إسلام ويب

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - المقدمةللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر التوحيد أمر عظيم، فهو أول ما يجب على العبد في الإسلام، وهو آخر مطلوب من العبد، وهو المدخل إلى الجنة والمنقذ من النار، وقد قسمه العلماء إلى أقسام؛ كي يسهل فهمه وتتيسر دراسته، وهذا التقسيم له ما يشهد له من الأدلة.

    1.   

    أقسام التوحيد

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    إخوتي الكرام! بمناسبة افتتاح هذا الكتاب الكريم العظيم؛ كتاب التوحيد لـابن خزيمة سنذكر مقدمة أصيلة وتأصيلاً كاملاً لعلم التوحيد؛ حتى يظهر جلياً لطلبة العلم ما يأسسون عليه بنيانهم، ثم يسيرون على نهجه.

    إن التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق، فشرف العلم -كما بينا سابقاً- من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، والناس حاجتهم إلى التوحيد أشد من حاجتهم إلى الماء والهواء، فلا يستقيم إيمان عبد، ولا يقبل عند ربه جل وعلا، ولا ينجيه الله من الخلود في نار جهنم إلا بالتوحيد الخالص من الشرك.

    والتوحيد قسمه بعض المتأخرين تقسيماً استنباطياً اجتهادياً، وقد استنبط هذا شيخ الإسلام ، وهذا التقسيم هو تقسيم التوحيد إلى قسمين:

    القسم الأول: هو التوحيد العلمي الخبري.

    القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي.

    أو بتقسيم آخر: توحيد العبادة، أو توحيد الله جل وعلا بأفعاله.

    القسم الثاني: توحيد الله بأفعال العباد.

    توحيد المعرفة والإثبات

    القسم الأول من التوحيد هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو نوعان: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.

    وتوحيد الربوبية: هو أن تعتقد اعتقاداً جازماً لا شك فيه أن الله هو الرب الخالق الرازق المدبر السيد الآمر الناهي، وأن له مطلق السيادة ومطلق الحكم والأمر والنهي، فأما الخالق فقال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وأما الرازق فقال: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57-58]، فالرزق المطلق هو من قبل الله جل وعلا، والخلق المطلق هو من قبل الله، وهناك خلق آخر ناقص وليس بكامل، يقوم به الإنسان كما قال الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، فالخلق المطلق وهو الإيجاد من العدم يتفرد به الله جل وعلا.

    وأما الخلق الناقص وهو النقل من صورة إلى صورة، كنقل الحديد إلى سيارة، والخشب إلى باب، فهذا يسمى خلقاً لكنه خلق ناقص وليس بخلق مطلق.

    وهو المدبر، قال تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، وقال الله تعالى مبيناً ذلك بياناً جلياً: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

    قال ابن مسعود: يرفع أقواماً ويخفض آخرين، ويعطي هذا ويمنع هذا، ويميت هذا ويحيي هذا. وكل ذلك من لوازم الربوبية.

    وله الحكم المطلق، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:40]، وقال الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].

    فالخلق إن كان من لوازم الربوبية فالأمر أيضاً والتشريع من لوازم الربوبية، فالأمر كله لله جل وعلا.

    فهذا هو معنى توحيد الربوبية: أن تعتقد اعتقاداً جازماً بهذه الصفات التي هي من لوازم الربوبية.

    ولم يشرك أحد في الربوبية، بل إن كل المشركين إلا النزر اليسير كانوا يؤمنون بالربوبية ولم يشككوا فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بشريعته إلى مشركي العرب ما عارضوه في ربوبية الله جل وعلا، وإنما عارضوه في الإلهية، فقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وقال الله تعالى مبيناً أنهم يقرون بالربوبية: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر:38]، وهذا يدلك على خطأ بعض العلماء المعاصرين الذين فسروا قول الله تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] لا رب إلا الله، فهذا ليس بصحيح.

    وقالوا أيضاً: إذا أتى بلوازم الربوبية واعتقد اعتقاداً جازماً أن الخالق والمكون والمدبر هو الله فقد تم توحيده، ودخل الجنة، وهذا خطأ فاحش، إذ إن المشركين يقرون بذلك، والفارق بين المشرك والمؤمن هو توحيد الإلهية كما سنبين.

    فلم يشرك إلا النزر اليسير في توحيد الربوبية، وجحد به من جحد وهو عالم به كفرعون، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].

