إسلام ويب

سلسلة شرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري [3]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم في شغف من العيش وشدة، وكذلك أصحابه الكرام، فصبروا وشكروا وسادوا الدنيا، وأما غيرهم فقد كان يبيت متخم البطن، شبعان ريان، ومع ذلك لا يزن في ميزان الحق والعظمة جناح بعوضة. فالمؤمن يعلم ما أعده الله له في الآخرة من النعيم العظيم المقيم فلا يتطلع إلى الدنيا وزينتها، ولا يربط قلبه بها. وأما الكافر فإنه لا يعرف ولا يرى غير هذه الدنيا، لذلك فهي أمنيته وسلوته، بها يفكر وإليها يسعى ليل نهار.

    1.   

    شرح حديث أبي هريرة عندما كان يغمى عليه من شدة الجوع

    الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فنستأنف بحمد الله تعالى التعليق على كتاب الرقاق من صحيح البخاري رحمه الله تعالى، وكما جرت العادة سيقرأ أخوكم، ثم نعلق إن شاء الله تعليقاً موجزاً على الحديث.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا.

    عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ، ما سألته إلا ليشبعني ، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ، ثم قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله ! قال: الحق ، ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن ، فأذن لي ، فدخل فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ، ولا إلى أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة؛ أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا ، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح ، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب. فشربت فما زال يقول: اشرب. حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً . قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة).

    وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزق آل محمد قوتاً) ].

    أراد المصنف بهذين الحديثين المتتابعين أن يبين كيف كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العيش، وما كانوا فيه من شظف العيش صلى الله على نبيه ورضي الله عن أصحابه.

    والحديث الأول تحدث فيه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه حين ناداه النبي صلى الله عليه وسلم وسماه بـأبي هر ، ومناداة الإنسان وتكنيته وترغيبه بالشيء المتلبس به أمر جاء به القرآن، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]، وهذا ليس اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه نداء من الله جل وعلا لنبيه على الحالة التي كان متصفاً بها صلوات الله وسلامه عليه.

    ومنه أيضاً قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، فإنه لما تدثر صلى الله عليه وسلم في ثيابه ناداه ربه جل وعلا بالحال التي هو متلبس بها، وهذا من الهدي القرآني، وقد أخذه النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم الله جل وعلا إياه، فكان يستعمله مع أصحابه، فقال لـعلي رضي الله عنه وأرضاه: (قم يا أبا تراب !) .

    وذلك لما كان ملتصقاً بالتراب وقد نام عليه.

    وقال عليه الصلاة والسلام لـحذيفة في يوم الخندق: (قم يا نومان)؛ لأنه كان نائماً، وأبو هريرة وجد في طريقه هرة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحملها، فلقبه النبي صلى الله عليه وسلم أو كناه بـأبي هر ، كما هو ظاهر الحديث.

    وهذا الموقف أحد الأيام التي عاشها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه في المدينة، وهو مهاجر إليها قادم من دوس المنطقة والمحافظة الموجودة على مقربة من محافظة الباحة اليوم، فصار ليس له أهل ولا عشيرة في المدينة، فأصابه الجوع، فلما أصابه الجوع استحيا أن يخبر الناس أنه جائع، فأراد أن يعرض تعريضاً؛ ليحفظ على ماء وجهه، فتعرض في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ حتى يشعرهم أنه يريد أن يسألهم، وهو إنما يريد أن يذهبوا به إلى البيت ليطعموه، فقال قبلها يصور موقفه وحالة الجوع التي تلبس بها:

    إني على إحدى حالتين: إما أن ألصق كبدي على الأرض؛ رجاء أن يذهب الجوع ويخف عني.

    والحالة الثانية: أن يضع الحجر على البطن، وهذه هي عادة كانت عند أهل الحجاز قديماً، فيأتون للحجر على هيئة الكف المرصوف وتكون أشبه بالشيء الأملس، وأشبه بهيئة الكف، وكلما طال كان أحسن، فيضعونه على بطونهم، ثم يربطون عليه، حتى إذا أصابهم جوع وبلغ منهم مبلغاً لا يتثنون، حتى لا يراهم الرائي فيظن أن بهم سقماً أو شدة جوع، فينتصب البطن، فينتصب مع البطن الظهر، فمن يراهم من بعيد لا يشعر أن بهم جوعاً، فيكون هذا الحجر قائماً مقام صلب الظهر وشده، فأخذها أبو هريرة عنهم لما سكن المدينة، وصنعها رجاء أن يبقى ظهره صلباً، ورجاء أن يسكن جوعه إذا اجتمعت أطراف بطنه.

