إسلام ويب

كيف تكون محدثاً؟للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ابتدأ الشيخ بذكر فضل وشرف علم الحديث.

    وذكر أن الحديث هو المصدر الكافي والينبوع الصافي للعقيدة, وأنه أمان من الوقوع في مزالق الاعتقاد.

    ثم تحدث عن كيفية دعوة أهل الحديث إلى الله، وعن أهميه عملهم بما يعلمون, وأهمية إكثارهم من النوافل والطاعات, بعدها نبّه على بعض الأشياء المهمة التي يجب مراعاتها مثل: ترك المعاصي, الإنفاق من العلم , أدب الخلاف ... إلخ.

    ثم أشاد في ختام الموضوع بمكانة علم الحديث والاتجاه العام إليه هذه الأيام، ثم أجاب الشيخ على بعض الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع.

    1.   

    فضل علم الحديث وأهله

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته؛ سلام الله عليكم يا أصحاب الحديث، ويا أهل الحديث، وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى ثم أشكر مدير هذه الدار، ثم أشكر هيئة التدريس، وأشكركم يا طلبة العلم.

    وأنا أشهد الله أني أحبكم فيه؛ أما الحب الأول فهو مشترك بين المسلم وأخيه؛ وهو الحب الذي يعيشه المسلم مع إخوانه المسلمين، وأما الحب الثاني الذي أشعر به في قلبي وأنا أدخل هذه الدار؛ فهو حب أهل الحديث، والسرور برؤيتهم والجلوس معهم، وأهل الحديث لهم مكانة في القلوب، ولهم جلالةٌ في النفوس.

    وسوف نتكلم على أهل الحديث، من هم أهل الحديث؟

    قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: إذا رأيت محدثاً، أو رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت صحابياً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وسئل الإمام أحمد؛ إمام أهل السنة والجماعة، من هي الطائفة المنصورة؟ قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فما أدري من هم.

    فأنا كنت بشغف الشوق إلى أن أزور هذه الدار، وكنت سعيداً يوم دخلت هذه الدار؛ لأنني أسمع عنها الذكر الحسن، وأعلم بأنني سوف ألتقي فيها بأحفاد الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود:

    نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى     نوراً ومن فلق الصباح عمودا

    هم النجوم، وهم الشموس التي ما أفلت حتى اليوم، واعلموا بارك الله فيكم أن الحديث معكم إنما هو من بضاعتكم، وكأنكم تقولون: بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا [يوسف:65] ولكني أقول: جئت ببضاعة مزجاة فأوفوا لنا الكيل، وتصدقوا علينا من علمكم، إن الله يجزي المتصدقين.

    ما أتيت إلا لأعلن الحب فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأتكلم في بعض القضايا؛ أتكلم عن شرف هذا العلم، وهو علم شريف لكن لمن علم أنه شريف شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] وإن لم يكن علم الحديث أشرف العلوم فأيُّ علمٍ يتوج لهذه المكانة!! وأيُّ علمٍ يرشح لأن يحتل على علم الحديث مكانه!! لا والله لا يكون هذا أبداً.

    يقول ابن عبد الباقي؛ أحد العلماء الأجلاء، من أحفاد أبي أيوب الأنصاري، الذي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء وأثنى عليه كثيراً، وهو من علماء السلف والسنة، قال في آخر عمره: تبت من كل علم إلا علم الحديث.

    يقول القرطبي المحدث:

    نور الحديث مبينٌ فادن واقتبسِ     واحد الركاب له يا ابن الرُضا الندُسِ

    واطلبه في الصين فهو العلم إن رفعت      أعلامه برباها يابن أندلسِ

    ويقول الآخر:

    أهل الحديث هم صحب النبي وإن     لَمْ يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

    فهم صباح مساء مع أنفاس المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ مع حدثنا، وأخبرنا، وسمعت، وعن، وأن؛ وهي كلمات أهل السنة والجماعة، وهي أسانيد أهل السنة والجماعة، وهو علم أهل السنة والجماعة.

    العلم قال الله قال رسوله     قال الصحابة هم أولو العرفان

    ما العلم نصبك للخلاف سفاهةً     بين الرسول وبين رأي فلانِ

    صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مني مقالةً فوعاها، فأداها كما سمعها، فربَّ مبلغٍ أوعى من سامع) وعند ابن حبان في الصحيح: (رحم الله امرأً) ولبعض أهل العلم من أهل الحديث رسالة اسمها المسك التبتي في شرح حديث (رحم الله امرأً سمع مني مقالتي)؛ المسك التبتي نسبة إلى التبت: وهي الهضبة في الهند التي تنفح بالمسك، في فضل هؤلاء الوعاة الحملة.

    ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وهو من حديث معاوية، ومفهوم المخالفة: أن الذي لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، ولا يعلمه السنة، ولا يوجهه إلى الجلوس في دار الحديث، ولا الاستماع إلى كلامهم، ولا إلى العيش معهم، ولا إلى أخذ السنة منهم.

    وأنتم أصبحتم أسانيد بين الأمة المحمدية وبين تراثها، فالله الله في هذه الأمانة! والله الله في هذه الرسالة، والله الله في هذا التراث المحمدي الخالد!

    يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى: (مثل ما بعثني الله به من الهدى) انظر ما أحسن كلمة بعثني، ولم يقل: أرسلني، أو كلفني، لأن البعث عادةً يأتي في ذكر التوحيد والشرك وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث)؛ وقال: (الهدى) ولم يكتفِ بل ذكر (العلم) وقال: (العلم) ولم يكتفِ بل ذكر (الهدى)؛ لأن الهدى هو العمل الصالح، والعلم هو العلم النافع، واليهود أوتوا علماً لكن لم يؤتوا عملاً، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13] وقال في عالمهم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176] وقال فيهم: مثلهم كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] حمار لا يفقه، ولا يعي، على ظهره صحيح البخاري وصحيح مسلم وفتح الباري وتحفة الأحوذي؛ لكنه حمار:

    قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب

    فإنني جاهلٌ بسيطٌ     وصاحبي جاهلٌُ مركب

    والجاهل المركب: هو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

    وشرف أهل الحديث أجمعت عليه الأمة الإسلامية، ذكر الذهبي في ترجمة الإمام أحمد: أن رجلاً ذُكر للإمام أحمد أنه يتنقص أهل الحديث، فهز يده وقال: زنديق زنديق زنديق، في درجة الملحد وإنما تزندق أبو العلاء المعري وأمثاله؛ لأنهم استهزءوا بـأهل السنة وأهل الحديث.

    وفي سيرة أبي داود صاحب السنن أنه قال: دخل عليه سهل بن عبد الله التستري قال: طلبٌ يا أبا داود أريد أن تنفذه لي، أسألك بالله، قال: ما هو؟ قال: أن تخرج لي لسانك. فأخرج لسانه فقبلها، وقال: لسانٌ وعت كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتحدثت به أولى بالتقبيل.

    وذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة أبي زرعة؛ حية الوادي، المحدث، المعدل، إمام أهل الجرح والتعديل أنه لما توفي رئيَ في المنام، فقالوا: ماذا فعل الله بك؟ قال: رفعني في عليين، قيل: بماذا؟ قال: صليت على الرسول عليه الصلاة والسلام في كتبي كتابةً ألف ألف مرة.

    وشرف أهل الحديث يأتي من ثلاثة أمور:

    أول شرف: أنهم من أكثر الناس صلاةً على الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن:

    إذا فات المحب سماع من     يهوى تلذذ باستماع حديثه

    فهم أكثر الناس صلاةً على الرسول عليه الصلاة والسلام؛ في دروسهم ولقاءاتهم ومناظراتهم وحوارهم.

    الأمر الثاني: أنهم حفظوا أصول الإسلام.

    وهل العلم إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.

    قال أبو عمرو الأوزاعي: ما أتاك من الكتاب والسنة فعلى الرأس والعين، وما أتاك من أحدٍ يخالف الكتاب والسنة فضعه في الحش؛ والحش هو الكنيف.

