما الذي يدفع العبد إلى أن يسير إلى الله سبحانه وتعالى إلا محبته لله سبحانه وتعالى، ومتى يحب ربه سبحانه وتعالى؟ إذا عرف ربه سبحانه وتعالى أحبه، وإذا أحبه أغذّ السير إليه، وألقى بنفسه في طريق السير إلى الله سبحانه وتعالى، يقول عليه رحمة الله: وعلى قدر قوتها تكون قدر قوة السير إلى الله سبحانه وتعالى، أي: على قدر قوة المحبة تكون قوة السير إلى الله سبحانه وتعالى، فتذكروا في هذا المقام قصة ذلك الصحابي الجليل الذي حين طعن ونفذه الرمح أخذ الدم ينضحه، وهو يقول: فزت ورب الكعبة، وأنس بن النضر يوم أحد يقول: [إليك عني يا سعد - سعد بن معاذ - والله إني لأجد ريح الجنة من دون جبل أحد ] وعمير بن الحمام في يوم بدر يقول: [أما بيني وبين دخولي الجنة إلا أن آكل هذه التمرات، إنه لعمرٌ طويلٌ إن بقيت حتى آكلها] وخبيب بن عدي يقول وقد نصب للرماح والسيوف:

    ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنبٍ كان في الله مصرعي

    فعلى قدر قوة المحبة لله سبحانه وتعالى تكون قوة السير إلى الله سبحانه وتعالى.

    يقول: والخوف هو الذي يمنع عن الخروج من هذه الطريق بعد السير فيه، فالإنسان إذا ألقته محبة الله في الطريق وسار منعه الخوف من الله من الخروج حين يتأمل عاقبة من عرفوا ثم أنكروا، ومن ساروا ثم بدلوا وغيروا، وأفعال الله سبحانه وتعالى بهم، يخاف من سوء العاقبة ومن سوء الخاتمة، فيردعه هذا الخوف عن الالتفات يمنةً أو يسرةً، ويبقى يقظاً حذراً متوجهاً إلى الله سبحانه وتعالى، يخشى أن يخرج في لحظة من اللحظات، فتكون الخاتمة سوءاً -والعياذ بالله-، فيبقى دائماً سائراً إلى ربه سبحانه وتعالى.

    يقول: والرجاء يقوده في الطريق، الرجاء أمامه، يقول: المنزل قبلك، القوم قبلك، الأحبة قبلك، الجزاء قبلك، الثمن قبلك، كلما أغذَّ السير، قال: أمامك أمامك، فيبقى دائماً على هذا الرجاء حتى يلقى ربه سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفاوت الناس في طلب أعلى درجات العبادة

    وقد اختلف الناس في أفضل صور العبادة، أو أعلى درجات العبادة، فقال بعضهم -كما ذكر ابن القيم عليه رحمة الله في المدارج- : إن أفضل العبادة هو ما تعدى نفعه إلى الآخرين، قالوا: ولذلك كان أعظم الناس عبوديةً لله الأنبياء، وإنما كان دورهم إيصال النفع إلى الآخرين، ودعوة الآخرين إلى الله سبحانه وتعالى، وقال بعضهم: بل أعلى درجات العبادة أعظمها مشقةً على النفوس، لأنه بقدر المشقة يكون الأجر عند الله سبحانه وتعالى، وقال بعضهم: بل أعلاها الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، إذ أن الدنيا هي القاطعة.

    كما يقول ابن القيم رحمه الله: قال أهل التحقيق: أن أعلى درجات العبودية وأعظمها أحبها إلى الله في كل زمان ومكان وحال بحسبه، فتلقى صاحب هذه الدرجة لا يملكه رسمٌ معينٌ، ولا حالٌ معينٌ، بل كلما -كما يقول ابن القيم-: نزل في منزلة من منازل العبودية لاحت له منزلةٌ أعلى منها، فشد الرحال إليها، فأنت تراه مع المجاهدين، وتراه مع الذاكرين، وتراه مع أهل العلم، وتراه مع المنفقين، وتراه مع الدعاة، وتراه مع المتهجدين، وتراه مع الصائمين، وتراه مع الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، تراه قد ضرب في كل نصيبٍ بسهمٍ وافرٍ، قال: فذاك الذي غالب مراد ربه على حظ نفسه، فليس له حتى العبودية، ليس في نفسه حظٌ ولا غاية، إنما يتبع أوامر ربه ومرادات ربه سبحانه وتعالى حيث ما حلت رحالها، أو حيث ما حطت رحالها، شد الرحال إليها متنقلٌ من منـزلة إلى منـزلة، وهذا الذي ينبغي للمسلم، وهذا الذي ينبغي للمؤمن، حتى أن الله سبحانه وتعالى جعل الأزمنة والأمكنة تختلف العبادات فيها من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، فمثلاً في العشر الأواخر من رمضان أفضل العبادات هي التبتل والتهجد والانقطاع، وأفضل العبادات في الأيام البيض الصيام، وأفضل العبادات في الثلث الأخير من الليل التهجد وقراءة القرآن، وهذا دليلٌ على أن المؤمن يجب أن يعمر الحياة كلها بعبادة الله سبحانه وتعالى، وبالعبودية لله سبحانه وتعالى.

    أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الشاكرين العابدين له على بصيرة، وأن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلني وإياكم ممن سريرتهم خيرٌ من علانيتهم، وباطنهم خيرٌ من ظاهرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    1.   

    الأسئلة

    الطرق التي تحقق الإخلاص

    السؤال: ما هي الطرق التي تحقق الإخلاص في عبادة الله عز وجل؟

    الجواب: تحدث العلماء عن هذه الطرق في كتب الرقائق وكتب السلوك والكتب التي تحدثوا فيها عن أمراض القلوب وعلاج القلوب، ذكروا أن من هذه الوسائل ما أشرنا إليه في بداية المحاضرة من معرفة الله سبحانه وتعالى، فالعبد كلما ازداد في الله معرفة ازداد عن غيره إعراضاً وعليه إقبالاً، وإنما تقع الشوائب والقوادح في الإخلاص حين تنقص معرفة العبد لربه سبحانه وتعالى، وذكروا من وسائل تربية النفس على الإخلاص: الإكثار من عبادات السر مثل: قيام الليل، وصدقة السر، وقراءة القرآن، والأذكار الشرعية مطلقةً أو مقيدة، والإكثار من هذه العبادات يدفع بإذن الله وسوسة الشيطان، وما قد يشوب الإخلاص من شوائب.

    عقيدة الولاء والبراء

    السؤال: ما منـزلة الولاء والبراء من توحيد العبادة، وهل يستقيم الدين بالولاء للمؤمنين بدون البراءة للمشركين، وهل يكفي بغض المشركين، أم لا بد من العداوة وإظهارها؟

    الجواب: الولاء والبراء من أهم قضايا الاعتقاد، والله سبحانه وتعالى حدثنا عن ذلك فقال: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... [المجادلة:22] وأخبرنا الله سبحانه وتعالى أن من تولى أعداء الله فهو منهم، فالواجب على الإنسان أن يتولى المؤمنين لولايته للإيمان، وأن يعادي المشركين والكافرين لعداوته للشرك والكفر، والعداوة لأعداء الله فرعٌ عن العداوة لإبليس، والله قد أخبرنا أن إبليس عدوٌ لنا، وأمرنا أن نتخذه عدواً، ونهانا عن أن نتخذه وذريته أولياء وهم لنا عدو، وقال سبحانه وتعالى معقباً بعد ذلك: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50] أن يستبدلوا ولاية الله وولاية المؤمنين بولاية الشيطان وجنده، ولو أردنا أن نتحبب إلى المشركين، أو إلى أعداء الدين، أن نتحبب إليهم ونبذل شتى الوسائل لكي يحبونا، فلا يمكن أن يتحقق ذلك، فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] .. وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] فالعداوة بيننا وبينهم عداوة جذرية أبدية قائمة ما بقيت السماوات والأرض، وبقي للحق أهله وحملته وللباطل جنده ودعاته.

    ولا تكفي مجرد المشاعر القلبية، بل لا بد كما يظهرونها هم في الواقع العملي، وانظروا في ساحة العالم ما الذي يلقاه المسلمون من أعدائهم في كل مكان، الدماء تسيل أنهاراً، والأعراض تنتهك، والمقدسات تدنس، والمصاحف تمزق، كل ذلك من أجل أننا نقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا بد أن نغيظهم كما يغيظوننا، ونعتقد أن إغاظتهم وعداوتنا لهم وجهادنا لهم عبادة لله سبحانه وتعالى، والفيصل بيننا وبين غيرنا هو هذا الدين وهذه الشريعة التي شعارها وعنوانها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا وطنية، ولا قومية، ولا مصلحة، ولا نسب، ولا لسان، ولا لغة، ولا تاريخ كما يقال، إنما الفيصل حزب الإيمان وحزب الشيطان، فالمحبة الحقيقية لله تلزم بغض أعداء الله، ولا يمكن أن تكون المحبة حقيقيةً لله ما لم نبغض أعداءه.

