إسلام ويب

تفسير سورة الشورى [8 - 12]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخبر الله تعالى أنه قادر على أن يهدي الخلق كلهم أو يضلهم كلهم، لكنه تعالى هدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء، وله الحكمة والحجة البالغة، وكذلك أخبر سبحانه منكراً على المشركين اتخاذهم آلهة من دون الله، مع أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه القادر على كل شيء، فقد خلق الخلق كلهم وخلق السماوات والأرض وما بينهما وغير ذلك على غير مثال سابق، ففطر هذه المخلوقات وأبدعها وأتقنها سبحانه، فلماذا يعبد سواه إذن؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة... وهو على كل شيء قدير)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى:8-9].

    يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكن الله سبحانه وتعالى له حكمة عظيمة بالغة أن يخلق العباد فمنهم مؤمن ومنهم كافر، كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فهو خلقهم لحكمة منه سبحانه، فالله عنده ملائكة يعبدونه ليل نهار، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فأراد أن يخلق خلقاً يختبرهم ويبتليهم، قال الله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فعرضت أمانة التكاليف على السماوات فأبت وخافت من الحساب يوم القيامة، وعرضت على الأرض فأبت، وعرضت على الجبال فرفضت، وعرضت على الإنسان فقبل وتحمل ذلك، قال الله عز وجل: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، كأن المعنى هنا: جنس الإنسان الذي أخذ والذي قبل وهو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ففي ذرية آدم الظلم وفيهم الجهل، فوصف الجميع بهذه الصفة، فقال: (إِنَّهُ) أي: الإنسان: (كَانَ ظَلُومًا)، أي: فيه ظلم وفيه بغي، (جهولاً) أي: لا يدري مصلحة نفسه، فيجهل فيقع في الخطأ.

    قال الله تعالى هنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، فالله تعالى يرحم من عباده الرحماء، يرحم من عباده من يعبده ولا يشرك به شيئاً، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] لكن من عبد غير الله فهذا هو الذي ظلم نفسه، وهذا هو الذي يستحق العذاب، وهذا الذي يعبد غير الله هل وجد في غير الله سبحانه صفات هو بسببها يستحق أن يعبد؟! هل هذا يصلح أن يتولى أمره هذا الصنم الذي يعبده، أو الجني الذي يتقرب إليه؟! هل يصلح أن يتولى أمره وأن يرزقه وأن يعطيه وأن يمنعه وأن يرفعه وأن يضعه؟! هل يصلح لذلك؟!

    قال سبحانه: أَمِ اتَّخَذُوا ، هذه (أم) الإضرابية المقدرة ببل والهمزة، والمعنى: اضرب عن هذا وانظر فيما يقول هؤلاء: هل اتخذوا من دون الله من يصلح لهذه الصفة أن يكون إلهاً، أم أنهم صنعوا من الأحجار آلهة فعبدوها وهم موقنون أنها لا تنفع ولا تضر؟! قال تعالى: (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أي: الله سبحانه وتعالى هو الولي وحده الذي يتولى أمر خلقه ويدبر الأمر، قال تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2]، أي: الله يدبر أمر كونه، فهو القائم والقاهر فوق عباده، وهو الحي القيوم الذي يقوم بكل شيء، وكل شيء لا يقوم إلا به سبحانه وتعالى، فهو يتولى أمرك، ويصلح لك حياتك ومعيشتك، قال تعالى: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، هذه صفة فعل من أفعاله سبحانه وتعالى، فهو الرب يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.

    فهل هذه الآلهة تحيي الموتى؟ الله وحده هو الذي يحيي الموتى لا شريك له، وهو على كل شيء قدير، وكل ما يكون من شيء فالله هو الذي يوجده ويكونه سبحانه وتعالى، وهو القادر على أن يبيده ويهلكه، فهو كما أنشأه من عدم قادر أن يرده إلى العدم مرة ثانية، فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله...)

    قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10]، أي: فمهما اختلفتم فيه من شيء فردوا الأمر إلى الله، فهو الذي يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، ولو ترك الإنسان ونفسه وجنسه لظلم الناس بعضهم بعضاً، الإنسان من طبيعته فيه الظلم، فلا يصلح أن يحكم غيره بشريعته وبهواه هو، وبما يريده، فهو مهما ادعى الحق والعدالة والمساواة والحرية وغير ذلك من الكلام الباطل الذي تطلقه عصبة الأمم وتقول: نريد المساواة ونريد الإخاء .. ونريد ونريد .. فهذا كلام باطل، صاغه اليهود حتى يلعبوا بالأمم جميعها، يقولون: نحن الذين نقول وأنتم الذين تنفذون، ونحن الذين نحكم وأنتم الذين تكونون وراءنا، نحن لنا الدنيا كلها وليس لكم منها شيء، فصاغوا للناس ما يشتغل الناس به، يريدون الحرية، ويريدون مساواة، ويريدون ديمقراطية، ويريدون كذا ويريدون كذا، وهم بعيدون عن الحق والعدل.

    المفاسد المترتبة على تحكيم غير شرع الله سبحانه

    إن حكم الله عز وجل هو الشريعة والمنهاج الذي لا يظلم أحداً أبداً، يقولون: نريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، لا نريد الدين، دعه وراء ظهرك، فالديمقراطية معناها: حكم الشعب نفسه بنفسه، بينما الدين يقول: الحكم إلى الخالق سبحانه وتعالى، هذا دين الله عز وجل: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، وهم يقولون: لا نريد الدين، ويقولون: لماذا الله سبحانه وتعالى هو الذي يشرع لنا هذا الدين؟ ويقولون: العبادة دعها لله والدنيا دعها للناس، ما لله لله وما لقيصر لقيصر، أي: لا يتدخل أمر الله في أمر البشر.

    ونقول لهم: يقول الله: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، أي: هو الذي خلقكم، فهو أعلم بنفوسكم وبطبائعكم، وهو الذي يشرع لكم حتى لا يظلم بعضكم بعضاً، يقولون: لا نريد هذا الشيء، نريد أن نكون نحن الذين نحكم أنفسنا بما نريد، فيحكمون بما يريدون، ويضعون القوانين، ومن ثم القوي يقول: لا يطبق علي هذا القانون، وإنما يطبق عليكم وإن خربت الدنيا كلها، فمثلاً: يقولون: إن ثقب الأوزون الذي في السماء يتخرم بسبب الآلات الكثيرة الموجودة في البلاد، وبسبب العلوم الحديثة والاختراعات الكثيرة والطاقة المستهلكة الكبيرة، والأوزون هو الذي يحمي الكرة الأرضية من أشعة الشمس ومن الإشعاعات الكونية الآتية من الخارج، فيقولون للدول: قللوا من استهلاك الطاقة، وكلكم يوقع على ذلك، أما أمريكا، فيقولون: لا تدخل في هذا الشيء، وكلكم عبيد لها، وهي وحدها التي تحكم.

    هذه هي الديمقراطية التي تريدها، القوي يحكم الدنيا كلها، والضعيف ليس له شيء، إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، هذا حكم العبد للعبد، وحكم الإنسان للإنسان أن القوي يشرع وتعمل أنت بالذي يقوله، ويقولون: نحن نملك أسلحة نووية وأسلحة ذرية، وأنتم لا؛ لأنكم أقل في العقول من أن تملكوا، هذه الأسلحة، بل أنتم مثل الطفل الصغير الذي يمسك النار ويحرق به نفسه، لكن نحن كبار، نأخذ النار ونعرف ماذا نعمل بها.

    لو فكرت دولة من هذه الدول المستضعفة أن تصنع شيئاً لقالوا: لا، القانون يمنعكم من هذا الشيء، فإن أبيتم الامتناع غزوناكم في دياركم من أجل أن نمنعكم من أن تصنعوا هذا الشيء الممنوع عليكم؛ لأنكم ستكونون الند لنا، وستخوفوننا في يوم من الأيام، إذاً لا تفعلوا شيئاً من ذلك، بل نحن فقط الذين نعمل؛ لأننا بلغنا سن الرشد!

    والمساواة عندهم أن تلغي الدين وأن تجعله وراء عقلك، والمساواة التي ينادون بها هي أن تساوي بين الرجال والنساء، فلا يوجد عندهم فرق بين الرجل والمرأة، فالرجل عندما يطلق المرأة عليه أن يعطيها نصف ما يملكه، هذه شريعتهم الكفرية التي يريدون أن يحكموا بها الدنيا كلها، يريدون أن يحكموا الناس بحديد ونار، يضعون الأغلال في أعناقهم ويقولون: اعملوا ما نقوله لكم وإلا خربنا عليكم بيوتكم.