    فمر عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم ينتبها له، وخيرة الله لـأبي هريرة خير من خيرته لنفسه؛ لأن إطعام النبي عليه الصلاة والسلام له خير من إطعام أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما له، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فتبسم؛ لأنه عرف مراده، فلما عرف مراده قال: الحق، أي: طلب منه أن يلحق به، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دعاه إلى اللحوق إلا أن أبا هريرة عندما وصل إلى الدار استأذن، ففهم منها العلماء أن الإنسان وإن كان مدعواً من صاحب الدار يجب عليه أن يستأذن، فاستأذن، فلما ناداه النبي عليه الصلاة والسلام قال أبو هريرة رضي الله عنه مجيباً: (لبيك يا رسول الله!)، فأخذ منها العلماء جواز قول: لبيك ولو في غير مناسك الحج، والمراد بها إجابة المنادي، فكيف إذا كان المنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فلما دخل وجد النبي صلى الله عليه وسلم لبناً)، قال العلماء من أهل التفسير وغيرهم: إن الإنسان قد يشرق بأي شيء من المشروبات، فيغص بالماء وغيره، لكن لا يعلم أن أحداً غص أو شرق باللبن؛ لأن الله جل جلاله قال: سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66]، وهو رمز للفطرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام في رحلة المعراج: (قرب له إناءان: إناء فيه خمر وإناء فيه لبن، فاختار اللبن، فسمع جبريل أو منادياً يقول: هديت للفطرة)، فهو رمز للفطرة في حياتنا، ورمز للعلم في المنام.

    فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم لبناً تعجب؛ لأنه يعلم أنه لا لبن في البيت، فأُخبر أن هذا مما أهدي له عليه الصلاة والسلام، وقد كان يأتيه عليه الصلاة والسلام بعض الهدايا من جيرانه من الأنصار وغيرهم، ولم يكن يخلو من أحد حالين: إما أن يكون هدية وإما أن يكون صدقة، والنبي عليه الصلاة والسلام تحرم عليه وعلى آل بيته الصدقة، فلا يقبلها، فإذا جاءت الصدقة بعث بها إلى أهل الصفة، وهم فقراء أضياف الإسلام في ناحية المسجد، وإن كانت هدية أشركهم معه صلوات الله وسلامه عليه، أي: بمعنى طعم منها وأشرك أهل الصفة معهم، فلما سأل عن هذا اللبن أخبر من أهل بيته أنه هدية، فأمر أبا هر رضي الله عنه وأرضاه أن يذهب فيدعو أهل الصفة، فأساءه ذلك الأمر وقال: لكنه لم يكن من طاعة الله ورسوله بد، ساءه ذلك الأمر؛ لأن الإنسان مجبول أصلاً على حب نفسه، خاصة وأنه كان في حاجة ملحة إلى اللبن، واللبن إذ ذاك قليل، وقال: ما عسى أن يبلغ هذا اللبن من أولئك الأضياف، لكن هو امتثل لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فغدا إلى أهل الصفة فدعاهم، فما وقع من أبي هريرة رضي الله عنه أنه استأذن رغم أنه كان مدعواً، وكذلك أهل الصفة رضي الله عنهم وأرضاهم فاستأذنوا فدخلوا، فلما دخلوا قام أبو هريرة مقام الخادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دعاهم، فأصبح أقرب خصيصة إليه، فأمره أن يطوف بالقدح المملوء لبناً على هؤلاء الأضياف، فكان أبو هريرة تأدباً مع أضياف رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي أحدهم الإناء، ثم يأخذه منه بعد أن يشرب، وبنفسه يعطيه للآخر، ثم يقف عند رأسه حتى ينتهي، ثم يأخذه منه، ثم يعطيه للذي بعده؛ لأن هؤلاء وإن كانوا صحابة دون النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا كثيري التطواف على النبي عليه الصلاة والسلام؛ إلا أنهم يبقون أضيافاً، وإكرام الضيف جاء به الدين، وإكرام الضيف بالقول وبطرف العين وبالنظر وبالعبارات أهم من أكرامه طعاماً، والعرب تقول:

    وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما لي شيمة غيرها تشبه العبد

    فالأحرار من الرجال لا يحتفون بأحد أكثر من احتفائهم لأضيافهم، والأحرار من الرجال كذلك، كما مر معنا في قضية أبي هريرة أنه لم يعرض بقضيته أنه جائع، وإنما أخذ كأنه يسأل؛ لعل النبي أو غيره يفهم أنه يحتاج، وكذلك الأحرار من الرجال -وهذا الطائفة الثالثة العالية- إذا عُرِّض أمامهم بالحاجة فهموها دون أن يصرح صاحبها؛ لأنه إذا صرح الذي أمامك أصبح لزاماً أن تعطيه، ولم يعد لك عليه منّة، فرجل أراق ماء وجهه بين يديك لم يبق لك شيء، ولخير دهرك أن ترى مسئولاً، لكن إنساناً لم يرق ماء وجهه بين يديك فهذا الذي إذا أعطيته كنت صاحب منة حقة عليه.

