إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [36 - 40]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى في هذه الآيات البينات قصة نبيه شعيب مع قومه، وكيف أنه دعاهم إلى عبادة الله وخوفهم اليوم الآخر ونهاهم عن الفساد في الأرض؛ فبدلاً من أن يؤمنوا كذبوه، فأهلكهم الله سبحانه، ثم ذكر نماذج من أولئك المكذبين وكيف أهلكهم ودمرهم؛ كل ذلك ليتعظ المؤمن ويعتبر بمن سبق، فمن فعل الذنب فلا يبعد أن تحل به عقوبة أمثاله من الأمم البائدة.

    1.   

    ذكر بعض أنبياء الله تعالى

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    لما ذكر الله عز وجل لنا قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه وكيف أنه دعاهم إلى الله عز وجل وكانوا يعبدون الأوثان والأصنام من دون الله، فرفضوه وأرادوا أن يحرقوه فأنجاه الله عز وجل من النار، وذكر لنا قصة لوط ابن أخي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف أنه هاجر مع إبراهيم إلى بلاد الشام، ودعا قومه في قرى سدوم وعمورة وصوغر، فلما دعاهم إلى الله سبحانه أبوا إلا الكفر والإعراض والوقوع في أعظم المنكرات والفواحش وإتيان الذكران من العالمين، ثم حذرهم عقوبة الله عز وجل فرفضوا وقالوا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت:29] فجاءهم العذاب فاقتلعهم الله عز وجل بأرضهم، وزلزل بهم، وأرسل عليهم من السماء حجارة من سجيل، فأصبحوا في ديارهم هامدين خامدين صرعى جزاءً بما كانوا يعملون.

    ونلاحظ في سورة الأعراف عندما يذكر الله تعالى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يطيل في ذكرهم، وما فعلوا مع قومهم وما فعل قومهم معهم.

    وكذلك في سورة هود، وفي سورة طه عندما يذكر موسى عليه الصلاة والسلام.

    ولكن في هذه السورة إشارات الغرض منها: أن يبين الله تعالى كيف أن العصيان من الأقوام يترتب عليه العقوبة العاجلة من الله سبحانه.

    فهذه السورة جزء منها مكي وجزء مدني، وكأن الجزء المكي منها يبين للنبي صلى الله عليه وسلم وللكفار من أهل مكة أن هذا رسول حق عليه الصلاة والسلام، وهو يدعوكم إلى الله كما دعا من قبل إبراهيم، ولوط، وشعيب، وغيرهم من الأنبياء دعوا أقوامهم، وأنتم كذبتم كما كذب من قبل قوم إبراهيم وقوم لوط، وقوم شعيب وقوم موسى وغيرهم فانتظروا سوء عاقبة من كان قبلكم.

    وذكر الله عز وجل قوم نوح، ثم عقب بإبراهيم عليه الصلاة والسلام.

    ونوح أول الأنبياء وأول الرسل عليه الصلاة والسلام إلى الكفار المكذبين، وبعده إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وإن كان بينهما قرون كثيرة فيها أنبياء يعلمهم الله سبحانه وتعالى.

    ولكن كأن الغرض هنا في الترتيب أن يذكر الأب بعد الأب، فآدم الأب الأول، وبعده نوح عليه الصلاة والسلام، ثم أغرق الله عز وجل البلاد وأهلك العباد الذين كفروا به، وصار من على الأرض أبناء نوح عليه الصلاة والسلام فهو أب بعد أب.

    وذكر بعده إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام وله التشريف.

    ثم ذكر بعده لوطاً فهو في نفس الزمن، وهو ابن أخيه.

    ثم ذكر بعده شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قول الله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيباً ...)

    قال تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [العنكبوت:36].

    هو مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد سكن في هذه الديار التي سميت باسمه.

    إذاً: ديار مدين التي كانت بين الشام وبين الحجاز هي مدين التي فر إليها موسى عليه الصلاة والسلام، فتجد في رأس خليج العقبة مكاناً اسمه أيلة بالقرب من الحجاز، أو على أول الحجاز تكون بلد مدين، والبعد بينها وبين مصر أكثر من ألف ميل الذي مشاه موسى عليه الصلاة والسلام هارباً من فرعون وفاراً إلى مدين! وتزوج هنالك ثم رجع إلى مصر مرة ثانية كل هذا ماشياً على قدميه عليه الصلاة والسلام.