    فالعلم قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فأهل الحديث حفظوا علينا أصول الإسلام؛ بمدارستهم وبحفظهم، ولا تؤخذ العقيدة إلا من الكتاب والسنة، ولذلك لي عودة مع عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل الحديث.

    وأما شرف أهل الحديث فيأتي من النضرة على وجوههم، فأهل الحديث يتميزون عن أهل النحو -ولا نتنقص أحداً- وعن أهل اللغة، والجغرافيا، والتاريخ؛ بأن على وجوههم نضرة ومهابة، من دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومهابة لهم:

    من تلقَ منهم تقل لا قيت سيدهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    تروى وتشبع من سيماء طلعتهم     بذكرهم ذكروك الواحد الباري

    فأهل الحديث تلوح على محياهم أنوار الحديث، وسمته، وهيبته وملاحته، وحلاوته.

    1.   

    نصائح لطالب العلم

    لكن ما هو الطلب الأول لأهل الحديث؟

    سلامة المعتقد

    الطلب الأول: المعتقد، فهم يحرصون على ضميمة معتقد السلف، وهذا هو المعهود، وما أقول هذا إلا لأن الدعاوى قد كثرت:

    والدعاوى ما لم يقيموا عليها      بيناتٍ أصحابها أدعياءُ

    ويقول ابن عباس: [[لو ترك الناس ودعواهم لادعى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالهم، ولو ترك الناس ودعواهم لادعى الخليُّ حرقة الشجي]].

    ولما ادعيت الحب قالت كذبتني     ألست أرى الأعضاء منك كواسيا

    أين العلامات؟ أين البراهين؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:14] قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].

    فأقول: إن الأخذ بمعتقد السلف ومعتقد أهل السنة والجماعة ينبغي أن يكون عملاً، وأن يكون دعوة وتأثيراً.

    وأنا أرى بعض العلماء، شكر الله لهم محافظتهم على معتقد السلف، وكتابتهم في ذاك الجانب، وطبع كثير من النسخ وإرسالها وهذا من الجهد المشكور لهم عند الله تبارك وتعالى؛ وأقول هذا: لأنه وجد من العلماء، وأنا على باعي القصير، وعلى قلة بضاعتي، كانت لي رسالة في أهل البدعة الذين رموا بها في أهل الحديث فوجدت في البخاري وفي مسلم تسعة وسبعون راوياً رموا بالبدعة، مرجئة وقدرية وخوارج وشيعة رافضة وغيرهم، لكن ما نقصوا من قيمة الصحيحين؛ لأن هناك أعذاراً لا أتمكن من ذكرها الآن.

    فلا يكفي الإنسان أن ينتظم في دار الحديث، أو أن يحمل صحيح البخاري ومسلم، أو أن يجلس مع سنن البيهقي لنقول هذا: سلفيٌّ صِرفٌ لا غبار عليه؛ لأنه وجد من أهل الحديث من كان معتزلياً فشيخ الشافعي ابن أبي يحي؛ معتزليٌ جهميٌ قدريٌ، قال الإمام أحمد: كل شرٍ فيه، وعمران بن حطان له حديثان، بل كان يزعم على نفسه أنه من أهل الحديث، لكنه خارجيٌ صِرفٌ، وداعيةٌ من دعاتهم، وفطر بن خليفة كذلك، وغيرهم كثير، بل قد تجد من دعاة الجهمية من يحفظ عشرة آلاف حديث، وأنا أعرف تسعة وعشرين رافضياً يدعون إلى مذهب الرفض وهم يحفظون عشرات الآلاف من الأحاديث.

    فمعتقد السنة لا يأتي فقط بالانتساب إلى أهل الحديث، إنما يأتي بمعرفة القرون المفضلة الثلاثة الذين أثنى عليهم صلى الله عليه وسلم، والذين حافظوا على ضميمة وعقيدة السلف، ولم يلووا أعناق النصوص حتى توافق أهواءهم، وترجم الذهبي لـعفان الراوية الكبير، فأتى بالحديث الذي في الصحيحين: {أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير} نزولاً يليق بجلاله, وقد أجمع أهل المصنفات والمسانيد والسنن على إخراجه، فقال عفان: ينزل بذاته، وكلمة (ذاته) ليست في الحديث، فقال الذهبي: قلت: كلمة (بذاته) من كيس عفان والسلام؛ يعني: أنها ما وردت في اللفظ وفي هذه الطريق، كثرة الكلام، والادعاء، ولي أعناق النصوص لتوافق الأهواء ليست بواردة.

    ثم على هذه القضية فأهل الحديث أكثر محاربة لأهل البدع؛ فإن ميزة أهل الحديث أنهم يقفون في وجه أهل البدع، وما رفع الله به الإمام أحمد إلا بوقوفه في وجه أهل البدع، وكذلك البخاري ومسلم والدارمي، وغيرهم كثير.

    وأهل البدع يوقف معهم بثلاثة أساليب:

    بالكتابة، والمراسلة، فإن لم تُجْدِ فبالهجر والمقاطعة، فإن لم تُجْدِ فبالتشهير في المجالس.

    تقدم ثور بن زيد؛ أحد الرواة الذين لهم حديثٌ عند البخاري فسلم على سفيان الثوري بيده، فأمسك سفيان الثوري يده وقال: إنه الدين، ولو كان غير الدين لسلمت عليك، وعرضت جنازته ليصلي عليها الناس، فمشى سفيان الثوري واخترق الصفوف، ثم خرج من تلك الجهة ليري الناس أنه لا يصلي عليه؛ لأنه مبتدع.

    والإمام مالك قال: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تحدثوهم.

    وقال ميمون بن مهران؛ المحدث الكبير: [[ثلاث لا تدخل نفسك فيها: لا تجلس مع امرأةً أجنبية وحدك، ولو قلت أعلمها القرآن؛ فإن الشيطان يكون ثالثكما، ولا تفاوض مبتدعاً لترد عليه؛ فإنه يلقي في قلبك من بدعته ما الله به عليم. ولا تدخل على السلطان لتنصحه؛ فإنه يخاف أن يؤخذ دينك]] أو كما قال.

    البصيرة في الدعوة

    الأمر الثاني: كيف يدعو أهل الحديث إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟

    ذكر الله أن الدعوة تكون على بصيرة قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] قال أهل العلم البصيرة هي: العلم، وزاد ابن تيمية: والحكمة.

    العلم هو البصيرة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لما أرسل موسى وهارون إلى طاغية الدنيا؛ إلى فرعون، فيوصيهما وهما في الطريق: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] وقد يوجد من أهل الحديث -لأنهم ليسوا معصومين- من يشتد ويغلظ في دعوته، فيكون فظاً غليظاً في رده، وفي كلامه، وأمره، ونهيه، ودعوته، وهذا خلاف دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ويقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    دخل رجلٌ من الوعاظ على هارون الرشيد، فقال: اسمع إليَّ، وتحملني فإني سأقول كلاماً شديداً. قال: كلامٌ شديد! قال: نعم. قال: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع. قال: ولمه؟ قال: أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌ مني فقال له: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]. فلماذا القول الشديد؟

    ترجم الذهبي لـقتادة بن دعامة السدوسي؛ راوية الصحيحين، الجهبذ، العلامة، الذي يقول ابن المبارك فيه: إذا أطفأ الدهر حفظ أحدٍ فما أطفأ حفظ قتادة فهو حافظ، بارعٌ من الدرجة الأولى.

    جلس عند سعيد بن المسيب، فقال سعيد: اقرأ عليَّ شيئاً من القرآن، قال: خذ المصحف، قال: فسمعت له سورة البقرة، فما نسي حرفاً منها في مجلسٍ واحد. وكان يسرد الحديث سرداً.

