إسلام ويب

رمضان ورهبان الليلللشيخ : سيد حسين العفاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قيام الليل أفضل صلاة التطوع، وهو مدرسة يتعلم فيها المؤمن الإخلاص لله تعالى، وهو دأب الصالحين قبلنا، وقربة منا إلى ربنا، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ولقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والصالحون الصادقون على قيام الليل، فهو شرف المؤمن وعزه.

    1.   

    فضل قيام الليل

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

    ثم أما بعد:

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده).

    وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها، فلعل أحدكم من تصيبه نفحة من رحمة الله لا يشقى بعدها أبداً)، وأطيب النفحات وأعطرها وأنفحها نفحات رمضان.

    الخير باد فيك والإحسان والذكر والقرآن يا رمضانُ

    والليل فيك نسائم هفهافة حنت لطيب عبيرها الرهبان

    رمضان شهر الإخلاص والصيام وصلاة التراويح والتهجد، قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته، وهو أصدق القائلين: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17].

    قال الإمام ابن القيم : أخفوا لله العمل فأخفى الله عز وجل لهم الجزاء، فلا تعلم نفس ملك مقرب ولا نبي مرسل ما أعد الله لهم من الجزاء.

    قال ابن عباس : من التفسير الذي لا يحيط به أحد تفسير هذه الآية: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] أي: عند الله عز وجل الجزاء الأوفر، فلا تعلم نفس ما أعد الله للمتهجدين.

    وفي حديث المغيرة بن شعبة : (أن موسى سأل ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة؟ قال: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، فلم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).

    وقال تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]، وقال تعالى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17].

    وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:1-6].

    وقال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:26-27].

    قال الإمام الشنقيطي : يستعان على طول الوقوف يوم القيامة بطول التهجد بنص هذه الآيات.

    وقال الله تبارك وتعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، قال ابن مسعود : إذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل.

    قال ثابت البناني : من أراد أن يدخل إلى سيده فليدخل من باب الاستقامة، وبابها المحراب، وأي دعوة تريد أن تستقيم إلى الله عز وجل لابد أن يأخذ أصحابها بحظ وافر من الصلاة، فلا يسمى العابد عابداً، ولو كان فيه كل خصلة من خصال الخير، حتى تكون فيها هاتان الخصلتان، لأنهما تأخذان من لحمه ودمه، ولو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39].

    وقال أيضاً: الصلاة خدمة الله في الأرض، فمن علم من يخدم، ولِمَ يخدم فليخدم، وليطل الخدمة لمولاه.

    وقال أيضاً: كابدت قيام الليل عشرين سنة، واستمتعت به عشرين سنة.

    ويوجه الله عز وجل المؤمنين إلى الصلاة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153]، وقال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، والصبر يكون على طول الطريق الشائك، وعلى قلة الناصر، وعلى انتشار الباطل: وهو أن ترى الشر فاشياً، والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، وهنا قد يضعف الصبر، فيمد الله عز وجل الصبر بالصلاة؛ لأنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله، وصلة بالله تعالى، وجلاء الروح، ومدد القلب، وزاد الطريق.

    إن الله عز وجل الذي خلق القلوب، وهو العليم بما يصلحها، وجه رسولنا في بداية الدعوة إلى قيام الليل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2].

    قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام الصحابة اثني عشر شهراً، وأمسك الله خاتمة سورة المزمل في السماء حتى انتفخت سوقهم وأرجلهم، فلما علم الله عز وجل صدقهم نزل التخفيف في نهاية السورة: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي: علم أن لن تطيقوا قيام الليل بأكمله، ثم قال: فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20].

    والصلاة خدمة الله في الأرض، ومدرسة الإخلاص، قال قتادة : كان يقال: قلما سهر الليل منافق، والدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى المخلصين الذين لا يبالون بمدح الناس ولا بذمهم، يريدون وجه الله عز وجل لا يبتغون الجاه عند الناس ولا المنزلة، ولا يهربون من ذم الناس لهم، فالصادق لا يبالي بالخلق ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه.

    1.   