    وأيضاً المانوية والثانوية، فهم يقولون: إن للكون خالقين، خالق للنور وخالق للظلمة، فهؤلاء أشركوا في الربوبية، وأيضاً الشيوعيون الدهريون في عصرنا الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، ويقولون: هكذا خلقت، والناس خلقوا صدفة، والطبيعة هي التي أوجدتهم! فهؤلاء نزر يسير، وأما المشركون قاطبة فهم مقرون بربوبية الله جل وعلا.

    والنوع الثاني من القسم الأول وهو من أهم وأجل أقسام التوحيد،وهو الذي زلت فيه الأقدام، وظهرت فيه البدعة على أوجها، ألا وهو: توحيد الأسماء والصفات.

    ومعنى توحيد الأسماء والصفات: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن لله جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا، هذه الأسماء أعلام على ذات الله جل وعلا، وكلها حسنى؛ لأنها تتضمن صفات كمال، فالله اسم من أسماء الذات الإلهية، وعلم على ذات الله جل وعلا، وهو يتضمن صفة كمال ألا وهي الإلهية، والكريم اسم من أسماء الله جل وعلا، وهو من الأسماء الحسنى؛ لأنه يتضمن صفة الكمال وهي الكرم، والقدير اسم من أسماء الله الحسنى، وهو علم على ذات الله، وإذا قيل لك: العليم القدير فذهنك ينصرف إلى الذات الإلهية المقدسة، فكل اسم يتضمن صفة كمال.

    1.   

    قواعد في الأسماء والصفات

    هنا قواعد مهمة تضبط لنا هذه الأسماء:

    أولها: كل هذه الأسماء حسنى؛ لأنها تتضمن صفات كمال، وباب الأسماء أضيق من باب الصفات، وباب الصفات أوسع؛ لأن كل اسم يحمل صفة ولا عكس، فليست كل صفة تحمل اسماً، فالعزيز يتضمن صفة العزة، والرءوف يتضمن صفة الرأفة، وهكذا الكريم والرحيم والرحمن، وأما الصفات فلا تستطيع أن تشتق من كل صفة اسماً، قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فصفة الاستواء لا نستطيع أن نشتق منها اسماً وهو المستوى، وهذا يدلك على أن باب الأسماء أضيق من باب الصفات.

    ثانيها: أسماء الله لا تنحصر، فهي كثيرة وعديدة ولا تنحصر في عدد، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك).

    إذاً: فهناك بعض الخلق يعلمون من أسماء لله ما لا يعرفها الآخرون.

    ثم قال: (أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فهناك أسماء لله كثيرة يعلمها الله ولا يعلمها أحد من خلقه، فهذه دلالة على أن أسماء الله كثيرة جداً وليست محصورة بعدد.

    وأيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة العظمى وفيه: أن آدم يقول: اذهبوا إلى نوح، .. اذهبوا إلى إبراهيم ، .. اذهبوا إلى موسى، .. حتى تحال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها أنا لها، فيذهب تحت العرش فيسجد يقول: فيعلمني الله جل وعلا محامد أحمده بها) أي: محامد الآن تعلمتها، والحمد ثناء على الله جل وعلا بما هو أهل له، فيثني على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، إذاً: ففيها أسماء لا يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم إلا عندما يسجد عند العرش، ويدلك ذلك على أن أسماء الله لا تنحصر.

    ولا يشكل علينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فالإجابة يسيرة جداً وهي: أن هذه الأسماء التسعة والتسعين لها ميزة خاصة عن بقية الأسماء كلها، وهذه الميزة هي: (من أحصاها دخل الجنة)، ومعنى أحصاها أي: حفظها عن ظهر قلب، وتعبد بها لله، يعني: ما يتوسل إلا بها، فقد حفظ اسم الكريم فيقول: يا كريم! أكرمني برضاك عني، وحفظ اسم القدير فيقول: يا قدير! أنجني من الظالمين، يا عزيز أعزني بطاعتك، فيتعبد لله بهذه الأسماء.

    وأيضاً أن يتخلق بآثار هذه الصفات، فالله جل وعلا رءوف يحب كل رءوف، وكريم يحب كل كريم، فأنت من تعبدك لله بالاسم أو بالصفة أن تتخلق بأثر هذا الاسم، فاسم الله الكريم فأنت تكون كريماً، واسم الله العفو، فهو عند المقدرة يعفو، فأنت إن كنت قادراً على ظالم فاعف عنه إلا أن يكون في هذه مساءة، أو يكون هذا فيه زيادة كبر لهم، وإن كنت تعلم أن الله عزيز فاعتز أنت بطاعته، وتخلق بآثار هذه الصفات.

