بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الرابع عشر من دروس السيرة النبوية للعهد المدني.
في الدرس السابق تحدثنا عن الأحداث التي كانت بعد غزوة أحد، فإن الفترة التي أعقبت غزوة أحد كانت فترة عصيبة جداً على الدولة الإسلامية، اهتزت هيبة الدولة الإسلامية بصورة جعلت الكثير من الأعداء يطمعون فيها سواء من داخل المدينة أو من خارجها، وتحدثنا عن الأزمات الخمس التي مرت بالأمة الإسلامية في الشهور الستة الأولى بعد أحد، وانتهت الأزمة الخامسة منها بمواجهة مع يهود بني النضير، وبفضل الله انتصر المسلمون بالرعب الذي ألقاه الله عز وجل في قلوب اليهود، ونزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجوا من المدينة إلى خيبر، وبخروج اليهود في ربيع أول سنة 4 هـ دخل المسلمون في مرحلة أخرى، استعادوا فيها كثيراً من هيبتهم، وكانت السنة التي تلت خروج يهود بني النضير سنة طيبة جداً من سنوات الدعوة، سكن فيها المنافقون، وانتشرت فيها سرايا المسلمين في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية، بل وأخلفت قريش موعدها مع المسلمين في شعبان سنة (4 هـ) فيما عُرف في التاريخ بغزوة بدر الصغرى، وهدأ يهود بني قريظة وأقروا بالعهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكرنا أيضاً في الدرس السابق أنه نتيجة استقرار أوضاع المسلمين، وتحرك القلق في قلوب جميع أعداء الأمة من يهود ومشركين ومنافقين، وبدءوا يفكرون في شيء يمنعون فيه الدولة الإسلامية من إكمال المسيرة، وتولى كبر التدبير لهذا الأمر فرقة من يهود خيبر ويهود بني النضير، وكونوا وفداً من حوالي (21) رجلاً، وتحرك هذا الوفد إلى الجزيرة العربية هنا وهناك؛ ليجمع الجموع لحرب المسلمين، واستطاعوا أن يحمسوا قريشاً على أن تخرج في (4000) مقاتل، واشتروا غطفان وبني سليم بالمال على أن يخرجوا في (6000) مقاتل، وتحركت هذه الجموع الضخمة (10000) مقاتل صوب المدينة المنورة، وكان الهدف استئصال المسلمين تماماً، ليس الغرض الانتصار في موقعة عابرة، ولكن الهدف هو إنهاء الوجود الإسلامي في الأرض بالمرة، ووصل النبأ المرعب إلى المدينة المنورة.
أما المنافقون فقد ظهر نفاق معظمهم، وقالوا: لا طاقة لنا أبداً بحربهم، وظهرت عليهم علامات الرعب والهلع، وهؤلاء المنافقون لم يكتفوا بالهلع والقعود، بل حاولوا أن يمنعوا الآخرين من الحرب بحجة أنها حرب لا طائل من ورائها، قال الله عز وجل: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:18-19] هذا كان رد فعل المنافقين.
أما المؤمنون الصادقون فإنهم ومع عظم الخبر إلا أنهم وجدوا فيه بشرى، والبشرى هي أن الله عز وجل وعد المسلمين بالنصر على أعدائهم إن هم تجمعوا لهم، ووعدهم بالنصر إن وصلت الأزمة إلى الذروة، أين هذا الوعد؟
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: هذا الوعد في قوله تعالى في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]المسلمون الآن يقتربون من مرحلة الزلزال، إذاً: النصر أيضاً يقترب.
أول شيء فعلوه: إقامة مجلس شورى، وهذه هي البداية الصحيحة، وعند مراجعة صفات الجيش المنصور الذي قلناه قبل هذا في بدر ستجدونها جميعها موجودة بالتفصيل في جيش الأحزاب، فهذه سنن وليست مصادفات، وهكذا أقيم مجلس الشورى المكون من المهاجرين والأنصار وغيرهما من القبائل المختلفة، بل إن فيهم من ليس عربياً أصلاً مثل بلال الحبشي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم أجمعين، وهذه هي عظمة الدين الإسلامي، وانظر ما هي الخبرات التي تتراكم في الأمة الواحدة نتيجة جمع البشر من كل العناصر والقبائل والأجناس والبلاد تحت راية واحدة، فهذه أزمة الأحزاب، والله سبحانه وتعالى يجعل حلها على يد رجل ليس من العرب أصلاً، ولكنه من المسلمين، وهو سلمان الفارسي.
هذا الجيش الإسلامي يستفيد من خبرة الجيش الفارسي، ومن تجارب شعب كامل مثل شعب فارس، كما أن سلمان الفارسي لم يدخل في الجماعة المسلمة إلا منذ أيام أو شهور قليلة، ولعل هذه هي المشاركة الأولى مع الصف المسلم، ومع ذلك تجده قد انصهر تماماً في الصف المسلم، وأصبح عضواً فاعلاً في الأمة، وأصبح له رأي معتبر لا يشعر بأنه غريب، فهذه هي دولته وأمته وهذا هو دينه، وسلمان أسلم من بداية الهجرة، لكنه كان عبداً عند أحد اليهود، ولم يُعتق إلا قبل الأحزاب بقليل.
قال سلمان: (يا رسول الله! إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا) فعندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة هذه الفكرة أعجبتهم، وسرعان ما ظهرت فيهم صفة الحماس وعدم التردد، وأخذوا القرار مباشرة، وهو لا بد أن نبدأ في الحفر حالاً.
