إسلام ويب

شرح العقيدة التدمرية [4]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عندما يطلع المرء على عقائد الفرق المخالفة يجد أنه يمكن الرد على كل فرقة بأقوال الأخرى، ومن ذلك أنه يرد على من يثبت بعض الصفات بأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.

    1.   

    القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر

    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل

    فأما الأصلان: فأحدهما أن يقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض ].

    يقصد الشيخ هنا: القول في بعض الصفات من حيث التعطيل أو التأويل أو الإثبات، وعلى هذا يمكن أن نفسر العبارة بأنها: القول نفياً أو إثباتاً، والإثبات سواء كان على جهة الإثبات الشرعي، وهذا لا مجال لطرحه هنا؛ لأنه هو الأصل، وإنما المعروض هنا هو رأي المخالفين والرد عليهم.

    إذاً: فالقول في بعض الصفات من حيث التعطيل والتأويل يسمى نفياً، أو من حيث الإثبات خاصة إثبات المشبهة، لاسيما الذين شبهوا بعض الصفات ولم يشبهوا البعض الآخر، فيدخل المشبهة في هذا المجال، وسيأتي لهذا عرض على وجه يحتاج إلى مزيد من التأمل في كلام الشيخ مستقبلاً، إذ إنه قد عد ممن أخطأ في الإثبات المعطلة أنفسهم والمؤولة؛ وهذا فعلاً من باب الإلزام الذي يلزم، إذ إن المعطلة والمؤولة إنما عطلوا وأولوا حينما شبهوا في أذهانهم، فهربوا من التشبيه، فيقول: إن تشبيهكم في بعض الصفات -الذي من أجله عطلتم- لابد أن يحكم جميع الصفات عندكم، ومن هنا تنسحب قاعدة التعطيل عندكم جميعاً، أو قاعدة التأويل عندكم جميعاً، وذلك كله حجة عليكم؛ لأن ما أثبتموه موجود فيما نفيتموه، وكذلك العكس: ما نفيتموه موجود فيما أثبتم.

    1.   

    مناقشة من يثبت الصفات السبع دون غيرها

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن كان المخاطب ممن يقول: بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات ].

    يقصد بهؤلاء: متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فالأشاعرة يثبتون سبع صفات والماتريدية يثبتون مع هذه السبع صفة ثامنة يسمونها: التكوين، ويجعلون هذه الصفات حقيقية، وفي الوقت نفسه مع ثبوت صفات أخرى، مثل: المحبة والرضا ينازعون فيها، فمثلاً: (المحبة) يؤولونها بأحد أمرين، أو بأمور كثيرة، لكن أشهر التأويلات عندهم للمحبة: إرادة الإنعام، أو يقولون: هي النعمة، أي: أنها ثمرة محبة العبد لله عز وجل، يرونها هي ذات المحبة، عبر عنها بالمحبة مجازاً، وكذلك الرضا يدخل في معنى المحبة، والغضب والكراهة يؤولونها إما بالانتقام أو بإرادة الانتقام، ويجعلون التعبير عن النعمة بالمحبة مجازاً، وكذلك عن النقمة والغضب بالانتقام أو إرادة الانتقام، فيجعلونها مجازاً، أو يفسرون ذلك بالإرادة.

    إذاً المقصود بمحبة الله عز وجل عند هؤلاء الناس: أن الله يريد إنعام العباد، أو بعض المخلوقات، وهي الآثار الظاهرة لمحبة الله عز وجل، مثل المطر وغيره، فيقولون: هذه آثار رضا الله عز وجل، وقد عبر عنها بذلك مجازاً.

    والصفة الثامنة عند الماتريدية: التكوين، وهذه عقوبة من يحيد عن الصراط المستقيم، ولو في أمور جزئية إن صح التعبير، مع أن هذا ليس من الأمور الجزئية، لكن حينما حادوا عن إثبات الصفات اضطروا أن يأتوا بشيء من عندهم، وليس عندهم دليل على أن هناك صفة اسمها: التكوين، فهم ترددوا وخاضوا، بل تورعوا -بزعمهم- عن إثبات ما أثبته الله لنفسه، ولم يتورعوا أن يأتوا بصفة لا دليل لها من الكتاب أو السنة، وهي عندهم من مجموع الإرادة والقدرة، أي: من مجموع صفات ينتج عنها -بزعمهم- شيء اسمه: التكوين، وهو المتمثل بقول الله عز وجل: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر ].