    فالتسعة والتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، فهذه هي الميزة لها، ولا يخفى علينا أن لله أسماء كثيرة كما في هذه الأحاديث.

    وقبل أن ننتقل إلى الكلام في الصفات أضبط لطالب العلم قاعدة مهمة جداً وهي: أن الاشتراك في الاسم لا يستلزم الاشتراك في المسمى، فإذا قلت: الله الرحيم، أو الله الكريم، وسمي أحد الناس كريماً، فهذا الاشتراك هو بالنسبة للاسم والصفة، وهو لا يدل على الاستواء، فكرم الله جل وعلا فيه الكمال المطلق، وكرم هذا المخلوق ناقص ولو كان كرمه ككرم حاتم الطائي.

    وأيضاً قال الله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] فالله له يد، والإنسان له يد، فاشتركا في الاسم، فهذه يد وهذه يد، لكن لا يلزم من ذلك أن تتساوى يد الله ويد المخلوق أبداً، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    1.   

    صفات الله تعالى

    الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية.

    فالصفات الثبوتية: هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله في سنته.

    وهذا يعني: أن أسماء الله كلها توقيفية، وهذا فيه رد على النصارى الذين يسمون الله جل وعلا بالأب.

    وأما الصفات السلبية فهي الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

    والصفات الثبوتية قد ذكرها الله بنفسه في كتابه ورسوله في سنته، قال الله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8]، فأثبت لنفسه صفة العلم والحكمة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم... إنكم تدعون سميعاً بصيراً)، فأثبت له السمع والبصر.

    إذاً: الصفات الثبوتية أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.

    الصفات الثبوتية

    الصفات الثبوتية تنقسم إلى أقسام ثلاثة:

    صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية.

    فالصفات الذاتية هي الصفات التي لا تنفك عن الله بحال من الأحوال، فهي أزلية أبدية لم يزل متصفاً بها ولا يزال، مثل العلم، فالله لم يزل متصفاً به ولا يزال، فليس هناك لحظة لا يعلم الله جل وعلا فيها كما قالت القدرية، فهم يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعدما تفعل! وهذا غير صحيح، فهذا علم أزلي لم يزل الله ولا يزال متصفاً به.

    وأيضاً العزة والقدرة والحياة فكل هذه صفات ذاتية أزلية أبدية لا تنفك عن الله بحال من الأحوال.

    النوع الثاني: الصفات الفعلية، وهي الصفات التي تتجدد وتتعلق بالمشيئة، مثال ذلك: النزول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربكم إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر)، فالله ينزل نزولاً يليق بجلاله وكماله جل وعلا، وأما البشر فنزولهم يليق بنقصهم.

    وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك ربكم من رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة)، فالله يضحك ضحكاً يليق بكماله، كما قال الصحابي للرسول صلى الله عليه وسلم: (أيضحك ربنا؟ قال: نعم، قال: إذاً لم نعدم خيراً من رب يضحك)؛ لأن لازم هذا الضحك أن يرحمنا، وأنت لو دخلت على صديق لك مسرور وطلبت منه أي شيء فإنه يعطيك إياه برحابة صدر، ولله المثل الأعلى، فإن كان ربك يضحك فلازم ذلك أن يغدق عليك النعم ويرحمك رحمة واسعة، فهذه الصفات تسمى صفات فعلية.

    النوع الثالث: الصفات الخبرية وهي: الصفات التي لا مدخل للعقل فيها، وأما الصفات الأزلية الأبدية فالعقل يثبتها ويقبلها وإن كانت توقيفية، فالعقل يثبتها ولا يعارضها، كالعلم، فهذا الكون وهذه البحار وهذه الجبال وهذه الأشجار والنجوم والشمس التي تطلع في الصباح وتغرب في المساء، كل هذا الكون المدبَّر لابد أن يكون نابعاً عن علم وعن حكمة، فهذه تدلك على إثبات العلم والحكمة عقلاً.