قد يقول قائل: كيف يجبن المسلمون عن اللقاء فيحفرون الخندق ولا يحاربون؟
الجواب: أن الإسلام دين واقعي، مع القناعة التامة بأن الله سبحانه وتعالى معنا إذا كنا معه، وسينصرنا إن نصرناه، إلا أننا نأخذ بكل الأسباب، فـ (10000) مقاتل مشرك ضد (3000) مقاتل مسلم، وهم جميع أهل المدينة من الرجال، هو لقاء غير متكافئ، خاصة أن هؤلاء العشرة آلاف يمكن أن يزيدوا، ويمكن أن يضموا إليهم يهود خيبر، ويمكن أن تأتي قبائل مشركة أخرى غير قريش وغطفان وبني سليم.
فاحتمال هذه الأحداث جعل الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة أن يختاروا محاولة تجنب اللقاء قدر المستطاع، فكانت فكرة الخندق فكرة ممتازة.
لم نهرب من أرض الموقعة ولم نتنازل عن شيء، وسيكون العدو في مأزق؛ لأنه لن يستطيع أن يعيش طويلاً بعيداً عن بلاده وطعامه وشرابه وتجارته، فسيصبح عامل الزمن في صالح المسلمين، وفعلاً كانت فكرة ممتازة، وأسرع النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ مجموعة من الصحابة وتفقد أطراف المدينة؛ لكي يرى المكان المناسب لحفر الخندق، فهو يأخذ بكل الأسباب، ووجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن شرق المدينة وغرب المدينة لها حماية طبيعية من المرتفعات الشرقية والغربية، وأيضاً جنوب المدينة محمي بغابات طبيعية وأحراش، بقيت منطقة الشمال ومنطقة الجنوب الشرقي،
ومنطقة الجنوب الشرقي فيها ديار بني قريظة، وهم إلى الآن على العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعهد لا يقضي فقط بعدم معاونة قريش ولا إجارتها، ولكن يقضي أيضاً بالدفاع المشترك عن المدينة المنورة إذا داهمها عدو، وأياً كان هذا العدو، ولذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة ليؤكد العهد معهم، فأكدوا العهد، وتأكيدهم هذا مهم جداً؛ لأن جيوش المشركين لو دخلت من عندهم فهذا معناه إنهاء الوجود الإسلامي تماماً، واستئصال شعب المسلمين بكامله.
إذاً: منطقة الشمال مفتوحة؛ ولذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بحفر الخندق في شمال المدينة المنورة؛ ليغلق المنطقة ما بين الحرة الشرقية والغربية، وإذا كان القرار سهلاً وسريعاً فالتنفيذ قد يكون مستحيلاً ليس صعباً فقط، فمشروع حفر الخندق مشروع لا يتخيله عقل بأي حال من الأحوال، مشروع جبار بمعنى الكلمة، الخندق عمقه خمسة أمتار، وعرضه خمسة أمتار في أقل التقديرات، وبعض التقديرات تصل إلى عشرة أو اثني عشر متراً، وطوله اثنا عشر كيلو متر، وهذه المعلومات أخذت من الموقع الرسمي للمدينة المنورة على الإنترنت (موقع مساحة المدينة المنورة)، هذه الأبعاد معناها: أن الأرض التي يراد حفرها لا بد أن يكون حجمها ثلاثمائة ألف متر مكعب، وهذا رقم مهول جداً، ولقد جلست مع أكثر من مهندس لنتصور الجهد الذي بُذل في هذا، ففي هذا الوقت قدرة العامل على الحفر في اليوم الواحد لا يتجاوز خمسة أمتار مكعبة ويكون الحفر في أرض رملية سهلة وبعمق متر واحد فقط، وكلما كان العمق أكثر قلّت قدرة العامل على الحفر؛ لأن عليه أن يحفر في أرض أصعب، ويخرج التراب وينقله بعيداً، ثم يرجع فينزل مرة أخرى، أو تكون هناك فرق كثيرة لحمل ونقل الأتربة الهائلة التي تخرج من الحجم الضخم الذي سنحفره.
كان تعداد الصحابة جميعهم في المدينة (3000) ولم يقم كلهم بالحفر، فهناك من هم مشغولون بالحراسة، وهناك من يخدم في أمور الطعام والشراب، ومنهم من يكون مريضاً أو كبيراً في السن، ومع ذلك لو أن كلهم شاركوا في الحفر فإنه من المستحيل أن تنتهي عملية الحفر للخندق في هذا الزمن القياسي، كان حفر الخندق في أسبوعين فقط، فلو أن كل صحابي سوف يشتغل (16) ساعة يومياً فإنه سوف يضاعف الشغل أيضاً، وهذا صعب جداً، وكل هذا مع افتراض أن الأرض رملية سهلة، فلو تخيلت أن الأرض صخرية فإنها تحتاج في زمننا هذا إلى معدات خاصة وأجهزة حفر متطورة، عندئذ ستعرف كيف كان هذا العمل جباراً، لو أضفت إلى هذا أننا نحفر لعمق خمسة أمتار وليس متراً واحداً، ولو أضفت إلى هذا أن نقل كميات التراب إلى أماكن بعيدة عن الحفر هي أيضاً مسئولية هؤلاء (3000) صحابي الذين يقومون بالحفر، ولو أضفت أن الخندق متسع في بعض الأماكن إلى أكثر من خمسة أمتار، ولو أضفت نقص خبرة المسلمين في هذا العمل، فهم أول مرة في حياتهم يحفرون خندقاً، ولو أضفت كثرة الأعداد العاملة وتوزيعها على (12) كيلو متر، كيف يمكن أن تدير فرقاً بهذه الضخامة؟ وإذا أضفت إلى كل ذلك أن هؤلاء يعملون في ظروف شديدة الصعوبة من جوع وبرد، وخوف من قدوم الأعداء في أي لحظة.
