إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. محمد حسن عبد الغفار
  5. سلسلة القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه
  6. القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمبانيللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • النية لها شأن عظيم في الشريعة الإسلامية، فإن استقامت وصلح العمل فقد أفلح صاحبها وأنجح، ومما يبين عظيم مكانة النية في الإسلام: أن العقود قد لا تنفذ ولا تترتب عليها آثارها في بعض الحالات، رغم توفر أركان العقد وشروطه؛ وذلك لأن النية قد تكون متجهة لمعنى غير ما ظهر من الألفاظ، وتعلم النية ومقصودها بالقرائن.، فإذا اعتبرنا النية والمقصد لا اللفظ الظاهر فقد قصمنا ظهور أصحاب الحيل، الذين يسلكون درب اليهود في ذلك الأمر.

    1.   

    لا ينال العلم إلا بالصبر

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد.

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة في النار،

    ثم أما بعد:

    فإن طلبة العلم إذا استعصت عليه المسائل العلمية يفر من طلب العلم، فيعيش عمره كله في الجهل. وقد قال الإمام السبكي : ما ألح أحدٌ على باب إلا فتح له.

    فإذا ألح طالب العلم على الأصول فتح له بابها، وإذا ألح على المصطلح فتح له بابه، ولا بد من الصبر حتى ينال طالب العلم ما يريد.

    وحتى يتيسر طلب العلم ويسهل على طالبه فلابد من التدرج فيه، فإذا أراد أن يدرس العقيدة مثلاً فليبدأ بكتاب لمعة الاعتقاد، فهو كتاب نافع للمبتدئين، وإذا أراد أن يدرس القواعد الفقهية فليبدأ بدراسة أصول الفقه، فإن من ضيع الأصول ضيع الفقه.

    ولن يصل طالب العلم إلى العلم إلا بالصبر، وإلا فسوف يعيش جاهلاً أو مقلداً، وإذا أخطأ أو زل وهو على هذه الحالة فخطؤه محسوب عليه، وليس كالعالم الذي إذا أخطأ كتب له أجر، وإذا أصاب كتب له أجران.

    1.   

    العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني

    سبق الحديث على قاعدة: الأمور بمقاصدها، والتي يندرج تحتها كثير من القواعد، ومما يندرج تحت هذه القواعد قاعدة: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، وهي من القواعد التي تمس معاملاتنا اليومية كما سيأتي؛ لأنها تخص أبواب المعاملات.

    ومعنى العبرة: الأصل، أو الصلاح أو الصحة، أو البطلان، أو الفساد، أو الآثار الشرعية المترتبة على الأخذ بهذا العقد.

    وهو الذي يبرم بين المتعاملين.

    والمقاصد: جمع مقصد، ومعناه: القصد، وهو الإرادة والنية، أو العزم المقترن بالفعل، والمعاني دلالات الألفاظ، فاللفظ قد يكون له دلالات كثيرة، والبحث يكون عن المعنى الجوهري لهذا اللفظ المقصود عند القائل، أو عند الذي أبرم العقد.

    والمقاصد أخص من المعاني وأدق، فالمقاصد: هي دقة الفهم، وأما المعاني: فهي الفهم فقط، لا دقة الفهم.

    والألفاظ جمع لفظ، واللفظ: كل ما نطق به اللسان.

    والمباني: جمع بناء، وهو جمع كلمة إلى كلمة حتى تكون جملة، مفيدة، يستفاد منها حكم معين.

    المعنى الإجمالي لقاعدة: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، أي: إذا أبرم امرؤ عقداً مع آخر فصحته أو آثاره الشرعية المترتبة على العقد تكون بالقصود أو بالمقاصد، وبالبواطن لا بالظواهر، وبما يريده العاقد.

    أمثلة تطبيقية على هذه القاعدة

    قلنا الأمثلة على هذه القاعدة تكون في باب المعاملات، من بيوع أو إجارات أو غير ذلك.