    حال الصالحين مع قيام الليل

    فهؤلاء أخفوا لله عز وجل العمل في ظلمات الليالي فملأ الله قلوبهم إخلاصاً ويقيناً، قال محمد بن أعين عن عبد الله بن المبارك : كنت مصاحباً له في أسفاره، فبينا نحن في أرض الروم ذات ليلة إذ أوهمني أنه ينام، فأوهمته أني أريد أن أنام أيضاً، فلما ظن أني قد نمت قام إلى صلاته، فما زال يصلي إلى الفجر، فلما كان عند الفجر أيقظني وقال: يا محمد ! الصبح، فقلت له: إني لم أنم، فلما علم أني قد علمت بحاله، ظهر الغضب في وجهه، ولم يزل مجافياً لي إلى أن مات رحمه الله.

    و أيوب السختياني كان يصلي معظم الليل، فإذا كان قبل الفجر أظهر الصوت والصياح، وكأنه قد قام من ساعته تلك.

    ومنصور بن المعتمر : كان إذا أتى لصلاة الصبح أظهر النشاط لإخوانه، وكأنه لم يقم الليل وقد قام الليل كله أو معظمه.

    ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة عند الله صلاة داود، وأفضل الصيام عند الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه، ثم ينام سدسه)، وهذا الأكمل والأفضل في صلاة الليل: أن تنام نصف الليل، ثم تقوم الثلث، ثم تنام السدس قبل صلاة الفجر، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

    قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ألفاه السحر الأعلى إلا نائماً في بيتي)، وتقول أيضاً كما رواه البخاري : (كان يقوم إذا سمع الصارخ: الديك)، والثلث الأخير من الليل هو وقت التنزل الإلهي.

    وكان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام ينام قبيل الفجر -السدس الأخير من الليل-؛ لأن الرجل إذا صلى طيلة الليل، وخرج إلى الناس في الصباح علت وجهه صفرة القيام، فعلم الناس بحاله، وأما إذا نام قبيل الفجر قليلاً فإن النوم يذهب صفرة الوجه، ويكون هذا أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء.

    فصلاة الليل مدرسة الإخلاص، وباب التزكية الأعظم، فمن كان لهم قدر من الليل مع مولاهم فلابد أن تزكى نفوسهم وجوارحهم.

    و الربيع بن خثيم رحمه الله تلميذ عبد الله بن مسعود قالت له ابنته يوماً: يا أبت! ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فيقول لها: إن أباك يخشى البيات، أي: يخشى هجوم عذاب الله في الليل.

    وقالت له أمه: يا بني! والله لو علم أهل القتيل ما تلاقي بسبب قتيلهم لرحموك من كثرة البكاء، فيقول: قتلت أعز الأنفس عندي، قتلت نفسي بالمعاصي.

    و الربيع بن خثيم هذا الأواب المتهجد اشترى فرساً بثلاثين ألف درهم ليغزو عليها، وذهب غلامه يسار ليحتش وقام هو إلى صلاته من الليل، فلما أتى الغلام لم يجد الفرس، فقال: يا سيدي أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان شيء يشغلني عن الصلاة، ثم رفع يده إلى السماء وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فاغنه. فدعا لسارقه ولظالمه بأن يهده الله إلى الجنة.

    لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

    وقيام الليل عنوان لعلو الهمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من رجلين: رجل ثار -يعني: نهض بهمة- عن لحافه ووطائه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد)، فهذا ممن يباهي الله تبارك وتعالى به الملائكة، ويقول: (عبدي يذر شهوته لأجلي، أشهدكم أني قد غفرت له).

    و أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب كان له سوط يعلقه في المسجد، فإذا كسل عن القيام ضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً.

    إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة

    في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة

    وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة

    وأذان من بلال ادخلوها آمنينا

    فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا

    قم حبيبي.. قم حبيبي قم فإن الديك صاح

    والثريا للمغيبِ أوشكت والصبح لاح

    والكسالى في عقال أصبحوا متخبطين

    فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين

    عقد الشيطان عقداً ثم في الآذان بالا

    ثم قال ارقد وشد فعليك الليل طالا

    فاغسل الماعون عدًّا من ولوغ الكلب حالا

    ثم أطلق للشكال أطلق الله اليمين

    فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين

    والجهاد في الإسلام يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك:

    في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الشجعان

    من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح

    أي: من خان الصلاة ولم يكن له قسط منها في الليل، خان الجهاد.