لو أضفت كل هذا فإنك ستعرف أن هذا عمل جبار، وهذا العمل في زماننا يحتاج لكي يتم في أسبوعين إلى أكثر من مائتي لودر، وشواكيش إلكترونية، وعشرات السيارات للنقل كي تأخذ الأتربة، وكذلك إدارة هندسية كاملة، ويحتاج إلى مجموعة من الاستشاريين المتخصصين في الحفر.
وإذا أردت أن تعرف صعوبة هذا المشروع قارنه مثلاً بمشروع الأنفاق، وانظر كيف كان صعباً، وقد أخذنا فيه عشر سنين، وتعطلت الدنيا في كل مكان.
إذاً: مشروع الخندق كان مشروعاً خرافياً، فإن أحد المهندسين كنت أحسب معه حجم هذا المشروع، فرمى القلم من يده وقال لي: هذا غير ممكن يا دكتور! الموضوع هذا ليس بإمكانيات البشر، قلت له: صدقت، هناك أشياء لا تستطيع أن تفهمها إلا أن تكون مؤمناً حقاً بالله عز وجل، تتذكرون غزوة بدر، وتتذكرون كيف تم النصر؟ وتتذكرون جندي البركة، وهو أن يضخم الله عز وجل من نتيجة جهد يبدو في ظاهره بسيطاً فينتج نتائج عجيبة.
البشر في العادة لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يعملوا هذا العمل، لكن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يجعلهم يستطيعون لاستطاعوا، سواء بأيديهم أو كان معهم ملائكة أو جنود لا نراها، لكن هذا واقع رأيناه ونراه، وسنظل نراه إلى يوم القيامة ما دام أن هناك من يستحق نصر الله سبحانه وتعالى.
وحُفر الخندق العملاق وتم المشروع الجبار.
أدار الرسول عليه الصلاة والسلام المشروع بكفاءة غير متخيلة، وضع لنا قواعد ناجحة للأعمال الجماعية، وأي عمل جماعي في أي مشروع كبير، حتى ولو كانوا مجموعة من المشركين إذا أخذوا بهذه القواعد فإنه سوف يتم النجاح، فما بالكم لو كانوا مؤمنين، والله سبحانه وتعالى يؤيدهم؟!
ما هي ضوابط العمل الجماعي الذي علمنا إياها الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الضوابط كثيرة جداً، لكن لنأخذ منها أربعة ضوابط فقط.
فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي المطاع والحاكم لدولة المدينة والقائد الأعلى لجيش المسلمين ينزل بنفسه ليحفر مع المسلمين، لا يشرف على الحفر فقط! وإنما يقوم بالحفر بنفسه، فيضرب بالمعول بنفسه، ويأخذ التراب بنفسه، وكشف عن بطنه حتى لا تعوقه الملابس عن الحركة، والصحابة لا يرون بطنه من التراب الذي غطاه.
وهذه هي ضوابط نجاح العمل الجماعي، مع أن الجيش جميعه في جوع ولا يوجد أكل، يقول أنس رضي الله عنه أيام الأحزاب: كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير -و أنس في ذلك الوقت كان صغيراً فتخيل حجم كفه- قال: فيُصنع لهم بإهالة سنخة -والإهالة: هي الدهن، سنخة يعني: تغير لونها وطعمها من القدم- توضع بين يدي القوم والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن. هو هذا أكلهم.
فإن قيل: ما الذي يأكله قائدهم؟!
قال أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع صلى الله عليه وسلم عن حجرين).
إذاً: هنا القائد أكثر جوعاً من الشعب.
فهذا شعب يمكن أن ينجح في أعماله الجماعية، وكثيراً ما نفشل في أعمالنا الجماعية؛ لأننا نسمع خطباً رنانة تدعو إلى الكفاح وإلى العمل والجهد وشد الحزام والانتماء، ثم لا نجد ممن يلقي الخطب الرنانة مساعدة في حفر الخندق، في الليل وحده شعب كادح وقواده مستريحون، شعب بائس وقواده مترفون، شعب جائع وقواده مشبعون، فكيف يمكن أن ينجح العمل في وضع مثل هذا؟
كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عنده طعام قليل من اللحم والخبز، ولا يكفي إلا رجلين أو ثلاثة.
يقول جابر رضي الله عنه: رأيت في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً -جوعاً شديداً- وأراد أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه إلى ضيافته، وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك أكلاً، ولم يذهب معه ليأكل سراً، مع أن هذه أكلة اعتزم عليها، وليس من الحرام أن يأكل منها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على الخندق، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الخندق! أخوكم جابر أعد لكم وليمة، وارتبك جابر ، فذهب إلى امرأته يقول لها: الفضيحة.. الفضيحة، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق، وكان تعدادهم ألفاً، فكيف سيكون موقف جابر وموقف امرأته؟ هناك موقف لطيف لامرأته، قالت لزوجها جابر : هل أعلمته أن الطعام لا يكفي إلا رجلاً أو رجلين؟ فقال: نعم. قالت: الله ورسوله أعلم. قالت ذلك بيقين.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ألف رجل، وبمعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم أخرج لهم الطعام من البرمة والخبز من الفرن، وأخذ يطعمهم عشرة عشرة، حتى انتهى منهم جميعاً، ثم أكل منه هو صلى الله عليه وسلم، أكل صلى الله عليه وسلم آخر الناس؛ لأنه لا يرى نفسه وإنما يرى شعبه فقط.