    فهذه مدين، وهذا مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكأنها المناسبة: أن هذا مدين بن إبراهيم وهذه البلدة التي كان فيها أرسل إليهم شعيب عليه الصلاة والسلام.

    فكأن قوم مدين كانوا قريبي عهد بإبراهيم؛ ولذلك استبعد من استبعد من المفسرين أن يكون شعيب هذا زوج ابنته موسى عليه الصلاة والسلام.

    وقالوا: المسافة بعيدة بين إبراهيم وبين موسى حوالي ألف سنة، وشعيب قريب من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من أبناء مدين الذي هو ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قالوا: فبعيد أن يتزوج موسى من ابنة شعيب النبي.

    لكن الغرض هنا أن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى مدين الذين كذبوا وكفروا أخاهم شعيباً، كأنه يقول هنا: وإلى مدين أرسلنا أخاهم شعيباً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر)

    قال تعالى: فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ [العنكبوت:36] أي: اعبدوا الله، فأمرهم بعبادة الله سبحانه وتوحيده، وبأن يوجهوا كل أعمالهم خالصة لله سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ أي: أملوا ما عند الله من جنة وخافوا من عذاب الله سبحانه وصدقوا بما جئتكم به من رسالة من عند رب العالمين.

    ثم قال: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين [العنكبوت:36] يعثى: بمعنى: يفسد، ويقال في العثى: أنه أشد الفساد، أي: لا تفسدوا في الأرض أشد الإفساد فكان إفسادهم أنهم كفروا بالله سبحانه، وأنهم ينقصون في الكيل والميزان كما فصل الله عز وجل في سورة الأعراف وفي سورة هود كيف أن نبيهم بين لهم ذلك.

    وكان شعيب يلقب بخطيب الأنبياء؛ لحسن بيانه، وحسن تبليغه، وجمال كلامه، وأنه أخذ قومه باللطف وبالبيان شيئاً فشيئاً وحجة وراء حجة ليقنعهم، ومع ذلك لم يستجيبوا ولم يؤمنوا به.

    فقال لهم: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:85-86] فدعاهم بهذا البيان الطيب الجميل: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي: معي بينة وآية تدل على أني رسول من رب العالمين سبحانه وتعالى.

    ثم قال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ .

    وفي آية أخرى: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود:85].

    وفي الآية الأخرى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف:85].

    ثم قال: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود:86] أي: لا أملك إلا أن أدلكم على الحق، ولست رقيباً عليكم، ولا أحولكم من شيء إلى شيء فلا أملك لكم ذلك.

    فيخاطبهم ويتلطف لهم ويرقق قلوبهم بقوله: يا قوم! أي: أنا منكم، فقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

    وقال: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [هود:85-86] يعني: ما بقي لكم من حلال أفضل وأخير لكم من حرام تطلبونه إن كنتم مصدقين بأنكم ترجعون إلى الله فيحاسبكم يوم القيامة.

    فما كان جواب قومه إلا أن ردوا عليه بالسفاهة فقالوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87] أي: أنت جاعل نفسك حليماً رشيداً فلن نسمع الكلام الذي تقوله.

    ثم قال تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88].

    وحاشا له أن يكون قد دخل في ملتهم حتى يعود فيها، ولكنهم قصدوا من آمن معه، فكما دخلوا معك في دينك يرجعون إلى ديننا مرة أخرى، وإلا فسوف نخرجك ونطردك من هذه القرية.

    فرد عليهم: قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا [الأعراف:88-89] ثم دعا ربه: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89].

    ثم قال تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [الأعراف:90].

    إذاً: جدل طويل بين شعيب وبين قومه، يرقق قلوبهم، ويدعوهم إلى هداية الله رب العالمين، وهم يأبون إلا قسوة القلوب والاستكبار والإفساد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأخذتهم الرجفة...)

    وفي النهاية يذكر الله عز وجل أنه أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فقال: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [العنكبوت:37] فأجمل هنا ما فصل في سورتي الأعراف وهود وغيرهما.