    فالمثال عليها في باب البيوع: أن رجلاً أراد أن يشتري سيارة من آخر فسأله عن الثمن، فقال: بخمسين ألفاً، فقبل المشتري بالثمن، وأعطى البائع حقيبة فيها ذهب، وقال له: هذه عندك أمانة، ثم أخذ السيارة وذهب.

    محل الشاهد في هذا المثال: هو قول المشتري: هذه عندك أمانة، ومعناه: أنه يأتي بعدما يأخذ هذا الرجل الحقيبة فينظر ويقول: هذه في يدي أمانة، وهو أخذ السيارة، ثمنها ليس معي، يستطيع والذهب صاحبه أن يسترده في أي وقت؛ لكونه أمانة، فذهب البائع على الفقيه العالم بالقواعد الفقهية، وأخبره بما حدث، فأفاده الفقيه: أن الذهب الذي استلمه من المشتري ليس أمانة؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، حتى وإن تلفظ المشتري وقال هي أمانة، فإنه لا يقصد أنها أمانة، وإنما أراد أن يجعلها رهناً أو ضماناً لثمن السيارة، فإذا دفع الثمن استرد حقيبة الذهب، فقيل للفقيه: من أين عرفت ذلك، قال: العرف بين الناس، أنه إذا اشترى رجل سلعة ثمينة، ولم يدفع ثمنها فإنه يعطي البائع رهناً أو ضماناً لهذا الثمن، أو لهذه السيارة.

    وحكم الرهن يخالف حكم الأمانة، فالأمانة إن أراد أن يستردها صاحبها استردها في أي وقت، أما الرهن فإنه لا يسترده إلا أن يدفع ثمن المبيع، وإن لم يدفع فللمرتهن أن يبيع هذا الرهن ويتقاضى حقه، وهذا له تفصيل آخر في كتب الفقه.

    والمقصود بيانه: هو أن اللفظ عندما غاير المقصود قلنا: إن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني.

    مثال آخر: رجل أعطى الآخر ساعة، وقال له: خذها هبة لك بعشر جنيهات، فأخذها الرجل وذهب، وبعد ذلك جاءه الذي أعطاه الساعة يريد منه عشر جنيهات، فقال له: أنت وهبتها لي، وقد قبضتها، وقد علمت أن الهبة تملك بالقبض، فأنا قبضت الساعة فهي ملكي الآن، قال: قلت لك: وهبتها لك بعشر جنيهات، فقال القابض: وأنت عندما وهبتها أنا أخذتها وامتلكتها، وليس لك عندي شيء.

    فذهبا إلى الفقيه؛ ليفصل بينهما فيما تنازعا عليه، فلما علم الفقيه بما دار بينهما قال للآخر: طالما قال لك: إنها هبة بعشر جنيهات فإنه لم يقصد الهبة، لكنه قصد البيع، وهذا تطبيق لقاعدة: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ، فالمفهوم من سياق قوله: خذها بعشر جنيهات هو أنه لا يمكن أن تكون في حكم الهبة؛ لأن الهبة تمتلك بلا عوض مقابل، ولما قال: بعشر جنيهات علمنا أنه أخطأ في اللفظ، فأخذنا بمقصوده وهو البيع والشراء، كأنه قال: بعتها بعشر جنيهات.

    إذاً: فالعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليس بالألفاظ والمباني.

    وعقود النكاح أيضاً: العبرة فيها بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني.

    مثال ذلك: رجل أحب امرأة، وأراد نكاحها امتثالاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (لم أر للمتحابين سوى النكاح)، وكان فقيهاً، فما أحبها إلا للطاعة، فذهب إلى أبيها وقال: ابنتك صالحة، وأردت المرأة الصالحة؛ لأن المرأة الصالحة بركة، ولذلك فإني أطلبها منك زوجة لي، فقال له الرجل الصعيدي: جوزتك ابنتي، وهذه في اللغة لا تصح، بل الصحيح في اللغة: زوجتك، فالصعيدي قال له: جوزتك بنتي، فقال له الآخر: -وكان فقيهاً لكن اللكنة غلبت- جبلت، بالجيم؛ لأن أهل الصعيد ينطقون القاف جيماً، والأصل: قبلت.