    سأشكر عمراً ما تراخت منيتي أياديَ لم تمنن وإن هي جلّتِ

    فتىً غير محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّتِ

    رأى خلة من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تولّتِ

    والمقصود من هذا أن هؤلاء الأحرار ثلاثة: الأضياف الذين هم أصحاب الصفة، وأبو هريرة في طريق التعامل مع الأضياف، والنبي صلى الله عليه وسلم في طريقة قبوله لعرض أبي هريرة لما فهم عليه الصلاة والسلام مقصد أبي هريرة ومراده، فأخذ أبو هريرة يطوف بالقدح حتى انتهوا وشربوا جميعاً، وما زال القدح ممتلئاً، وهذا من بركة دعائه صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته التي هي عديدة كثيرة، فقد سبح الحصى بين يديه، ونبع الماء من بين إصبعيه، وسلم الحجر عليه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه.

    ثم ما بقي إلا اثنان: النبي عليه الصلاة والسلام وأبو هريرة ، والنبي أفضل الجميع، والدار داره، فقال: (يا أبا هريرة ! لم يبق إلا أنا وأنت)، وأبو هريرة يعلم أنه لم يبق إلا هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذه ملاطفة في الخطاب من هذا النبي الكريم مع هذا الصحابي الجليل، قال: (اشرب يا أبا هريرة ! فشرب)، فأراد أن يبقي شيئاً فأمره ثانية وثالثة، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً)، ومن هنا أخذ العلماء جواز أن يشبع الإنسان من الطعام.

    والحق أن المسألة فيها تفصيل: فإن كان فيه حاجة أو سابقة لجوع سابغ كثير كحال أبي هريرة له أن يشبع حتى النهاية، وأما إن كان الأمر غير بعيد ولا زال قائم من طعام، وسيكون هناك طعام آخر فالأفضل والأصل ألا يشبع، وألا يعوّد نفسه على ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وأعوذ بك من نفس لا تشبع)، فمن كان حاله كحال أبي هريرة فلا بأس أن يفعل ذلك.

    ثم بقيت الفضلة؛ فضلة ما شربه عشرات الصحابة مع أبي هريرة فشربها نبينا صلى الله عليه وسلم، فالعظيم من الرجال لا يمكن أن تزيل عظمته أمثال هذه الأحوال، فمن يشرف بما في قلبه، ومن يشرف بالإيمان العظيم الذي يحمله، والمبادئ الربانية التي يدعو إليها، والقيم الجليلة التي يتعامل مع الناس بها، فهذا لا يمكن أن يغير منه أن يشرب أول القوم أو آخر القوم، ومن كانت هيئته صورية وهي احتفاء الناس به؛ إما رجاء ديناره أو خوفاً من سلطانه فهذا إذا ذهب هذا الذي يتعلق به ذهبت كل هيئته وصورته العظيمة.

    ونبينا صلى الله عليه وسلم محتفىً به أصلاً في الملأ الأعلى صلوات الله وسلامه عليه، فهو عند ربه خاتم النبيين، فيقول: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته)، فلا يضره صلوات الله وسلامه عليه أن يشرب أول القوم أو أن يشرب آخر القوم، ومن الأدب أنهم في بيته وأضيافه وهو الذي دعاهم، فلا يظهر عليهم علوه ولا سلطانه، وإنما أمر أبا هريرة أن يطوف بالإناء ففعل، ثم شرب أبو هريرة ؛ لأنه هو المقصود الأول، ثم بقيت الفضلة فشرب منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم المرء من هذا كله على أي حال كانت حياته صلوات الله وسلامه عليه.

    تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إن ثلاثة أهلة تمر في الشهرين) تعني: هلال أول الشهر، وهلال الشهر الانتقالي، وهلال الشهر الذي في بداية الشهر الثالث، (ولا توقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقيل لها: يا أم المؤمنين! فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان -من باب التغليب-: التمر والماء).

    فهذه الحالة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم لا تمنع أن تأتيه أحوال أخرى؛ لأن أهم قضية الشمولية، فتأتيه أحوال أحياناً يطعم فيها أكثر من ذلك، كما ذبح له أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه جدياً، فقال عليه الصلاة والسلام: (إياك والحلوب)، فجلس صلى الله عليه وسلم، وصنع هذا في أكثر من مرة، لكنه كان هديه لا يتكلف مفقوداً ولا يرد موجوداً صلوات الله وسلامه عليه.

    والحديث الذي بعده قال فيه صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزق آل محمد قوتاً)، وفي رواية أخرى هي التي سنعتمدها قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)، والفرق بين الاثنتين أنه لو قلنا بحديث: (اللهم ارزق آل محمد قوتاً)، فهذه حال عارضة وحال مخصوصة، وكأنه يتكلم عن يوم واحد، بمعنى كأنه فقد القوت ذلك اليوم فهو يطلبه.