    وقد تناوب سيدنا عباد بن بشر رضي الله عنه في غزوة (ذات الرقاع) هو وعمار بن ياسر رضي الله عنه في حراسة جيش المسلمين، وكانت النوبة على عباد بن بشر ، وكان المسلمون قد أصابوا دماً لأحد المشركين، فأقسم ألا يمس جنبه الأرض حتى يصيب من المسلمين مقتلاً.

    فأقبل عباد على صلاة الليل، وأتى الرجل إلى قرب من معسكر المسلمين فرأى عباداً قائماً فضربه بالسهم من الخلف، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني فنزعه وأقبل على صلاته، ثم ضربه بالسهم الثالث، فلما استيقظ عمار ولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عنه عباد بن بشر رضي الله عنه وقال له: يرحمك الله! ما الذي منعك من أن توقظني، قال: إني كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها.

    وتأخرت السيدة عائشة رضي الله عنها ذات ليلة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ما حبسك عنا يا عائشة ! قالت: رجل حسن الصوت يتهجد بكلام الله عز وجل، فخرج فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة يصلي وكان حسن القراءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك).

    ولما كان يوم اليمامة وانكشف صف المسلمين أمسك سالم براية المسلمين، فقالوا: يا سالم إنا نخشى أن نؤتى من قبلك، قال: بئس حامل القرآن إذاً أنا، وأمسك بيمينه فقطعت يمينه، ثم أمسك الراية بيساره، فقطعت يساره، فضم اللواء إلى عضديه وهو يتلو قول الله عز وجل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].

    وأسلمت هند زوج أبي سفيان في صبيحة يوم الفتح، وقد حرشت قومها على قتل زوجها أبي سفيان في يوم الفتح، وقالت: اقتلوا هذا الخريت الذي يقول: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، فقال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي أدخلك في الإسلام؟

    قالت: والله! ما رأيت الله عبد قبل اليوم في هذا البيت، يعني: ما رأيت الله عبد إلا في ليلة الفتح، لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يراوحون بين ركبهم وجباههم تهجداً لله عز وجل.

    فنور القيام أثر في قلب آكلة الأكباد، حتى أسلمت ودخلت في دين الله عز وجل.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).

    وقال صلى الله عليه وسلم: (من تعارّ من الليل -أي: من استيقظ من الليل- فقال: الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإذا دعا -أي: قال: اللهم اغفر لي!- استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).

    قال الإمام ابن المنير : وقبول الصلاة حد زائد على صحة الصلاة.

    وصلاة الليل لها فضل على صلاة النهار، فهي مقبولة بنص هذا الحديث.

    وسيدنا الحسن كان يقول: والله! لو أعلم أن الله قبل مني سجدة واحدة لفرحت بذلك، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فما ظنك إذا كنت تقوم من الليل وأنت تعلم أن أي صلاة تصليها لله عز وجل بالليل مقبولة عند الله تبارك وتعالى.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر : (إن عبد الله رجل صالح لو كان يصلي من الليل).

    قال: سالم بن عبد الله بن عمر : فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً.

    وفي رواية: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل).

    وقام النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فزعاً وقال: (سبحان الله! ماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات -يعني: أمهات المؤمنين للصلاة-؟ فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).

    وروى الإمام البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه ليلاً، وكنت وفاطمة نائمين، فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً وجهه عنا ويضرب فخذه ويقول: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54]).

    وما أيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وابن عمه في الليل الذي جعله الله سكناً للناس إلا لعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعظم صلاة الليل.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحببت من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)، والناس اليوم يظنون أن الشرف في المال، فلو ضاع هذا المال ضاع الشرف.

    فوائد قيام الليل الطبية

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بصلاة الليل؛ فإنها دأب الصالحين قبلكم، وقربة منكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد).

    وفي مؤتمر الإعجاز الطبي للقرآن الكريم الذي حضره عمداء ومدرسون ومستشارون في كليات الطب على مستوى العالم الإسلامي، عملوا بحثاً عن تأثير قيام الليل والتهجد على آلام المفاصل (الروماتيزم)، فجربوا مسكنات الألم: كالزركلين والأدنوجكت والإسبرين وغيرها من المسكنات.