    هذا الذي يريدونه من المساواة المثلية، أن يكون الرجل مثل المرأة، فما المانع عندهم أن يتزوج الرجل الرجل والمرأة المرأة، هم يريدون السحاق بين النساء، ويريدون الشذوذ بين الرجال، ويسنون القوانين بذلك، ففي إيران يعدمون رجلين لوطيين وقعا في اللواط فأقاموا عليهما شرع الله عز وجل بالإعدام، فإذا بالمظاهرات في بلاد الكفر تستنكر إقامة الحدود الشرعية، ويصورون امرأة في مجلة خنقت نفسها ومنظرها منظر قبيح شنيع استنكاراً على المسلمين أن يقيموا شرع الله في أن يقتلوا اللوطي، هذه هي الحرية التي يريدونها، حرية إباحة الفاحشة، إباحة الزنا والدعارة واللواط والجنس في بلاد المسلمين، عرفوا أن بلاد المسلمين محفوظة بهذا الدين، فأرادوا أن يخربوا العقول بإدخال المخدرات إليها، فإذا ظهر في أفغانستان من يمنع ذلك كطالبان فإنها منعت زراعة المخدرات، فماذا فعل الغرب وعلى رأسهم أمريكا؟ لقد قاموا بضرب أفغانستان من أجل أن تستمر زراعة المخدرات وتخرج من هنالك.

    كذلك البترول الموجود هنالك سيطروا عليه، ولما كان في العراق مخزون البترول الذي سينفعهم في يوم من الأيام حين ينفد بترولهم، قاموا بغزوهم العراق حتى يأخذوا بترول العراق، وتؤخذ أرض العراق، وهكذا في كل بلاد المسلمين، والدعوى التي يتشدقون بها هي نشر الديمقراطية، ونشر الحرية، وإزالة الناس الذين يحكمون بلاد المسلمين؛ لأن هؤلاء الحكام لا توجد عندهم حرية، وفيهم ديكتاتورية وفيهم كذا وكذا، وما هو الذي يريدون أن يأتوا به إلى بلاد المسلمين؟ أمركة جميع بلاد المسلمين، حتى تصير هذه البلاد تابعة لهؤلاء في كل شيء، وأول الأشياء هو إلغاء دين الله سبحانه وتعالى.

    ألم تسمعوا لهم كيف تبجحوا وقالوا: نريد إخراج مصحف للمسلمين محذوفة منه آيات الجهاد!

    إنه لما ضعف المسلمون سكتوا لهؤلاء وجعلوهم يتحكمون فيهم بما يشاءون، وتركوهم يشرعون لهم ما يريدون، حتى إنهم يتدخلون في مناهج التدريس في بلاد المسلمين: درسوا كذا ولا تدرسوا كذا، وإذا ذهب المسلمون إلى بلادهم ليتعلموا علموهم فقط الأشياء التي سينتفعون من ورائها من المسلمين، أما أن المسلم يصل لدرجة عالية ويكون خادماً لبلاده فلا، بل يؤخذ لبلادهم هم، ويخدمهم هم، ولا يخدم بلاده إذا كان عالماً في الذرة، إذا كان عالماً في علوم عالية تصلح لها البلاد، هذا يستقطبونه ويأخذونه إليهم ولا يتركونه في بلاد المسلمين.

    وجوب التحاكم إلى شرع الله عز وجل عند الاختلاف

    يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] إذا اختلفتم في شيء بعضكم مع بعض، أو أنتم مع الكفار فردوا الحكم إلى الله سبحانه، واحذروا أن تطيعوا الكفار؛ لأنكم إذا أطعتموهم فالنار مثواكم.

    قال تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: الله المتفرد بأن يعبد وحده لا شريك له، وهو الرب المتفرد بالخلق سبحانه وتعالى، فمن خلق فهو الذي يستحق أن يعبد وهو الذي يستحق أن يشرع، فإذا اختلفت مع أحد في شيء فتحاكموا إلى دين الله عز وجل لا إلى الناس، فالناس يظلم بعضهم بعضاً، ويتطاول بعضهم على بعض، وربنا سبحانه يذكرنا بشيء في طبائع نفوس الناس فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، أي: قم لله سبحانه وتعالى في أمرك في دينك ودنياك بالعدل، كن عادلاً مع المسلمين ومع الكفار، اعدل مع الخلق جميعهم.