    القنوات الفضائية وتأثيرها على التوحيد

    السؤال: نسمع هذه الأيام موضوع البث المباشر، فما تأثير ذلك على التوحيد لدى الأفراد؟

    الجواب: حين تخلت أمة الإسلام عن مهمتها التي كلفها الله بها وهي قيادة البشرية إلى الإيمان والهدى، اتخذت البشرية قيادةً جاهليةً ضالةً، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ الناس رؤساء جهال، أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) هذا حال البشرية في هذا الزمن، حين اتخذوا الغربيين قادةً لهم، والسبب أن أصحاب القيادة الحقيقية تركوها، فأصبح مركز القيادة خالياً، فكان يجب أن يملأ، وكان هؤلاء أكثر الناس تأهيلاً مادياً، فكان من نتاج حضارتهم هذا الفساد الذي يعم الأرض في كل مكان: الجنس، والمخدرات، والبلاء، والحروب، والفتك، وما هذه إلا وسيلة جديدة من وسائل حرب الفضيلة والإيمان والهدى، وليس البث المباشر هو الوسيلة الوحيدة، بل سبقه وسائل، وسيأتي بعده وسائل، وسيبقى هذا البلاء مخيماً على البشرية حتى تنهض أمة الإسلام لمهمتها مرة أخرى في هذه الحياة.

    توظيف العادة للعبادة

    السؤال: من أعظم العبادة فعل أوامر الله عز وجل وترك نواهيه، فهل العادة إذا وظفت للعبادة والاستعانة عليها تكون من ضمن العبادات؟

    الجواب: العبادة بمعناها الواسع الشامل تستوعب الحياة كلها، وربما كتب هذا السؤال قبل أن نورد كثيراً من الأحاديث التي أوردناها في غرس الغرس، وفي الزواج، والنفقات، والكلام، والسمع، والبصر، نعم كل الحياة يجب أن تكون عبادة لله سبحانه وتعالى.

    المناداة بترك الحجاب وعدم الحديث عن العقيدة

    السؤال: نشاهد في الآونة الأخيرة ونقرأ بعض الكتابات التي لا تتفق مع صفاء العقيدة وسلامتها مثل: القول بأن الحجاب سبب التخلف والتأخر، والمناداة بترك الحديث في موضوعات العقيدة، وأن الخوض في مثل هذه المسائل مضيعة للوقت، ما توجيهكم نحو أولئك؟

    الجواب: الأصل في الأمة المسلمة أن مثل هؤلاء لا يتصدرون مراكز التوجيه والبناء الفكري والثقافي للأمة، المفترض أن يكونوا في الصفوف الأولى لتعلم أوليات وأبجديات عقيدتنا، فإذا فقهوها وعلموها وعلموا مقتضياتها فيمكنهم بعد ذلك أن يكتبوا ويحاوروا ويناقشوا، أما أن يؤتى بإنسان تشبع بالفكرة الغربية، أو تأثر بالفكرة الغربية لأمة مسلمة في مجتمع مسلم قيمه ومثله كما أمر الله سبحانه وتعالى، أو يفترض أن تكون كذلك، ثم يتحدث من منظوره هو ويريد أن ينظر لهذه الأمة، هذا لا يقبل، وهذا وضع الأمور في غير مواضعها التي ينبغي أن تكون فيها، فنحن يا أحبة أمةٌ مرسومٌ كل شيء في حياتها، ليس في حياتنا شيء من العبث والفراغ والضياع، فالحجاب جزءٌ من شرع الله، إما أن يحدد الإنسان مساره ابتداءً، ويعلن التزامه بدين الله وهذا جزءٌ منه، وإما أن يعلن رفضه لدين الله وهذا جزءٌ منه، ليست قضية آخذ أو أرد، ليس رأي فلان، أو قول فلان، أو منهج فلان يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، القضية قضية دين رب العالمين، هل اقتنعنا ورضينا بالأخذ بهذا الدين؟! هذا هو الطريق وبدايته.

    ترك العبادات اعتماداً على التوحيد

    السؤال: إن هناك أناساً في الوقت الحاضر يتركون العبادات إلا بعضها، وإذا سئلوا، قالوا: نعتمد على توحيدنا لله سبحانه وتعالى فقط؟

    الجواب: هذا الفهم الخاطىء لقضية العبادة والعبودية لله سبحانه وتعالى، أولاً: لو صح توحيدهم لأثمر عملاً، فالإيمان كما نعلم: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، والإيمان كما أثر عن السلف : ما وقر في القلب وصدقه العمل، فلو كان توحيدهم توحيداً صحيحاً سليماً لأثمر عملاً، والله سبحانه وتعالى أخبرنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات:15] هذا هو الإيمَان الحقيقي والتوحيد الحقيقي.

