إسلام ويب

تفسير سورة الجن [1-10]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ... ولن نشرك بربنا أحداً)

    نشرع في تفسير السورة الثانية والسبعين من سور القرآن الكريم، وهي سورة الجن. قال المهايمي : سميت بذلك لاشتمالها على تفاصيل أقوالهم في تحسين الإيمان وتقبيح الكفر، مع كون أقوالهم أشد تأثيراً في قلوب العامة؛ لتعظيمهم إياهم. يعني أن عامة الإنس يعظمون الجن ويتأثرون بكلامهم بشدة. يقول عز وجل: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]. قوله تعالى: ((قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)) يعني: استمع لهذا القرآن الحكيم نفر من الجن، والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط، كما في المجمل. قال القاضي : وفي الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا ما يؤخذ من ظاهر ألفاظ الآية: (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ )). ((فقالوا)) يعني: لما رجعوا إلى قومهم قالوا: ((إنا سمعنا قرآناً)). قال المهايمي : أي: كتاباً جامعاً للحقائق الإلهية والكونية، والأحكام والمواعظ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين. قوله: ((عجبا)) أي: غريباً لا تناسبه عبارة الخلق، ولا يدخل تحت قدرتهم. فهذا القرآن العظيم الكريم غريب، بمعنى: أنه لا يمكن أن يصدر عن بشر، أو أن يدخل تحت قدرة المخلوقين، بل لابد أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى، فانظر إلى أول انطباع الجن حينما سمعوا آيات من القرآن الكريم، قالوا: ((إنا سمعنا قرآناً عجباً))! يقول تبارك وتعالى: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ، أي: إلى الحق وسبيل الصواب. ((فآمنا به)) أي: فآمنا به فوراً. ((ولن نشرك بربنا أحدا)) أي: من خلقه في العبادة معه تبارك وتعالى. فهذا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فقوله : ((فآمنا به)) فيه إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى، أي: فآمنا به وحده. وقوله: ((ولن نشرك بربنا أحدا)) هذا نفي للأنداد والشركاء، وإبطال عبادة من عدا الله تبارك وتعالى. وهذا المقام شبيه بقول الله تبارك وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:29-31]. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء) يعني: أن السماء حفظت من الشياطين؛ لأن الجن الشياطين من قبل كان يقف بعضهم فوق بعض حتى يسترقوا السمع، وكانوا يلتقطون الكلمة مما تتحدث به الملائكة مما أوحاه الله سبحانه وتعالى وتكلم به، ثم يضيفون إليها تسعة وتسعين كذبة، ثم ينشرونها على السحرة والمنجمين والكهان. فحدثت إرهاصات بين يدي بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوادث تلفت النظر، وتنبئ عن أن هناك أمراً خطيراً سيحصل بعد ذلك، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى.