    أي: يقال للأشاعرة والماتريدية: إنه لا فرق بين ما نفيتموه من المحبة والرضا والغضب والكراهية ونحو ذلك، وبين ما أثبتموه من الكلام والسمع والبصر ونحو ذلك، فما دام أنكم أثبتم شيئاً من صفات الله فيلزمكم أن تثبتوا الجميع، وما نفيتموه تنسحب علة النفي عندكم على ما أثبتموه، فإما أن تلتزموا قاعدة الفلاسفة المعطلة، وهذا شرط، وإما أن تلتزموا الحق، وهو الإثبات لكل ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله، فإن الله ليس كمثله شيء.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به.

    وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق.

    وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوق، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قيل: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه، قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.

    فهذا المفِّرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي: ]

    المقصود بالمعتزلي هنا: الذي يثبت أسماء الله وينفي صفاته سبحانه اللائقة بجلاله.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ليس له إرادة ولا كلام قائم به ].

    يعني بذلك: أن المعتزلي ينص على أن الله مريد بلا إرادة -تعالى الله عما يزعمون- ومتكلم بلا كلام، وهذا في الحقيقة حيلة إلى التعطيل، وإن كان قد يقصدون به التنزيه، لكن ليس كل من ادعى أنه يقصد الحق يوفق للحق؛ لأن أمور المقاصد ليست هي التي توصل إلى الحق ما لم تكن على الاستقامة، نعم أمور المقاصد في الأمور المشروعة هي التي يبنى عليها الحكم، وأما المقاصد في الأمور غير المشروعة فلا تكون ذريعة للاعتذار عن مثل هؤلاء، أو اعتبار أقوالهم مشروعة، بل إن أقوالهم غير مشروعة وإن حسنت مقاصدهم؛ لأنهم يزعمون -وبعضهم قد يكون ممن يستهويه الشيطان- أنهم بنفيهم لصفات الله أرادوا التنزيه لله عز وجل، لكنا لا نوافقهم على ذلك، بل نقول لهم: ليس الأمر كما تزعمون، بل إن منتهى التنزيه لله عز وجل هو بالخضوع لما جاء عن الله وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم والرضا والتصديق بذلك.

    إذاً: المعتزلي يقول: أنا أقول: إنه مريد، لكن يهدم قوله هذا عندما يقول: بلا إرادة، وهذه قاعدة مع الأسف عند المعتزلة صريحة لا يختلف فيها منهم إلا النادر، فكل أسماء الله عز وجل يثبتونها بهذه الطريقة، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهذا من عبث الشيطان بهم، ومحاولة التلفيق بين أصول الفلاسفة التي تقوم عليها بدعتهم هذه، وبين ما جاء به الشرع؛ لأنهم يحترمون الفلاسفة ويقدرونهم، ويرونهم طبقة -كما نعبر عنها في وقتنا الحاضر ويعبر عنها بعض الناس- راقية الفكر، فإعجابهم بالفلاسفة جعلهم يشفقون على الفلاسفة، بحيث يريدون أن يجروا أقوالهم التعطيلية إلى الإسلام، ويجروا الإسلام إلى أقوال الفلاسفة، وهذا الأسلوب التلفيقي كسائر الفرق التي تأثرت بأي نوع من التأثر بالأمم السابقة، وقد سبق أنه قد تقرر من خلال الكتاب والسنة أن جميع الفرق في الجملة -قد تستثنى الخوارج الأولين- إنما هي امتداد للديانات والملل والمذاهب السابقة، ولذلك هم تأثروا بمن سبقوا، وأرادوا أن يبقوا على مسمى الإسلام، وأرادوا أيضاً أن يجروا عقائد هؤلاء القوم -التي أعجبوا بها- إلى الإسلام، ومن هنا وقعت المعتزلة في هذه المعضلة، فقالوا: نثبت الأسماء لكن بلا صفة.