    أما الدكتورة سلوى من جامعة حلوان، فقد جاءت بثلاثين شخصاً من الذين يصلون التراويح، وثلاثين آخرين ممن لا يصلون التراويح، وأثبتت أن الثلاثين الذين يصلون التراويح ارتفعت عندهم الكفاءة الروحية لعضلات القلب، مع ليونة في جميع المفاصل، واختفاء آلام الروماتيزم من كل مفاصل الجسد.

    عدد ركعات صلاة التراويح

    فالمطلوب من المسلم أن يلتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، وأن يقتدي به تمام الاقتداء، فقد كان لا يزيد في رمضان وغيره عن إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وتجوز الزيادة على ذلك العدد.

    وكانت صلاة التراويح عند الصحابة رضوان الله عليهم نموذجاً للكيف لا الكم كما قال تميم الداري : كنا نقرأ بالمئين، -يعني: في الركعة الواحدة-، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام -يعني: عندما تمل أرجلهم من طول الصلاة- وما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر؛ خشيت أن يفوتنا الفلاح، أي: السحور.

    يعني: كانوا يصلون إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، وكانت تستغرق الليل إلى قبيل الفجر.

    فمن أراد أن يكون سنياً فعليه أن يأتي بأكمل الهدي فيصلي في الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة إلى قبيل الفجر.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وكان تكثير الركعات عوضاً عن طول القيام، وهو الذي قال به جمهور أهل العلم.

    وقال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين : صلاة الليل من النفل المطلق ولا حد لأكثره، وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

    فينبغي للمسلم الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليكثر من الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، فإنه يذهب من البدن أمراض الروماتيزم وغيرها من الأمراض.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله : (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله عز وجل من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك في كل ليلة).

    وهي ساعة التنزل الإلهي، وليست ساعة الإجابة التي تكون في آخر ساعة من عصر الجمعة، إنما هي ساعة إجابة في كل ليلة.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الساعات جوف الليل الآخر، أو جوف الليل الأخير).

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الخاسرين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)، والمقنطرون كما جاء في الحديث الآخر: (من لهم قنطار من الأجر، والقنطار من الأجر خير من الدنيا وما فيها)، وفي رواية: (أثقل في الميزان من جبل أحد)، فإما أن تكون من الغافلين الذين أخذوا الطين، وإما أن تكون من المقنطرين.

    أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

    قال الحافظ ابن حجر : آيات جزء عم وتبارك ما يقارب ألف آية، فمن قام الليل بهذين الجزأين كتب من المقنطرين ممن لهم قنطار من الأجر عند الله تبارك وتعالى.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك إلى ثلاثة) وفي رواية: (ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم)، والحديث الآخر: (ومن ضحك الله إليه فلا حساب عليه)، وهؤلاء الثلاثة هم: رجل انهزم أصحابه في المعركة فقاتل بنفسه حتى فتح الله عليه وعلى أصحابه، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر بنفسه من أجلي.

    ورجل عنده فراش لين وزوجة حسناء ولو شاء أن يرقد لرقد، فيدع فراشه ويصلي من الليل، ورجل كان في سفر هو وأصحابه وطال قيامهم حتى تمنوا أن لو تمس جلودهم الأرض، فناموا جميعاً، فقام يحرسهم ويصلي لله تعالى إلى أن استيقظوا.

    وممن يضحك الله إليهم: الذين يقومون الليل ويتهجدون لله عز وجل.

    تتجافى جنوبهم عن لذيذ المضاجعِ

    كلهم بين خائف مستجير وقامع

    تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع

    واستهلت دموعهم بانصباب المدامع

    ورأوا أنجم الدجى طالعاً بعد طالع

    قيل للحسن البصري : ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجهوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.

    فالذين يواظبون على صلاة الفجر ترى وجوههم نيرة، فما بالك بالذي يواظب على صلاة الليل؟

    فالشيخ صفوت نور الدين ، والشيخ الأستاذ عبد العظيم ، والشيخ: أبو بكر الجزائري وجوههم نيرة؛ لأن لهم حظاً مع الله عز وجل، وكذلك سريرة صالحة مع الله عز وجل.

    وكان محمد بن سيرين إذا دخل المسجد سَبّح الناس ربهم؛ لما على وجهه من النور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين رُءوا ذُكر الله تعالى برؤيتهم).