    وأما الصفات الخبرية فلا مدخل للعقل فيها، وضابطها: أن مسماها بالنسبة لنا أجزاء وأبعاض، كاليد والساق والعين، فاليد جزء مني لكنها بالنسبة لله تسمى صفة خبرية، ولا يقال: جزء من الله، بل هي صفة من صفات الخبرية.

    فلله يد يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، ولله ساق يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42]، ولله عين تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وهذا كله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

    إذاً: فهذه الصفات الثبوتية تضبطها قاعدة مهمة جداً وهي: أنها كل ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله بلا تمثيل؛ لأن الله جل وعلا قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وننـزه الله بلا تعطيل.

    الصفات السلبية

    القسم الثاني من الصفات: الصفات السلبية، أي الصفات المنفية عن الله، وهي الصفات التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، فنفى اللغوب، واللغوب: هو الإعياء والتعب، أي: ما مسنا من تعب ولا إعياء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، فنفى عنه صفة النوم.

    إذاً: الصفات المنفية هي التي نفاها الله عن نفسه أو نفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وضابط هذه الصفات أن يتقدمها (ما) أو (لا) أو أي حرف من حروف النفي، ولا نتعبد لله بها بالنفي المحض، فالنفي المحض ليس فيه كمال، ونحن قد قعدنا قاعدة وهي: أن لله أسماء حسنى وصفات علا، فهي كلها كاملة، والنفي المحض لا كمال فيه، فتنفي لتثبت كمال الضد، فأقول: إن الله لا ينام؛ لكمال حياته وكمال قيوميته.

    والله خلق السموات والأرض ولم يمسه تعب ولا لغوب؛ لكمال قوته وكمال قدرته، إذاً فتنفي هذه الصفات عن الله مع إثبات كمال الضد.

    وأيضاً من الأدب عند النفي أن تنفي نفياً مجملاً ولا تفصل، فلا تقول: الله ليس بعرض ولا بجوهر ولا بكذا ولا بكذا؛ لأن تعدد النفي فيه إساءة أدب مع الله جل وعلا، وأما تعدد صفات الإثبات ففيه أدب مع الله ومدح وثناء عليه جل وعلا.

    1.   

    توحيد العبادة

    القسم الثاني: توحيد العبادة، أو توحيد الله في أفعال العباد، وهذا هو الذي من أجله أنزل الله الكتب، وخلق الخلق، ومن أجله ضرب الصراط، ومن أجله جعل الجنة والنار، وهو توحيد الإلهية.

    ومعناه: إفراد الله جل وعلا بالعبادة، والقاعدة: أن كل عبادة ثبتت بالكتاب والسنة أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، وأيضاً: كل سبب شرعه الله فالأخذ به توحيد، والأخذ بالأسباب التي لم يشرعها الله جل وعلا ولا رسوله شرك.

    وتفسير ذلك مثلاً: أن تأتي إلى سبب شرعه الله جل وعلا كالتبرك بشرب ماء زمزم، فهذا سبب في الشفاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له)، فهذا توحيد، وأما إذا أخذت سبباً لم يسببه الله جل وعلا، ولم يشرعه في كتابه ولا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخلت في باب من أبواب الشرك، مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب).

    وهذا فيه تفصيل، فإن اعتقد أن النجم يتحكم في الكون من دون الله، وهو الذي ينزل المطر، فهذا الاعتقاد كفر يخرج من الملة؛ لأنه اعتقد الربوبية في غير الله جل وعلا، فإن اعتقد أن هناك من يدبر الأمر غير الله كالذين يدعون في الأولياء وأرواح الأولياء فكل هذه الشركيات تخرج من الملة.

    وأما إذا اعتقد أن النجوم سبب في نزول المطر كالسحاب فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنك جعلت سبباً لم يشرعه الله، والله جل وعلا يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فالله جل وعلا قد بين لك سبب المطر وهو: أنه يثير سحاباً، وهذا السحاب يتراكم وينزل بسببه المطر.

    إذاً فتوحيد الإلهية هو إفراد الله بالعبادة، فكل عبادة تصرفها لله بعد ثبوتها بالشرع فهي توحيد، وصرفها لغير الله شرك.

    1.   

    الإسلام والإيمان

    الإسلام والإيمان من التوحيد، والإسلام معناه: الاستسلام التام والخضوع والإذعان لله جل وعلا، وقد مدح الله إبراهيم فقال: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] أي: لأوامر الله، وهذا لما أمره أن يذبح ابنه، فقام ليذبحه استسلاماً لأوامر الله جل وعلا.