إذاً: فهذا من أهم ضوابط العمل الجماعي وعلى أي مستوى، سواء كان العمل الجماعي يتكون من ثلاثة أو من عشرة أو من ألف أو من أمة كاملة؛ لا بد من مشاركة القائد لجنوده أولاً.
وزع الرسول صلى الله عليه وسلم الأعمال على الجميع، فالجميع يعملون، وليس هناك أحد أفضل من الآخر، ولا يوجد بينهم كسلان أو متهاون، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كل عشرة من الصحابة مسافة أربعين ذراعاً، وعندما ينتهون منها يأخذون غيرها وغيرها .. وهكذا.
وفي قوله تبارك وتعالى يوجه التعليمات لنا ولنبينا عليه الصلاة والسلام: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] فمن ترى أن العمل لن يتأثر بغيابه أو ترى أن الظرف الذي يواجهه قهري فائذن له؛ لأن الإذن ليس مجرد إعلام لقائد العمل، هذا طلب يحتمل الرفض ويحتمل القبول، ومع ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يتعسف في استخدام هذا الأمر، بل كان فعلاً يأذن لبعض الصحابة إن رأى أن لهم ظرفاً قهرياً طارئاً.
وكان الجميع ينظر بصدق إلى أهمية إنجاح العمل الجماعي الذي يقومون به، وفي نفس الوقت لم يكن هذا الحزم معناه الغلظة والجفاء والقسوة، وإنما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام كيف يمكن أن نجمع بين الحزم والهيبة والاحترام مع اللطف في المعاملة والرقة في الحديث، بل وبالدعابة والمرح والترفيه!
عند لحظة حفرهم للخندق، واشتراك الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في نقل التراب، كان ينشد معهم شعر ابن رواحة رضي الله عنه: يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
وكان ينشده بنوع من الغناء، يمد صوته صلى الله عليه وسلم في آخره، ويراهم النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون في البرد والجوع ويقول: (اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).
وفي رواية: (فاغفر للمهاجرين والأنصار)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أن يقول الشعر، فيرد عليه الصحابة ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
نعم. هناك حزم ونظام وترتيب وخطة، لكن في جو جميل من الألفة والمحبة والسعادة الحقيقية.
كيف لهذا العمل أن يفشل في هذا الجو؟ لا يمكن.
إذاً: قلنا ثلاث ضوابط مهمة للعمل الجماعي:
أولاً: مشاركة القائد لجنوده.
ثانياً: توزيع العمل على الجميع.
ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق.
لا أنسى أستاذاً كان يختبرني في الكلية امتحاناً شفوياً، ما إن دخلت عليه حتى قال لي: أسألك سؤالاً وأنا متأكد أنك لا تستطيع أن تجيب عنه! لماذا هذا الإحباط؟ لماذا تقتل في الذي أمامك كل أمل في النجاح؟
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً في كل المواقف الصعبة، وهذا هو منهج حياته صلى الله عليه وسلم، والذي عمله أيام حفر الخندق كان فوق التخيل، ولم يقل لهم: هناك أمل في حفر الخندق، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على الأحزاب الآتية، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على العرب، لا، وإنما كان يرفع همتهم لما هو أعلى من كل أحلامهم، فهو يزرع بداخلهم أملاً في سيادة العالم، وليس في سيادة المدينة أو الجزيرة العربية فقط.
قال صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صخرة صعبة اعترضت الصحابة: (باسم الله، الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة) يبشر بفتح الشام في لحظة حفر الخندق، ثم ضرب الثانية فقطع جزءاً آخر من الصخرة، فقال: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن) يقول لهم: أنا أرى قصر الحكم الفارسي ملكاً للمسلمين، ثم ضرب الثالثة فشق بقية الحجر وقال: (الله أكبر؛ أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني).
عظّم من أحلامك، كبّر أهدافك، ليست قضيتنا هي الحصار، ولا قضيتنا هي الدولة الصغيرة التي نحن نعيش فيها، لا، قضيتنا هداية العالمين، قضيتنا حمل هذه الرسالة إلى كل بقاع الأرض، ويبشرهم أن الكلام هذا ليس بأوهام، وإنما سوف يحصل بإذن الله، وسيصل الإسلام إلى فارس والروم واليمن، وسيصل إلى كل بقعة في العالم، قديماً وحديثاً؛ لأن هذا وعد ربنا سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد؛ ولهذا نجح الصحابة في حفر الخندق العملاق، ولو كان عندهم يأس وإحباط ما كانوا ليستطيعوا أن يحفروا (20) أو (30) متراً مكعباً فقط، فما بالك في ثلاثمائة ألف متر مكعب. وحُفر الخندق ونجح المشروع، ومع ذلك لم ينته الامتحان بعد، لا زلنا سندخل في مرحلة الزلزال لنتخلص من كل المنافقين.
إذاً: المقاومة فعلاً كانت شرسة، وأُصيب فيها الكثير من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وطال الحصار شهراً كاملاً، والموضوع كما هو صعب على المسلمين كذلك كان صعباً على الكفار: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، وقد سبق الكلام على ذلك في غزوة أحد، ولم يستطع الكفار أن يتصرفوا، حتى جاء الحل من قبل اليهود، فاليهود هم الذين جمعوا هذه الأعداد بكاملها، وما زالوا يريدون استئصال المسلمين، فما هو الحل؟
وصارت المدينة على أبواب هلكة قريبة، ماذا يحدث لو انساح عشرة آلاف مسلح بالإضافة إلى يهود بني قريظة إلى داخل المدينة؟ لا أحسب أن أحداً يبقى حياً في المدينة المنورة، لا بد أن تضع هذا في بالك؛ لتفهم رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على الخيانة التي حصلت من بني قريظة، ونقلت المخابرات الإسلامية هذا الخبر، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم خائفاً من خيانة اليهود، وجعل عليهم مراقبة.