    والحافظ عبد الغني المقدسي كان إذا خرج من بيته اصطف الناس على جنبات الطريق للنظر إلى محياه، وبات معه رجل ممن يعبد الشمس فلما رأى صلاته من الليل وبكاءه، زفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره، فقد أثرت صلاة عبد الغني المقدسي في هذا الرجل فأسلم بسبب صلاة الليل.

    فانظر إلى حال من لهم حال مع الله تبارك وتعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت الليل فصلت ثم أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)، وفي حديث آخر: (فإن قاما من ليلتهما هذه كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

    و صلة بن أشيم العدوي لما تزوج السيدة معاذة العدوية تلميذة السيدة عائشة رضي الله عنها، ففي ليلة البناء أدخله ابن أخيه بيتاً حاراً، ثم أدخله بيتاً مطيباً، ثم بعد ذلك أدخلوا إليه معاذة ، فقام يصلي صلاة الليل حتى الصباح، وقامت هي تصلي خلفه، فعاتبه ابن أخيه في اليوم الثاني فقال له: يا عماه! في ليلة عرسك تصلي إلى الصباح! قال: وماذا أصنع يا ابن أخي، إنك أدخلتني بيتاً حاراً فذكرتني فيه بالنار، ثم أدخلتني بيتاً مطيباً فذكرتني فيه بالجنة، فلم يزل خلدي فيهما إلى الصباح.

    ورياح القيسي لما تزوج ذؤابة العابدة تناوم في ليلة البناء يريد أن يختبر صلاة زوجه، فلما كان ربع الليل الأول قالت: يا رياح ! قم فقد مضى ربع الليل الأول، فقال: أقم ولم يقم، فلما كان ربع الليل الثاني، قالت: يا رياح قم، قد مضى ربع الليل الثاني، قال: أقوم ولم يقم، فما زال كذلك إلى صلاة الفجر، فلما كان عند الفجر قام يصلي الفجر في جماعة، فقالت: ليت شعري من غرني بك يا رياح ، لأنه ما صلى إلا الفجر فقط في جماعة.

    وكانت زوجة محمد بن حبيب العجمي توقظه لصلاة الليل، وتقول له: قم يا سيدي! فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، والطريق طويل، والزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد وصلت إلى الجنة ونحن قد بقينا.

    وكانت زوج أحمد بن أبي الحواري : رابعة بنت إسماعيل الشامية توقظ زوجها لصلاة الليل، فكان يقول: والله! إن قلبي ليرق بالنظر إلى وجه زوجتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما أرى عليها من أثر التهجد والخشوع وآثار الصلاة.

    والنبي صلى الله عليه وسلم ربما قام الليل بآية حتى يصبح، وقام الليل حتى تفطرت قدماه، أي: تشققت قدماه من طول القيام، فتقول السيدة عائشة : (يا رسول الله! أتفعل هكذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً).

    1.   

    تهجد الصحابة

    إن ذكر الصالحين يطيب المجالس، والحديث عن عباد السلف وعلمائهم ومجاهديهم مما يحلو به الكلام، ففاروق الإسلام عمر بن الخطاب لما مات تزوج عثمان بن العاص -وكان جاراً له- إحدى زوجات عمر ، وقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر .

    فسيدنا عمر رضي الله عنه كان في وجهه خطان أسودان من كثرة الدموع من خشية الله.

    لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها

    قام الليل بآية فما زال يرددها ويبكي حتى أغمي عليه، فمرض من جراء هذه الآية حتى عاده الصحابة شهراً، وكان ينعس وهو قائم بعد توليه الخلافة، فقالوا له: يا أمير المؤمنين ! ألا تنام؟ فقال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله. لسان حاله يقول:

    لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى

    لو تفرغت لاستطابة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا

    وكذلك كانت ابنته أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها، ذكر الإمام الحافظ ابن حجر في كتاب الإصابة بسند حسنه هو والشيخ الألباني عليه رحمة الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر ذات يوم، فنثر عمر التراب على وجهه، وقال: ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعد هذا؟ فنزل جبريل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة ؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).

    وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويزرع إلا في منابته النخل

    فالكلام عن الصحابة أزكى الناس على ظهر الأرض ذو شجون، فنعال الصحابة أو قلامة أظفارهم لو كانت في مياه سوداء مليون سنة لخرجت منها وهي أنظف من قلوب ووجوه الذين ينتقصون فيهم، فقد كان الصحابة قمماً عالية، فسيدنا عثمان بن عفان لما دخلت عليه زوجته نائلة وقد قتلوه، قالت: قتلتموه وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة.

    تعني: أنه قرأ القرآن كله في ركعة واحدة. قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عن هذه الرواية: إسنادها صحيح.

    والعلماء الذين احتجوا بجواز صلاة الوتر بركعة واحدة احتجوا بفعل سيدنا عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير؛ فإنهم ختموا القرآن الكريم في ركعة واحدة في الكعبة.

    ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً

    وفيه نزل قول الله عز وجل: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا [الزمر:9].

    وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كان تحت عينيه مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان يصلي نصف الليل ونصفه الآخر يبكي، ويكثر في النشيج، ويردد قول الله تعالى إلى أن يصبح: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].

    و أبو هريرة راوية الإسلام تناوب قيام الليل هو وزوجته وخادمه، فكان يقوم ثلثاً ثم ينام، وتقوم زوجته ثلثاً ثم تنام، ويقوم خادمه ثلثاً. فإذا قام هذا نام هذا.

    وكان يسبح بعد صلاة الصبح اثنتي عشرة ألف تسبيحة، أي: أن له اثنتي عشرة ألف نخلة غرست في الجنة، وكان يقول: إنما أسبح الله بقدر ذنبي، وفي رواية: بقدر ديتي.

    وسيدنا تميم الداري الصحابي الذي تفرد برؤية الجساسة، كان بعض الشباب من أبناء الصحابة يقولون عنه: أدركناه شيخناً كبيراً وما كنا نستطيع أن نصلي وراءه صلاة الليل أبداً؛ لطول صلاته، لذلك أجرى الله عز وجل الكرامات على يديه، فقد هبت نار عظيمة في أيام خلافة سيدنا عمر بن الخطاب فقال: قم لها يا تميم ، قال تميم : ومن أنا؟ -تواضعاً منه- فاستحلفه بالله أن يقوم، فأومأ بيده هكذا حتى أخرجها خارج المدينة وأدخلها إلى مغارة أو كهف، فقال سيدنا عمر : ليس من سمع كمن رأى، لمثل هذا كنا نحبك يا أبا رقية .

    وسيدنا أبو ريحانة الصحابي الجليل قفل عائداً من الغزو فأعدت له زوجه الطعام بالليل، فأكل ثم قام إلى مصلاه إلى الصباح، فعاتبته زوجه، فقالت: يا أبا ريحانة : غزوت فأطلت الغزو ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: لو خطرتي لي على بال لكان لك فيّ نصيب.

    قالت: يرحمك الله! ومن الذي شغلك عنا؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها.

    ولقد غزى سيدنا أبو ريحانة مع الصحابة في البحر فسقطت إبرته إلى البحر، فقال: أقسمت عليك يا رب إلا أعدت إلي إبرتي، فعادت إليه.

    وسيدنا شداد بن أوس : كان إذا دخل إلى فراشه فكأنما هو حبة مقلاة من كثرة التقلب، يقول: اللهم إن النار منعتني النوم، فلا يزال يصلي إلى الصبح.

    ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم للنفقة في غزوة تبوك رجع أبو ضمضم الأنصاري إلى بيته، وكان فقيراً لم يكن معه شيء، فقام يصلي من الليل ثم قال: اللهم إني أتصدق على كل مسلم ظلمني في مالي أو جسدي أو عرضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من المتصدق بعرضه البارحة؟ ليقم، فقام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! لقد قبلت صدقتك في الزكاة المتقبلة).

    1.   

    تهجد التابعين

    وكان مسروق بن عبد الرحمن بن الأجدع يقوم من الليل، وكانت زوجته تبكي عليه رحمة مما يصنع بنفسه، فقد كان يصلي وإن رجلاه لمنتفختان من طول القيام، وما كان يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير.