    حتى في ترجمة ابن سيرين: أن رجلاً أتاه، فقال: رأيت البارحة في المنام حمامةً، التقطت درةً، فأخرجتها أكبر مما أدخلتها، ثم أخذتها فأخرجتها أصغر، ثم أخذتها فأخرجتها كما أدخلتها، فتبسم ابن سيرين؛ وكان مؤيداً في الرؤيا كما يقول الذهبي، وقال: تدري ما تأويلها؟ قال: لا، قال: أنا وقتادة والحسن البصري؛ أما الحسن البصري فيسمع الحديث فيوشيه، ولا يزيد فيه، ولا يكذب، لكن يشرحه فيخرج أكثر، وأما أنا فأخاف من حفظي، فأقلل وأنقص من الحديث، وأما قتادة فيحفظه كالسهم فيخرجه مثل ما حفظه.

    فالشاهد أن الذهبي ترجم لـقتادة وقال: فيه بدعة؛ وهذه البدعة هي بدعة القدر.

    قال: ولكنه رأسٌ في القراءة، رأسٌ في العلم، رأسٌ في الحديث، رأسٌ في الورع، ومع ذلك فلا ننسى بدعته، ولكننا نغمر سيئاته في بحار حسناته.

    فالمقصود العدل، لأن الله عزوجل طالبنا بالعدل في الردود، وطالبنا بالعدل في الكلام مع الناس وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]؛ فالعدل في القول، يقول ابن تيمية: إن الإنسان من طبيعته ظلوم جهول، كما سماه الله، فهو يتكلم بلا علم ويتكلم بلا عدل، فحق على العالم وطالب العلم، خاصة طالب الحديث أن يكون عالماً عادلاً، وأن ينزل الناس منازلهم كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم معلقاً عند مسلم وموصولاً عند أبي داود {كان صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم} وصح من قوله: {أنزلوا الناس منازلهم} فهذه مسألة.

    التطبيق والعمل وأهميته لطالب الحديث

    المسألة الثالثة: أن على طلبة الحديث ألا يكتفوا برواية الحديث.

    فإن رواية الحديث وحدها لا تشفع عند الله، ورواية الحديث وحدها بلا عمل إنما هي تزيد من الحجج على الكتف، وتزيد من حجج الله على الظهر، وهي علامة الإفلاس والخذلان؛ إذا لم يعمل العالم بعلمه.

    وقضية حفظ الأحاديث بدون عمل، كمثل الكنز كما يقول الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: العلم إذا لم ينفعك كالكنز الذي لم تُنفق منه، ولو أن بعض أهل العلم صحح هذا الحديث مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم، لكن في صحته نظر.

    فلا يظن الواحد منا إذا حفظ الصحيحين، أو السنن الأربع، أو مسند الإمام أحمد بدون أن يعمل بما فيها؛ أنه سوف يكون من الأولياء الكبار، أو يشفع لمثل مضر أو لمثل ربيعة، لا والله حتى يعمل بالحديث، فانظر إلى كم يحفظ أبو بكر الصديق؟! كم يحفظ عمر؟! كم يحفظ عثمان؟! كم يحفظ علي؟! رضي الله عنهم أجمعين يحفظون عشرات ومئات الأحاديث، لكنهم مع ذلك سنة تمشي على الأرض، وكل واحدٍ منهم إذا رأيته كأنه قرآن يمشي على الأرض، خلقهم القرآن، وحياتهم الكتاب والسنة، أما المتأخرون فإنهم التفتوا إلى الرواية وغفلوا عن الرعاية.

    ذكر الذهبي، أن رجلاً ولا أريد أن أسمي الأسماء يحفظ مائة ألف حديث، قال: وكان فاسقاً لا يصلي. محدثٌ يحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها، ويجرح رجالها، ويعدلهم؛ لكن كان فاسقاً لا يصلي!

    وترجم لمحدث آخر شهير، له جلالة في الدنيا، وليس في القلوب إنما في الدنيا، قال: وكان يشرب المسكر سامحه الله؛ يشرب الخمر! أين الحديث؟! أين حدثنا، وأخبرنا، وعن، وسمعت؟!

    وترجم لراويةٍ آخر، وقال: كان مبتدعاً صرفاً حاسبه الله بفعله.

    بل كثير من رءوس المبتدعة كان لهم مجالس الإملاء؛ يجلس في مجلسهم خمسون ألفاً، أو أربعون ألفاً من الناس.

    فيا صاحب الحديث والله لو لم تحفظ إلا حديثاً واحداً، وعملت بما سمعت فإنك أفضل مما لو حفظت أحاديث الدنيا ثم لم تعمل بما سمعت وقرأت.

    الحديث عمل وتطبيق، الحديث خشية ومخافة من الله، الحديث أن تظهر السنة على معالمك، وهيئتك، وعلى تطبيقك وسلوكك.

    روي عن الإمام أحمد أنه قال: الحمد لله كتبت المسند من أربعين ألف حديث بالمكرر ما من حديثٍ يقبل العمل إلا عملت به؛ يخبر الناس ليقتدوا به، فقال له أحد تلاميذه: وحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام بقي في غار ثور ثلاثة أيام، قال: نزلت إلى غارٍ في الكرخ لما أتت محنة القول بخلق القرآن فجلست ثلاثة أيام، هذا هو التطبيق، وهذه هي السنة.

    وسعيد بن المسيب يسأله سائل في حديث وهو في مرض الموت، فقال: أجلسوني، قالوا: أنت مريض، قال: سبحان الله يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأنا مضطجع!! لا والله حتى أجلس.

    وإبراهيم بن طهمان؛ وكان فيه إرجاء، رحمه الله رحمةً واسعة، لكنه كان من العلماء المشاهير، أثنى عليه الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد في مرض الموت فسألوه عن إبراهيم بن طهمان، فجلس، وتربع، وقال: لا ينبغي أن يذكر عندنا الصالحون ونحن مضطجعون. أو كما قال، وذكر القصة الذهبي وابن كثير.

    والشاهد هو: كيف كان تطبيقهم للحديث وأثره؛ في سمتهم، وأخلاقهم وصفاتهم وسننهم.

    1.   

    أهمية العناية بالعبادات لطالب العلم

    ثم إنه ينبغي على أصحاب الحديث أن يكونوا من أكثر الناس نوافلاً، ومن أكثر الناس تقرباً، وأن يكثروا من ذكر الله.

    وأكثر ذكره في الأرض دأباً     لتُذكر في السماء إذا ذَكرتا

    ونادِ إذا سجدت له اعترافاً     بما ناداه ذوالنون بن متى

    إذا ما لَمْ يزدك العلم فضلاً     فليتك ثم ليتك ما علمتا

    وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ     فليتك ثم ليتك ما فهمتا

    فإن العلم: هو مخافة الله عز وجل، وبالخصوص أهل الحديث فإن الناس ينظرون إليهم نظرة أخرى، والناس يحترمونهم، مرَّ أبو حنيفة رحمه الله، فسمع بالجسر قائلاً يقول لصاحبه وهو يحاوره: أبو حنيفة يقوم الليل كله ولا ينام، فقال أبو حنيفة بينه وبين نفسه: سبحان الله! يظن الناس أني خيِّرٌ وأنا أنام الليل، فكان يقوم الليل.

    ولكن المقصود أن على صاحب الحديث أن يكون كثير النوافل، وكثير التقرب إلى الله؛ فيحافظ على ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يكون القرآن خدينه ورفيقه.

    وقد تكلم الذهبي عن رجلٍ، فقال: ينبغي أن يكون لطالب العلم نوافل، قال: نعم، إذا رأيت طالب العلم منصرفاً إلى العلم، وليس لديه نوافل فاعلم أنه مخذول، وإذا رأيته يعبد الله على جهالة فاعلم أنه محروم. ولذلك ذكر الله هذين الصنفين في القرآن، فذكر العلماء الفسقة، وذكر العباد الجهلة فقال في العلماء الفسقة: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] وقال في العباد الجهلة: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] الآية.