    عالمية الدعوة المحمدية دون غيرها

    قوله: ((قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به)) دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث قطعاً للجن والإنس، ولن أتكلم عن صحة الاستدلال بالآية هنا؛ لأن مجرد الاقتصار على الآية يفيد أنهم تبعوا القرآن فآمنوا به، لكن هل فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث إلى الجن والإنس؟ ليس فيها ذلك، والله تعالى أعلم. مثلاً: سحرة فرعون ليسوا من بني إسرائيل، وموسى عليه الصلاة والسلام إنما بعث إلى بني إسرائيل، فهل يمنع السحرة من الإيمان بموسى عليه السلام أنه بعث إلى بني إسرائيل فقط؟ لا، هم آمنوا بأن لا إله إلا الله، وأن موسى رسول من عند الله تبارك وتعالى، وإن لم يكن مبعوثاً إلى أناس معينين. فكذلك هذه الآية لا يؤخذ منها هذا الأمر، وغاية ما يؤخذ منها أن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم. أما حقيقة المسألة فلا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما قال في الحديث: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) وقال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فأدلة عموم رسالته كثيرة جداً، بل إن الصفة العالمية والشمولية للجن والإنس بالنسبة لبعثة الرسول عليه الصلاة والسلام هي من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث نقول: إن هذه العالمية حكر على دعوة الإسلام، وليس من حق أي ديانة أخرى أن تدعي أنها جاءت ليبشر بها الناس أجمعون. ونستطيع أن نأتي بكثير من النصوص من كتب النصارى، تؤكد أن المسيح عليه السلام لم يبعث إلا إلى بني إسرائيل فقط، ومن هذه الأقوال: قول المسيح عليه السلام: ( إنما بعثت إلى حراب بيت إسرائيل الضالة ). والنصوص في ذلك كثيرة. أما اليهود فقد كفونا شرهم؛ وذلك باعتبار اليهودية دعوة عنصرية، وعندهم أن الجنة خلقت لليهود فقط، وكل الشعوب إنما خلقت ليركبها اليهود كالحمير كما يزعمون. فاليهود أصلاً ليس عندهم تبشير ودعوة إلى الدخول في اليهودية، وأهم شيء عندهم حتى ينسب المرء إلى اليهودية أن تكون أمه يهودية. بل لو أن يهودياً دخل في الإسلام فإنه يبقى على يهوديته ولا يزول عنه وصف اليهودية، وقد انتشر خبر المغنية اليهودية التي قيل إنها أسلمت، والله تعالى أعلم، فلما توفيت قبل سنوات أراد اليهود أن يستولوا على بيتها ويحولوه إلى متحف فقيل لهم: إنها أسلمت، قالوا: حتى ولو أسلمت فهي يهودية، ولا يزول عنها هذا الوصف أبداً، لأن اليهودية دعوة عنصرية وليست رحمة للبشر، ولأنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، فمن ثم أراحوا العالم من شر الدعوة إلى دينهم المحرف. ولأنهم يعتبرون أنفسهم سلالة من نوع خاص يجب أن يعامل معاملة خاصة، قال عز وجل حاكياً قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، فبالتالي هم لا يريدون خيراً لأحد، وليس عندهم نشاط تبشيري يدعون به الناس إلى الدخول في دينهم، وإنما عندهم نشاط تدميري لتحطيم الأمم؛ كي يقيموا ملك يهود على أنقاضها، سواء عن طريق نشر الإلحاد أو الفساد الأخلاقي ونحو ذلك. أما النصارى فليس في دينهم أي نص يدل على عالمية دينهم، بل في كتبهم ما ينفي العالمية، ويثبت أن دينهم خاص ببني إسرائيل كما قال تعالى: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:49]. ودين النصارى حرف على يد بولس ، وهو اليهودي الذي ابتدأ الدعوة إلى التنصير، وذلك أنه ادعى أنه دخل في النصرانية، وكذب على النصارى حيث قال: إنه رأى المسيح وأوحى إليه بأشياء زعمها فصدقوه، ومنها الدعوة والتبشير بالنصرانية، ومن هنا بدأت فكرة التبشير بالنصرانية. والنصرانية ليس من حقها أن تدعي أنها دعوة عالمية لغير بني إسرائيل؛ لأن العالمية لا تصح على الإطلاق إلا لدين الإسلام، ورسالة سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، وسبق أنا تكلمنا على هذا بالتفصيل عند دراسة قضية ختم النبوة. أيضاً من فوائد هذه الآية: أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الفوائد: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس. ومنها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا. ومنها: أن المؤمن من الجن يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان، وهكذا الإنسان إذا آمن فإن من واجباته المقدسة أن يدعو غيره إلى هذا النور والإيمان، كما فعل الجن، إذ فزعوا إلى قومهم داعين إياهم إلى الله عز وجل، مع أن عمر إيمانهم كان قصيراً. ومنها: أن الجن لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان تنبهوا إلى الخطأ الذي اعتقده كفرة الجن، من اتخاذ الله صاحبة وولداً، فاستعظموا ذلك ونزهوا الله سبحانه عنه! انظر إلى جوهر الإيمان عندهم، فكل هذا الكلام يدور حول التوحيد بكل معانيه: تنزيه الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله عما لا يليق به قالوا: ((فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)) وهذا هو معنى: لا إله إلا الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً )

    يقول الله عز وجل: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3]. قوله: ((وأنه تعالى جد ربنا)) أي: تعالى ملكه وعظمته وربوبيته عن اتخاذ الصاحبة والولد. قال ابن جرير : الجد بمعنى الحظ. وفي الدعاء: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) يقال: فلان ذو جد في هذا الأمر، إذا كان له حظ فيه، وهو الذي يقال له بالفارسية: البخت. والمعنى: أن الله عز وجل المتصف بالملك والسلطان والقدرة العظيمة منزه عن أن تكون له صاحبة وولد؛ لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي حملته الشهوة إلى اتخاذها، والولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد، فقال النفر من الجن: علا ملك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفاً ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو وقاع ليحصل منه الولد. فهنا تنزيه الله عز وجل عن أن يكون له ولد؛ لعظم ملكه وقدرته وسلطانه، فمن كان هذا شأنه، فإنه يستغني عن الاحتياج إلى صاحبة وإلى ولد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً )

    يقول عز وجل: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [الجن:4]. ((وأنه كان يقول سفيهنا)) يعني: الذي أضلنا وأغوانا قبل أن ندخل في الإسلام ونستمع القرآن. ((على الله شططا)) أي: قولاً ذا شطط، أو جعل القول نفسه عين الشطط مبالغة فيه، وأصل الشطط الزيادة في الحد. والمراد منه أن نسبة الصاحبة والولد إلى الله تبارك وتعالى من القول الشطط.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً )

    يقول عز وجل: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الجن:5]. هنا يعتذر هؤلاء المؤمنون من الجن عن اتبعاهم قبل إسلامهم لسفيههم وزعيمهم، أو كبيرهم ورئيسهم الذي كان يدعي لله الصاحبة والولد، فيقولون: نحن ما تصورنا أبداً أن هناك شخصاً يكذب على الله، وينسب إلى الله ما لا يليق به عز وجل. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً)) أي: في نسبة ما ليس بحق إليه سبحانه، وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك؛ لظنهم أن أحداً لا يكذب على الله فيتبعونه، يعني: هؤلاء الجن ظنوا أن زعيمهم صادق فيما يخبر به، فلما تبين لهم من القرآن كذب هذا الزعيم السفيه وافتراؤه تبرءوا منه واعتذروا إلى الله من اتباعه قبل إسلامهم. هذا الموقف في سورة الجن له نظائر، مما يلفت نظرنا إلى ضرورة الاستدلال من الآيات القرآنية عند دعوة الآخرين إلى الدخول في دين الإسلام؛ لأن بعض الناس يتكلمون بكل الأدلة ويهجرون أدلة القرآن. فانظر إلى هؤلاء الجن بمجرد أن سمعوا آيات القرآن الكريم أسلموا وتوصلوا من خلالها إلى الحق، فلا توجد أدلة ولا براهين أقوى ولا أوضح ولا أنصع من أدلة القرآن الكريم، فلنحذر خداع الشيطان إيانا؛ لأن الشيطان يأتي بعض الناس ويقول لهم: كيف تحاجونه بالقرآن وهو لا يؤمن بالقرآن، فهذا من تلبيس إبليس يريد أن يبطل أقوى الأسلحة مفعولاً، وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. بل من الكفار من إذا سمع القرآن الكريم وقعت في قلبه الرهبة والتعظيم للقرآن، ولو لم يفهم منه حرفاً واحداً؛ بسبب السلطان القرآني على القلوب، وما حديث كفار قريش منا ببعيد، لاسيما الوليد بن المغيرة . اطلع بعض الناس على كتاب لأحد المؤلفين في قضية شرعية، أنكر فيه على من يعود إلى الآيات والأحاديث وكلام الفقهاء والعلماء في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وقال: إذا أردت أن تدعوهم إلى الإسلام فقل: قال الخواجة الفلاني: كذا، لماذا؟ قال: لأنه أقرب لقبول الناس لكلامك إذا نسبته إلى الخواجات وغيرهم من غير المسلمين. انظر إلى المصيبة التي حلت بنا، يعتقد هذا وأشباهه أن الناس يتأثرون بكلام هؤلاء الكفار ولا يتأثرون بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. على كل حال عندما نخاطب مسلماً أو كافراً فلا بد أن تعطى الأدلة الشرعية قدرها والمكان اللائق بها في الاستدلال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ...)

    قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]. روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثماً. أي: كان الواحد من الإنس إذا نزل في الوادي يهيم في الظلام بالليل فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي، بدلاً من أن يستعيذ بالله سبحانه وتعالى فإنه يستعيذ بزعيم الجن سكان هذه المنطقة، فزادهم ذلك إثماً، أي: إما زاد الكفار إثماً وإما زاد الجن أنفسهم رهقاً وإثماً. ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن، وأن رؤسائهم تحميهم منهم. وقال إبراهيم النخعي : كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً. وقال الربيع بن أنس: كانوا يقولون: فلان من الجن رب هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله، قال: فيزيدهم ذلك رهقاً أي: خوفاً. وقال ابن زيد: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم. وذلك لأن التعوذ بغير الله سبحانه وتعالى من الشرك، ولذلك نزلت سورة المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره. قال عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:1-3] إلى آخره. وقال سبحانه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]. إذاً التعوذ والاحتماء والالتجاء لا يكون إلا بالله عز وجل وحده دون غيره، وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة ومنها: ما روى مسلم عن خولة بنت حكيم قالت: قال عليه الصلاة والسلام: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء، حتى يرحل من منزله ذلك). قال بعضهم: هذا الحديث فيه تفسير آية الجن، وهي قوله تعالى: ((وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا)). فالحديث أتى بما يبطل هذا الشرك. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أعوذ بكلمات الله التامات) هذا أحد الأدلة الواضحة التي استدل بها أهل السنة على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق؛ لأن كلمات الله لو كانت مخلوقة فهل يجوز التعوذ بمخلوق؟ لا، هذا شرك، فما دام الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا أن نتعوذ بكلمات الله فإن هذا يدل على أن كلام الله ليس مخلوقاً وليس محدثاً. والضمير المرفوع في قوله: ((فزادوهم رهقا)) عائد على الجن يعني: فزاد الجن الإنس باستعاذتهم بهم غياً وإثماً وضلالاً، أو أن الضمير يكون عائداً على الإنس يعني: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم رهقاً وكبراً وعتواً، لأنهم لما رأوا الإنس يخافونهم ازدادوا كبراً وعتواً وتسلطاً عليهم. والرهق في الأصل غشيان الشيء، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال. وموضوع الجن موضوع ذو شجون، وقد سبق أن تكلمنا فيه بالتفصيل، وخاصة عند التعليق على الظواهر المرضية والشيطانية التي فشت وتغلغلت في عقول كثير من الناس في هذا الزمان، فلن نعيد الحديث؛ لأن من أبغض الأشياء إلينا أن نعيد هذا الكلام على موضوع الجن، وأعتقد أنه بدأ شيء من الحصار في موجة الجن هذه التي غلا فيها كثير من الناس الذين امتثلوا للدعوة، وكما قلت مراراً: أي إنسان فيه خير لا يستمر أبداً في هذا الموضوع. فنرجو أن تواجه وتحارب هذه الظاهرة تماماً ولا يبقى لها وجود. ونعود إلى ما كنا عليه من الاشتغال بمعالي الأمور، وأنت نترك هذه المصطلحات التي لا تليق بالمسلم العادي فضلاً عن الملتزمين والدعاة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً )

    يقول تبارك وتعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا [الجن:7]. ((وأنهم ظنوا)) يعني: وأوحي إلي أن الجن ((ظنوا كما ظننتم)) يعني: كما ظننتم أيها الأنس في جاهليتكم ((أن لن يبعث الله أحداً)) أي: رسولاً إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده وما فيه سعادتهم. وقيل في قوله: ((أن لن يبعث الله أحداً)) يعني: ألن ينشر الله أحداً من قبره للحساب والجزاء. فالبعث لفظ مشترك يحتمل أنه من البعث والنشور أو من إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: الضمير في قوله: (وأنهم) عائد على الإنس المذكورين في قوله: ((وأنه كان رجال)) والمعنى: وأنهم ظنوا أي: من كلام الجن والخطاب لهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأنا لمسنا السماء ... شهاباً رصداً)

    يقول الله تبارك وتعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:8-9]. ((وأنا لمسنا السماء)) يعني:تطلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، ((فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً)) أي حصبة رواجم. نفهم من ذلك أنها قبل ذلك لم تكن مملوءة بالحرس والرواجم من الشهب وغيرها. أي: كنا نقعد من السماء مقاعد لنستمع ما يحدث وما يكون فيها، فمن يستمع الآن فيها يجد له شهاب نار قد رصد له. وقوله: ((رصداً)) يعني: مرصوداً. قال الزمخشري : قوله: ((نقعد منها مقاعد)) أي: كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته. يعني: ما هو هذا الشيء الجديد الذي هو ملأ السماء حرساً شديداً وشهباً، ولم يعد هناك أي مقعد يقعدون عليه بعد أن كانوا يقعدون؟ إن هذا الحدث الجديد هو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي من السماء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ...)

    يقول تبارك وتعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]. يعني: ما منعنا السمع من السماء ورجم من استمع منا بالشهب إلا لأمر عظيم أراده الله لأهل الأرض، وذلك بعثة هو النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود أننا كنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً، حتى علمنا بعد استماعنا للقرآن الكريم أن هذا حصل لرشد وخير أراده الله لأهل الأرض، وهو بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

    أسلوب القرآن في نسبة الشر إلى غير الله تعالى

    قال الناصر: ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد. وهذه قاعدة تكلمنا عنها مراراً: وهي أنه لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الشر هو من خلقه عز وجل، والله يريده كوناً وقدراً، ولكن لا يريده شرعاً وطلباً وإرادة، فمن ثم ينبغي لنا أن ننسب الشر إلى الله، كما في دعاء القنوت: (والخير كله في يديك والشر ليس إليك) فليس في أفعاله شر، بل أفعاله كلها خير محض. أما الشر في القرآن الكريم فإما أن تأتي نسبته إلى اسم الفاعل مثل قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]. أو يؤتى باسم مفعول: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]. أو الفعل المبني للمجهول كما في هذه الآية وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]. ثم قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] فنسبوا الخير إلى الله سبحانه وتعالى. وهناك شواهد من القرآن تبين هذا المعنى، منها قول إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشفِينِ [الشعراء:77-80] فنسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله. ثم قال: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] فنسب الخطيئة إلى نفسه، ونسب المغفرة إلى ربه. كذلك في قصة الخضر في حادثة السفينة، قال الخضر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] فنسب العيب إلى نفسه؛ لأن العيب لا يصلح أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك قال في قتل الغلام: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81]. أما في بناء الجدار الذي هو خير محض لا شر فيه، قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]. وكذلك في قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:1-4] فنسب للشيطان، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6] أي: من الجن والإنس. وقوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] أي: من شر الخلق، فالشر ينسب إلى المخلوقين، ولا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755975665