    ولما وقع الزواج دخل عليهما رجل وقال: هذا العقد باطل؛ لأن هذه الألفاظ التي وقع بها العقد لا تدل على الإيجاب والقبول، فالإيجاب والقبول أن يقول الولي: زوجتك موليتي، ويقول الآخر،: قبلت، وهذا لم تتلفظا به في عقد النكاح، فجاء الفقيه المقعد فقال: أخطأا في اللفظ لكنهما أصابا في المقصد والمعنى، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني، فالعقد يكون عقداً صحيحاً ليس فيه ثمة شائبة.

    إذاً: فهذه القاعدة بمجملها تسري في العقود، وفي المعاملات، وفي كل شيء.

    وأصل هذه القاعد ودليلها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).

    الحيل تعريفها وأقسامها

    القاعدة الآنفة الذكر تبحث في البواطن لا في الظواهر، وبها -بفضل الله- نقصم ظهور الذين ينتحلون منهج اليهود، والذين يتحايلون أو يحتالون على الحق، فيسقطون واجباً، أو يحلون حراماً بظواهر صحيحة، ولكن البواطن مخالفة، وهذا من الحيل، فهذه القاعدة تقف أمامهم بالمرصاد، وتقطع حيل كل محتال، والحيل: هي الوسائل التي يتوصل بها صاحبها إلى إسقاط واجب، أو تحليل حرام بعقد ظاهره الصحة، فيأتي أحدهم إلى شيء محرم ليستحله بأمر ظاهره الصحة.

    الحيل ثلاثة أقسام: قسم مباح مطلقاً، وقسم ممنوع مطلقاً، وقسم مرسل، ولسنا بصدد القسم المرسل الآن.

    أما القسم المباح: فهي الحيل على الأمور التي أباحها الشرع، بحيث لا تخالف الأصول، كالحيلة على الوصول إلى الصلح بين اثنين متخاصمين، كالرجل وزوجته، فيمكن أن يتحايل المرء بحيلة معينة، أو بتعريض معين يجمع بينهما، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح بأنه ليس بالكاذب من ينمي خيراً، أي: الذي يأتي بالخير ليجمع بين الشتات، فهذا ليس بكاذب، والتعريض ليس من الكذب.

    ومن الحيل المباحة: أن يحتال على أهل الكفر بالنطق بكلمة الكفر، ولا يكتب عند ربه كافراً، وأشهر مثال يضرب لذلك هو قول الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فـعمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه لما ظن أنه سيهلك تكلم في الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: (قد هلكت، وطلبوا مني القول فيك فتكلمت، فقال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً لنا الحيلة الصحيحة التي يمكن للإنسان أن يأخذها في مثل هذه المواقف- فإن عادوا فعد)، وهذا تصريح من الشرع بأن هذا مباح.

    القسم الثاني: الحيل المحرمة: وهي الحيل على العقود التي منع منها الشرع، فيأتي أحدهم بعقد فاسد ظاهره الصحة، فيستحل به الشيء المحرم، والحيلة على المحرم لا تجوز، ولا يمكن أن تكون حلالاً، حتى ولو كان ظاهر العقد حلالاً، وأمثلة ذلك كثيرة.

    الأدلة على إبطال الحيل

    أول الأدلة وأقواها على تحريم الحيل وإبطالها: ما رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكن امرئ ما نوى)، فهذا دليل على إبطال الحيل، وطالب العلم الذي يستنبط الحكم من الدليل عندما يسال عن وجه الدلالة من الحديث يقول:

    إن صحة العقود مدارها على النية، وبطلانها مداره على النية كذلك، حتى لو كان ظاهرها الصحة فيكون المعنى: إنما صحة الأعمال بالنيات، وإنما بطلان الأعمال بالنيات كذلك، فالعقود تدور على البواطن أي: على النوايا. فهذا دليل على إبطال الحيل.