    إذا علم هذا؛ فأدعو نفسي وإياكم يا أصحاب الحديث! إلى كثرة النوافل والعبادات.

    1.   

    كيفية طلب الحديث

    وفي هذه الفقرة سأتحدث عن كيف يطلب الحديث؟

    وأنا ما جئت الآن لأخبركم بوسائل الطلب، فأنا أعرف أن هنا مشايخ قضوا أعمارهم في الطلب، والمعرفة، والتجربة، والاستقراء، وأظن هذه الدار أنشئت قبل أن أولد، سأتكلم من باب أن نتذاكر، ونتواصى، ونتعاون على الخير، وأن يأخذ بعضنا بيد بعض.

    فطلب الحديث أمره عظيم، وحفظه يأتي بالاستغفار والخوف من الله، يقول ابن تيمية: إنها تعجم عليَّ المسألة، فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل؛ فيفتحها الله عليَّ.

    انظر! الإمام أحمد كما يقول الذهبي عنه: يحفظ ألف ألف حديث، قال: بالمرسلات، والمقطوعات، وأقوال الصحابة وتفسيراتهم، يحفظ ألف ألف حديث.

    أثر المعاصي على طلب العلم

    وفي ترجمة الشافعي، أن الشافعي كان إذا قرأ كتاباً يضع يده على الصفحة اليسرى فيغطيها لئلا يسبق نظره إليها فيحفظها. قال لشيخه وكيع بن الجراح؛ الإمام الكبير، الذي يلقب بأمير المؤمنين في الحديث، قال له: يا شيخ! ما هو أنفع للحفظ، فإني سمعت الناس يقولون: اللبان، وناسٌ يقولون: الزبيب. قال: أنفع شيء للحفظ ترك المعاصي. ليس أكل الزبيب ولا أكل الباذنجان، ولا البطاطس، إنما أنفع شيء للحفظ هو ترك المعاصي، فقال:

    شكوت إلى وكيع سوء حفظي     فأرشدني إلى ترك المعاصي

    وقال اعلم بأن العلم نورٌ     ونورُ الله لا يهدى لعاصي

    إذاً: فمن أحسن ما يعين على حفظ الحديث: ترك المعاصي.

    ذكر الذهبي وابن كثير، وغيرهما عن عامر الشعبي، أن عامر الشعبي قال: إني لأضع إصبعيَّ في أُذُني إذا نزلت السوق لئلا أحفظ أصوات الناس. وهو في هذا الشأن رجل داهية، لماذا؟ لأنه اتقى الواحد الأحد، عرف طريقه إلى الله، فبصره الله، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] قالوا: من العلم؛ فإنهم لما عصوا الله، وفسقوا، ونظروا إلى المحرمات، نسوا العلم، فقل لي بالله: كيف يحفظ طالب الحديث الحديث وهو ينظر إلى المرأة الفاتنة؟! وإلى المجلة الخليعة، أو يستمع إلى الأغنية الماجنة، ويجلس مع الفسقة، أو يتخلف عن الصلاة، أو لا يذكر الله إلا قليلاً، أو يغتاب في مجلسه، أو ينم، أو يلبس الذهب والحرير، أو يرائي، أو يعجب بنفسه، أو يتكبر، فكيف يحفظ الحديث؟!!

    إذاً، أيها الإخوة الأخيار: إن المعاصي أكثر ما يسقم القلب، فممّا يوصى به طالب الحديث أن يستغفر كثيراً، وإذا أخطأ أن يتوب؛ لأن طالب الحديث ليس معصوماً، قيل لـالجنيد بن محمد: أيزني الولي؟ قال: سبحان الله! وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38] لكن عليه إذا أخطأ أن يتوب إلى الله، وأن يعود إلى الله، فعند الترمذي بسند صحيح، قوله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله تبارك وتعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} وعند مسلم: {يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} وعند مسلم: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم} وعند الترمذي بسند حسن: {كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون} فالتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار.

    أهمية إنفاق العلم لحفظه

    ثم أقول: إنه لا بد أن ينفق من علمه الذي آتاه الله عزوجل.

    يزيد بكثرة الإنفاق منه     وينقص إن به كفاً شددتا

    وفي الركاز الخمس.

    فعلى طالب الحديث أن ينفق ويزكي مما آتاه الله، وأهل الحديث إذا فعلوا ذلك فإن ما يأتي منهم من تقصير في بعض الأمور يتسامح الناس فيهم، وقصدي بالتقصير هنا؛ كمثل الحدة، لأن أقول: أهل الحديث يميزهم الحدة بين الناس، فصوتهم دائماً قوي، وأمرهم دائماً شديد، ويريدون تنفيذ الأمور، وهذا كله من حرارة السنة في قلوبهم، ولكن {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} فما داموا قد حافظوا على معتقد السلف، وحافظوا على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندهم سنة، فلابد للناس أن يتحملونهم، لكن على الداعية أن يكون بصيراً حكيماً.

    أهمية إعطاء الأمور حجمها لطالب العلم

    ثم إن هناك ملاحظة عن أهمية إعطاء الأمور حجمها؛ لأنهم يقولون: وجد في بعض المحدثين من يعطي المسألة أكبر من حجمها؛ مسألة فرعية يقاطع المسلمين عليها، ويقول: لا ينبغي أن نسلم عليه، ونهجره، لأنه خالف الحديث والسنة، كمثل وضع اليدين على الصدر سنة من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وحديث وائل بن حجر صح فيها، وهي المعتمدة عند فقهاء المحدثين، وبعض الفقهاء أتى بحديث علي عند أبي داود وهو ضعيف قال: تحت السرة، فيأتي المحدث ويقول: من ا لسنة وضع اليدين على الصدر، فيقول صاحبه وهو يحاوره: لا، تحت السرة، فيقول: أشهدك وأشهد الله وملائكته وحملة عرشه ألا أكلمك حتى أموت!

    وقد وردني سؤال أن بعض الناس يقول ذلك، ويستدلون بكلام ابن عمر في صحيح مسلم أنه قال لابنه بلال: يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تمنعوا إماءَ الله مساجد الله} قال ابنه: [[والله لنمنعهن, إذاً يتخذنه دغلاً، فقال: والله لا أكلمك حتى أموت]]؛ وفرق بين هذا وهذا: فإن ابنه عارض السنة بلا تأويل؛ يعني: جهاراً نهاراً رضي الله عنهم أجمعين، وأما ذاك فهو متأول.

    يقول ابن تيمية في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام: إن لأهل العلم أعذاراً يعذر بعضهم بعضاً فيها، ثم قال كلاماً ما معناه: إما أن يكون الحديث وصلك ولم يصل ذاك، وإما أن يكون منسوخاً عنده وهو ثابتٌ عندك، وإما أن يكون ضعيفاً عنده وهو صحيحٌ لديك، وإما أن يفهم منه فهماً وتفهم أنت فهماً آخر.

    إذاً فمسائل الخلاف الفرعية لا توجب الفرقة بين العلماء، ولا بين طلبة العلم، مثل: الجهر ببسم الله، ومثل: وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، ومثل: جلسة الاستراحة وما شابهها فهذه الأمور الجزئية لا توجب الفرقة عند أهل العلم.

    الاهتمام بالعلوم الأخرى

    ثم وصيتي لأهل الحديث: أن يكون عندهم علوم الآلة، وهي ما تقوم به الدار والحمد لله، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: بعض المحدثين لا يعرف من التاريخ شيئاً، ولا من الفقه شيئاً، وذكر من ذلك أمثلة.

    لكنني أنا أعرف أن هذه الدار أصيلة، وعريقة، وتعتني بهذه العلوم، فإنه من النقص على طالب الحديث أن يجلس في مجلس فيقولون: أتعرف هارون الرشيد؟ فيقول: لا أدري، أسمع به، ولكن ها ها لا أدري.