    وأما إذا قلنا: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) فهذا يعني الاستمرار والدوام، والقوت: هو ما يقوم به البدن وتكفى به الحاجة، فيسلم المرء به من آفات الفقر والغنى، ولا ريب أن للفقر والغنى آفات، يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: لو كان الفقر رجلاً لقتلته، والغنى كذلك له آفات، يقول الله جل وعلا: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]، ومن العباد من لا يصلحه إلا الفقر، ومن العباد من لا يصلحه إلا الغنى، والله جل وعلا رحيم بعباده، لكن هذه دعوة نبوية لآل بيته صلى الله عليه وسلم.

    وقلنا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) يعني: الاستمرار، ونظير هذا الحديث أو قريب منه في الدعاء العارض ما أخرجه مسلم في الصحيح وهو قريب من حديث أبي هريرة هذا، أن المقداد رضي الله عنه: (لما قدم المدينة كان معه صاحبان، فنزلوا أضيافاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فأراهم أعنز)، وهذا يدل على أن النبي عليه السلام لم يكن على وتيرة واحدة كما بينا، فقد كان لديه أعنز في تلك الحقبة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لهم: (اشربوا من هذه)، فكانوا يحلبون في إناء، فيأتي النبي في آخر الليل فيسلم عليهم تسليماً يسمعه اليقظان ولا يوقظ النائم، فتأدباً مع اليقظ يسلم، وخوفاً على النائم لا يرفع صوته، وهم الثلاثة يشربون قبل أن يناموا، ثم يضعون الإناء فيدخل صلى الله عليه وسلم المسجد فيصلي ما كتب الله له أن يصلي، ثم يأتي فيشرب ما أ بقوا له، حتى كانت ذات ليلة شرب صاحبا المقداد رضي الله عنه وأرضاه وناما وشرب هو ولم ينم، وكان شديد الجوع، فقال: ما تنفع هذه الشربة النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي يأتي الأنصار فيغدقون عليه، لكن تنفعني أنا ولا تضر النبي عليه الصلاة والسلام، فشربها ولم يبق في الإناء شيئاً، ثم أصابه الندم على ما صنع، فجاء صلى الله عليه وسلم فصلى ما كتب الله له أن يصلي، ثم أتى إلى الإناء ليشرب منه، فلم يجد فيه شيئاً، فرفع يديه يدعو، قال المقدام : قلت: يا ويلاه ما هذا الذي صنعت؟ فيدعو عليك نبي الله فتهلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أطعم من يطعمني واسق من يسقيني)، فـالمقداد عندما سمعها أصبح همه أن يدخل في هذه الدعوة: أن يطعم النبي أو يسقيه فيدخل في الدعوة، فذهب صلى الله عليه وسلم عائداً إلى المسجد، قال المقداد : فذهبت إلى الأعنز وحددت الشفرة؛ لأنه يريد أن يدخل في قوله: (اللهم أطعم من يطعمني)، فلما دخل إلى الأعنز وهم بأن يذبح الأولى منها وجدها حافل، أي: مليئة الضرع باللبن وهو لتوه حلب منها، فعمد إلى الأخرى والتي بعدها فإذا هن كلهن حفل، فامتنع عن الذبح، قال: فعمدت إلى إناء كبير لا يطمع آل محمد صلى الله عليه وسلم أن يملئوه، أي: إناء موجود في ركن البيت لم يدر بخلدهم أن يملئوه أبداً، لكنه رأى الأضرع كلها ملأى، قال: فملأته ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم عنه شيئاً، (فلما أتاه به ممتلئ قال: اشرب يا رسول الله! قال: أشربتم؟)؛ لأنه وجده ممتلئاً، فلم يستطع أن يقول: لا ولم يستطع أن يقول: نعم؛ لأنه لو قال: نعم، لقال: ما الذي جعل الإناء ممتلئاً؟ ولو قال: لا، لأمره أن يشرب، وهو قد شرب من قبل، (فرددها ثلاثاً وهو لا يزيد على أن يقول: اشرب يا رسول الله! فلما شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم استلقى المقداد على ظهره يضحك، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم أن شيئاً قد حدث، فقال له: ما هذه بأول سوءاتك يا مقداد ! ثم قال: يا نبي الله! إن الأمر كذا وكذا وكذا وكذا)، فحدث بالأمر، وقد ضحك لانقلاب الحال، فبينما هو خائف وجل أن تصيبه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو بقدر الله ورحمته يدخل في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

    ثم أخبر المقداد النبي ببركة دعوته وكيف امتلأ ضرع كل شاة لبناً، فأراد النبي أن يظهر تواضعه فقال: (هذه رحمة أرادها الله جل وعلا)، ولم يقل: إنه ببركة دعائي أو ما إلى ذلك، فهذه رحمة يضعها الله جل وعلا حيث يشاء، ثم قال صلى الله عليه وسلم معاتباً للمقداد : (هلا أخبرتني حتى نوقظ صاحبيك؟)، فقال فرحاً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (يا نبي الله! لا أبالي وقد شربت معك ألا يشرب معك أحد من الناس)، أي: ما دمت قد حصلت على هذه الجائزة العظيمة ودخلت في الدعوة النبوية، وانقلب حالي من الكدر إلى الفرح والسرور، فلا أبالي بعد ذلك ماذا أصاب الناس، وليس المقصود من هذا الأنانية، لكن أحياناً شدة الفرح بالشيء تنسيك خلافه.