فهل من قبيل المصادفة أن يخون اليهود في تعاملهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟
هل من قبيل المصادفة أن يظهر الانحراف في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة؟
لا شك أن هذا ليس مصادفة أبداً، ولا شك أن هذا واقع لا بد أن نُدركه جميعاً، فقد ذكره ربنا سبحانه وتعالى في كتابه حين قال: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]وانظر المعاني التي تأتي في ذهنك عندما تسمع اللفظ القرآني أَوَكُلَّمَا [البقرة:100] كل مرة هكذا؟ هل توجد مرة فيها وفاء لليهود؟ هل توجد مرة فيها أمانة؟ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100] فالكلام هذا ليس مصادفة أبداً، بل هو قاعدة، ولا بد أن نعرفها جيداً.
وصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أي رد فعل أراد أن يستوثق من الخبر، فأرسل مجموعة من الصحابة للتأكد، فيهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة.. وغيرهم، وقال لهم: (انطلقوا حتى تنظروا: أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم، أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس) أي: إن كانوا حقاً قد غدروا فلا تذكروا ذلك أمام الناس؛ لكي لا يحصل إحباط (وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس).
أما المسلمون اليوم فينشرون أخباراً وخططاً وتسليحاتٍ وأعداداً وإمكانياتٍ للعدو على صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفاز، فيشعر المسلم المشاهد لهذه الأخبار أنه لا يوجد أمل ولا توجد فائدة أبداً.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه ليس كل ما يُعرف يقال، وذهبت المجموعة الإسلامية إلى بني قريظة، وتكلموا معهم مباشرة: أما زلتم على العهد؟ فجهر يهود بني قريظة بالسوء، وسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، ثم رجع الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: عضل والقارة، أي: غدروا كغدر عضل والقارة، وهي القبائل التي غدرت بالمسلمين عند ماء الرجيع، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً لهذا الخبر، حتى إنه تقنع بثوبه -أي: غطى رأسه بالثوب- ومكث طويلاً صلى الله عليه وسلم يفكر ما الذي سيحصل؟ وبعد ذلك رفع رأسه فجأة، وقال للمسلمين بصوت عال: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين! بفتح الله ونصره) وهو يحاول قدر المستطاع أن يرفع من همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وعلى الرغم من محاولات الرسول عليه الصلاة والسلام لتجنب انتشار الخبر إلا أنه شاء الله سبحانه وتعالى للخبر أن ينتشر، وهذا أيضاً له حكمة واضحة، وهو الابتلاء والتنقية والتمييز بين صفوف المسلمين وصفوف المنافقين، فكل ما حدث من الأحزاب وحصار المدينة كانت درجة من درجات الابتلاء، أما الآن فقد وصل المسلمون إلى ما نسميه مرحلة الزلزال، وهي المرحلة التي يُزلزل فيها المسلمون زلزالاً لا يثبت فيه إلا الصادق حقاً، أما المنافق سواء كانت درجة نفاقه كبيرة أو صغيرة لا شك أنه سيقع.
مرحلة الزلزال مرحلة خطيرة، ولا بد منها قبل أن يأتي النصر، ولكن إذا أتت فالحمد لله، معنى ذلك: أن النصر قريب إن شاء الله: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
أما المنافقون فقد كان وضعهم مختلفاً، كان المشركون حول المدينة من الشمال، واليهود من الجنوب، ولا أمل مطلقاً في نظرهم في النجاة: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]وبعضهم قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
وبدأ المنافقون في التسرب من الصف: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13] والحمد لله بدأت تنقية الشوائب وبدأت تنقية المنافقين من الصف، وبدأ يقترب النصر.
الجيش الإسلامي في حراسة الخندق في شمال المدينة، أي: هم في منطقة خارج المدينة المنورة، والنساء والأطفال في داخل المدينة، واليهود إلى جوارهم، وأول شيء فكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إرسال جند لحماية النساء والأطفال.
وما يروى من قصة دفاع السيدة صفية عن الحصن ضد اليهودي، ورفض حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يهاجم اليهودي، فهذه رواية لا صحة لها؛ لأن السند منقطع، وفيها طعن لا يصح أبداً في صحابي جليل كـحسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، ولا تنسوا أن حسان بن ثابت كان من الشعراء، ولو حدث هذا لما تركه أحد من شعراء قريش دون هجاء.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم بعث فرقة لحماية الجبهة الداخلية في المدينة المنورة، ولا بد أن نفكر في الموقف من جديد، الآن الحصار من قريش وغطفان واليهود، فلا بد أن نعمل محاولة لفك هذا التحالف الرهيب، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعرض مادي يحاول بهذا العرض أن يفك التحالف، فيا ترى يعرضه على من؟ على قريش، أم على اليهود، أو على غطفان؟
قريش لا يمكن، فتاريخ العداء طويل، وهؤلاء لم يأتوا من أجل المال، وإنما هناك دوافع عقائدية كبرى، أيضاً اليهود لا يمكن؛ لأن حقدهم على الرسول عليه الصلاة والسلام كبير جداً، وقد قالوا كلاماً في حق المسلمين ولا يستطيعون أن يتراجعوا عنه، وفي نفس الوقت التعاهد معهم غير مضمون؛ لأنهم متعودون على الخيانة، تبقى غطفان، فغطفان لم تأت إلى الحرب وهي متحرقة شوقاً لقتال الرسول عليه الصلاة والسلام، بل جاءت من أجل مال خيبر، فلو أعطوا من مال المدينة قد يرجعون، ولو رجعوا فإن صف المشركين سوف يتفكك، فستكون المحاولة في هذا الاتجاه!