    إذاً: أفرغتم معاني أسماء الله عز وجل عن محتوياتها التي تقتضي تعظيم الله عز وجل، وعليه فماذا يتصور ممن لم يعرف هذه الطرائق الملتوية؟ وماذا يتصور الإنسان العادي إذا قيل له: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، حكيم بلا حكمة؟! إن مثل هذا الكلام ما هو إلا تثبيت للتعطيل والنفي، لكن بأسلوب خادع ملبس، وهذا من لبس الحق بالباطل.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك ].

    يشير الشيخ هنا إلى أن الأشاعرة ترد على المعتزلة، فالمعتزلي إذا قال: ليس له إرادة ولا كلام، قال له الأشعري: إن هذه الصفات يتصف بهم القديم -لأن الأشعري يثبتها- ولا تكون كصفات المحدثات، يعني: أن القوم كلهم يعتمدون على هذا الكلام، وكأن الشيخ يقول: هؤلاء نرد على بعضهم من كلام البعض الآخر، فهم يتوافقون في أشياء، فنقول: أنتم يرد بعضكم على بعض، ونحن أيضاً أهل السنة والجماعة نرد على الأشاعرة بمثل ما ردوا به على المعتزلة تماماً، والأشاعرة ردوا على المعتزلة فقالوا: إذا قلتم: بأن الله عز وجل مريد ومتكلم، فإن هذه الصفات يتصف بها القديم، فإذاً لا بد بأن يكون المريد بإرادة، والمتكلم بكلام؛ لأن هذه الصفات يتصف بها القديم، وهم يقصدون بالقديم: الله عز وجل، ومع ذلك تقول الأشاعرة والمعتزلة: إنها لا تكون كصفات المحدثات التي هي الإرادة والكلام.

    ونحن نقول للأشاعرة مثل ما قالوا للمعتزلة، فنقول: إننا نثبت لله عز وجل الإرادة والكلام، وكذلك نثبت المحبة والرضا بنفس القاعدة التي أثبتم بها الإرادة والكلام، واحتججتم بها على المعتزلة، وأما نفي الأشاعرة لصفة المحبة وتأويلها، ونفي صفة الرضا وتأويلها ونحو ذلك، فنقول لهم: صفة الرضا ثابتة، وصفة المحبة ثابتة، ويتصف بهما القديم، وكما أن الإرادة والكلام ثابتة ويتصف بها القديم، وكما رددتم بالحجة العقلية على المعتزلة، فنحن نرد عليكم أيضاً بالحجة العقلية فيما نفيتموه من الصفات الفعلية، كالنزول والرضا والمحبة والاستواء، وغير ذلك من الصفات الفعلية التي تنفيها الأشاعرة، في حين أنهم يثبتون ما يسمونه بالصفات الذاتية، أو بعض الصفات الذاتية وليس كلها، ويسمونها العقلية؛ لأن الذاتية عندهم نوعان: نوع يثبته العقل بزعمهم، وهؤلاء هم الأشاعرة، ونوع لا يثبته العقل، فيقولون: إن العقل يثبت الكلام والإرادة والسمع والبصر، لكن لا يليق أن يصف العقل الله عز وجل بالمحبة والحكمة والرضا إلى آخره؛ لأن هذه حوادث، والله عز وجل منزه عن الحوادث، فنرد عليهم بنفس القاعدة التي ردوا بها على المعتزلة تماماً.

    1.   

    الرد على الاحتجاج بإثبات العقل لهذه الصفات

    الجواب الأول: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل ].

    القائل أو المتكلم هنا: الأشعري والماتريدي.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك.

    قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان:

    أحدهما أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل ].

    قوله: (أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين)، أي: يقال للأشعري: إذا زعمت أيها المتكلم أن إثبات المحبة مثلاً أو الإحسان أو الرضا لله عز وجل أو الغضب، أو غيرها من الصفات الفعلية لا يدل عليها عقلك، فلا يعني ذلك عدم صحة المدلول؛ لأن ذلك قد ثبت في الكتاب والسنة، وعليه فيلزمك أن تأتي بالدليل الذي يدل قطعاً على رد ما جاء في الكتاب والسنة، ومع ذلك فلن يستطيع الإتيان بدليل، بالرغم أننا نحاجهم بقاعدتهم، لكن نحن أهل السنة والجماعة نقول: هل هناك أقوى دليلاً من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟! ليس هناك أقوى.