    فهذا بعض حياة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ولا ريب أن الله قد أعد لهذا النبي الكريم يوم القيامة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما أعد لغيره من الصالحين، لكن أعظم منازل الجنة وهي الوسيلة إنما هي له صلوات الله وسلامه عليه، وقد وعده ربه من قبل بقوله: وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4] جمع الله لي ولكم خيري الدنيا والآخرة.

    1.   

    شرح حديث: (لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن ينجى أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا).

    عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل) ].

    نبدأ بالحديث الثاني؛ حتى نعلم سبب ارتباطه بالحديث الأول، فإذا جمعت المتنين وجدت أنه صلى الله عليه وسلم قال في المتن الأول: (القصد القصد)، وقال في الثاني: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)، والقصد فوق التفريط ودون الغلو، فإذا وقعت العبادة من العبد قصداً ليس فيها تفريط ولا غلو، فهذا يدفعه إلى عدم الإعياء والملل، فإذا لم يوجد الإعياء والملل وجد الاستمرار والمداومة، فهذا وجه الربط بين الحديثين، فقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، والمعنى الحرفي للحديث: أن العمل وإن كان مفضولاً فإنه يكون أحب إلى الله من العمل الفاضل إذا كان العمل الفاضل منقطعاً.

    وصورة ذلك في الحياة اليومية، فرجل يداوم على صلاة الليل، ويصلي ثلاث ركعات كل ليلة دون انقطاع، لا ريب أن عمله هذا أحب إلى الله من رجل يصلي تسعاً أو عشراً أو عشرين ركعة ما بين الليلة وليال أخرى، يعني: يصلي ليلة عشرين ثم ينقطع ما شاء الله له أن ينقطع، ثم يعود فيصلي إحدى عشرة ثم ينقطع فترة طويلة، ثم يعود فيصلي ثلاثين، أو ما أشبه ذلك، فكله عمل صالح، لكن الأول أحب وأقرب إلى الرب تبارك وتعالى بنص كلام رسولنا صلى الله عليه وسلم، هذا وجه الارتباط بين الحديثين.

    نعود إلى الحديث الأول:

    هذا الحديث ينجم عنه إشكال معرفي، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يخلص أحد منكم من النار بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وقد جاء في القرآن أن الله جل وعلا قال: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، فالآية أثبتت أن الجنة معلقة بالعمل، والحديث نفى العمل، فحاول الكثير من أهل العلم الجمع بينها ولا بد من الجمع قطعاً؛ لأن النبي لا يقول شيئاً متعارضاً، فذهب ابن الجوزي وغيره من العلماء إلى ذكر أسباب عدة سنذكر بعضها ثم نبين الأمر الصحيح وهو الأهم، قالوا: إن التوفيق للطاعات هو من رحمة الله. وخرجوها تخريجاً آخر فقالوا: إن منافع العبد لسيده، فما يصنعه العبد من أعمال صالحة هي أصلاً لله تبارك وتعالى، فرحمة الله جل وعلا بقبولها هي التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وهذه الأقوال ظاهرة الضعف لا تشفي غليلاً، والصواب أن يقال: إن المنفي في الحديث غير المثبت بالآية، فالحديث فيه نفي أن تكون الجنة عوضاً عن العمل، وأن تكون مقابل العمل، والآية تثبت أن العمل الصالح سبب في دخول الجنة، فالباء التي في الحديث باء العوض والمقابلة، وأما الباء التي في الآية فهي باء السبب، وسنخرج عن النص النبوي ونأتي بمثال في الدنيا حتى تتضح الصورة لك، فعندما تريد أن تذهب إلى البقال تشتري شيئاً، فتعطيه عشرة ريالات فيعطيك حاجتك، فهذه الحاجة ثمنها عشرة ريالات، فأصبحت العشرة مقابل الحاجة وعوضاً عنها، فتسمى معاوضة، وما البيع والشراء إلا معاوضة، وأما كون الجنة عوضاً عن العمل فلا؛ لأن الجنة أكبر من العمل، لكن السبب مسألة أخرى غير العوض، ومثال ذلك أن تأتي إلى إنسان بينك وبينه قرابة فتمنحه هديه أو مكافئة أو طعاماً، وهو لم يعطك شيئاً مقابل هذه الهدية، لكن كونه جاراً أو كونه قريباً سبب في أنك تهديه أو تكرمه، ففرق بين السبب والعوض، فالمثبت في الآية باء السببية، والمنفي في الحديث باء العوض، وقد نبه إلى هذا من العلماء ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة)، ونبه غيره، وهذا الأمر يتعلق بالصناعة النحوية أكثر من تعلقه بأي فن آخر من فنون العلم، ومن حيث الناحية العقدية فإن العمل بهذا التخريج في الحديث رد على طائفتين من الفرق الضالة، رد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان بعمله لا يستحق الجنة؛ لأنهم يرون أنه أصلاً مجبور على العمل، فالجنة عندهم ليست ثواباً.