    ويسأل عن ولاية الحجاج هل هي ولاية راشدة أم أنه فاسق سفاك؟ فيقول: لا أدري، الحجاج، أظنه من الخلفاء الراشدين، ويسأل عن بعض الأحداث التي لا يعذر أحدٌ بجهلها فيقول: لا أدري، فلا بد له أن يكون له حدٌ أدنى من العلوم تعينه في هذا الطريق كما فعل السلف الصالح؛ حيث أنهم كانوا يطلبون العلم، ولكن كان لهم حدٌ أدنى، أو علمٌ مشترك من العلوم الأخرى يستضيئون به مع الحديث.

    فأسأل الله يا أهل الحديث, أن يبصرني وإياكم، وأن يجعلنا وإياكم ممن يعمل بعلمه؛ فإن العمل بالعلم هو المقصود، ثم يجعلنا نوزع من هذا الميراث على الناس؛ فإن الناس والله بحاجة ماسة إلى علم الحديث.

    1.   

    مكانة علم الحديث اليوم

    وعلم السوق الإسلامي اليوم، وعلم الساحة هو علم الحديث، فقد مل الناس الآن من كتب الخزعبلات الفكريات الطويلة -ونحن لا نذم أحداً وفيها منفعة- وكتب الإنشائيات، والمقالات الموسعة، ورجعوا إلى علم الحديث.

    العالم يتحدث في المجلس، فيقولون: ما هذا الحديث؟ من رواه؟ وما درجته؟ وما صحته؟ فالسوق سوق الحديث.

    ثم إن العقيدة تؤخذ من الحديث، وأنا أقول وأنتم تعرفون ذلك أنَّا لو أخذنا علم العقيدة من الكتاب والسنة فهذا علم شريف والحمد لله كما فعل بعض الكتبة كفضيلة الشيخ محمد جميل زينو ورأيت كتابه وهو من أحسن ما كتب, أثابه الله على هذا الكتاب، ونريد أن يوسع من هذه المقالات؛ لتشمل كثيراً من القضايا التي اختلف فيها أهل السنة مع أهل البدع والفرق؛ ليكون كتاباً ضميمة، ويدر على الناس، فإن علم السلف وعلم الصحابة والقرون المفضلة كانوا يقولون: هل الرحمن مستو على العرش؟ قالوا: نعم، لقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أما أهل البدع فإذا سألتهم عن المسألة هذه قالوا: العرض لا يستوي؛ لأن الجوهر ما تمَّ إثباته وإنما هو عرضٌ فكيف يستوي العرض؟! وهذا ممن قاله ابن سيناء , يقول ابن تيمية عن علم المنطق، قال: لا ينتفع به البليد، ولا يستفيد منه الذكي، وقال: هو كلحم جمل غثٍ على رأس جبل وعر؛ لا سهلٌ فيرتقى ولا سمينٌ فينتقل، فأغنانا الله من خزعبلاتهم، وشركياتهم، وعن خرافاتهم بالكتاب والسنة.

    ولو أن هناك بعض المؤسسات العلمية الآن تدرس بعض الكتب التي فيها شيءٌ من المنطق وعلم الكلام، وهذا إن كان لضرورة ليوصل إلى فهمها فلا بأس، أما أن تجعل على أنها مناهج وأنها هي طريقة أهل السنة في إثبات المعتقد فليس بصحيح، بل هو الخطأ كل الخطأ، والخلل كل الخلل، نسأل الله لنا ولكم الثبات.

    ويوجد في الساحة من يأتي بالمعتقد في شكل مسائل فكرية، ويقول: لا توجب خلاف بين الأمة، وهذا يلحق بأهل علم الكلام ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

    إذاً، ربما يكون في الأسئلة بعض الإجابات، وأنا لا أريد أن أطيل عليكم، وأنتم من يأتي إليكم كمن يحمل التمر من صنعاء إلى هجر:

    من زار بابك لم تبرح جوارحه     تروي أحاديث ما أوليت من مننِ

    فالعين عن قرة والكف عن صلةٍ     والقلب عن جابرٍ والسمع عن حسنِ

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    خطورة الرياء وعلاجه

    السؤال: نرجو من فضيلتكم التعرض بشيء من الكلام عن الشرك الخفي؛ الذي هو الرياء المنتشر بين كثير من طلاب العلم، فنجد الطالب يناقش شيخه، وهو أحياناً قد يجادل معه في الكلام عند إحدى المسائل، وقد يفتح باب المراء وهو لا يعلم، فنرجو الموعظة في هذا وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: مرض الرياء والشرك الخفي -كما ورد عن السلف الصالح - مرضٌ خطير، وكثيرٌ من الناس يبتلى به، وكفارته: { اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم} ولو أنه تكلم في سند هذا الحديث، لكنه عند كثير من أهل السنة مما يقبل العمل به، وهو في درجة الحسن.

    وقد شكا الصحابة إليه صلى الله عليه وسلم من هذا المرض -مرض الرياء- فقال: {ليقل أحدكم: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم} وفي الصحيحين من حديث جندب قال: قال صلى الله عليه وسلم: {من راءى راءى الله به، ومن سمَّع سمَّع الله به} فمن طلب بعمله رؤية الناس ليروه راءى الله به على رءوس الأشهاد، وفضحه، ومقته، وكذلك من سمع، وعند مسلم في الصحيح: {من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه}.

    وصح عنه صلى الله عليه وسلم: {أول من تسعر بهم النار ثلاثة: منهم قارئ قرأ القرآن، يقول الله عزوجل له: ألم أعلمك القرآن؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت به؟ والله أدرى، قال: تعلمته فيك، وعلمت الجاهل، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: خذوه إلى النار، فيدهده على وجهه في النار -ثم ذكر الصنفين الآخرين- ثم قال: أولئك أول من تسعر بهم النار} ومقصود التوحيد: هو الإخلاص، وثغر الشرك هو الرياء.

    فلذلك الفيصل بين الرياء وبين الإخلاص أن تقصد بعملك وجه الله عزوجل وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى}.

    إذاً: على المسلم أن يتقي الله في إخلاصه، وعلاج الرياء ثلاثة أمور:

    أولها: أن يعرف أن الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، وأن النفع من الله الواحد الأحد، وأنه هو الذي يملك الثواب، ويملك الأجر، وعنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كل نفع.

    الأمر الثاني: أن يعرف قدر الناس، وضعفهم وقلتهم وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3] والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] وقال في المرائين والمشركين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

    الأمر الثالث: من ابتلي بشيء فعليه أن يلتجئ للواحد الأحد، وأن يصدق مع الله، ويستغفر وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] ويقول: { اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم}.

    من أحكام البدعة

    السؤال: أريد منكم أن تعرفوا لنا المبتدع، وهل الأشاعرة من المبتدعة؟ وكيف نعامل المبتدعة؟ وهل تقبل توبة المبتدع؟

    الجواب: المبتدع يعرفه صلى الله عليه وسلم، كما عند مسلم من حديث عائشة: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فمن أتى بشيء من المعتقدات، في الأقوال، أو في الأفعال لم يأتِ به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت بالكتاب والسنة؛ فهو مبتدع.

    والمبتدعة أصناف ودرجات:

    فمنها بدعة مكفرة، ومنها بدعة مفسقة.

    ومن أحسن من تكلم عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، في المجلد الأول، والمجلد الرابع من الفتاوى، وعرض لهم في بعض المجلدات الأخرى.

    وأما الأشاعرة فهم بالنسبة لـأهل السنة هم من المبتدعة، بلا شك، بل من العجيب أن الذي سجن شيخ الإسلام ابن تيمية هم الأشاعرة، سجنوه في الإسكندرية، آل ابن مخلوف وآل السبكي هؤلاء أشاعرة شوافع، فهم من المبتدعة بلا شك, وبالخصوص في الأسماء والصفات، قد يشتركون مع أهل السنة في بعض المسائل ويوافقونهم فيها، لكنهم إجمالاً خالفوا أهل السنة في المعتقد؛ لأن معتقد السلف إقرار الأسماء والصفات لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كما جاءت من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، والأشاعرة ما أفلحوا في ذلك، وهم قسمان:

    أشاعرة أهل الرأي، وأهل المنطق والكلام كـالرازي ومن لف لفه؛ وهؤلاء قدموا العقل على النقل، ورد عليهم ابن تيمية في كتاب درء تعارض العقل والنقل فأتى بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم.