    قوله: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) أي: أقيموا الشهادة ابتغاء وجه الله حتى ولو كانت على أنفسكم، ولو كانت على الوالدين، ولو كانت على الأقربين، اشهد بالحق ولا تجامل أحداً، ولا تكتموا الشهادة؛ فالله هو العليم بالنفوس، يقول: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا أي: الذي ينحرف في الشهادة إما لأن هذا غني ينتفع منه، فيقول: فلان غني سيعطيني كذا لو لم أشهد، وسيعطيني كذا لو شهدت معه، أو يقول: فلان هذا مسكين وفقير فلن أشهد عليه لئلا يؤذوه.

    فيقول الله عز وجل: إن كان غنياً وأنت تريد نفعاً من ورائه أو تخاف سطوته، أو كان فقيراً وأنت ترحمه فالله أولى بهما سبحانه وتعالى، والله رحيم بعباده، وهو الذي أمرك بذلك أن تشهد، هذا الدين هو الذي يجردك عن النظر لفلان لكونه فلاناً ولعلان لكونه كذا، ويجعلك تنظر إلى الله فقط سبحانه وتعالى، فهو يراقبك وهو أولى بخلقه سبحانه وتعالى.

    إذاً: المسلم الحق لا يخاف في الله لومة لائم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينصح متجرداً ومخلصاً لله سبحانه وتعالى، هذا دين الله سبحانه وتعالى، الذي يقول لنا في كتابه العظيم: (فَحُكْمُهُ إِلَى الله)، أي: حكم كل أمر مرده إلى الله سبحانه، (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي: توكلت على الله، ووكلت أمري وفوضت أمري إلى الله سبحانه وتعالى، لا أقدر على القيام بأمري؛ لأني أضعف عن ذلك، فأكل الأمر إلى الله سبحانه، فترجو من الله أن يعينك، وأن ينصرك، ولا تقل: أنا أستطيع، أنا سأعمل كذا وأفعل كذا، فأنت لا تقدر إلا أن يعينك الله، هذا معنى التوكل، أن تتوكل على الله وترجو منه الإعانة وتأخذ بالأسباب، ولا تنسب الفضل لنفسك، فليس لك فضل، فالإنسان الذي يذهب إلى عمله، من الذي أيقظك من منامك، وجعلك تقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور؟ إنه الله الذي أحياك سبحانه وتعالى، وهو الذي رد عليك سمعك وبصرك، وهو الذي وجهك بعقلك أن تتوجه إلى شغلك فلا تضل السبيل، والله سبحانه وتعالى هو الذي مكن يديك ورجليك في العمل أن تعمل وتنتج، والله سبحانه وتعالى هو الذي جعل عملك جيداً حيث أعانك عليه، وأنت عندما تنسب الفضل لنفسك وتقول: هذا بجهدي وبتعبي، وهو الذي وفقك سبحانه وتعالى، ألا تنسب الفضل لصاحبه، فتقول: الحمد لله الذي وفقني، وإنما أنا سبب من الأسباب، والله عز وجل هو الذي يدبر الأمر.

    قوله: (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: أرجع إليه وأتوب إليه سبحانه؛ لأن مرجعي إليه في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا أرجع إليه تائباً، وفي الآخرة مرجعي إليه ليحاسبني سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ...)

    قال الله تعالى: فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    قوله: (فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: هو فاطر مبدع ومنشئ على غير مثال سابق سبحانه، فطر السماوات وأنشأها أول إنشاء، فلم يكن هناك سماء قبل هذه السماء التي خلقها الله، ولم يكن هناك أرض قبل الأرض التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فهو فاطرها ومنشئها أول مرة على غير مثال سابق، لا يقلد، وعادة المخترعين في الدنيا أن يقلد كل منهم الآخر، فيطور شيئاً فشيئاً، فتجد الآلة كان لها أصل، فهم لما فكروا في صناعة الطائرة هذه التي تطير في السماء، كان ذلك في زمان عباس بن فرناس، فقد قام وصنع جناحين، وحاول أن يقلد الطيور، فهو لم يأت بفكرة الطيران من رأسه، وإنما وجد أمامه طيراً فحاول أن يقلده وأن يطير، فهذا لم يفطر هذا الشيء وإنما قلد ما خلقه الله عز وجل، ثم طور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى هذا الشيء، لكن الله سبحانه خلق السماوات على غير مثال سابق، فلم تكن سماوات قبل ذلك.

    قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، أي: جعل حلائلكم ونساءكم من أنفسكم.

    وقوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فيها معنيان صحيحان:

    الأول: من أصلكم وهو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، خلقه الله عز وجل، وخلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، فـحواء من آدم.. من جنسه.

    الثاني: جعل لكم من جنسكم من الإنس من البشر النساء، ولم يجعل لكم النساء من الجن، بل جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة سبحانه وتعالى، ولذلك لما خلق الله بقدرته سبحانه وبرحمته لآدم حواء ، آنس شيئاً بجواره وركن إليها ومال إليها؛ لأنها منه ومن بعضه، فكذلك الإنسان يكون في بيته مع أهله يستشعر المحبة والمودة، ويستشعر الرحمة؛ لأنها من الجنس الذي هو منه، هي من البشر وهو من البشر.

    قوله: (وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا)، أي: ملككم هذه الأنعام وجعل للأنعام من أنفسها أزواجاً، وهي أصناف وأنواع وأشكال، وجعل منها الذكر والأنثى.

    وبهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، فجعلها أصنافاً ذكوراً وإناثاً، وملككم ذلك.

    قال سبحانه: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)، أي: يبث وينشر ويخلق ويكثر، فيجعلكم كثيرين في هذا الخلق الذي خلقه، كثيراً من الناس، كثيراً من الدواب والحيوان والطيور، فهو سبحانه يبثكم وينشركم ويجعلكم في هذه الدنيا كثيرين.

    قال عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: ليس مثل الله شيئاً، ولا شيء في خلق الله سبحانه يشبه ربه سبحانه في صفاته وفي قدرته سبحانه وتعالى، وفي ذاته.

    وكلمة (مثل) هنا من أدوات التشبيه، وكذلك الكاف من أدوات التشبيه أيضاً، وهنا جمع الاثنين فقال: (ليس كمثله).

    فالكاف كأن تقول: محمد كأحمد، فتشبهه، وتقول: يده كيدي ورجله كرجلي وعينه كعيني، وتقول: فلان مثلي.

    فهنا جمع الاثنين لتأكيد النفي أنه لا يشبهه شيء أبداً، ولا يشبه هو شيئاً أبداً، فإذا حذفت أحد الاثنين قلت: ليس هو كشيء من الأشياء، لأن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا شيء من خلقه يشبهه، حاشا لله سبحانه وتعالى.

    والكاف لتشبيه العوارض والصفات، تقول: صفاته كصفاتي، وهنا ليس كصفات الله عز وجل شيء، وكذلك لا يشبه ذات الله سبحانه وتعالى ذات من الذوات، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، لا يشبهه شيء لا في ذاته سبحانه ولا في صفاته، وإن اشترك معه المخلوق في شيء من الصفات في المسمى فهو اشتراك في التسمية نفسها، فالله حي سبحانه وتعالى، والمخلوق حي، وحياة المخلوق حياة ضعيفة ومحدودة بهذا المخلوق، والله الحي سبحانه الذي لا يموت، والمخلوق يعتريه الموت.

    والله هو السميع البصير، له الأسماء الحسنى وله الصفات العلى، لا يشبهه فيها شيء أبداً، والإنسان يسمع ويبصر، فإذا قلنا: فلان هذا بصير، ينظر بعيداً، فلان هذا نظره طويل، ولكن الإنسان يعتريه العشا ويعتريه العمى، وتعتري الإنسان الغفلة، ويعتريه النوم، والله سبحانه هو البصير الذي لا يعتريه شيء سبحانه وتعالى.