    ورد على المعتزلة والقدرية الذين يقولون: إنه يجب على الله أن يدخلهم الجنة؛ لأنهم قدموا السبب، فأصبح هذا التخريج رد على طائفتين: على الجبرية وعلى القدرية والمعتزلة.

    لكن من حيث الجملة قال بعض الصالحين: إن المؤمن يدخل الجنة برحمة الله، وينال منزله فيها بسبب عمله الصالح، وهذا تخريج قريب من الأول، وهو جملة سياغته العلمية صحيحة إلى حد كبير، قال الله جل وعلا: أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43].

    ثم بين في الحديث أن: (النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغدو والرواح وشيء من الدلجة)، يصح ضم اللام ويصح فتحها، والغدو: هو السير في أول النهار.

    والرواح: هو السير في أول النصف الأول من الليل.

    والدلجة: هو السير في الليل عموماً.

    قال بعض أهل العلم: هذا فيه إشارة إلى طاعتين، وهما:

    الصيام وقيام الليل، فالصيام يستمر معك من أول النهار إلى آخر النهار وهو غروب الشمس، وأما قيام الليل فلا يمكن للإنسان أن يقوم الليل كله، تقول عائشة رضي الله عنها: (ولا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها)؛ ولهذا قال: (وشيء من الدلجة) أي: أن قيام الليل يكون في بعض الليل.

    وأما النهار فلا يمكن صيامه إلا إذا صامه الإنسان كاملاً، لكنه ليس محصوراً في هاتين الطاعتين والعبادتين فقط، وإنما هذا تقريب وإشارة كما نص أهل العلم من قبل، وإنما المراد أن يسعى الإنسان في طاعة الرب تبارك وتعالى مع التسديد والمقاربة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (القصد القصد)، وقد بينا ارتباط هذا الحديث بالحديث الذي بعده وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).

    1.   

    شرح حديث: (لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار) ].

    هذا الحديث النبوي فيه دعوة إلى أن يكون الإنسان في حال سيره إلى الله مابين الخوف والرجاء، وهذا هو المقصود الأسمى من الحديث، والسير بهذا المنوال يخرج به الإنسان من طائفتين ضلتا في هذا الباب، فالمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان شيء، فمن كان راجياً فقط وترك الخوف دخل في طائفة المرجئة، ومن أفرط في الخوف دخل في طائفة المعتزلة والخوارج الذين يرون أن مرتكب الكبيرة يكفر ويخلد في النار ما لم يتب قبل أن يموت، فالمؤمن لديه هداية وعقيدة وسطية حسنة، فيكون كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما بين الرجاء وما بين الخوف في سيره إلى الرب تبارك وتعالى، على أنه ينبغي أن يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لما يئس من رحمة الله جل وعلا)، فالنفي هنا لما يستقبل، وقد قال أهل العلم: إن النفي إذا تضمن المستقبل فمن باب أولى أن يتضمن الماضي، وقالوا: كون الكافر ييئس من دخول الجنة لأنه لا يعلم سعة رحمة الله، وعلم الكافر بسعة رحمة الله منتف قطعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم)، وهذا النفي للمستقبل، فمن باب أولى أن يجري على أحكام الماضي، وهذا الفهم الذي فهمه بعض العلماء أنا أتحرج من تبنيه، لكنني عموماً أقول: إن المقصود بالحديث: أن يحرص الإنسان على أن يسير في جانبي الخوف والرجاء، ويجعل كما قال الصالحون من قبل: محبة الله رأس الطائر، والجناح الأيمن الخوف من الله، والجناح الآخر الطمع في رحمة الله.

    قال الله جل وعلا : يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، وقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، وينبغي أن تعلم من حيث الجملة أن أقسام أهل القبلة ثلاثة: فائزون ومعذبون وناجون، وتحرير هذا:

    أن الفائزين ينقسمون إلى قسمين: المقربون وأصحاب اليمين، وهم قوم أتوا بأصول الإيمان وأحكموها، وأدوا الفرائض، وقاموا بالواجبات، وسابقوا في الطاعات، ثم اختلفت منزلة اليقين عندهم، فانقسموا إلى فريقين مقربين وأصحاب اليمين، وهؤلاء كلهم تحت مظلة ما يسمى بالفائزين، هؤلاء هم القسم الأول، جعلني الله وإياكم منهم. وهم المعنيون أصلاً في الثناء القرآني: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111]، فاجتنبوا الكبائر، ولم يصروا على الصغائر، ووقع منهم ما وقع من عظيم الطاعات وجلائل الإيمان، فنالوا الفوز، وينقسمون إلى قسمين في ذاتهم: مقربون وأصحاب يمين.