    وبعض أهل الحديث والأثر يريدون التنزيه لكنهم أخطئوا فيما قالوه، ومنهم ابن حجر وهو صاحب فتح الباري المشهور، وتجده مرة يسكت على معتقد السلف ولا يعلق، ومرة يؤول مع الأشاعرة، ومرة يتلعثم عند أهل السنة:

    يومٌ يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ     وإن لقيت معدياً فعدنان

    فإما أن تكون أخي بصدقٍ     فأعرف منك غثي من سميني

    وإلا فاطَّرحني واتخذني      عدواً أتقيك وتتقيني

    فإني لو تخالفني شمالي     ببغض ما وصلت بها يميني

    إذاً لقطعتها ولقلت بيني     كذلك أجتوي من يجتويني

    لكن بالعدل نقول: الأشاعرة في الإسلام أقرب المبتدعة إلى أهل السنة فالمبتدعة درجات: أقربهم الأشاعرة ثم المعتزلة ثم الجهمية؛ الجهمية هؤلاء في درجة الزنادقة، بل كثير من أهل العلم قالوا: إنهم ملاحدة، لأن معنى أقوالهم أنهم ينفون وجود الله.

    والمعتزلة قدموا العقل على النقل، وقدموا آراءهم، ونفوا الصفات جملةً وتفصيلاً.

    أما الأشاعرة فتجد فيهم أئمة، فإن ابن الأثير نسب إليهم، والنووي وأبو الحسن الذي رجع فيما بعد عن معتقده، بل قال ابن تيمية: أبو الحسن الأشعري خيرٌ في المعتقد من ابن حزم الظاهري؛ صاحب المحلى وابن حزم محسوب على أهل السنة على كل حال.

    لكني أقول: العدل أنهم أقرب الطوائف، ولكنهم على كل حال مبتدعة.

    فلا بد أن يقروا بما أقرت به القرون الثلاثة الفاضلة المفضلة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يفعلوا ذلك فبقية بدعتهم عليهم، والله أعلم.

    هل يعذر الجاهل بجهله

    السؤال: هل يعذر الجاهل بجهله بعد أن أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؟

    الجواب: هذه المسألة أصبحت من فضول المسائل، كأطفال المشركين، وأهل الفترة، والذين ما بلغتهم الدعوة، والجاهل هل يعذر بجهله أم لا، وقد تكلم ابن تيمية بكلام طويلٍ يحتاج إلى تلخيص، ويحتاج إلى تقسيم وتوزيع، فإن هناك جهلاً عاماً مطلقاً وجهلاً خاصاً مقيداً، والله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].

    فأما الناس الذين أدركوا الرسالة فقد قال صلى الله عليه وسلم: {لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} فمفهوم المخالفة أن الذي لا يسمع به أمره إلى الله.

    إذاً فلا يُعذَر أحد بعدم بلوغه الدعوة وهو في أرض الدعوة، وفي محيطها، فيلزمه أن يتعلم، حتى يعرف أصول الدين.

    وأما من كان في البوادي, وفي أراضٍ بعيدة لم تبلغها الإسلام فأمره إلى الله عزوجل كأطفال المشركين، وأهل الفترة.

    ولأهل العلم فيهم ثلاثة أقوال:

    قولٌ يقول: يبعث الله لهم في العرصات رسلاً؛ وليس على هذا دليل.

    وقولٌ يقول: الله أعلم بما كانوا عاملين.

    وقولٌ يقول: يعذبون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أتاه رجلٌ فقال: {أين أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك في النار، فلما ولَّى دعاه، وقال: أبي وأبوك في النار} والحديث في صحيح مسلم.

    وأنا أعتذر عن كثير من التفصيل، ويعاد إلى أهل العلم في هذه المسألة؛ لأنه لا طائل من البحث والاختلاف فيها على حسب اعتقادي.

    حكم بناء المساجد على القبور

    السؤال: ما حكم المسجد الذي بني على قبر؟ وهل يجوز الصلاة فيه؟ وفيما إذا عزلت عنه؟ هل يكون خلاف بين الناس في ذلك؟ يعني: إذا كان بعيداً من المسجد، أو من القبلة؟

    الجواب: تعرفون النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد} ويقول: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وفي صحيح مسلم عن بثينة الهذلي قال: {نهى صلى الله عليه وسلم أن يصلى إلى القبر، وأن يجلس عليه} وصح عن عمر أنه رأى أنساً يصلي إلى قبر، قال: [[القبر القبر..]] أي: انتبه لا تصلي عليه.

    فمسجد بني على القبر لا تجوز الصلاة فيه؛ لأنه أصبح مظنة للشرك، وإنما دخل الشرك في الأمم لأنهم تقربوا من مساجدهم ومعابدهم بقبورهم فدخلوا في الشرك، وهذه مظنة اتخاذ هذا المدفون شفيعاً، أو رفع الحاجات إليه، أو التبرك بضريحه، وهذا هو الشرك الذي حذر منه صلى الله عليه وسلم.

    أما إذا كان القبر بعيداً عن المسجد، كأن يكون بينه وبين المسجد حاجزاً، وبعيد فلا بأس، كما في البخاري وغيره: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبور المشركين فنبشت، فسوى صلى الله عليه وسلم النخل قبلة المسجد، ثم صلى في مسجده عليه الصلاة والسلام}. فإذا كان القبر بعيداً وهناك حاجز فلا بأس.

    أما في القبلة فالأولى أن يكون على مسافات بعيدة عن المسجد بعداً للشرك، وحماية لجناب التوحيد.

    حكم المجاز والتأويل وحقيقة الصوفية

    السؤال: ذكرت في كلامك ما أتى من الكتاب والسنة في فضل أهل الحديث، وأنه ما جاء من غير الكتاب والسنة فضعها في الحش، وقوله تعالى في اليهود: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46] فضيلة الشيخ: نريد أن نعرف رأيك في المجاز والتأويل في القرآن، ما قولكم فيمن يستدل بهذه الأشياء، و(97%) من المفسرين يستعملونه.

    السؤال الثاني: هل الصوفية في وقتها الحاضر من أهل السنة والجماعة، نرجو التوضيح، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أولاً مقصود كلمة الأوزاعي: ما أتاك من غير الكتاب والسنة فضعها في الحش؛ أي: مما خالف الكتاب والسنة، وصح عن الإمام مالك أنه يقول: كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.

    وأما مسألة المجاز، وما أدراك ما المجاز؟! فهي مسألة خلافية، لكن كثيراً من أهل السنة يرون ألا مجاز في القرآن والسنة، بل إن ابن تيمية يرى ألا مجاز لا في الكتاب ولا في السنة ولا في لغة العرب، ومعه ابن القيم، ومن العلماء المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وله رسالة في ذلك، وهناك بعض أهل السنة قالوا بالمجاز، ولو أن هذا قولٌ ضعيف، ومقصود من نفى المجاز ألا يترك للمبتدعة طريق؛ لأن مدخل المعتزلة والأشاعرة في الأسماء والصفات أن جعلوه من باب المجاز، فمثلاً يقول: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22] قال: جاء أمر ربك، و{يضحك ربنا} قال: ثوابه أو رضاه.

    فقلنا لهم: لماذا؟ قالوا: أنتم تستخدمون المجاز، قلنا: مثل ماذا؟ قالوا: جاء الأمير؛ يعني: جاء أمر الأمير، رأيت الأسد؛ يعني: رأيت رجلاً، يقول الله عزوجل في القرآن: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [يوسف:82] هل القرية تتكلم؟ قلنا: لا. قالوا: كيف يقول: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] أي: اسأل أهل القرية.