    وأركان الإسلام خمسة كما في الحديث: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً).

    والإيمان في اللغة معناه: التصديق، وفي الشرع: هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فلا ينفع التصديق فقط، ولابد من تصديق مستلزم للخضوع والمسكنة، ومستلزم للقبول والإذعان.

    وهو يتعدى بنفسه ويتعدى باللام ويتعدى بالباء، فإذا تعدى بنفسه فإنه يكون بمعنى الأمان، تقول: أمنته، أي: أعطيته الأمان ضد الخوف، قال الله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، وإذا تعدى بالباء مثل: آمنت بالله وآمنت برسول الله، فمعناه: صدقت بربوبية الله وبإلهية الله جل وعلا، وصدقت برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا تعدى بالباء فيكون معناه التصديق.

    وإذا تعدى باللام فيكون معناه الاستسلام والخضوع والانقياد، مثل: آمنت لله، أي: انقدت وخضعت واستسلمت لأوامر الله، ومثل آمنت لرسول الله، أي: استسلمت في اتباعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] يعني: اتبعه واستسلم له.

    فالذي يتعدى باللام معناه الاتباع والانقياد التام.

    العلاقة بين الإسلام والإيمان

    العلاقة بين الإسلام والإيمان أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، بمعنى أنه إذا اجتمع الإسلام والإيمان في الذكر افترقا في المعنى، فيكون الإسلام معناه الأفعال الظاهرة، والإيمان معناه الأفعال الباطنة، وأظهر مثال لذلك حديث جبريل عليه الصلاة والسلام قال: (أخبرني عن الإسلام، قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ...) إلى آخر هذه الأفعال الظاهرة، وسأله عن الإيمان -فاجتمع في الذكر هنا مع الإسلام- فقال: (أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته) أي: أن تقر في قلبك كما سنبين أنه قول وعمل، فتقر في قلبك بالله وملائكته وكتابه ورسله إلى آخر الحديث.

    إذاً: إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى، فيكون الإسلام بمعنى الفعل الظاهر، وكان الإيمان بمعنى الفعل الباطن، قال الله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] يعني: في الظاهر وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].

    وإذا افترقا في الذكر اجتمعا في المعنى، فإذا ذكر الإسلام وحده دخل تحته الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخل تحته الإسلام، قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل الأفعال الظاهرة والأفعال الباطنة هي الدين المذكور في هذه الآية: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فيدخل معه الإيمان والإحسان، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم).

    والإيمان: قول وعمل، فهو قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالجوارح وعمل بالقلب.

    قول باللسان، أي: أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقول بالقلب، أي: أن تصدق وتقر بأن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المدبر إلى آخر هذه المعاني التي شرحناها، وعمل بالأركان أي: أن تصلي وتزكي وتجاهد وتحج، وعمل بالقلب ومعناه المحبة والرجاء والخوف والتوكل واليقين والخشية والإنابة، فهذا هو عمل القلب، وكل ذلك مترابط، والإيمان كل متكامل.

    حكم صاحب الكبيرة

    وهنا مسألة وهي: من فعل كبيرة من الكبائر فهل ينسحب الإيمان منه؟ وهل يخرج من الملة ويخلد في نار جهنم؟ الخوارج غلوا وقالوا: إنه يخرج من الملة ويخلد في النار، وأهل السنة والجماعة يقولون: فاعل الكبيرة تحت مشيئة الله، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ورحمه.

    ولا يشكل علينا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله)، وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقوله: (من غشنا فليس منا)، وقوله: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين)، فلا يشكل علينا ذلك؛ لأنه مؤول، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) نفى عنه الإيمان المطلق، أي: كمال الإيمان، وأما أصل الإيمان وهو الإسلام فهو موجود في القلب لا يرتفع عنه، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل جاءني فبشرني أن من مات من أمتي وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر : يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وعلى رغم أنف أبي ذر)، فهذا فيه دلالة على أن الزاني والسارق وشارب الخمر تحت مشيئة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن النعيمان: (ما أراه إلا يحب الله ورسوله)، وكان معتاداً على شرب الخمر، ومع ذلك لم ينزع من قلبه حب الله والرسول صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أنواع الكفر

    الكفر كفران: كفر أكبر وكفر أصغر، كما أن الشرك شركان: شرك أكبر وشرك أصغر.