    ثاني الدالة على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم فأذابوه، فجملوه، فباعوه، فأكلوا ثمنه)، فقوله: (قاتل الله اليهود)؛ لأنهم تحايلوا على ما حرم عليهم فاستحلوه كما قال إبراهيم بن أدهم : يتعاملون مع الله كما يتعاملون مع الطفل الصغير.

    والعملة الزائفة لا تروج على الله بحال من الأحوال، فلذلك لما حرم الله عليهم أكل الشحوم لم يأكلوه، بل أذابوه فباعوه وأكلوا ثمنه، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم أكل الثمن؛ لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، وهم لما عورضوا بذلك قالوا: ما أكلناه، والتحريم على الأكل فقط، فتحايلوا على الأكل، فأذابوه وباعوه فأكلوا ثمنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود)؛ لأنهم أتوا أمراً منكراً، ولذلك فالذي يتحايل أعظم جرماً من الذي لا يتحايل ويقع في المحرم صراحة.

    ومن الأدلة على إبطال الحيل آثار اختلف في إسنادها وإن صححها بعض المحدثين المحققين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على أمتي يأكلون الربا في البيع، يسمونها بغير اسمها).

    فهذه هي أدلة على إبطال الحيل.

    مثال للحيل في البيوع

    هناك بيع يسمى: بيع العنية، وهو مما له علاقة بقاعدة: العبرة في العقود بالقصود والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.

    وصورته: أن يأتي المشتري -وهو ليس بمشتر- إلى رجل لديه أموالاً طائلة، ولا يتق الله في إخوانه، ولا يقرض القرض الحسن، فيأتيه الرجل المحتاج فيقول: أقرضني ألفاً، فيوافق على أن يقرضه ألفاً؛ بشرط أن يردها ألفاً وعشرين، فقبل الرجل المحتاج لهذا الشرط، وحتى لا يظهر هذا التاجر بمظهر الربا فإنه يحتال على ذلك ويقول لهذا المقترض المحتاج: سوف أبيعك سلعة بألف نسيئة، وخذها واقبضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا أن يقبضه)، فيوافق هذا الرجل الشرع ظاهراً، ثم يقول للمقترض: سوف آتيك في اليوم التالي فأشتريها منك بسبعمائة أو بثمانمائة، واتفقا على ذلك، وهذه هي صورة من صور العينة.

    فالبيع في الظاهر صحيح؛ لوجود الإيجاب والقبول مع التراضي بين الطرفين.

    وهذه هي التي قال فيها جمهور أهل العلم: إنها محرمة، خلافاً للشافعي، فإنه يقول: إن هذه محرمة إذا كان الشرط مسبقاً، أما إذا كان الظاهر أنه اشترى ثم بدا له بعد ذلك البيع فباع منه، فهذا يصح.

    وهذا هو الصحيح الراجح، فهي ليست من العينة وهذه المعاملة تصح، وهذا الذي ألمح إليه شيخ الإسلام ؛ لأن العلة النظر للمقاصد، فإن كان لا يقصد أن يتحايل صح البيع، أما جمهور أهل العلم فيقولون: إنه اشترى السلعة وهو لا يريدها، إنما يريد المال، وذاك باع السلعة وهو لا يريد بيعها، إنما يريد القرض، لكنه لم يسمه قرضاً، حتى لا يكون قرضاً جر نفعاً، فيقع في الربا، ولذلك سماه بيعاً.

    وبالنظر إلى القاعدة الفقهية التي استقيناها من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهي العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني، فإن قال له: بعتك، وقال الآخر: اشتريت أو قبلت، فنقول: هذا لا عبرة به، والعبرة بالبواطن، وقد دخلت السلعة في القرض، وهذا قرض قد جر نفعاً، فلا يصح، ويكون هذا من باب التحايل على الربا، وتدخل تحت طائلة الأثر: (يستحلون الربا بالبيع)، فسموه بيعاً وهو في الأصل ربا؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد، فيبطل هذا البيع ويكون مفسوخاً.

    مسألة التورق

    من صور الحيل المتعلقة بهذه القاعدة العظيمة: مسألة اختلف فيها جمهور أهل العلم، وهي مسألة التورق، وهي مسألة مشهورة بين التجار باسم: حرق البضاعة.