    إلى غير ذلك من الأمور، لكن ابن تيمية يقول: إن الأصل هي لغة العرب هكذا وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف:77] فالعرب تستخدم هذا الأسلوب, وليس من باب المجاز.

    أما الأسماء والصفات فإنها تجري على ظاهرها، ولا تكيف، ولا تؤول، ونلزمهم في الصفات التي نفوها بالتي أقروا بها وأثبوتها، مثل صفة الضحك ينفونها، نقول: لماذا؟ قالوا: لأن الضحك من صفات المخلوق، فلو أثبتنا ضحكاً للخالق لشابه المخلوق، قلنا لهم: العلم، قالوا: لا العلم أمرٌ آخر، قلنا كيف يكون أمرٌ آخر؟ قالوا: لله علمٌ يليق بجلاله لا يشابه علم المخلوق، قلنا لهم: قولوا كذلك له ضحكٌ يليق بجلاله لا يشابه ضحك المخلوق أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] وهذه إلزامات باللغة العربية.

    وقضية التأويل والمجاز أمرٌ يطول وليس من المصلحة نشره بين الناس، يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله]] ويقول ابن مسعود: [[إنك لست محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة]].

    أما الصوفية هل هم من أهل السنة والجماعة؟ فأقول الصوفية درجات، حتى من يتكلم لا بد أن يتكلم بعدل ويفصل، لأن إلقاء الحكم مجملاً عاماً على الناس لا يصلح:

    أما إن كانوا لم يبلغوا الضلالات في المعتقد؛ كأن يكون عندهم اجتماعات أو يأتون بطقوس ومراسيم وهيئات ما أتت بها السنن، فنقول: هؤلاء مبتدعة وليسوا من أهل السنة، لكنهم في منزلة المبتدعة.

    وثم أناسٌ بلغوا إلى درجة تقديس المشايخ، وعبادتهم، ورفع الحاجات إليهم فهم مبتدعة من البدع المغلظة التي تدخلهم في الشرك.

    ثم مبتدعة من درجة أخرى؛ وهم ملاحدةٌ زنادقة، وهم الذين قالوا بالحلول والاتحاد، ومنهم أناسٌ وجدوا في هذا العصر، يقول أحد مشايخهم من الأولين: ما في الجبة إلا الله -جلَّ الله عما يقول- ويقول: الله في كل مكان حالٌّ معنا، حتى جعلوا أنه يحل سبحانه وتعالى في الكلاب والخنازير جل الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما رد عليهم ابن تيمية قال: فإن كان صح عن بعضهم ما يقال, فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

    ولسنا بحاجة إلى هذا اللفظ، ولسنا بحاجة إلى أن يكون هناك فرقة متصوفة خرافية؛ لأن الله أغنانا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وبكتاب ربنا، لأن التصوف الآن على ثلاثة أضرب:

    تصوف في المعتقد، وتصوف في الأعمال، وتصوف في الأقوال، وقد يجمعه بعض الناس ليكون ظلمات بعضها فوق بعض.

    فأنا أقول: يا أيها الإخوة! علينا أن نبصرهم بالتي هي أحسن، وأن نعلمهم بالسنة، وإذا نسبوا لنا عن شيخ عن شيخ عن شيخ نأتي بـالبخاري عن فلان عن فلان عن محمد عن جبريل عن رب العالمين فهذه أسانيدنا وهذه أسانيدهم.

    أما أسانيدنا فكالنجوم في الليل، وأما أسانيدهم فكخيوط العنكبوت لا يتعلقون منها بشيء فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

    كثرة النوافل عند طالب العلم

    السؤال: ذكرتم في المحاضرة أهمية كثرة النوافل عند طالب العلم، لكن كثيراً من أهل العلم اعتبروا أن كثرة النوافل تشغل عن علم الحديث، بل كثير من المحدثين جرحوا المشتغل بكثرة العبادة، حتى يقال في مقام الجرح: شغلته العبادة عن الحديث وغفل، فاعتماداً على هذا نحن نكثر السهر في مطالعة الحديث، فهل يُعدُّ طلبنا للحديث من العبادة، حتى نجمع بين الخصلتين، فما رأيكم في ذلك جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: قول الأخ: إن كثيراً من المحدثين جرحوا بعض المحدثين بسبب كثرة العبادة، فيا سبحان الله!

    وعيرني الواشون أني أحبها     وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها

    إذا لم تكن العبادة هي المقصود من طلب الحديث فلا حيا الله هذا التشاغل، ولا هذا السهر، ولا هذا الحفظ؛ لأن المقصود من العلم هو العبادة، ترجم الذهبي لـابن الراوندي الملحد الزنديق الفيلسوف قال: الكلب المعثر الملعون، صاحب كتاب الدامغ على القرآن، الذي يدمغ به القرآن، وكان ذكياً، وحافظاً، لكن لعن الله الذكاء بلا إيمان، وحيا الله البلادة بالتقوى، مرحباً ببلادة بتقوى وبسجدات وبركعات.

    وأما قول الأخ، فينبغي أن يفصل قوله: جرحوه، هم لم يجرحوه بسبب عبادته، لكن هو ترك الرواية وترك التشاغل بالحديث فضعف في الحديث، مثل: رشدين بن سعد وقيس بن الربيع، وغيرهما من الأئمة الأخيار الذين يقومون الليل، لكن تركوا الحديث جانباً، ست سنوات لا يراجع الحديث ثم يسأل عن الحديث فيزيد فيه متراً أو مترين، حتى يقول الإمام مالك: يخرج من عندنا الحديث شبراً ويعود من العراق ذراعاً، فهم يزيدون؛ لأنهم وهموا فيه، فليست كثرة العبادة مما يشغل، بل هي مما يصحح الذاكرة، ويقوي القلب، لكن قد جعل الله لكل شيء قدراً، أنا ما أقصد عبادة الصوفية، يذكرون عن أحدهم أنه صلى في اليوم خمسمائة ركعة ولما أتت صلاة الظهر نام عنها وتركها.

    وأحدهم ذكروا عنه أنه سهر، فلما اقتربت صلاة الفجر نام حتى صلاها في الضحى، قالوا: مالك؟ قال: شغلني قيام الليل، فانظر إلى قلة فقهه، ترك الفريضة من أجل النافلة، ولكم أن تعودوا إلى كتاب العزلة لـأبي سليمان الخطابي ذكر عن بعض الصوفية الجهلة الذين ما استناروا بنور السنة، قال: لصق على عينه اليسرى بلصقة، فقالوا: مالك؟ قال: إسرافٌ أن أنظر إلى الدنيا بعينين، والله عزوجل يمتن فيقول: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9] فأين عقل هذا؟! وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة: أن أحدهم قال: أين أنتم مني لم آكل الرطب منذ أربعين سنة، سبحان الله من حرم عليك الرطب؟! والله عزوجل يقول: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [المؤمنون:51] فهذا الجهل ليس من العبادة لكنه من عدم الانصراف للعلم.

    فأقول: وازن السنة التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم كركعتي الضحى وأربع قبل الظهر وأربع بعدها إلى غير ذلك، وعليك بـالبخاري ومسلم، خذ العبادة من الكتب الستة ومسند أحمد فإنها لا تأخذ عليك وقتاً طويلاً، واحذر من كتاب الرعاية، وهو للمحاسبي، ونحوها من كتب البدع، والتي فيها يذكرون أن فلاناً كان يصلي طول وقته، فهذا متى يتفرغ لصلة رحمه ولمساعدة المساكين! والغزالي رحمه الله قال في الإحياء: إذا طلعت الشمس قام فتوضأ فصلى أربعاً، ثم ينتظر قليلاً حتى ترتفع ثم يقوم فيتوضأ فيصلي أربعاً، أين الأدلة على هذه؟ يمكن عموم {من سجد لله سجدة رفعه الله بها درجة} لكن التوازن بين العلم، والتحصيل، والعبادة مطلوب لتكون عالماً، وعابداً، وزاهداً، وحنيفاً لله، إماماً يقتدى بك في أقوالك وأفعالك.