    وكان أصحاب الربيع بن خثيم يعرفون أنه قام الليل ولم ينم بجمته، فإذا أتى إلى الصباح يقولون: والله إن جمة الربيع لتخبركم أنه لم يتوسدها الليلة، فإنها نفس الشعر الذي فارقناه في صلاة العشاء.

    و حسان بن أبي سنان تقول عنه زوجه: كان يأتي إلى فراشي فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني قد نمت قام وسل نفسه إلى صلاة الليل.

    و منصور بن المعتمر : كان يقوم الليل إلى الصباح فوق سطح منزله، فلما مات قالت فتاة لأمها: يا أماه! المشحب الذي كان على سطح جارنا ما لي لم أره الليلة؟ فقالت: قد مضى إلى ربه.

    والإمام الأوزاعي : بات يوماً عند جاره، فلما خرج من البيت رأت زوجة صاحب البيت بللاً في مصلى الأوزاعي ، فعاتبت زوجها، وقالت له: ثكلتك أمك! تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ، فقال: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما هذا من أثر دموع الشيخ ليلاً.

    نزف البكاء دموع عينك باستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار

    من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعارُ

    وعبد الرحمن بن مهدي يقول: ما صحبت رجلاً من الناس أرق من سفيان الثوري ، كنت أرمقه الليلة بعد الليلة ويقوم من نومه فزعاً ويقول: اللهم لو كان لي عذر في التخلي عن الناس ما أقمت مع الناس طرفة عين، ومتى الخلاص من النار؟ اللهم إن كلاً يغدو ويروح وإن حاجة سفيان أن تغفر له ذنبه.

    و شعبة بن الحجاج ، يبس جلده على عظمه من كثرة العبادة.

    وسيدنا أسيد بن حضير صحابي جليل، بينما هو في مربضه ليلاً يصلي ويقرأ بسورة البقرة، وكانت فرسه مربوطة بجواره، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فكان إذا قرأ جالت الفرس، فإذا سكت سكنت، فإذا قرأ جالت، فخاف على ابنه، فأمسك عن القراءة، ثم نظر إلى السماء فإذا فيها ظل كأمثال المصابيح، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالقصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ يا ابن حضير ، فلقد أتيت مزماراً من مزامير داود، قال: يا رسول الله كان ابني يحيى قريباً منها فخشيت أن تطأه الفرس بحافرها، فأمسكت عن القراءة، ثم سنظرت إلى السماء فإذا فيها أمثال الظلة فيها أمثال المصابيح، قال: أتدري ما ذاك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: تلك السكينة دنت لقراءتك)، وفي رواية: (تلك الملائكة دنت لقراءتك ولو ظللت تقرأ لرأيت منها الأعاجيب)، وفي رواية: (ولو ظللت تقرأ لاستمرت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم)، فقد كانت بيوتهم بيوت النور.

    وسيدنا ثابت بن قيس رضي الله عنه كان الصحابة يمرون بالليل على داره ويقولون: أما تنظرون إلى دار ثابت بن قيس إنها لتبهر بمصابيح منذ الليل.

    وسيدنا محمد بن سيرين يقول: من يدلني على بسام بالنهار بكاء بالليل وأنا أدعو له. فقد كان كثير التبسم للناس، فإذا أوى إلى الفراش فكأنه قتل أهل القرية جميعاً.

    قصص المتهجدات من النساء

    وكانت حفصة بنت سيرين إذا قامت إلى صلاة الليل لبست كفنها، فربما انطفأ مصباح البيت فيوقد لها مصباح آخر، وجلست في مصلاها اثنتا عشرة سنة وما خرجت إلا لقائلة، أو لحاجة زوج.

    و أم الدرداء الصغرى كانت مع نساء متعففات معها يقمن الليل، فما يركعن الركعة الأولى إلا بعد قراءة سورة الأنعام، وإن أرجلهن لمنتفخات من أثر القيام.

    وكانت منيفة العابدة إذا قامت إلى صلاتها من الليل تقول: بخ بخ! يا نفس قد جاء سرور المؤمن، فإذا قامت إلى صلاتها تقول:

    لا تأنسن بمن توحشك نظرته فتمنعن من التذكار في الظلم

    واجهد وكد وكن في الليل ذا شذم يسقيك كأس وداد العز والكرم

    فإذا أسفر الصباح بكت وقالت: واحرباه! واسلباه! ذهب الظلام بأنسه ليت الظلام بأنسه يتجدد.