    فالكفر الأكبر: هو الذي يخرج به صاحبه من الملة، ويخلد في نار جهنم، والكفر الأصغر صاحبه على شفا هلكة لكنه أيضاً تحت مشيئة الله جل وعلا، والكفر الأصغر: مثل الحلف بغير الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، أو من اتخذ سبباً لم يشرعه الله كالتمائم، وإذا اعتقد أن السبب ينفع ويضر من دون الله فهذا شرك أكبر وكفر أكبر.

    والفرق بينهما أن صاحب الشرك الأكبر والكفر الأكبر في نار جهنم خالد مخلداً، وأما صاحب الشرك الأصغر والكفر الأصغر فهو تحت المشيئة، فقد يدخل الجنة من أول وهلة، وقد يعذب بخطيئته ثم بعد ذلك يدخل الجنة.

    ولا يمكن لإنسان بحال من الأحوال أن يكفر أحداً إلا الجهال المتجرئون، فهم الذين يطلقون التكفير، فلا يمكن لأحد أياً كان أن يكفر أحداً من المسلمين حتى يكون معه دليل أوضح من شمس النهار، خوفاً على نفسه من أن يقع في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فإن كان كافراً بحق ثبتت عليه، وإن لم يكن حارت ورجعت على هذا المكفر الجاهل الذي تكلم بما لا يعي ولا يعلم، فلا يصح لأي إنسان أن يتجرأ على مسألة التكفير، فإذا كان هناك دليل كشمس النهار على التكفير فهذا مخرج.

    ولا يلزم من الوقوع في الكفر تكفير الفاعل، فالقول قد يكون كفراً، والفعل قد يكون كفراً، ومع ذلك لا يكون القائل والفاعل كافراً حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، كرجل يقوم في وسط الطريق فيسب الله جهاراً نعوذ بالله من ذلك، فهذا كفر وفاعله كافر ولا يلزم إقامة الحجة عليه ولا إزالة الشبهة؛ إذ إن هذا معلوم من الدين بالضرورة، أو رجل يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لابد أن يقتل، وهو كافر، ولابد على ولي الأمر أن يقتله، وحتى ولو تاب فلابد على ولي الأمر أن يقتله، فهذا كفر معلوم من الدين بالضرورة.

    وهنا أمر وهو: أن المعلوم من الدين بالضرورة أمر متفاوت، فقد يكون الحكم معلوماً من الدين بالضرورة في بلد، ولا يكون معلوماً من الدين بالضرورة في بلد آخر، فالذي نشأ ببادية بعيدة ولم يعلم من أحكام الشرع شيئاً لا نطبق عليه هذه القاعدة.

    1.   

    الكلام في القدر

    القدر إجمالاً: هو قدرة الله، وهو فعل الله، فالله فعال لما يريد، ولا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فكل شيء بقدر كما قال الله تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53].

    فكل شيء مقدر، والقدر هو فعل الله جل وعلا وقدرته، وهو من لوازم ربوبية الله جل وعلا.

    مراتب القدر

    الإيمان بالقدر يستقيم عندما تؤمن بأربع مراتب: علم فكتابة فإرادة فخلق، فتؤمن بعلم الله جل وعلا، وهو يشمل كل شيء، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهكذا كما قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام:27] أي: الكفار، إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27-28].

    المرتبة الثانية: الكتابة، فكل شيء مكتوب وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53] يعني: في اللوح المحفوظ.

    والكتابة أربع كتابات: كتابة أزلية، كتابة عمرية، كتابة عامية، كتابة يومية.

    فالكتابة الأزلية في اللوح المحفوظ كانت قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، فكتب كل شيء، كتب هذا المجلس الذي سنجلس فيه، وكتب ما نتكلم به، وكتب حركاتنا وسكناتنا ونومنا وقيامنا، فكل ذلك مكتوب قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

    والكتابة الثانية: كتابة عمرية، أي: في عمرك، وهذه الكتابة هي التي في صحف الملائكة، فعندما يأتي الملك بعد مائة وعشرين يوماً يقول: أي رب! أذكر أم أنثى؟ أي رب! الرزق؟ أي رب! الأجل؟ أي رب! أشقي أم سعيد؟ فيكتـب.