    وأنا أوصيك بتراجم بعض الناس لترى العبادة والعلم؛ انظر إلى سيرة الإمام أحمد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن تيمية، وابن القيم، والمزي، وابن كثير، وغيرهم من الأئمة الجهابذة سوف ترى كيف وازنوا بين العلم والعبادة.

    حقيقة الجهاد الأفغاني

    السؤال: لقد سمعنا بعض الناس يشككون في الجهاد الأفغاني، ويقولون: إن عندهم بدع ولا يجوز الجهاد معهم، ولا مساعدتهم، فهل الكلام هذا صحيح أم ماذا؟ أرشدوا طلاب العلم إلى الصواب، جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أولاً من آداب أهل الحديث وأهل السنة ألا يلقوا الأحكام جزافاً بلا تفصيل، وبلا تبيُّن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] فعلى طالب الحديث أن يكون متبيناً، وأن يكون مفصلاً في أحكامه وفي إلقائه لكلامه.

    أما الجهاد الأفغاني، فنحن لا نقول: إنهم كالصحابة الذين حضروا بدراً وأحداً، ولا الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فنحن أنفسنا نحن جوار الحرم وبيت الله عزوجل، ويتلى علينا الحديث جهاراً ونهاراً لا نبرئ أنفسنا من النقص، ولا من الذنوب والخطايا، ففيهم من أهل السنة وفيهم من فيه بدعة، وفيهم مذنب، وفيهم من يرتكب الكبائر، وفيهم من يرتكب الصغائر، ولكن انظروا ماذا فعلوا:

    والدعاوى ما لم يقيموا عليها     بيناتٍ أصحابها أدعياء

    مجملاً: أجادوا كل الإجادة.

    وأنا أذكر مجاهدين من أهل السنة المؤمنين الصادقين أنهم رفعوا رءوس المسلمين، وأرغموا الملحد وسحقوه، الذين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174] قال لهم الناس: هيئة الأمم، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـهيئة الأمم:

    في فتية من بني الأفغان ما تركت     كراتهم للعدى صوتاً ولا صيتا

    قومٌ إذا قابلوا كانوا ملائكةً     حسناً وإن قاتلوا كانوا عفاريتا

    فالمقصود، من كان في رأسه شيء فليدخل أرض الأفغان، نحن مع إسرائيل وشامير أكثر من ثلاثين سنة ونحن نشكو إلى جنيف، وإلى واشنطن وموسكو وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3] إلى غير ذلك من الآيات.

    فالمقصود أيها الإخوة! الحمد لله، الآن قد أشرفوا على النصر، فواجبنا إن كنا نريد الإصلاح أن نسافر ونبين لهم السنة، ونعلمهم المعتقد، ما دام أنهم أجادوا في ذبح الروس على الطريقة الإسلامية فعلينا أن نعلمهم الطريقة الإسلامية في المعتقد، ومن عنده حديث فليذهب، بل سمعت من بعض قاداتهم مباشرة يقول: يتهمنا الناس بأنَّا مبتدعة وقد فتحنا صدورنا ومجالسنا وبيوتنا لمن يعلمنا السنة! فليأتوا.

    وفيهم والحمد لله خير كثير، والآن أشرفوا على دخول كابول، واقترب فتحها فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين.

    فنسأل الله أن ينصرنا وإياهم بالإسلام، وأن يعزنا بالإسلام ويعز الإسلام بنا.

    وبالمناسبة هنا مقطوعة في المجاهدين الأفغان، قصيدة أورد بعضها، واسمها: تحية للمجاهدين الأفغان:

    مروا بقلبي فقد أصغى لي البانُ     لي في حمى الحب أصحابٌ وإخوان

    نعم لك الله ما قد تبت من ولهٍ     أما لكم صاحبي صبرٌ وسلوان

    دع ذا وهات قوافٍ منك صادقةً     لأمةٍ مجدها بالأمس فينان

    والله لو أنصف التاريخ أمتنا     لسجل المدح عذباً وهو سهران

    مجالس العلم تروي كلَّ قصتنا     إن قلت حدثنا يحيى وسفيان

    الساكبو العلم من مشكاة دوحتهم     علم ابن عباس ياقوت ومرجان

    والصانعو الزهد والدنيا بحوزتهم     يروي علاها أبو ذر وسلمان

    وإن طلبت مثالاً من أرومتنا     يكفيك عن مضرب الأمثال أفغان

    يا أمة المجد والأرواح أثمان     في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا

    هم الرعود ولكن لا خفوت لها     خسفٌ ونسفٌ وتدميرٌ وبركان

    كم ملحدٍ ماجنٍ ظن الحقوق له     زفوا له الموت مراً وهو مجانُ

    وبلشفي أتى كالعير منتخياً      رأى المنايا فأضحى وهو جعلان

    ردوه كالقرد لو بيعت سلامته     بشعبه لشراها وهو جذلان

    فروا على نغم البازوك في غسق     فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ

    يسعى فيعثر في سروال خيبته     في أذنه من رصاص الحق خرصان

    سياف في حكمة شاهٌ بمملكة     لها من الدهر طول الحق برهان

    القصيدة البازية

    (طلب من الحضور أن يلقي الشيخ القصيدة البازية)

    أنتم يا أهل الحديث قرأتم قوله صلى الله عليه وسلم: {أنه نهى عن تلقي الركبان، ولا يبيع حاضر لباد} فالواجب ألا تتلقوا الركبان مرةً ثانية، وأن تتركوا أصحاب البضائع يردون بها الأسواق.

    أما البازية فهي في سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ولكثير من المحدثين أشعار فيه. مِنْ أمثال تقي الدين الهلالي محدث المغرب له قصيدة للشيخ، يقول فيها:

    خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا     على آل باز إنهم بالثنا أحرى

    وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم      رآه رأى فيه المشقة والعسرى

    وشاعر سوري يقول في الشيخ عبد العزيز:

    روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا     حديث الحب ضربٌ من الوهم

    فلما تلاقينا وجدناك فوق مـا     سمعنا به في العلم والأدب الجمِّ

    فلم أرَ بازاً قط من قبل شيخنا     يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي

    وأما قصيدتي في سماحة الشيخ فاسمها البازية، قلت فيها:

    قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي     فقمت أنشد أشواقي وألطافي

    لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا     فهو الغفور لزلاتي وإسرافي

    عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم     لأنها ذكرتني سير أسلافي

    يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن     أجرى الدموع كمثل الوابل السافي

    يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا     بالمغريات وأنت الثابت الوافي

    أغراهم المال والدنيا تجاذبهم     ما بين منتعلٍ منهم ومن حافي

    مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم     أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي

    وأنت جالست أهل العلم فانتظمت     لك المعالي ولم تولع بإرجافِ

    بين الصحيحين تغدو في خمائلها     كما غدا الطلُّ في إشراقها الضافي

    تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى     من دقة الفهم دراً غير أصداف

    أقبلت في ثوب زهدٍٍ تاركاً حللاً     منسوجةً لطفيليٍ وملحاف

    تعيش عيشة أهل الزهد من سلفٍ     لا تبتغي عيش أوغادٍ بتطوافِ

    فأنت فينا غريب الدار مرتحلٌ     من بعد ما جئت للدنيا بتطوافي

    سر يا أبي! واترك الدنيا لعاشقها     في ذمة الله فهو الحافظ الكافي

    ومنها:

    أراك كالضوء تجري في محاجرنا     فلا تراك عيون الأغلف الجافي

    كالشدو تملك أشواقي وتأسرها     في نغمة الوحي من طه ومن قاف

    ما أنصفتكَ القوافي وهي عاجزة     وعذرها أنها في عصر أنصاف

    يكفي محياك أن القلب يعمره     من حبكم والدي أضعاف أضعافِ

    يفديك من جعل الدنيا رسالته     من كل أشكاله تفدى بآلافِ

    وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755947980