    ومعناها: أن يشتري الرجل السلعة وهو لا يريدها لكنه يريد الورق، أي: المال، فيشتريها نسيئة بألف، ثم يذهب إلى السوق فيبيعها على غير البائع الذي اشتراها منه، بسبعمائة أو ثمانمائة نقداً، وهذه المسالة سميت بالتورق ولم تسم عينة؛ لأن العينة والتورق يتفقان ويفترقان.

    فيتفقان في النية، وذلك أن المقصد منها الورق -أي: المال-، ويفترقان بأن السلعة في مسألة العينة ردها المشتري على صاحبها، وفي مسألة التورق لم يردها على صاحبها، فهذا هو الفارق.

    فقال الجمهور: لا يقاس التورق على العينة، فالتورق جائز والبيع معه صحيح، وأدلة ذلك ما يأتي:

    أولاً: قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وهذا الرجل اشترى من آخر شراءً صحيحاً، وباع بيعاً صحيحاً، ولم يبع لنفس البائع، فلا يدخل تحت بيع العينة.

    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر المعاملة بالتورق، كما في حديث الجنيب، (وهو أن بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا نشتري الصاع بالصاعين)، أي: نعطي بدل الصاع من الجنيب، صاعين من الجمع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -تعجباً وتأوهاً- قال: (أوه، عين الربا، لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، واشتري بالدراهم جنيباً)، وهذا هو موضع الشاهد.

    فقالوا: إنه باع الجمع بالدراهم وما قصد الدراهم، إنما قصدا الجنيب، فأخذ الدراهم واشترى بها جنيباً، فباع واشترى، وكان بيعاً صحيحاً، وهذه هي صورة التورق، وهذه أدلة الجمهور.

    والصحيح الراجح: ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، إن عادوه كثيراً، وكادوا يقتلونه على هذه المسألة؛ لأنه خالف الأئمة، وقال بما يراه حقاً.

    فيقول: شيخ الإسلام : التورق حرام؛ لأن العلماء قد قعدوا قاعدة لا بد من تطبيقها، وهي قاعدة العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني، فالذي اشترى السلعة إنما اشتراها من أجل السيولة، وليس ليتاجر بها، فاشتراها من أجل الورق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقال: (قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم فأذابوه، ثم جملوه، ثم باعوه وأكلوه ثمنه).

    وقد قال ابن عباس -أعلم الناس بالحديث- : ما هي إلا دراهم بدراهم بينها حريرة، معنى ذلك: أن التاجر باع ألفاً نسيئة بسبعمائة نقداً، باعها في المجلس ولم يحدث التقابظ، وأيضاً حصل فيهما تفاضل، فدخل في ربا النسيئة، ودخل في ربا الفضل، فهي دراهم بدراهم، وما دام أنها دراهم بدراهم فيشترط فيها شرطان:

    الشرط الأول: التقابظ في المجلس، يداً بيد.

    والشرط الثاني: المساواة، مثلاً بمثل.

    فالتورق كما يقول ابن عباس : دراهم بدراهم أدخل بينهما حريرة، وهذا تحايل على الشرع، فصاحب التورق ما أراد السلعة، وإنما أراد المال، وأخذ السلعة ليبيعها، وما أراد البيع إلا لإرادة المال، فكأنها مسألة صرف دراهم بدراهم، بينهما سيارة أو ثلاجة أو غير ذلك، والعبرة في العقود ليست بالألفاظ والمباني، وإن صحت ظاهراً، لكن العبرة فيها بالمقاصد والمعاني.

    ففي هذا التقعيد نؤكد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الصحيح الراجح أن التورق حرام، ويفتح باباً عظيماً من أبواب الربا.

    فهذه الصور كلها تتعلق بهذه القاعدة العظيمة -أي: قاعدة: في العقود بالمقاصد المعاني لا بالإلفاظ المباني- التي هي فرع عن قاعدة: الأمور بمقاصدها.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755955443