    قال: (فكذبوه) إجمالاً، (فأخذتهم الرجفة) وزلزل الله عز وجل بهم الأرض من تحتهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين وجاءهم العذاب من عند الله سبحانه.

    وقد قال هناك: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:92] (كأن لم يغنوا) أي: كأن لم يعيشوا وكأن لم يقيموا فيها أبداً وكأنهم لم يكونوا قبل ذلك، مضت أعوام وسنون وهم في هذا المكان كافرين بالله سبحانه وتعالى، فلما جاءتهم الرجفة أصبحوا في ديارهم جاثمين: من الجثوم، والجثوم: البروك على الركب وعلى الأقدام، فكأنهم حين جاءت عليهم الرجفة من رعبهم يلقون أنفسهم على الأرض ويأتيهم الموت وهم على ذلك.

    قال تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود:94] ومنها المجثمة: وهي الطائر الذي يربط في مكان ويحذف عليه بالسهام.

    وكذلك يقال: جثم الطائر وجثم الأرنب، بمعنى: أنه لبد في المكان وأقام وألصق بطنه بالأرض؛ فكذلك هم أصبحوا في ديارهم جاثمين ملقون على الأرض باركين عليها أمواتاً، وجاءهم العذاب من عند رب العالمين.

    ثم قال: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ [الأعراف:93] أي: شعيب عليه الصلاة والسلام: وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف:93] أي: لا تستحقون أن أحزن عليكم، وكيف آسى عليكم وقد كفرتم بالله وقد حذرتكم فاستحققتم هذه العقوبة من ربكم؟ فلا آسى عليكم، ولا أحزن عليكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى:(وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم...)

    ثم ذكر الله عز وجل أقواماً آخرين قبل شعيب، وقبل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ [العنكبوت:38] أي: اذكروا عاداً واذكروا ثمود قبل ذلك فهم أقوام أهلكهم الله سبحانه وتعالى.

    وفي قوله تعالى: وَثَمُودَ قراءتان: قراءة حفص عن عاصم وحمزة ويعقوب : (وثمود وقد تبين لكم).

    وقراءة باقي القراء: (وثموداً وقد تبين لكم) بالألف وعليها تنوين.

    قال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ يعني: أنتم تمرون على ديار عاد، وتمرون على ديار ثمود فالله تعالى يخاطب قريشاً وأهل الحجاز: لقد عرفتم ديار هؤلاء، وكيف أهلكهم الله سبحانه، وكيف أن ديارهم لم تسكن إلا قليلاً، فديار عاد في الجنوب بين اليمن والحجاز، وديار ثمود في الشمال بين الحجاز والشام.

    قال سبحانه: وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ في الحجر وفي الأحقاف كيف أهلكهم الله سبحانه.

    قال تعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [العنكبوت:38] أي: أن الشيطان يزين للإنسان الشيء على خلاف حقيقته، والله تبارك وتعالى يزين الشيء خلقة، فالله يخلق الأشياء جميلة وخلق الله عز وجل كله طيب جميل، والشيطان يأتي الإنسان فيزين له سوء عمله، فيعمل القبيح، فإذا بالشيطان يريه أن هذا الذي يصنعه أمر حسن.

    والله يحرم على العبد النظر إلى الحرام؛ فإذا بالشيطان يزينه في عينه فيوسوس: انظر إليه فإنه حلو جميل، فينظر إلى ما حرم الله ويواقع ما حرم الله.

    والشيطان يزين له المعصية ويزين له ما فيه غضب الله على أنه شيء يرضيه، فإذا بالعبد يواقعه فيقع في غضب ربه سبحانه، فزين لهم الشيطان أعمالهم القبيحة فجعلها في نظرهم حسنة.

    قال تعالى: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [العنكبوت:38] أي: عن طريق الله سبحانه.

    ثم قال: وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت:38] أي: أن الإنسان الذي يتنكب الطريق وهو لا يعرف لعله يكون له عذر، أما الذي يعرف الطريق ويتنكب عنه فهذا لا عذر له.