    وعلي بن بكار عَمِيَ من طول البكاء، وكان يقول: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا أذان الفجر لأنه يقطع علي الصلاة مع الله عز وجل.

    أخي قد قيد القيد قدميك

    وغل الإبعاد يديك

    أفما لك عين تبكي عليك؟

    دخل أحمد بن أبي الحواري على أبي سليمان الداراني فوجده يبكي في وقت السحر، قال: ما يبكيك يا أبا سليمان ؟! قال: وكيف لا أبكي وإنه إذا كان مثل هذا الوقت من الليل قام العابدون إلى محاريبهم، وتقطرت دموعهم على خدودهم، وأشرف الجليل من السماء وقال: بعيني من تلذذ بذكري واستراح لأنسي، لما لا تنادي فيهم يا جبريل ما هذا البكاء، هل رأيتم حبيباً يعذب أحبابه، أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنهم الليل تملقوا إليّ بالدعاء؟ فبي حلفت: إن وردوا عليّ يوم القيامة لأكشفنّ لهم عن وجهي الجميل حتى ينظروا إليّ وأنظر إليهم.

    وقال أبو سليمان الداراني : نمت ذات ليلة عن وردي من صلاة الليل، فإذا أنا بحوراء من أهل الجنة تأتيني مناماً وتقول لي: أتنام والملك يقظان؟ أتنام وأنا أربى لك في الخدور منذُ آلاف الأعوام؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، وأنشدته شعراً حفظ منه:

    أتطلب مثلي وعني تنام؟ ونوم المحبين عنا حرام

    لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه القيام

    يعني: أبقاه قيام الليل عظماً على لحم.

    1.   

    المجاهدون المتهجدون

    وكل من له باع في الجهاد كان كثير التهجد، فـمحمد الفاتح : حين فتح القسطنطينية غدا يتهجد طيلة الليل مع جنوده.

    وكذلك العلاء بن الحضرمي فاتح بلاد ماردين.

    و نور الدين محمود زنكي بطل موقعة حارم الذي قتل من الصليبيين عشرة آلاف، قال عنه ابن الأثير أنه كان مواظباً على صلاة الليل، وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون فقد قامت ذات ليلة غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، فأمر من يوقظ الناس لصلاة الليل.

    ولما مات عنها نور الدين تزوجها صلاح الدين من بعده.

    وأيام أن أخذ الفرنج القدس، دخل أحد السقاة من المسلمين القدس فسمع الفرنج يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون: نور الدين محمود زنكي - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه بين يدي مولاه ليلاً، فلابد أن ربه ناصره علينا.

    والقاضي ابن الشداد قاضي صلاح الدين الأيوبي يقول: وفي حصار عكة كنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فإذا جن الليل علا على سجادته تتقاطر دموعه على وجنتيه وهو يقول في سجوده: إلهي! قد انقطعت الأسباب الأرضية عن نصرة دينك وليس لي إلا الإخلاد إلى جنابك، فيأتيه خبر النصر على الأعداء.

    فإن سهام الليل لا تخطئ وسل الله عز وجل أن يرفع الغمة عن بلاد المسلمين.

    اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم، بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، اللهم صل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

    اللهم انصر المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم احم ديارهم واحفظ أموالهم وأعراضهم، واحقن دماءهم، وأرنا في الصليبيين واليهود ودول الكفر آية، إنهم لن يعجزوك فخذهم أخذ عزيز مقتدر.

    اللهم ارحم المسلمين واكس عاريهم، واشف مرضاهم وسدد رميهم، وأرنا في الكافرين والصليبيين آية.

    اللهم قو شوكة المسلمين، وأقبل بشبابهم على كتابك وسنة نبيك، وانشر الدعوة إلى دينك في ربوع الأرض مشارقها ومغاربها، وأرنا وجه نبينا في رضوانك والجنة، واحشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين، وارفع الغمة عن المسلمين الصادقين، وفك أسرهم وفرج كربهم، واحم بيوتهم وأولادهم.

    اللهم ارزقنا الشهادة إن علمت صدقاً منا فارزقنا الشهادة في سبيلك، واختم أيامنا بالشهادة في سبيلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756169292