    كتابة عامية: وهي في ليلة القدر، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، قال ابن عباس : يكتب الحاج والمعتمر، ويكتب الميت والحي، والذي يرزق، والذي يولد له، والذي يتزوج ... إلى آخره.

    الرابعة: كتابة يومية، فالملائكة الذين يتعاقبون ويتقابلون في العصر والفجر يكتبون ما يجري في اليوم.

    وكل هذه الكتابات التي في صحف الملائكة يمكن أن يبدلها الله جل وعلا إلا التي كتبت في اللوح المحفوظ، فالكتابة العمرية والعامية واليومية يمكن أن تبدل، ويدل على ذلك عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يطوف بالكعبة ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني شقياً فامحها واكتبني عندك سعيداً، ثم يتلو يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

    إذاً: الذي يتبدل ويتغير ويمحى هو ما في صحف الملائكة، وأما اللوح المحفوظ فلا يتبدل فيه شيء بحال من الأحوال، وفهم هذا يخرج المرء من إشكال عظيم وهو: إذا كان القدر نازلاً لا محالة فكيف يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القدر والدعاء يعتلجان، وأن القوي منهما يدفع الآخر، فكيف يكون ذلك والقدر قد قدر وانتهى الأمر؟

    والجواب: أن في اللوح المحفوظ أن هنا الرجل سيدعو الله والله يقبل دعاءه فيرد القدر بهذا الدعاء، لكن ليس هذا مكتوباً في صحف الملائكة، فالملائكة القدر الذي في صحفهم سينزل عليه ولكنه يأتي الدعاء فيرفعه، فيمحى من صحف الملائكة، والله تعالى أعلى وأعلم.

    المرتبة الثالثة: الإرادة، فما من شيء في هذا الكون إلا وهو بإرادة الله جل وعلا، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] سبحانه وتعالى، وإرادة الله إرادتان: إرادة كونية وإرادة شرعية.

    فالإرادة الكونية: هي المشيئة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه ضابطها أنها تقع لا محالة، فلا مرد لها، وتكون فيما يحبه الله وما لا يحبه الله، فكفر أبي جهل أراده الله كوناً، وكفر أبي لهب أراده الله كوناً، هو لا يحبه لكن أراده كوناً لحكمة عنده، قال الله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125] يعني: يريد إرادة كونية، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

    والإرادة الثانية: الإرادة الشرعية، وهي المحبة، وهذه فيما يحبه الله فقط، وقد تقع وقد لا تقع، وهذه خاصة بالإيمان والتيسير للطاعات، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فقد تقع وقد لا تقع، فكثير من الناس أشركوا بالله جل وعلا وكفروا به، فالإرادة الشرعية هي المحبة.

    وقد يكون الشيء مراداً شرعاً وكوناً كإيمان أبي بكر .

    وأما غير المراد كوناً ولا شرعاً فمثل كفر المؤمن، فالله لا يرضاه شرعاً وأيضاً لم يقدره كوناً.

    المرتبة الرابعة: الخلق، والخلق المطلق لله جل وعلا، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، ومن الخلق أن الله خلق أفعال العباد، خلق العبد وخلق أفعاله، قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته).

    خلق الله تعالى للمعاصي والشرور

    هنا مسألة في القدر وهي: هل المعاصي خلقها الله أم لم يخلقها؟

    الجواب: الله خلقها، فهو خالق كل شيء، لكن الشر لا ينسب إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) أي: لا ينسب الشر إليك بحال من الأحوال؛ تأدباً مع الله، فالذي يمرض والذي يشفي هو الله سبحانه، لكن انظر إلى التأدب مع الله من نبيه إبراهيم عليه السلام حيث قال: وَإِذَا مَرِضْتُ [الشعراء:80] فأضاف المرض إلى نفسه؛ لأن الله هو الذي خلق فيه المرض، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] تأدباً مع الله فلا تنسبه إلى لله مع أن الله جل وعلا هو الذي خلقه وأوجده.

    والله لم يخلق شراً محضاً، لكن خلق الشر نسبياً إضافياً، فهو يضاف إلى المخلوق لا إلى الخالق.

    إذاً: يكتنف الشر فعلان: فعل الله وفعل العبد، فأما بالنسبة لله فكل أفعال الله جل وعلا كمال، وهي خارجة عن صفات كمال وأسماء حسنى، فكل فعل الله جل وعلا ممدوح، وكل فعل لله جل وعلا خير، وأما بالنسبة للعبد فهو على حسب فعله إن كان معصية أو كان طاعة.