    أيضاً: الفهم المشوه لحقيقة العبادة وهو: أن قلبك لله في زعم صاحب هذا القول، وأن لغير الله بقية حياتك وبقية أعمالك، فهذا لا يصح، أو أن لله جزءاً مؤقتاً إذا دخلت المسجد، فإذا خرجت من المسجد فبقية حياتك أنت حرٌ بها، أنت عبدٌ في المسجد وفي خارج المسجد، وفي قلبك وفي جوارحك، وفي كل شيء من حياتك، هذه هي العبودية الحقيقية لله سبحانه وتعالى، العبودية الحقيقية التي جعلت محمداً وأصحابه يهاجرون من مكة ويذهبون إلى الحبشة ويذهبون إلى المدينة ، ويتركون الأموال والديار، هذه هي العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى، وإلا لو كانت العبودية الحقيقية لله سبحانه وتعالى أن يرضى الله منهم ببعض ما في قلوبهم لبقوا في دورهم وأموالهم، واعتقدوا ما يعتقده هذا الإنسان في قلبه من زعمه وصح إيمانهم ومعتقدهم.

    فصل الدين عن الحياة

    السؤال: ما قول فضيلة الشيخ فيمن يقول: بفصل الدين عن الحياة، ويستدل ببعض الآيات كقوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32] وما شابهها؟

    الجواب: نعم نحن نقول: من حرم هذه؟ لكن تحليلها من الدين مثلما إن تحريم غيرها من الدين، فالذي يحرم هو الله والذي يحلل هو الله سبحانه وتعالى، أما الذين يزعمون أن الدين شيء، وأن الدنيا شيء آخر فهؤلاء من تلاميذ الغرب، إن الغرب عندما كانت النهضة المادية لديهم، خرجت هذه النهضة وبرزت وهم يتدينون بدين خرافي محرف لا يستقيم مع الفطرة، ولا يعين الإنسان إلى السلوك إلى ربه سبحانه وتعالى، فكان من الطبيعي أن تتصادم الفطرة مع هذا الدين الخرافي المحرف، وكان طبيعياً أن يتصادم العلم المادي مع هذا الدين الخرافي المحرف، فوقع الصدام في الغرب حتى عزل الدين في النهاية في داخل الكنيسة، أما نحن فلدينا دين، كل حرف منه محفوظ كما نزل من الله سبحانه وتعالى، ديننا ممن خلق الحياة, ويستحيل أن يقع التناقض بين دين نزل من الله وحياة خلقها الله سبحانه وتعالى، والذي أمرنا أن نعبد الحياة للدين هو الله سبحانه وتعالى، فالقياس قياس بين أمرين يختلفان اختلافاً جذرياً ليس بينهما أصلاً توافق ولا تناسق، ولا يقاس هذا على ذاك.

    رفض حضور هذه الدروس احتجاجاً بسلامة العقيدة

    السؤال: ما رأيك في شخص دعوته لحضور هذه الدروس، فقال: إن هذه دروسٌ تثقيفية وليست وعظية، فلا حاجة لي فيها، ثم زاد على ذلك وقال: إنها دروس في العقيدة، ونحن والحمد لله عقيدتنا سليمة، فما رأيكم في هذا؟

    الجواب: نحن بحاجة إلى التثقيف، وفي حاجة إلى الوعظ، وإذا كان في بعض عصور المسلمين قد طرأ على مباحثهم العلمية في العقيدة أو غيرها شيء من الجمود حين أصبحت حدوداً ورسوماً، فينبغي أن نعود إلى طريقة القرآن مرة أخرى التي تقدم الحقائق العلمية في الأسلوب الوعظي المؤثر الذي يلج إلى القلوب، وليس صحيحاً أننا في غنى عن الفهم والتعلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) ويقول: (رب حامل علم أو فقه إلى من هو أفقه منه) نحن يا أحبة في أشد الحاجة، فلو لم نحصل من هذه المجالس إلا أنها بإذن الله تحضرها الملائكة، وتحفها الرحمة، وتغشاها الملائكة، وتنزل عليها السكينة، لكفى هذا في الإنسان تذكيراً، فإن كان قد وجد جديداً فبها ونعمت، وإن لم يجد جديداً فتذكيراً لما في نفسه، وقطعاً سيجد جديداً في مثل هذه المجالس وهذه الحلقات، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا في الطريق، قالوا: اجلس بنا نؤمن ساعة، بعضهم يعظ بعضاً، وبعضهم يذكر بعضاً، فماذا يريد يا أحبة ممن رزقه الله سبحانه وتعالى الإيمان والتقوى أن يعرض عن مثل هذه الحلقات وعن مثل هذه المجالس؟!