    القسم الثاني: المعذبون، وهم قوم مؤمنون موحدون، لكنهم جاءوا بكبائر ولم يتوبوا قبل الموت، فالأصل أنهم معذبون إن لم تتداركهم رحمة الله جل وعلا، لكن مآلهم أخيراً إلى الجنة؛ لأنهم موحدون.

    والثالث: هم الناجون، ونقصد بالناجين الناجين من النار، أو بتعبير أصح السالمون من العذاب، وهؤلاء ليس لهم طاعات، فيدخل فيهم المجانين، ومن ماتوا صغاراً، وأشباههم ممن لا يمكن وضع ضابط لهم، لكن وضع الضابط أن يقال: ليس لهم معرفة ولا حجود، ولم يقع منهم لا طاعة ولا معصية، بصرف النظر عن السبب، وقد يندرج فيها مثلاً أولاد الكفار، طفل أبواه كافران، مات وهو في الثانية أو في الثالثة وهو رضيع، فهذا لم يعرض عليه دين حتى يرده أو يقبله، ولم تعرض عليه ملة حتى يجحدها أو يقبلها، فهؤلاء نقول: الأصل أنهم ناجون من النار، ثم نتوقف في قضية الجنة.

    وقال بعض أهل العلم: وأمثال هؤلاء يصلح أن يكونوا من أهل الأعرف، ولا ريب أن قولنا: يصلح أن يكونوا من أهل الأعراف لا يعني الجزم؛ لأن من قواعد العلم أن الكلام في الغيب لا يعرف لا بذكاء ولا باستنباط ولا بأي شيء آخر، وإنما يعرف بالنص، فالغيب من الصعب التحدث فيه إلا بنص صريح صحيح عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس بين أيدينا هذا النص، والمقصود أن هذا هو التقسيم العام لأهل القبلة: ناجون ومعذبون وفائزون من قبل.

    لكن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [فاطر:32-33].

    قالوا وفي قول الله جل وعلا: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:33] هي واو الجماعة في (يدخلونها) وهل تعود على الثلاثة أو على الأخير منهم؟ بكل قال العلماء، لكن رجح شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه وبعض أهل العلم من قبل أنها تعود إلى الثلاثة، فإذا قلنا: إنها تعود إلى الثلاثة: إلى الظالم لنفسه وإلى المقتصد وإلى السابق بالخيرات فقد قال بعض أهل العلم هذه على هذا التفسير هي أرجى آية في كتاب الله جل وعلا، حتى قال بعض أهل العلم: إن واو الجماعة في قول الله جل وعلا: يَدْخُلُونَهَا [فاطر:33] تستحق أن يكتبها المؤمن بماء عينيه لا بحبر قلمه؛ لما فيها من ظهور الرحمة، وأن الله جل وعلا رحيم عفو كريم بعباده جل وعلا.

    ونقول كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إلا أن يتغمدني الله برحمته)، والله جل وعلا خلق أسباباً وجعل لها مسببات، وحتى التوفيق بالعمل الصالح وقيامك به هذا من رحمة الله جل وعلا بك، فغاية الأمر ينتهي إلى أن الإنسان يوفق إن كان قد حظي برحمة الله جل وعلا، وينبغي أن تعلم أنه لا يهلك على الله إلا هالك، وأنه لن يدخل النار أحد إلا وهو مستحق لها، وإلا فالله جل وعلا أرحم وأجل وأكرم من أن يعذب من لا يستحق العذاب.

    1.   

    شرح حديثي سهل بن سعد وأبي هريرة في حفظ اللسان

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لا بالاً يهوي بها في جهنم) ].

    إن الرابط بين الحديثين ظاهر، فالأول أعم والثاني أخص، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن)، الضمان: هو الوفاء، وهنا ذكر الضمان وأراد لازمه، أي: أراد القيام بالحق المترتب عليه، ومعنى الحق المترتب عليه: أن الله جل وعلا ذكر حقوقاً طالب بها عباده.

    قوله: (من يضمن لي ما بين لحييه) اللحيان: هما العظمان اللذان في جانبي الوجه، والمقصود بالحديث ما بينهما وهو اللسان، وضمان اللسان يكون في أن يتكلم فيه بما أمر به أن يتكلم فيه، ويكف عما حرم عنه، أو ما لا يعنيه، (كفى بالمرء أن يحدث بكل ما سمع)، (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

    وقد قال بعض أهل العلم كـابن بطال وغيره: إن أعظم الشرور والبلاء إنما تقع من اللسان والفرج، فمن حفظ لسانه إلا فيما أمر به، وحفظ فرجه إلا فيما أبيح له فهذا ضمن النبي صلى الله عليه وسلم له الجنة، ومن لم يتوق شر لسانه ولا شر فرجه -عياذاً بالله- فهذا وقع في المهالك، وقارب على الهلاك، وكاد أن يضيع.