    فمثال ذلك: أن الله جل وعلا خلق زيداً، فذهب زيد فشرب الخمر، فالله خلق فيه هذا الفعل، فإذا نسبته إلى الله جل وعلا فإنك ستنسبه إليه خلقاً وإيجاداً، وستنسبه إلى العبد فعلاً واكتساباً فهو الذي شرب الخمر.

    عدم جواز الاحتجاج بالقدر على المعاصي

    هل يجوز الاحتجاج بالقدر؟ مثل أن يذهب رجل فيزني، فإذا أنكرت عليه قال: هذا قضاء وقدر، وقد جاء أن رجلاً من الجبرية دخل على امرأته فوجد رجلاً يزني بها فقال: ما هذا يا فاعلة الفاحشة؟ فقالت: مهلاً فإن هذا بقدر الله، قال: نعم بقدر الله، وسكت هذا الغبي، فلما رأت ذلك قالت: والله ما هذا بدين بحال من الأحوال، أصبح الرجل ديوثاً بسبب فقهه بهذه العقيدة الخربة.

    فالمعصية لا يحتج عليها بالقدر لكن القاعدة: أن القدر يحتج به في المصائب لا في المعايب، فأي مصيبة تنزل عليك فإنك تقول: قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها، قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، فيؤمن بها ويرضى بها قلبه، فالله جل وعلا يسلم قلبه ويزيده على ذلك إيماناً، وتنزل عليه برداً وسلاماً.

    ففي المصائب لك أن تحتج بالقدر وأما في المعايب فلا تحتج بالقدر بحال من الأحوال، والحديث الذي يبين لنا هذا جلياً هو حديث احتجاج موسى مع آدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن آدم عليه السلام كانت معه الحجة القوية: (قال موسى لآدم: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى).

    وللعلماء تأويلات كثيرة جداً لهذا الحديث، والراجح أن موسى احتج على آدم بخروجه من الجنة، وهذه مصيبة كبرى أنّا خرجنا من الجنة، ولم يحتج على آدم بمعصيته وأكله من الشجرة، فلما احتج عليه في المصيبة كانت الحجة مع آدم، فقال: قدر الله علي هذه المصيبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى).

    1.   

    مراتب الصحابة في الأفضلية وحكم من سبهم

    أختم هذا الدرس بهذه المسألة وهي: أن الصحابة أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، وأفضلهم على الإطلاق بعد محمد صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، وهم في الفضل على ترتيب الخلافة، فأفضل هذه الأمة بعد نبينا أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، ولا يقدم علي على عثمان أبداً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوص لأحد، وأبو بكر فقط هو الذي خلافته إما بالنص الصريح أو بالتلميح، والصحيح الراجح أنها بالاستنباط والتلميح وليست بالنص الصريح.

    وأما حكم من سب الصحابة فقد قسمنا من سب الصحابة إلى أربعة أقسام، فثلاثة منهم كفرة خرجوا من الملة، وقسم واحد ليسوا بكفرة.

    فالأول: هم الذين يسبون الصحابة ويقولون: هم كفرة كفروا بعد رسول الله، فهؤلاء الغلاة يدخلون في حيز الكفر؛ لأنهم كذبوا الله ورسوله، فقد عدلهم الله في كتابه وهم يقولون: هم كفرة.

    الثاني: الذين يسبونهم من أجل دينهم، فيسبون أبا بكر أو عمر أو عثمان من أجل دينه، فهذا أيضاً يكفر.

    الثالث: الذين يسبون عائشة بالذات في شرفها، فيقولون: لم يبرئها الله، وهذه فعلت كذا وكذا.

    الرابع: الذين يسبون بعضهم من أجل ميلهم إلى أحدهم وتركهم للآخر، كالذين يسبون مثلاً: عماراً ويسبون علياً من أجل معاوية مثلاً، أو يسبون معاوية من أجل علي ، فهذا ليس بكفر؛ لأنهم لم يسبونهم لدينهم، لكن هذا من الميل الأعمى مع الجهل المطبق، فيجعله من الفسقة لا من الكفرة.

    وكما بينا أن منهج أهل السنة والجماعة أنهم يترضون عن جميع الصحابة رضي الله عنهم المصيب منهم والمخطئ، والذي أصاب له أجران والذي أخطأ له أجر.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755929767