    مظاهر الشرك في توحيد العبادة

    السؤال: هناك من الناس من إذا ذكر عنده الشرك في توحيد العبادة، يقصره على الاستغاثة بالأموات، والتعلق بالأشجار والأحجار، فحبذا لو تكرم فضيلتكم بالحديث عن بعض مظاهر الشرك في توحيد العبادة في الوقت الحاضر ولو بإيجاز؟

    الجواب: هذه الصورة التي تحدث عنها السائل وجدت في أزمنة، ولا زالت توجد في بعض ديار المسلمين، فواجهها العلماء بما ينبغي في تلك الأزمنة، لكننا لا ينبغي أن نقتصر فقط على العلاج الذي وجد لأمراض وجدت في عصور متقدمة، بل عند استمرار هذه الأمراض يستمر العلاج، ومع حدوث أمراض جديدة نحدث لها علاجاً إيمانياً جديداً، مثلاً: التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه وتعالى، هذا نوعٌ من شرك العبادة، فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون [المائدة:47] على تفصيل فيها، لكنه في الجملة من التحاكم إلى الله سبحانه وتعالى، فمن قام بتقنين قانون، أو محكمة تحكمه، أو هيئة، أو إدارة بغير شرع الله سبحانه وتعالى فهو نوعٌ من شرك العبادة انتشر في بلاد المسلمين الآن من المحيط إلى المحيط، فما الذي فعلنا بمواجهته؟

    أيضاً: الحب لأعداء الله، وتوليهم، واللهج بذكرهم، ومشاركتهم بأفراحهم وأحزانهم نوعٌ من شرك العبادة، لا يجوز بحال من الأحوال أن نصل إلى هذه الدرجة مع أعداء الله سبحانه وتعالى، وهناك صور أخرى ربما كانت من الصور المتجددة الظاهرة الواضحة، لكنها تختلف باختلاف نظرة الواقعين فيها إليها أن تصل إلى درجة شرك العبادة، أو تنزل إلى درجة المعصية.

    أنشطة الحداثيين والواجب تجاههم

    السؤال: ما هي أخبار الحداثيين؟ وما هي أنشطتهم الآن؟ وما الواجب تفصيلاً بالنسبة للإخوة الحاضرين نحوهم؟

    الجواب: أما بالنسبة بأخبار الحداثيين على امتداد الساحة الإسلامية: ربما كانت الحداثة لدينا غصناً صغيراً من شجرة كبيرة امتدت في العالم الإسلام، فلا زالوا في مواقعهم ينالون من الله ورسوله وكتابه، ويكتبون في الصحف، ويكتبون في المجلات، ويعتلون المنابر الثقافية، وهم ليسوا على درجة واحدة من السوء، ففيهم من يجاهر بالعداوة إلى الله ورسوله، ومن يدعو إلى رذيل الأخلاق وأحط العادات ويعلن والعياذ بالله الكفر والإلحاد، وفيهم من يجري في الموكب ولا يعلم إلى أين يجري، وفيهم من يطلب الشهرة والظهور، هم أمم شتى، لكنهم يرفعون راية واحدة جاهلية ضالة ظالمة.

    أما الواجب على كل إنسان في موقعه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا: (كل إنسان على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله) والمجاهدة واجبةٌ على كل مسلم بحسبه: بلسانه، أو بقلمه، أو بموقعه الوظيفي، أو بماله، كلٌ في موقعه، وهذه البلاد أيها الأحبة لله هي درةٌ وأملٌ للمسلمين في كل مكان، وأعداء الإسلام يسعون للقضاء على هذا الأمل الذي لا زال المسلمون يلتفون حوله من شرق ومن غرب، والذي حل في البلاد الإسلامية الأخرى ليس عنا ببعيد، وقد يُسْتغفَل كثيرٌ من أبنائنا لتحقيق أهداف أعدائنا، والأصل في السفيه أن يحجر عليه، ولا يمكن من التصرف في نفسه وماله، فكيف يمكن من التصرف في عقول أبناء المسلمين وأجيال المسلمين؟!!

    أقول يا أحبة كلمة قلتها وأقولها وأكررها وأوجهها: إن الله سبحانه وتعالى سيسألنا عن مستقبل هذه البلاد رعاةً ورعيةً، مسئولين ومواطنين، وإنني أخشى أن يكون التهاون سواء كان بحسن نية أو بسوء نية، والتسامح وبسط الجانب لمن يعلنون عداوة الإسلام أن يكون سبباً في حدوث كوارث بنا، والعياذ بالله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755938452