هذا كان تفكير الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلاً عقد الرسول صلى الله عليه وسلم اجتماعاً مع زعماء غطفان عيينة بن حصن والحارث بن عوف .
فإن قيل: كيف تقابلوا وكيف وصلوا له؟ نحن لا نعرف، المصادر لم توضح ذلك، لكن يبدو أنها كانت فرصة سريعة حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجد وقتاً لإشراك الصحابة في اللقاء، أو أن اللقاء كان على مستوى عالٍ جداً من السرية فلم يشترك فيه من الطرفين إلا الزعماء، فالرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية المسلمين، وعيينة بن حصن والحارث بن عوف من ناحية غطفان، المهم أن اللقاء تم بعد مشاورات ومداولات طويلة، واستقر الطرفان على إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة لسنة كاملة، على أن تعود غطفان وتترك حصار المسلمين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام علّق هذه المفاوضات على قبول مجلسه الاستشاري لفكرة المفاوضات، خاصة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فهما سيدا الأوس والخزرج للسببين التاليين:
أولاً: لأن الأوس والخزرج قريبون في مساكنهم في المدينة المنورة من غطفان؛ ولهذا فهم أدرى الناس بغطفان وبما يصلح معهم.
ثانياً: أن ثمار المدينة هذه والتي ستكون ثمناً لفك الحصار ليست ملكاً شخصياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هو زعيم المدينة المنورة وزعيم الدولة كلها، وإن كان هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه يحترم الملكية الشخصية للأفراد، فالثمار هذه ملكية شخصية للأوس والخزرج.
ولهذا بعد اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم مع زعماء غطفان عقد اجتماعاً آخر مباشرة مع السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، وعرض عليهما الاتفاق الذي وصل إليه مع زعماء غطفان، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يظن أن هذا عرض مغر جداً ينقذ المدينة من الحصار الصعب، وكان هذا التشاور بعد شهر من الحصار تقريباً، فيا ترى كيف كان رد فعل زعيمي الأوس والخزرج؟ يا ترى فرحا بهذا العرض أم رفضاه؟
وانظر إلى ردهما والحكمة فيه، أول شيء قاله سعد بن معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! هل هذا أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا؟).
وانظر إلى مدى الفهم والحكمة، لو كان أمراً من الله، أو شيئاً يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم عندها لا بد أن نطيع وننفذ، وإن كان رأياً بشرياً ترى أن فيه المصلحة للمدينة نعرض فيه رأينا، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم، فقال
والحقيقة كان رأي السعدين في منتهى العمق والحكمة، لم تكن أبداً نظرة عنترية غير مدروسة، ولكنها نظرة إستراتيجية رائعة.
فمستقبل المدينة قد يتحدد بهذه المفاوضات، وليست المشكلة في صرف ثلث ثمار المدينة، لكن المشكلة أن غطفان ستحقق انتصاراً غير مقبول على الدولة الإسلامية، وسوف تهتز صورة الدولة الإسلامية أمام غطفان، بل ستهتز أمام الجزيرة العربية بكاملها، وهؤلاء ليسوا من الزعماء النبلاء الشرفاء، بل هم مرتزقة مأجورون، وسيفتح باب الابتزاز المستمر للمدينة المنورة، كلما أرادوا المال جاءوا وحاصروا المدينة المنورة، فهذه الوقفة الصلبة الجريئة لا شك أنها ستهز غطفان من الأعماق، خاصة أنهم لا يفكرون في أي شيء غير المال والدنيا، وطالب الدنيا ضعيف أمام طالب الآخرة.
ولا ننسى أن ديار غطفان قريبة من المدينة المنورة، وقريش آجلاً أو عاجلاً سترجع إلى مكة وديارها، أما غطفان فباقية؛ ولهذا لا بد أن نحافظ تماماً على صورتنا أمام غطفان، فكان قرار السعدين في منتهى الحكمة، والرسول عليه الصلاة والسلام أقره دون تردد، وليعلم الجميع أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، وكان من الممكن أن يوحي الله سبحانه وتعالى بهذا الرأي مباشرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حدوث القصة بهذه الصورة يفتح للمسلمين أبواب الفكر والإبداع، وإبداء الرأي لمصلحة الأمة الإسلامية.
فيا ترى! ما هو رد سعد بن معاذ وهو شاب يُصاب إصابة قاتلة وعمره (37) سنة؟
قال سعد وهو يدعو الله عز وجل: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أُجاهده فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أُجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها -أي: افجر إصابتي واجعلها تزيد- واجعل موتتي فيها.
وهو شاب عمره (37) سنة يرجو من الله سبحانه وتعالى ألا يلتئم الجرح لكي يموت!
وعندما يصبح الموت أمنية فهي موتة شهيد، وهو لا يضمن إن عاش بعد ذلك أنه سوف يموت شهيداً، فهذه فرصة، فيدعو الله ألا تضيع هذه الفرصة، ثم قال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. حتى في لحظاته الأخيرة لا ينسى غدر بني قريظة، ولا ينسى هموم الأمة الإسلامية، والموقف قد تأزم جداً، وهو أشد مراحل الزلزال، ولا يوجد في الصف أي منافق، فكلهم خرجوا ولم يبق إلا المسلمون الصادقون، والمسلمون قد عملوا ما بوسعهم، حفروا الخندق في وقت قياسي، وتحملوا الجوع والبرد، وحموا الخندق بأرواحهم، وقاتلوا بضراوة، وسهروا وتعبوا وكافحوا، وعملوا المفاوضات وعملوا مجالس الشورى، وعملوا كل شيء من الممكن أن يُعمل في مثل هذه الظروف، وقبل هذا وأثناء هذا وبعد هذا اجتهدوا في الدعاء، فهم يعرفون أن النصر ليس من عندهم أبداً، بل هو من عند الله سبحانه وتعالى، فالمسلمون كانوا يدعون الله تعالى أيام الأحزاب، ويقولون: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو والمسلمون يؤمنون يقول: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).