    والإنسان يبصر فيحتاج إلى نور حتى يبصر فيه، والله يرى كل شيء سبحانه، الإنسان يرى ما ظهر، أما ما خفي فلا يراه، والله يرى كل شيء ما دق وما قل، وما خفي وما ظهر، وقس على ذلك كل صفات الله سبحانه وتعالى التي يجوز أن يوصف مخلوق بشيء منها، فالمخلوق يسمع ويرى ويتكلم ..، فهذه الصفات للمخلوق هي محدودة تليق بضعفه وعجزه، أما الله عز وجل فله الصفات التي تليق به سبحانه، فهو الحي القيوم وهو الرب سبحانه وتعالى، ولذلك هنا نفى وأثبت فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: لا شيء يشبه الله سبحانه وتعالى، ثم حتى لا تقدم على النفي المطلق فتنفي كل شيء عن الله عز وجل قال: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، أي: له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولكن لا يشبهه شيء في سمعه ولا في بصره سبحانه وتعالى، ولا في صفات أفعاله ولا في صفات ذاته سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (له مقاليد السموات والأرض...)

    قال الله تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى:12].

    قوله: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، أي: يملك مفاتيح السماوات والأرض، فلا يقدر أحد أن يفتح خزائن الله إلا أن يشاء الله، له الخزائن كلها، وخزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، العباد يسألونه سبحانه وينزل خيره إلى العباد، لكن لا يتخيل الإنسان أنه سوف ينزل من عند الله ما يشاء بمشيئته هو، فمشيئة البشر مفاتيحها عند الله سبحانه وتعالى، يملكها فلا يعطيها أحداً من خلقه، فلا يأخذون شيئاً إلا بما يشاء سبحانه، مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2]، ينزل رحمته فلا يقدر أحد أن يمسك هذه الرحمة ويمنعها، وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2].

    إذا قدر وضيق وأمسك من الذي يترك هذا وينزله؟ لا أحد، فالمفاتيح عند الله سبحانه وتعالى، (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) والمعنى: أنه يملك مفاتيح كل شيء، ويملك خزائن كل شيء.

    قوله: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ أي: يعطي ويفتح سبحانه الرزق لمن يشاء من خلقه، وَيَقْدِرُ أي: يضيق، فهو الذي يبسط وهو الذي يضيق، وهو الذي يفتح وهو الذي يغلق سبحانه وتعالى، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: كل شيء تتخيله الله يعلمه سبحانه وتعالى، فكر في الشيء القليل ثم قس على ذلك الكثير، انظر إلى النخلة المثمرة، خرجت من نواة الله أعلم بها سبحانه وتعالى، هذه النواة ألقاها من أكلها، والله أعلم أين ستذهب هذه في الأرض، وينزل لها الماء الذي ينفعها، وأخرجت نبتاً، وجعل لها ساقاً، وجعل لها جذوراً، وغذاها من الأرض، ثم أخرج منها الجذوع وأخرج منها الثمار، كم عدد هذا البلح الذي في هذه النخلة؟ فالله يعلم أي بلح من هذا البلح يصير تمراً، وأي شيء منه يكون رطباً، وأي شيء منه يكون بسراً، الله أعلم بذلك سبحانه وتعالى.

    وقس جميع ما خلق الله سبحانه وتعالى على ذلك من دواب بثها في الأرض، وجعل لها رزقها، وجعل فيها عقولاً تفهم كيف تأتي بهذا الرزق الذي قدره الله سبحانه وتعالى، فالنمل هذا المخلوق الصغير الذي جعله الله عز وجل أمماً أمثالكم، كيف تأتي إلى الحبة وتأخذها لتخزنها للشتاء، فإذا خافت عليها من أمطار السماء إذا بها تثقبها، تثقب الحبة من أجل ألا تنبت إذا جاء عليها ماء، من الذي علمها ذلك؟

    إذاً: النمل يجمع هذه الحبوب للشتاء، وفي نيجيريا لما حصلت عليهم المجاعة التي هم فيها، ذهبوا ليبحثوا عن الغذاء في جحور النمل، ذهبوا من أجل أن يأخذوا من جحورها الحبوب التي جمعها النمل ليأكلها البشر، سبحان من قدر الأرزاق لمن يشاء من خلقه سبحانه وتعالى! فاحذروا من غضب الله سبحانه وتعالى أن تعصوه، فيمنع عنكم القطر من السماء، أو يرسل عليكم طوفاناً من الأرض.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756192756