    وأما الحديث الذي بعده فليس فيه ذكر الفرج، وإنما فيه ذكر الكلمة: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة)، والكلمة هنا ليست الكلمة ذات الحروف المعدودة، وإنما المقصود بالكلمة هنا كل ما أشعر بخير أو شر، سواء طال أو قصر، فكل قول فهم منه خير أو شر طال أو قصر فإنه يسمى كلمة، قال الله جل وعلا: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5] فقال: كلمة، والمقصود بالكلمة التي خرجت من أفواههم: زعمهم أن لله ولداً، فسماها الله جل وعلا كلمة، رغم أنها جملة ذات معنى كامل مفيد، فالكلمة تطلق على هذا وتطلق على هذا، والمقصود الأول.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله)، ولن يطلب العبد شيئاً أعظم من رضوان الله، والله يقول: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، (لا يلقي لها بالاً) أي: لم يدر في خاطره، ولم يجر على تفكيره أنه سيكون وراءها ثواب عظيم، فتكون هذه الكلمة سبباً في رضوان الله عليه.

    وعلى النقيض من ذلك قد يأتي الإنسان في مجلس فيتكلم بكلمة تكون سبباً في هلاكه، إلا أن الإمام ابن عبد البر المالكي المعروف صاحب (التمهيد) يقول: إن المقصود بالكلمة هنا هي الكلمة التي تقال عند سلطان جائر فيكون بسببها هلاك الناس، فهي التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي في النار)، وفي رواية عند مالك : (تهوي به في النار سبعين خريفاً)، فحصرها ابن عبد البر فيما يقال عند السلطان الجائر، ولو كان المتكلم لم يدر بخلده ولم يتوقع أن الضرر الذي سيصيب صاحبه المتضرر قد يصل إلى هذا الحد، بل قال بعضهم: حتى لو لم يهلك ذلك المتضرر من هذه الكلمة فإنه يدخل القائل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً لتهوي به في النار سبعين خريفاً).

    فهذا الحديث والذي بعده يجعل الإنسان ينبغي عليه أن يتقي الله جل وعلا فيما أعطاه من الجوارح، ويوم القيامة جوارح الإنسان في الدنيا تعينه إن عزم على خير أو عزم على شر؛ لأنها تبع لمن عقد في قلبه، وعلى ما جرى في لسانه، فإذا كان يوم القيامة وختم على اللسان فإن الجوارح بين يدي الله تستحيي من ربها، فلا تنتصر لصاحبها، قال الله جل وعلا: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

    وأخبر أن هؤلاء لم يكن يدور بخلدهم ولا في ظنهم أن هذه الجوارح تشهد عليهم، لكن هذه الجوارح إذا انفصلت عن صاحبها قلبياً، وانعقد لسانياً، ورأت جلالة الموقف بين يدي الله جل وعلا، تخلت عن صاحبها بالكلية؛ حتى تعلم ويستقر في قلبك أنه لا أحد أعظم من الله، فإن كان الأمر كذلك فكل أحد والاك أو واليته في غير الله فإنك تتبرأ منه؛ لأنك رضيت أو لم ترض لن تدوم موالاتكم بين يدي الله، فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وإنما يدخر المؤمن لنفسه بين يدي الله جل وعلا ما تثبت به القدم، وتقوم به الحجة، ويظهر به العذر، وتنال به الرحمة، ويصرف به العذاب، هذا الذي ينبغي أن يسعى المؤمن فيه قولاً أو فعلاً، (من يضمن لي ما بين لحييه) وهو اللسان، (وما بين رجليه) وهو الفرج، يقول الله جل وعلا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].

    وتأديب المرء نفسه، وقيامه بواجب الله جل وعلا الذي أمر به؛ خوفاً من لقاء الله، هو المقصود الأسمى من حياة المرء كلها، وهذا مقام رفيع عظيم في مقام العبودية للرب تبارك وتعالى، وقد مر معنا بالأمس عظمة لا إله إلا الله التي هي باعث العبودية الأول، فالإنسان إذا كان فيه باعث للعبودية فإنه يجعل من جوارحه ولسانه وقلبه من قبل تبعاً لما أمر الله جل وعلا به، فيتقرب إلى الله بما يحب جل وعلا ويرضاه، وينأى بنفسه عما حرمه الله جل وعلا.

    هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله في هذا المجلس المبارك، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ويلبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى، وصلى الله على محمد وعلى آله.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755985690