    إذاً: يلزمه الدليل حتى ينفي ما يثبت، أما أن يسلط هذه القاعدة الموهمة الملبسة، والتي تشتبه على كثير من الناس، ويقول: العقل لا يدل على هذه الصفات، وهي ثابتة في الكتاب والسنة، فذلك كلام مرفوض؛ لأن ثبوتها عندنا لا تتوقف على العقل، فهي فوق العقل، وكلام الله فوق العقل، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق العقل.

    كما أن إثبات الصفات الفعلية، كالمحبة والرضا والغضب والنزول لا يدل عليها العقل كما تزعم، فلا يعني ذلك عدم وجود المدلول، وهو إثبات الصفة، فإن النافي هنا هو الذي يحتاج إلى دليل؛ لأن الثبوت هو الأصل، ونحن لم نثبت شيئاً من عندنا، لكن إن أثبتنا شيئاً من عند أنفسنا فيلزمنا الدليل، أما إذا قلنا: قال الله، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نطالب بالدليل ونحن أهل الدليل؟! إن هذا من التلبيس الذي ينطوي على بعض الأغرار من الناس، وخاصة ممن لم يوفق لطريق السلف، أو عندهم شيء من الغرور، أو قلة الفقه في الدين، لذا فإن كثيراً من الناس إذا جئته بمثل ذلك ينبهر، ولا يعرف كيف يرد؛ لأنه ما عرف أصول الاستدلال، وكيف يكون الرد على مثل هذه الشبهات.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم ].

    هذه فائدة مهمة جداً لطلاب العلم اليوم، وهي أن من أسباب الفتنة على المثقفين وشبابنا في العصر الحاضر تلبيس أصحاب الأهواء والافتراق والبدع عليهم، بأن يقولوا في كثير من أمور الدين، أو في القضايا التي تتعلق بمناهج السلف وأصول السنة: هذا أمر ليس عليه دليل، أو أحياناً يقولون: هذا لا يدل عليه العقل، أو أن هذا ينفيه العقل، أو أن العقل ينفر منه، أو أن العقل لا يصدقه، أو أحياناً يقولون: هذا الأمر الفلاني الذي جاء في الشرع يتنافى مع العلم الحسي والحديث.