يأتي كما تعودنا بطريقة لا يتوقعها المسلمون، وبطريقة لا يستطيعون أن يضعوها أبداً في حساباتهم؛ ليعلم الجميع أن الناصر هو الله عز وجل.
كيف حصل النصر؟ من هم جنود الرحمن في الأحزاب؟
كل الذي سبق وأن قلناه في بدر يمكن أن نقوله في الأحزاب، لكن سأختار لكم ثلاثة جنود فقط من جنود الرحمن.
نعيم بن مسعود رجل من المشركين لا يتوقع إسلامه أبداً في هذا التوقيت، بل يكاد يكون مستحيلاً، لماذا أقول: إنه من الصعب جداً أن يسلم في هذه الظروف؟
نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي الغطفاني من قبيلة غطفان المحاصرة للمسلمين، كيف لرجل من هذا الجيش القوي المحاصر للمسلمين، وبعد أن مر شهر على الحصار، وقد ينهار المسلمون في أي لحظة، خاصة بعد خيانة اليهود، كيف له أن يترك جيشه القوي؛ لينضم إلى الجيش الضعيف المهدد بالموت في أي لحظة، ولعل بعض المسلمين كانوا يريدون أن يسلم نعيم بن مسعود قبل سنة أو سنتين أو أكثر، ولو أسلم قبل الأحزاب لما كان له دور في رفع الحصار على المسلمين، لكن كل شيء محسوب: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].
جاء نعيم بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! إني قد أسلمت، وإن قومي غطفان لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد -أي: أن انضمامك إلينا لن يكون فيه فارق كبير- فخذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة) لكن الله سبحانه وتعالى هداه لفكرة عجيبة جداً! لو فكر فيها عشرين سنة لما وصل إليها، ولم تخطر هذه الفكرة على بال الرسول صلى الله عليه وسلم ولا على بال أحد من حكماء الصحابة، لكن إذا أراد الله سبحانه وتعالى للنصر أن ينزل على المسلمين فسينزل ولا معجز له سبحانه وتعالى، ونعيم بن مسعود شخصية معتبرة قيادية معروفة عند اليهود وعند قريش، ذهب مباشرة إلى يهود بني قريظة وهم يظنونه مشركاً، ويعلمون أنه من قادة غطفان، وله معرفة ببواطن الأمور وما يجري خلف الأبواب. قال لهم: قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، فقالوا: وما العمل يا نعيم ؟! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يُعطوكم رهائن، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم ذهب نعيم إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونُصحي لكم، قالوا: نعم، قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان وقال لهم ما قاله لقريش.
وهكذا شعرت قريش بالقلق، وكذلك غطفان، فأرسلوا رسالةً سريعة لليهود، وكانت الرسالة يوم السبت وبتدبير رب العالمين، وأنتم تعرفون أن السبت هي إجازة رسمية عند اليهود، قالت قريش لليهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك القراع والخف -أي: الدواب والماشية التي معهم- فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فبعث اليهود إليهم وقالوا: هذا اليوم هو يوم السبت ولا نستطيع، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فقالت قريش لغطفان: صدقكم والله نعيم ، فبعثوا إلى اليهود وقالوا: إنا لا نُرسل إليكم أحداً فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقال اليهود: صدقكم والله نعيم ، فدبت الفرقة بين الفريقين وتفكك الأحزاب.
لماذا يأتي إسلام نعيم بن مسعود في هذا الوقت بالذات؟ ومن أين أتته الفكرة؟ وكيف تم تطبيقها؟ وكيف وقع فيها اليهود؟ وكيف وقع فيها حكماء قريش وغطفان؟ ولماذا لم يحصل تحقيق ومحاولات لكشف الحقيقة؟
ليست هناك سوى إجابة واحدة فقط: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
هذا أحد جنود الرحمن في الأحزاب وهو نعيم بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
كيف اختارت الريح مكاناً وتركت مكاناً؟ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
ولماذا لم تأت الريح من أول يوم، وانتظرت شهراً كاملاً؟
ليتم اختبار المؤمنين ويتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق.
ولماذا لم تأت أقوى من ذلك لتهلك الكفار كما أهلكت عاداً وثمود؟
لأن معظم هؤلاء الكفار سيسلمون، ويكونون بعد ذلك في جيش الإسلام.
الكون يجري وفق نواميس هي غاية في الدقة والإعجاز.
وسوف نرى في حديث بني قريظة بعد قليل أن الملائكة شاركت في الحرب، بل وشارك جبريل عليه السلام بنفسه.