    فالله عز وجل أرسل الأنبياء يرشدون الناس: هذا طريق الله عز وجل، وهذا طريق الشيطان، واحذر أن تسلك هذا الطريق.

    إذاً: هو مستبصر الآن ويرى الطريق الصحيح أمامه، كالذي يسير وأمامه طرق ولا يعرف أين أمشي، فيأتي إليه إنسان ويقول له: امش في هذا الطريق، فبعدما عرف الطريق يتركه ويمشي في غيره! فهذا مستبصر يعرف أين الحق ويمشي إلى الباطل وهو يعرف ذلك.

    فالله سبحانه قد أنزل الكتب وأرسل الرسل لئلا يكون للناس حجة على الله سبحانه، فصد الشيطان هؤلاء عن سبيل الله، وكانوا يعرفونها، وكانوا يعرفون الحق وقد بان لهم بالبرهان طريق الله فكانوا مستبصرين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقارون وفرعون وهامان...)

    ثم ذكر الله سبحانه وتعالى غيرهم فقال: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ [العنكبوت:39] فقارون كان من قوم موسى وقد ذكرنا قصته في سورة القصص، قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76] والقصة معروفة.

    (وفرعون): هو الذي حكم مصر والذي نظر في نفسه أنه أعلى من الناس، فادعى أنه إله عليهم، وكذب على الناس فوصدقوا كذبه، وكانوا قوماً مغفلين قال الله عنه: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ [الزخرف:51] وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].

    فإذا بهم يصدقونه ويعبدونه من دون الله سبحانه، قال الله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54].

    وهامان وزير فرعون الذي يعينه على باطله، فقد قال له: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38].

    يقول له: سأبني لك صرحاً من أجل أن تطلع إلى السماء، وهو يعلم أن صرحه لن يبلغ السماء أبداً، ويبنيه ويصدق فرعون فيما يقول.

    ويقول: هذا الصرح اصعد فيه إلى السماء فيصعد فرعون فوق الصرح، وينزل للقوم ويقول لهم: لم أجد أحداً في السماء، وليس هناك إله وهذا موسى كذاب، فهذا الكذاب هامان يعين فرعون على ما هو فيه من باطل.

    قال سبحانه: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [العنكبوت:39] فقارون ألهاه ماله وحسده لموسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان ابن عم لموسى عليه الصلاة والسلام، فغار من موسى فقال: أنا معي الأموال كلها وأنت تكون رسولاً!! فغار منه فكان أن خسف الله عز وجل به الأرض.

    وفرعون وهامان كذبا موسى عليه السلام وقام الاثنان بأعمال تدل على هذا التكذيب، قال سبحانه: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ [العنكبوت:39] استكبروا وكأن هذه الآية تحذر كل مستكبر: مهما تكبرت وعلوت فلست بفائت على الله سبحانه وتعالى، بل الله الذي تركهم كما قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] أي: اذهبوا واعملوا ما تريدون فيستكبرون ثم لا يفلتون من ربهم سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه ...)

    قال تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40] أي: كل واحد من هؤلاء الأقوام أخذه الله عز وجل بذنبه.

    (فكلاً) هنا لف للكلام ثم نشر بعد ذلك كيف أهلكهم سبحانه.

    فقال: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا [العنكبوت:40] أي: كما فعلنا بقوم لوط، وكما فعلنا بقوم شعيب وغيرهم، ثم قال: وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ [العنكبوت:40] كما فعلنا بقوم شعيب وثمود وغيرهم.

    ثم قال: وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ [العنكبوت:40] كما فعلنا بقارون وغيره.

    ثم قال: وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40] كما فعلنا بقوم نوح المكذبين، وكما فعلنا بفرعون وجنوده.

    ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ [العنكبوت:40] أي: لم يفعل ذلك ظالماً لأحد، قال سبحانه: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] حاشا له سبحانه وتعالى أن يظلم.

    قال تعالى: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40] أي: ظلموا أنفسهم فاستحقوا عقوبة الله، وهذا فيه تحذير لكل إنسان يظلم نفسه أو يظلم غيره أنه لن يفلت من العقوبة، فعليه مراجعة نفسه والرجوع إلى الله سبحانه إنه تواب رحيم.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756204427