    وسأضرب لكم مثالاً على ذلك: كثير من الأطباء النفسيين وخاصة ممن ليس عندهم ورع ولا تقوى -أستثني الأخيار وهم بحمد الله كثير- لا يعترفون بتأثير القرآن، ويقولون: هذه توهيمات نفسية، فسواء قرأت القرآن أم لم تقرأ، فإذا أوهمت المريض بأنك تعالج فربما يبرأ بمجرد توهمه أنه يعالج، ثم نقول لهم لماذا؟ قالوا: ليس عندنا دليل علمي، وهذا غير قابل للقياس المادي، وللاستقراء العلمي الظاهر المادي، ثم النتيجة: أن هذا ليس بعلم، وإنما هو تقاليد أو أعراف أو توهمات أو شعور نفسي، وعلى هذا نجد الكثير من الكتاب والمفكرين ردوا أشياء كثيرة من الإسلام، بدعوى أنها لا يقبلها العلم، فنحن نرد عليهم بهذه القاعدة، فنقول: عدم الدليل المادي لا يدل على عدم صحة الشيء، وإذا كان هذا الأمر غيباً فإنه لا يحتاج إلى دليل مادي. ونقول لهم أيضاً من وجه آخر: كما أن عقولكم لا تثبت وهي عاجزة عن الإثبات، فكذلك هي لا تنفي، إذاً: أخرجوا العقل إذا كانت عقولكم لا تثبت، وهي كذلك لا تستطيع أن تنفي، لذا فليس عند هؤلاء الذين يخبطون في الغيب وفي الدين قدرة على النفي، كما أنهم يزعمون أن عقولهم لا تثبت، مع أن العقل السليم يوافق الشرع، لكن عقولهم قاصرة، فنقول لهم: عقولكم القاصرة في حين أنها لا تثبت، فكذلك لا تقدر على النفي، وكذلك العلم المادي الحديث، فكما أنه لا يستطيع أن يتناول أمور الغيب لا بالإثبات ولا بالنفي، فنقول: فكذلك العلوم التجريبية العلمية الحديثة، فكما أنها لن تثبت أو لا تستطيع أن تثبت الغيب ولن تستطيع ذلك، فكذلك لا تستطيع أن تنفي، إذاً فأخرجوا العلم والعقل من أن تجعلوه أداة للكفر والإلحاد، ولو كان للعلم لسان لخاصم هؤلاء، ولو كان للعقل لسان لخاصم هؤلاء الذين افتروا عليه وبهتوه وعرضوه لتكذيب كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بغير حق؛ لأنهم نسبوه للعقل ونسبوه للعلم الحديث، والعلم ما هو إلا مما أعطاه الله عز وجل للبشر، ونسبة تأييد الإلحاد وتأييد التشكيك في الدين والعلم بريء، بل لو أخذوا الأمور بموضوعية كما أخذها بعض مفسري الغرب والكفار لقالوا: إن العلم لا صلة له بالغيب، ولا يستطيع أن يثبت الغيب ولا أن ينفيه، إلا أنه يقر بالغيب من خلال القرائن، ولذا لو تجرد العلم من أهواء الناس لكان يتضمن الإقرار بالغيب ولو لم يصل إليه؛ لأنه لا طريق للعلم إلى الوصول للغيب، ولو كان العلم يصل إلى الغيب ما صار غيباً، وكذلك العقل، إذ هما مقترنان، فالعلم لا يكون إلا بالعقل.

    إذاً: العلم والعقل كما أنهما لا يستطيعان الحكم على الغيب إثباتاً، فكذلك لا يستطيعان الحكم على الغيب نفياً، فيجب أن نفهم هذه المسألة؛ لأنها تثار كثيراً الآن، ويشوش بها على أذهان كثير من شبابنا، بل قد زل كثير منهم بسبب ذلك، وتجرءوا على القول في الدين بأقوال شنيعة، وشككوا في مسلمات الدين، وأخذوا يخوضون في مناهج السلف بدعوى أن السلف ليس عندهم استعمال للعقول، وأن السلف ليس عندهم استخدام للعلم، وهذا كله من الافتراء، فهم ينعقون بما لا يفهمون إلا تقليد الغرب والإلحاد وأصحاب المادية الذين لا يفقهون من دين الله شيئاً، نسأل الله العافية.

    الجواب الثاني: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتت به تلك من العقليات

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم دل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشهادة والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته -وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة- تدل على حكمته البالغة; كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة ].

    في الحقيقة هذا رد علمي موضوعي كما يعبر به كثير من المعاصرين الذين يعجبون بالشعارات الغربية ممن يسمون بالعلمية والموضوعية، فإذا أخذناه على مقاييسهم فهذا الكلام علمي وموضوعي واستقرائي وعقلي، ولا يستطيع أن ينفك عنه لا المؤولة ولا المعطلة، والشيخ هنا قد رجع إلى الأشاعرة وقال لهم: كما أنكم أثبتم الصفات السبع، وقيل لكم: لماذا أثبتموها؟ قلتم: أثبتناها بالعقل، ونحن إذا تأملنا عقلاً لوجدنا أن الفعل الحادث دل على قدرة الله عز وجل، وأن التخصيص كون المخلوقات مميزة بعضها عن بعض، هذه سماوات وأرضون وأحياء وأموات، هذا يسمى تخصيصاً، ووجود التمييز بين المخلوقات يدل على الإرادة، والإحكام -إحكام المخلوقات- يدل على العلم، وهذه الصفات كلها مستلزمة للحياة؛ لأنه لا يمكن أن يكون قادر ومريد وعالم إلا حياً، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، فنقول لهم: اطردوا هذه القاعدة.

    كما نقول أيضاً: وجود الرحمة والنفع، أي: نفع العباد بالإحسان، يدل على الرحمة، وكذلك التخصيص يدل على المشيئة والحكمة، مع أن الشيخ لم يذكر الحكمة في هذا المقام، لكنه أتى بها بعد ذلك، فدلالة التخصيص كما تدل على المشيئة تدل على الحكمة أيضاً، وأنتم قلتم: تدل على الإرادة، أو أضيفوا مع الإرادة الحكمة، وإكرام الطائعين يدل على المحبة، وعقاب الكافرين يدل على البغض، وهكذا بقية الأمور، فنقول لهم: كما أثبتم القدرة بالفعل، والتخصيص بالإرادة، والعلم بالإحكام، وبقية الصفات، كالحياة والسمع والبصر؛ لأنها من لوازم الحياة، فكذلك بقية الصفات، مثل: الرحمة والمحبة والمشيئة والبغض والحكمة ونحو ذلك، فكل هذه دلت عليها مخلوقات الله عز وجل، وشئون الله في خلقه دلت على هذه الصفات، والله عز وجل له في خلقه شئون نراها يومياً في حياتنا الخاصة والعامة، وكلها دليل على بقية صفات الله، فنرى أثر محبة الله في عباده، ونرى أثر غضب الله في عباده، ونرى أثر حكمة الله في مخلوقاته، ونرى أثر كثير من أفعال الله، مثل الرزق والإحياء والإماتة وغير ذلك في مخلوقاته، فلماذا جعلتم بعض الأشياء دالة على نوع من الصفات، ولا يدل على النوع الآخر منها؟ إن هذا هو دليل انغلاق أهل الأهواء على أهوائهم، وعدم إدراكهم لعموم القواعد الشرعية، ولذا فإن المتأمل سيلاحظ أنه لا يوجد كما عند أهل السنة والجماعة في تعميم دلالات النصوص على الوجه الصحيح، فهؤلاء يغلقون دلالات النصوص بأهواء يضعونها لأنفسهم، وينتقون في الاستدلال انتقاء، فلا يأخذون بشمولية الاستدلال، وإلا فأدلتهم العقلية كما ذكر الشيخ هي دليل عليهم، وكما أن العقل يدل على الصفات السبع، فكذلك يدل على بقية الصفات من باب الضرورة، وكلها كمال، فلماذا كانت الإرادة والعلم كمالاً، والمحبة والحكمة غير كمال؟! إن هذا مما يعجب منه صاحب العقل السليم.

    كما أنهم يقولون بعدة وجوه، فلا يثبتون السمع على حقيقة ما يثبته السلف، ولهم في ذلك تأولات كثيرة، لكن نوجزها: فهم يرون أن السمع هو العلم بالمسموعات، فيردونها إلى العلم، والبصر هو العلم بالمبصرات، وهذا مجمل قولهم، وإلا فلهم في ذلك مسالك عجيبة، فهم في الحقيقة لا يثبتون حتى السمع والبصر على وجهها الشرعي، ولذلك أكثر ما رد عليهم المعتزلة في إثبات السمع والبصر، يعني: أنهم هم قد يوافقونهم في بعض الصفات الأخرى، لكن في السمع والبصر قال المعتزلة للأشاعرة: لماذا أثبتم السمع والبصر ولم تثبتوا اليد والوجه؟ بالرغم أن قاعدتهما واحدة، والمعتزلة يقولون نحو ما قالت الأشاعرة: كما أنكم تقولون: اليد لا تكون إلا الجارحة، يقولون: نحن لا نعرف السمع إلا الجارحة، والبصر إلا الجارحة، وهؤلاء لا نوافقهم كلهم، لكن هكذا يضرب بعضهم بعضاً، لذا فأقول: إثباتهم للسمع والبصر على غير قاعدة عقلية صحيحة، وأيضاً على غير القاعدة المطردة عندهم، لكنهم تورعوا عن نفي السمع والبصر، ولذلك أولوهما، وأكثر ما يدور تأويلهم على أن البصر العلم بالمبصرات، والسمع العلم بالمسموعات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755919555