وتم نصر الله عز وجل، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى معسكر الكفار؛ ليطمئن على سير الأحداث وعلى فعل الرياح بهم، وعلى أثر الفرقة التي أحدثها نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فعاد حذيفة بالخبر الجميل والنصر العظيم، لقد عزم الجميع على الرحيل، حدث كل هذا من غير قتال من المسلمين، وانظر إلى قوله تبارك وتعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25] وانتهت واحدة من أعظم معارك المسلمين، مع أنه لم يحدث فيها قتال، وكأن الله عز وجل يريد أن يقول لنا: ليس المطلوب هو تحقيق النصر، ولكن المطلوب هو العمل من أجله، المطلوب هو قرار الجهاد، المطلوب هو الثبات في أرض المعركة، المطلوب هو صفات الجيش المنصور، أما النصر فينزل بالطريقة التي أراد الله عز وجل، وفي الوقت الذي يريد سبحانه وتعالى.
رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من الخندق بعد صلاة الصبح، وذهب إلى بيته بعد غياب قرابة شهر، وبعد عناء كبير ومشقّة بالغة يغتسل صلى الله عليه وسلم، فإذا بجبريل عليه السلام قد جاءه عند الظهر فقال له: (قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه) أي: أن الملائكة لم يضعوا السلاح، بل في رواية السيدة عائشة عند الطبراني والبيهقي تقول: (فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل).
سبحان الله! يقاتل جبريل عليه السلام قتالاً حقيقياً في أرض المعركة. قال جبريل: (اخرج إليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة)، وفي رواية: (أن جبريل قال: إني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب) وهكذا سار جبريل عليه السلام في موكبه من الملائكة، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أمر المسلمين بالتوجه السريع إلى بني قريظة، وليس هناك راحة بعد هذا الشهر الطويل، إنما الراحة هناك في الجنة، أما الدنيا فهي دار عمل، فقال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) وهكذا اجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة في ثلاثة آلاف مقاتل، هذا غير الملائكة، في حصار بني قريظة، واستمر الحصار (25) ليلة، تقريباً كالحصار الذي كان على المسلمين في المدينة المنورة.
ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
تحول المسلمون من محاصَرين إلى محاصِرين في لحظات، واستمر الحصار كما قلنا (25) ليلة، وبعد كل تعب الخندق لا يزال المسلمون في قوة، يحاصرون (25) ليلة، وفي النهاية قذف الله عز وجل الرعب في قلوب اليهود، فنزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان بإمكانهم المطاولة في الحصار، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يُقيدوا فقيدوا، فجاءت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وقد كان من المقرر أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقتل بني قينقاع، لكن جاء عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم الخزرج واستنقذهم منه، فجاءت الأوس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت: (يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء بنو قريظة موالينا فأحسن فيهم، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى.. قال: فذاك إلى
ولم يقتل واحد من بني قريظة وكان اسمه عمرو ؛ وذلك لأنه كان مسافراً وليس في بني قريظة وقت الغدر، ويتضح جلياً أن القتل كان نتيجة غدر بني قريظة، والذي لم يغدر معهم وكان خارج الحصن لم يُقتل معهم، وليس هنا مجال لأحد أن يقول: إنه كان هناك تجاوز في قتل (400) أو (700) من بني قريظة أبداً، فقد كانوا يريدون فعل ذلك بالضبط في أهل المدينة المنورة بالكامل، مع أنهم كانوا على عهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانوا يريدون أن يفتحوا الأبواب مع قريش وغطفان كما قالوا؛ ليستأصلوا محمداً وأصحابه جميعاً، والجزاء من جنس العمل: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
وعندما أخذ الصحابة سعد بن معاذ وجدوا جنازته خفيفة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة كانت تحمله) كانت قيمته كبيرة في ميزان الإسلام رضي الله عنه وأرضاه، مع أن كل عمره في الإسلام ست سنين، ومع ذلك فإن إنجازه يعجز عن مثله الناس في (30) و(40) و(50) سنة، فرضي الله عنه ورضي الله عن صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم أجمعين.
هذه كانت قصة الأحزاب وبني قريظة، كانت موقعة عجيبة بلا قتال تقريباً: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25] لكنها كانت امتحاناً عظيماً، ولم يثبت فيها إلا الصادق حقاً، وكانت في نفس الوقت غزوة فرقت بين مرحلتين رئيستين في السيرة، فما قبل الأحزاب شيء، وما بعد الأحزاب شيء.
قبل الأحزاب كان الاضطراب والقلق والمشاكل الكثيرة وعدم الاستقرار، أما بعد الأحزاب فقد نضجت الدولة الإسلامية نضجاً جعلها قادرة على الوقوف بصلابة في وجه كل أعدائها، رسّخت الأحزاب أقدام المسلمين في الجزيرة العربية، ولم يجرؤ أحد بعد ذلك على تحدي هذا الكيان الصلب الجديد، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى العمق في تحليله لغزوة الأحزاب، فقد قال بعد أن ذهب الكفار: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) أي: نحن نسير إليهم.
والفترة التي كانت بين الهجرة والأحزاب كانت فترة تأسيس للدولة الإسلامية، أما الفترة التي ستأتي بعد الأحزاب فستكون فترة تمكين لدين الله عز وجل في الأرض، وسنرى فيها صلح الحديبية وفتح خيبر ومؤتة وفتح مكة وحنين وتبوك، وسنرى فيها المراسلات إلى ملوك العالم وأمرائهم، وسوف نرى انتشار دين الله سبحانه وتعالى في المدن والبوادي، وسنرى تسابق الوفود لإعلان إسلامهم بين يدي الحبيب صلى الله عليه وسلم، ستكون فترة سعيدة، وكل أحداث السيرة سعيدة، وكيف لا وهي حياة أفضل العالمين وخير البشر وسيد الدعاة وإمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا به في أعلى عليين، وألا يفرق بيننا وبينه حتى يدخلنا مدخله، وأن يسقينا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يربط على قلوب المؤمنين، وأن يستعملنا لدينه، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر