إسلام ويب

تفسير سورة النجم [5-18]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (علمه شديد القوى)

    قال عز وجل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]. قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) أي: علم محمداً صلى الله عليه وسلم ملَكٌ شديدٌ قواه، يعني: جبريل عليه السلام، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين: أولاً: أن جبريل عليه السلام هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوحي. الأمر الثاني: أن جبريل شديد القوى، وهذا ما أوضحه قول الله تبارك وتعالى مبيناً أن جبريل هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان سفيراً بينه وبين الله في إيحاء هذا القرآن الكريم إليه، كما قال تبارك وتعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97]، ففي هذا إثبات أن جبريل عليه السلام هو الذي نزله، والمقصود أن الذي أتاه بالوحي ملَكٌ هذا شأنه، لا شيطان كما يزعم المشركون. وقال تبارك وتعالى أيضاً مبيناً أن جبريل هو الذي علمه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195]. وفي نفس السياق في سورة الشعراء قال تبارك وتعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210-212]، فنفى أن يكون مصدر القرآن الشياطين، وأثبت أن مصدره هو تعليم جبريل الأمين. وقال تبارك وتعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114]. وقال تبارك وتعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:16-18]، يعني: إذا قرأه عليك الملك المرسل به إليك من عند الله مبلغاً له عنه: (( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ))، أي: اقرأ كما سمعت الملك يقرأ، وهذا كله يؤكد أن الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام. فهذه الآية دلت على أن جبريل ملك الوحي (( شَدِيدُ الْقُوَى )) * (( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ))، وهذا بينه قوله تبارك وتعالى في سورة التكوير بقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]، وهذه كلها صفات جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. و(القُوى) جمع قوة، ومن العرب من يكسرها فيقول: القوى بكسر (القاف) كالرِّشا بكسر الراء في الرِّشوة جمع رُشوة بضمها، والحِجا جمع حُجوة. وقوى الحبل: طاقاته، والواحدة قوة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذو مرة فاستوى)

    قال تبارك وتعالى: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:6]. قوله: (( ذُو مِرَّةٍ )): المِرة بكسر (الميم) أي: ذو متانة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه، والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي: ذو مِرَّة، من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. وكان من قوة جبريل عليه السلام أنه قلع قرى قوم لوط وحملها على جناحيه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين، وهذه كلها من شدة قوة جبريل عليه السلام. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم أخبر تعالى عن وصف مَن علمه الوحي والقرآن مما يُعلم أن صفات هذا الملك الذي علمه القرآن الكريم مضادة لأوصاف الشيطان معلم الضلال والغواية. فقال تبارك وتعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]، وهذا نظير قوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:20].

    السر في وصف جبريل بالقوة، ووجه إضافة القرآن الكريم تارة إلى جبريل وتارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

    أما السر في وصف جبريل عليه السلام بالقوة فقد وضحه الإمام ابن القيم أيضاً في كتابه المبارك: (التبيان في أقسام القرآن) أثناء شرحه سورة التكوير فقال: ثم ذكر سبحانه المقسم عليه، وهو القرآن الكريم وأخبر أن هذا القرآن قول رسول كريم. والرسول الكريم هو جبريل عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في سياق هذه الآيات الكريمة من الصفات ما يعيِّن ويحتِّم أنه جبريل، فقد قال تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]، فهذا كله لا شك أنه في شأن جبريل عليه السلام. وأما الرسول الكريم في الحاقة فهو: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:38-47]؛ لأنه عندما قال تبارك وتعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) نفى بعد ذلك مباشرة قول من زعم من أعدائه أنه قوله، فقال: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) رداً على من قالوا: إنه قول شاعر، يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ) يعني: كما تزعمون، فيلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى حينما أقسم على أن القرآن قول رسول نسبه إلى الرسول الكريم مرتين: مرة عنى بها جبريل عليه السلام، كما في سورة التكوير، وأيضاً هنا في سورة النجم. ومرة أخرى في سورة الحاقة، وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم : فنسب هذا القول -القرآن الكريم- تارةً إلى الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان. فلا يمكن أن يفهم أحد أن إضافة القول إلى أحد الرسولين تعني أنه كلام من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، لأنه لو قلنا إن المتكلم به أو المصدر له هو جبريل أو هو الرسول عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة سوف يظن القارئ أن القرآن صدر عن هذين المصدرين، وبهذا تتناقض النسبتان. لكن القول الصحيح أن هذه الإضافة إضافة تبليغ، يعني: إنه لقول الله الذي بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بلغه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الناس. يقول: فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري تارة، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، ولفظ (الرسول) يدل على ذلك. يعني: أن كلمة (الرسول) في حد ذاتها تؤيد هذا المعنى، وهو أن الإضافة إضافة تبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يكون مرسلاً بالإبلاغ. يقول: فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله، وهذا صريح في أنه كلام مَن أرسل جبريل، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وأن كلا منهما بلغه عن الله، فهو قوله مبلغاً، وقول الله الذي تكلم به حقاً، فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله متكلماً بالقرآن، وهو كلامه حقاً في هاتين الآيتين، بل هما من أظهر الأدلة على كونه كلام الرب تبارك وتعالى. يعني: أن الجهمية الذين يقولون: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو مخلوق، قد يفرحون ويجدون متنفساً في هاتين الآيتين وفي هاتين النسبتين؛ لكن نقول كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنه لو صح أن هذه إضافة إنشاء لتناقضت النسبتان، فلا ينبغي لأهل البدع أن يفرحوا بهذه النسبة إلى الرسول البشري أو إلى الرسول الملكي؛ لأن نفس الآية دليل عليهم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأرسى قاعدة عامة فقال: (أنا ألتزم -يعني: أنا أضمن- أنه لا يحتج مبتدع بآية أو حديث لتأييد باطله إلا وكان في نفس الآية أو الحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه)، فهنا نفس هذه الآية فيها دليل يبطل كلام هؤلاء الجهمية، وهو قوله عز وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ)، أي: رسول مبلغ وليس منشئاً الكلام من عنده. يقول ابن القيم : فهما من أظهر الأدلة على كون هذا القرآن كلام الرب تبارك وتعالى، وأنه ليس للرسولين الكريمين منه إلا التبليغ، فجبريل سمعه من الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم قوي مكين: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20]، فوصفه أنه كريم قوي مكين عند الرب تبارك وتعالى، وأنه مطاع ثم أمين فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن. أي: أن السند الذي وصل به القرآن إلينا هو عن جبريل، وجبريل تلقاه مباشرة عن الله سبحانه وتعالى، ثم بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين، فهذه الصفات الخمس فيها تزكية لسند القرآن، فالسند الأول: هو السند الملكي جبريل، وجبريل رسول كريم قوي مكين مطاع في السماوات أمين، فلا شك أن هذا كله تزكية لسند القرآن الكريم. يقول: ثم إنه سماع محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك عن هذا السند علواً وجلالة. فالله هو الذي زكى هذا السند العظيم، فلذلك كان من أشرف الأنساب أن يحمل المرء القرآن الكريم عن الشيوخ بالأسانيد، فإذا تلقيت القرآن فتلقه عن شيخ شفاهاً كما ينبغي أن يكون؛ لأن الإنسان لا يصدق عليه وصف قارئ إلا إذا تلقى القرآن مشافهةً من شيخ مسند، تلقاه عن مشايخه، حتى ينتهي هذا السند إلى التابعين، ثم إلى الصحابة، ثم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى الله سبحانه وتعالى. فينبغي للإنسان إذا أراد أن يحوز هذا الشرف العظيم أن ينضم إلى هذه السلسلة التي سوف تبدأ باسمه وتنتهي إلى الله سبحانه وتعالى، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فالذي ينبغي على طالب العلم أن يجتهد في تلقي القرآن شفاهاً، أما تلقي القرآن عن طريق الأشرطة أو عن طريق قراءة كتب التجويد فكل هذا هروب من الحقيقة، وليس هذا هو الصحيح في تلقي القرآن، بل القرآن يُتلقى مباشرة عن الشيخ المقرئ، إذ لابد أن يكون الشيخ المقرئ قد تلقاه أيضاً عن مشايخ، كما قال عز وجل: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18] يعني: اقرأه كما سمعته من جبريل عليه السلام.

    أهمية تلقي القرآن الكريم بالمشافهة

    فالأمة تلقت القرآن بهذه الأسانيد المتواترة طوال هذه القرون التي مرت بطريق التلقي الشفاهي، والقرآن نفسه اسمه: القرآن، ومعناه: القراءة، أي: أنه يُقرأ. فجزءٌ أساسي في تعريف القرآن هو الكيفية التي يُتلى بها القرآن، فإنه يُتلى بطريقة معينة، وهي: مراعاة أحكام التجويد وصفات الحروف ومخارجها ونحو ذلك. فالعدول عن ذلك بأن يتلقى الإنسان القرآن عن طريق سماع الأشرطة ليرضي ضميره غير صحيح. وبعض الناس يقول: أنا لست مقصراً مع القرآن، بل إنني طوال النهار متابع لإذاعة القرآن الكريم، ومعي الأشرطة أسمعها، وهذا هروب، فإن التعبد بالقرآن ليس بسماعه فقط، فهل أنت الذي تتعبد أم جهاز التسجيل أو الراديو الذي يتعبد؟ لابد أن يكون لك ورد تقرؤه من القرآن، ولا بأس أن تسمع، لكن لابد أن يكون هناك تعبد بلسانك أنت وبقلبك أنت وبعقلك أنت، حتى لو كنت تتعتع في قراءة القرآن فاستمر وجاهد فلك في ذلك الأجر العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، فحتى الشخص الذي لا يعرف التجويد ولا يحسن قراءة القرآن يقرأ؛ فإن له أجرين على ذلك. فالمطلوب أن الإنسان لابد أن يتلقى القرآن، هذا إذا كان يريد أن يكون طالب علم حقيقياً وليس طالب علم مزوراً، فإن أول خطوات طلب العلم أن تقرأ القرآن الكريم على شيخ مشافهةً، فإن لم يكن مشافهةً لم يسم تلقياً؛ لأن المشافهة أن تتلقى عن الشيخ -ليس فقط من صوته- لكن تتلقى بنظرك بعينيك وبلحظك أيضاً، ولا تأخذ منه اللفظ فقط لكن أيضاً تأخذ عن طريق اللحظ، فهناك من صفات الحروف ومن أحكام التجويد ما يدرك بالنظر، ولذلك منع العلماء أن يتلقى أعمى عن أعمى، لأن هناك أحكاماً لا تفهم إلا بالنظر، مثل: الروم والإشمام، ونحو هذه الأشياء، فلابد من النطق بالحرف مع النظر إلى كيفية نطقه، ومعرفة كيف يخرج الحرف مرققاً، وكيف يخرج مفخماً، وهذه لا تدرك إلا بالنظر إلى الشيخ. فينبغي أن يُجتهد في هذا الأمر. فإن كان الإنسان يعجز عن تلقي التجويد أو القرآن عن شيخ مشافهة فهناك حل بديل ينفع لمن عجز عن الحصول على شيخ، وذلك لو أمكن مشاهدة بعض الأشرطة البصرية السمعية، إن أمكن استعمالها في التعلم؛ لأنه توجد أشرطة فيها بعض الشيوخ يعلمون التجويد بأشرطة فيديو تقريباً، فهذه يمكن النظر إليها مؤقتاً إلى أن يتوفر الشيخ؛ ولكن نحن نعيش في مصر، ولسنا نعيش في بلاد واق الواق حيث لا يوجد فيها شيوخ ولا كذا، فعندنا شيوخ وبالذات الشيوخ الأزهريون، فإنهم يتقنون جداً أحكام التجويد، فينبغي أن يلوذ كل واحد منكم بشيخ يتلقى عنه القرآن شفاهاً، ولا يلجأ إلى هذه الوسائل البديلة؛ لأن هذا لا يطلق عليه قارئاً، إنما القارئ من يتلقى القرآن مشافهة.

    1.   

    ذكر صفات جبريل عليه السلام

    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام:

    الكرم

    الصفة الأولى: كون الرسول الذي جاء به إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كريماًً: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير:19]، فهو ليس كما يقول أعداؤه: إن الذي جاء به شيطان، فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير. أي: أن الشيطان سيئ وقبيح في كل ما يتعلق به، ولذلك لما وصف الله سبحانه وتعالى شجرة الزقوم قال: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65]، إشارة إلى أن الشيطان أقبح ما يكون. وهنا إشارة عابرة: بالنسبة لهذه الأمور الغيبية نجد أحياناً عدواناً يحصل من بعض المتسمَّين بأسماء المسلمين حيث تصدر منهم أشياء فظيعة، مثلاً: نجد تصميمات لأغلفة للكتب، كأن يكون كتاب يتكلم عن الشياطين، فتجدهم يحاولون أن يرسموا منظراً معيناً للشيطان، ويجتهدون في كونه قبيح الصورة ذا قرون ونحو ذلك، فنقول: ما أدراكم أن هذه هي صورة الشيطان الحقيقية؟! أليس هذا عدواناً على الغيب؟! ويأتي كتاب يتكلم عن الجنة، فيرسمون على غلافه من بساتين الدنيا، صحيح أنه بستان جميل أو حديقة جميلة؛ لكن هل يجوز أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! اترك الغلاف خالياً خالصاً وضع أي لون آخر، غير أنك لا تحاول أن تقرب الجنة إلى أذهان الناس بأن تصور لهم صورة من زينات الدنيا، فماذا تكون هي في جنة الآخرة؟ فهذا عدوان على الغيب، وهذا تحقير للجنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأنها: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، بمعنى: أنك مهما حاولت أن تتخيل كيف هي الجنة وكيف هو جمالها ونعيمها، فإنك مخطئ في التخيل، فإذا كان هذا أمراً نحن نجزم به ونقطع به، وهو أن الجنة ما خطر شكلها وحسنها على قلب بشر، فكيف يتجرأ هؤلاء الناس على أن يرتكبوا هذا الكذب وهذا العدوان على حقيقة من حقائق الغيب؟! وهكذا نفس الشيء في النار، حيث يأتون بصور نار مشتعلة، وما أدراكم أن هذه هي النار؟! هذه النار غيب، ونحن نعرفها الآن بالوصف فقط، أما المعاينة فنسأل الله أن يعافينا جميعاً من رؤيتها ومن مسيسها وحرها، فهذا أيضاً عدوان على الغيب، ناهيك عما يحصل من بعض الناس الذين يزينون الجدران أو الستائر أو كذا ببعض الأشياء فيها صورة الملائكة على هيئة بنت صغيرة لها جناحان، وهذا أيضاً عدوان! وأنتم تعرفون جميعاً التشنيع الذي شنعه القرآن على هؤلاء الذين اعتدوا على الغيب حينما زعموا أن الملائكة بنات الله، فتجيء أنت أيها المسلم! فتقول بقول المشركين، وتأتي بصورة بنت صغيرة على أن هذه هي من الملائكة وهذه صورة الملائكة! فهذا عدوان ولا ينبغي أن يصدر من المسلمين، فإن صدر من غير المسلمين فليس بعد الكفر ذنب، أما مسلم ويضاهي بفعله أو بقوله أو بصوره أفعال المشركين فهذا ما لا ينبغي ولا يليق. فهذا جبريل عليه السلام رسول كريم، وليس كما يقول أعداء الله وأعداء جبريل: إن الذي جاء بالقرآن شيطان. يقول ابن القيم: فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير، باطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه، وليس فيه ولا عنده خير، فهو أبعد شيء عن الكرم، والرسول الذي ألقى القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم كريم جميل المنظر بهي الصورة كثير الخير، طيب مطيَّب معلم الطيبين، وكل خير في الأرض من هدى وعلم ومعرفة وإيمان وبر، فهو مما أجراه ربه على يديه، وهذا غاية الكرم الصوري والمعنوي.

    القوة

    الوصف الثاني: أنه ذو قوة، كما قال في سورة النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]. وفي هذا تنبيه على أمور: أحدها: أن جبريل عليه السلام وصفه الله سبحانه وتعالى الجبار القوي المتين بأنه ذو قوة، وبأنه شديد القوى، فإذا وصفه الله بذلك فأي قوة تكون قوة جبريل عليه السلام؟! ووصف جبريل بأنه شديد القوى أو ذو قوة يفيد أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو من هذا القرآن الكريم، أو أن ينالوا منه شيئاً أو أن يزيدوا فيه أو أن ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقرأ. الثاني: أنه موالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له وموادٌّ له وناصر، وإذا كان جبريل عليه السلام ذا قوة وشديد القوى فهو نصير، كما قال الله تبارك وتعالى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، فجبريل يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره ويؤيده ويعضده، ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه فهو المهدي المنصور، والله هاديه وناصره. الأمر الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك. الأمر الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أُمر به، فإذا كلف جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل فلأنه شديد القوى فهو قادر على أن ينفذ ما أُمر به لقوته، ولا يعجز عن ذلك، وهو مؤد له كما أمر به لأمانته، كما قال سبحانه: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:20-21] وأحدنا إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، كما قالت ابنة الرجل الصالح: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فيمكن أن يوجد إنسان قوي على الوظيفة لكنه خائن غير أمين، ويمكن أن يوجد أمين تقي وورع؛ لكنه غير قوي، ولا يستطيع أن يؤدي هذه الوظيفة، وفقدان هاتين الصفتين هو الذي ألجأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشكوى في قوله: (أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعَجْز الثقة). فقوله:(جَلَد الفاجر)، يعني: الشخص قد يكون فاجراً لكن عنده جَلَد وقوة بحيث يستطيع أن يجاهد ويُحدث انتكاساً في صفوف الأعداء، فهو فاجر، ولكنه مع ذلك قوي في الحرب مثلاً، وقوله: (وعَجْز الثقة)، يعني: الشخص قد يكون ثقة لكنه عاجز، فإذا وجدت القوة مع الأمانة فهذا هو أكمل الأمور، كما قال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]. يقول ابن القيم : وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قوياً أميناً معظماً ذا مكانة عنده مطاعاً في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفة، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسَل إليه. أي: أن هذا الاصطفاء وهذا الاختيار لجبريل عليه السلام وهو القوي الأمين شديد القوى المكين المطاع في أهل السماوات، كل هذه الصفات تدل على عظمة شأن المرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا كان هذا رسول الله سواء كان الرسول البشري أو الرسول الملكي فالله أعظم، فيدل على عظمة شأن المرسِل، وشأن الرسول، وهو جبريل، وشأن الرسالة نفسها لأنها هي القرآن الكريم، والمرسَل إليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم (حيث انتدب له الكريم القوي المتين عنده المطاع في الملإ الأعلى الأمين حقاً؛ فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية. هذا فيما يتعلق بقوله تبارك وتعالى: (( ذِي قُوَّةٍ )).

    الوجاهة عند الله تعالى

    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام: وقوله تعالى: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)، أي: له مكانة ووجاهة عند الله سبحانه وتعالى، وهو أقرب الملائكة إليه، وفي قول الله تبارك وتعالى: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ [التكوير:20]، إشارة إلى علو منزلة جبريل إذ كان قريباً من ذي العرش سبحانه وتعالى.

    معنى قوله تعالى: (مطاع ثم أمين)

    ثم قال تبارك وتعالى: (( مُطَاعٍ ثَمَّ ))، (ثم) بمعنى: هناك، وفي هذا إشارة إلى أن جنود جبريل عليه السلام وأعوانه يطيعونه إذا ندبهم لنصر صاحبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إشارة أيضاً إلى أن هذا الذي تكذبونه وتعادونه سيصير مطاعاً في الأرض، كما أن جبريل مطاع في السماء، وأن كلاً من الرسولين مطاع في محله وقومه، وفيه تعظيم له بأنه بمنزلة الملوك المطاعين في قومهم، فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا الملك المطاع، وفي وصفه بالأمانة إشارة إلى حفظه ما حُمِّله وأدائه له على وجهه. ثم نزه الله عز وجل رسوله البشري وزكاه عما يقول فيه أعداؤه فقال: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22] وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين. فهذا فيما يتعلق بما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كون قوله تعالى في سورة النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] نظير قوله تعالى: في سورة التكوير: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:20].

    1.   

    إضافة في تفسير قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى)

    أما قول الله تبارك وتعالى هنا: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ [النجم:5-6] أي: جميل المنظر حسن الصورة ذو جلالة، ليس شيطاناً، فهذا تعديل لسند الوحي والنبوة وتزكية له، كما تقدم نظيره في سورة التكوير، فوصفه بالعلم والقوة وجمال المنظر وجلاله، وهذه كانت أوصاف الرسول البشري والملكي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم، كما أن هذه منزلة جبريل في أهل السماوات، فكذلك فيها إشارة -كما قال ابن القيم - إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يصير رسولاً نبياً مطاعاً في أهل الأرض، ويعلو دينه على كل الأديان، وكما كانت هذه أوصاف الرسول الملكي كذلك كانت أوصاف الرسول البشري صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام شديد القوة؛ حتى إن رجلاً مصارعاً أبى أن يسلم إلا أن يصارع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن غلبه فهو رسول الله حقاً، فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه وغلبه فأسلم، وكان الصحابة يقولون (كنا إذا حمي الوطيس واشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم،فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه)، أي: كانوا يختبئون خلفه، ويجعلونه هو الدرع والترس في مواجهة الأعداء وهم وراءه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم، وكل هذه الصفات لو تكلمنا على كل صفة على حدة لطال الكلام جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع كل ما يمكن من أوصاف الكمال البشري، كما قال الشاعر: فغاية القول فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهمُ وقوله تعالى: (( ذُو مِرَّةٍ ))، أي: مكانة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه، والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي: ذا مرة، من أمررت الحبل يعني: إذا أحكمت فتله.

    1.   

    رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلقه الله عليها

    وقوله: فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى [النجم:6-7]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قال الزمخشري : فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي؛ وكان ينزل في صورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. يعني: كان جبريل عليه السلام إذا أتى في صورة بشرية يتمثل في صورة دحية الكلبي ؛ لكن في هذه الآية: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى [النجم:6-7] هذه المرة رآه على صورته الحقيقة وكانت هذه إحدى المرتين اللتين رأى فيهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، فما أدري كيف يتخيل لنا هذا هؤلاء الرسامون الذين يرسمون ويخترعون صوراً للشياطين، وتارةً صوراً للجنة، وصوراً لعذاب جهنم، وصوراً ليوم القيامة، وهذا كله غيب؟! فالعقل البشري لا يمكن أن يصل إلى إدراك كنهه مهما اجتهد في ذلك، فكيف يصورون لنا صورة جبريل عليه السلام وقد سد الأفق تماماً؟! فإن كل القبة السماوية امتلأت بصورة جبريل عليه السلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت جبريل وله ستمائة جناح) فهؤلاء العباقرة كيف يتخيلون لنا وكيف يركبون ستمائة جناح؟! ولكن نقول كما قال أحد العلماء لما أراد أن يعجِّز من وقع في عملية تشبيه الغيب بالمنظور وبالمجسم قال له: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح، فعجز، فقال له: أضع عنك سبعاً وتسعين وخمسمائة جناح، فالباقي ثلاثة من الستمائة، فتخيل لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة، كيف ستركب هذه الأجنحة؟! فعجز! فالشاهد: أن سياق الآية هنا يتحدث عن إحدى المرتين اللتين تجلى فيهما جبريل عليه السلام بصورته الحقيقية. وقوله تعالى: (( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ))، قال بعض العلماء: الفاء فاء السببية، والمعنى الذي تفيده في هذه الحالة هو: أن تشكل جبريل عليه السلام يتسبب عن قوته وعن قدرته على الخوارق. وهناك قول آخر بأن (الفاء) عاطفة على (علَّمه) في قوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] يعني: علَّمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهو بالأفق الأعلى)

    قال تعالى: وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى [النجم:7]. الأفق: الناحية، وجمعه: آفاق، والمراد: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة؛ لأن أهل الهيئة -علماء الفلك- يقولون: الأفق هو الملتقى الذي يلتقي فيه مد البصر أقصى شيء يلتقي من الأرض بالسماء، أو من البحر مثلاً بالسماء، فهذا الجزء يُسمى الملتقى لا يُسمى الأفق؛ لكن المقصود بالأفق هنا: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، يعني: ما يعبر عنه أحياناً بالقبة السماوية. وقال ابن كثير : قوله تعالى: (( فَاسْتَوَى ))، يعني: جبريل عليه السلام. قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس. وقيل: جبريل عليه السلام استوى في الأفق الأعلى، قاله عكرمة وغير واحد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)

    قال تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:8-9]. قوله: (( ثُمَّ دَنَا )) يعني: أنه دنا بعدما استوى في أفق السماء، أي: اقترب جبريل عليه السلام من محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير : هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو: ثم تدلى فدنا، ولكنه حَسُنَ تقديم قوله: (( دَنَا )) إذ كان الدنو يدل على التدلي والتدلي على الدنو، كما يقال: زارني فلان فأحسن، أو تقول: أحسن إلي فزارني. وقال الشهاب : التدلي: مجاز عن التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الدنو منه، لا بمعنى التنَزُّل من علو كما هو المشهور، أو هو: دنو خاص بحالة التعلق فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو. ونقول: لا داعي لافتراض المجاز؛ لأن الأصل حمل كل شيء في القرآن الكريم على الحقيقة. وقوله تعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)، أي: كأن مسافة ما بينهما مقدار قوسين أي: بقدرهما إذا مدا، أو أقرب، أو الضمير لجبريل بأن قربه قدر ذلك. يقول الشهاب: وقاب القوس وقيده: ما بين الوتر ومقبضه. والمراد به هنا المقدار، فإنه يقدر بالقوس كالذراع، فهذه إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا -يعني: إذا أجروا وعقدوا حلفاً فيما بينهم- أخرجوا قوسين، ويمسكون أحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقاً للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معاً ويرميان بهما سهماً واحداً، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدها رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه، كما قال مجاهد ، وارتضاه عامة المفسرين. فهذا هو السر في هذا التعبير عن القرب بـ(( قَابَ قَوْسَيْنِ ))، فالعرب كانوا يتحالفون في الجاهلية، والحلف في الجاهلية: أن تنصر هذه القبيلة القبيلة الأخرى سواء كانت ظالمة أم مظلومة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام)، يعني: مثل هذا الحلف الذي كان يقع في الجاهلية، فكانوا يأتون بقوسين، فيلصقون أحد القوسين بالآخر، فيشكلان نصف دائرة، ثم يضعون فيهما سهماً واحداً ويرمون هذا السهم معاً، يعني: أنها عملية رمزية في صورة حسية تؤكد التزامهم بهذا الحلف، ولذلك يقال دائماً لما يُعبر عن الوحدة: يرمون عن قوس واحدة، للدلالة على وحدة إرادتهم وتوحدهم ضد أعدائهم. وقوله تبارك وتعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (أو) هنا لا تفيد الشك؛ لأنه لا يمكن أن يصدر عن الله سبحانه وتعالى شك، وإنما المقصود تحقيق قدر المسافة، وأن هذه المسافة لا تزيد على قوسين البتة. وهذا تماماً مثل قول الله تبارك وتعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]، وليس هذا على الشك؛ ولكن المعنى: أنه إذا رآهم الرائي يقول: هم مائة ألف أو يزيدون؛ لكنه لا يرى احتمالاً أنهم يكونون أقل من مائة ألف، فهذا فيه تأكيد أنهم مائة ألف، كذلك هذه الآية الكريمة : فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:9]، ليست على وجه الشك، بل فيه تحقيق لقدر المسافة، وأنها لا تزيد على قوسين البتة، فالمعنى: (( فَكَانَ )) يعني: بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي، أي: لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك، فهو تمثيل لشدة القرب وتحقيق استماعه لما أوحي إليه. وقيل: (أو) بمعنى: بل، أي: بل أدنى، على أنها للإضراب، وأدنى: أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف، يعني: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) من قاب قوسين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى)

    قال تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]. قوله: ((فأوحى))، أي: جبريل عليه السلام؛ لأننا نفسر ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى بجبريل، وإن كان هناك رأي آخر فهو رأي مرجوح غير معتمد، وهو: أن الذي دنا هو الله سبحانه وتعالى، كما ورد في بعض الأحاديث؛ وسيأتي ذكر هذا؛ لكن الظاهر هنا أن المقصود بقوله: (( فَأَوْحَى )) يعني: جبريل عليه السلام. وقوله: (( إِلَى عَبْدِهِ ))، أي: إلى عبد الله عز وجل وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس وغاية ظهوره، والفاعل هنا هو الله سبحانه وتعالى؛ لكن أوحى بواسطة جبريل، فهذا بما أنه في غاية الوضوح ولأن اللبس مأمون، عبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه الشريفة بالضمير. أو فأوحى الله عز وجل بواسطة جبريل الذي تدلى إليه، (( مَا أَوْحَى )) أي: مما أمره به، وفيه تفخيم للمُوحى به، إذ الإبهام يفيد تعظيم وتفخيم هذا الذي أوحي إليه صلى الله عليه وسلم؛ كأنه أعظم من أن يحيط به بيان. وسياق الآيات إلى الآن هو في توثيق الوحي وتعديله وتزكيته، كما بين ذلك الإمام ابن القيم .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى)

    قال تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]. أي: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه، يعني: أنه رآه بعينه وتيقنه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق، يعني: أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وافق عينه، وكان على يقين بكل وسائل التيقن، فقد رأى جبريل بعينه، وأيضاً قلبُه كان على يقين أنه يرى جبريل عليه السلام، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق. وقرئ: (ما كذَّب) بالتشديد، يعني: أنه صدقه، ولم يشك أنه ملك رباني لا خيال شيطاني، كما قال تبارك وتعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [التكوير:25]. وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة، كما سبق الكلام عنه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى)

    قال تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم:12]. أي: أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك المنزل عليه. قال القاشاني : (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى)، أي: أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره؟! فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟!. ويقول: وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور فلا مخاصمة حقيقةً. انتهى كلامه. ويقول القاسمي: وذلك لأن رؤية الملك وتنزله بالوحي حالة خاصة بالأنبياء لا يمكن لغيرهم اكتناهها. فكل من ليس بنبي من البشر فواجبه الإيمان بهذا الأمر والإذعان له؛ لقيام الدليل عليه، يعني: هذا خبر أتانا فنحن نصدقه ونؤمن به؛ لكن هل لا نصدقه إلا إذا رأينا جبريل ورأينا الملك؟ الجواب: لا؛ لأن رؤية الملك ورؤية جبريل عليه السلام هي حالة خاصة بالأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما أنتم فلا تماروا في شيء، ولا سبيل لكم إلى رؤيته، وإنما المقصود منكم جميعاً أيها البشر! أن تؤمنوا بهذا الخبر؛ لأن هذا الخبر قصص القرآن، والقرآن ثبت بالمعجزات والأدلة أنه كلام الله لا ريب في ذلك. فيقول: وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها والإذعان لها، لقيام الدليل عليها، وبالجملة: فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئي؛ لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يره مرة واحدة وإنما رآه مرتين في صورته الحقيقية. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر تعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه، وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئاً على خلاف ما هو به، فكذب فؤادُه بصرَه. يعني: يمكن للإنسان أن يرى شيئاً على خلاف ما هو عليه في الحقيقة، لسبب أو لآخر، وهذا معروف، وفي بعض الأمراض النفسية يكون من ضمن الأعراض أن يرى شيئاً على خلاف حقيقته، فنفي الله سبحانه وتعالى هنا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعارض قلبه مع عينه، وإنما توافَق القلب مع العين في إثبات رؤية الملك، فقلب الرسول عليه الصلاة والسلام صدق ما رأته عيناه. يقول: وليس كمن رأى شيئاً على خلاف ما هو به، فكذب فؤادُه بصرَه، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك. وفيها قراءتان: إحداهما بتخفيف: كَذَبَ والثانية بتشديدها يقال: كَذَبَتْه عينُه وكَذَبَه قلبُه وكَذَبَه جسدُه إذا أخلف ما ظنه وحدثه، قال الشاعر: كَذَبَتْك عينُك أن رأيت بواسط غلس الظلام من الرماد خيالاً أي: أرتك ما لا حقيقة له. فنفى هذا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن فؤاده لم يكذِّب ما رآه. و(ما) في قوله: (( مَا رَأَى )) إما أن تكون مصدرية؛ يعني: ما كذب الفؤاد رؤيته، وإما أن تكون موصولة، يعني: ما كذب الفؤاد الذي رآه بعينه، وعلى التقديرين فهو إخبار عن تطابق رؤية القلب لرؤية البصر وتوافقهما، وتصديق كل منهما لصاحبه، وهذا ظاهر جداً في قراءة التشديد: مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ، ثم أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم مكابرتهم وجحدهم له على ما رآه، كما ينكر على الجاهل مكابرته للعالم ومماراته على ما علمه. وقوله تعالى: (( أفتمارونه )) فيها قراءتان: (( أَفَتُمَارُونَهُ )) و(( أَفَتَمْرُونَهُ )) وهذه المماراة أصلها من الجحد والدفع، يقال: مريت الرجل حقه إذا جحدته، كما قال الشاعر: لإن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخاً ما كان يمريكا ومنه المماراة، وهي: المجادلة والمكابرة، ولهذا عُدِّي هذا الفعل بـ(على)، وهي على بابها وليست بمعنى: (عن) كما قاله المبرد؛ لأن المماراة هنا فيها معنى المجادلة والمكابرة. ومن قرأ: (( أَفَتَمْرُونَهُ )) فمعناها: أفتجحدونه؟.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى ... الكبرى)

    يقول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:13-18]. قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، أي: مرة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية التالية هذه بنفي الريبة والشك عنها أيضاً، وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه، فهذا تأكيد للرؤيتين كلتيهما. وقوله: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)، أي: موضع الانتهاء، فالمنتهى اسم مكان أو مصدر ميمي، وقد جاء في الصحيح: (أنها شجرة نبْق في السماء السابعة إليها ينتهي ما يُعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها، وما يهبط به من فوقها فيقبض منها)، ولعلها شبهت بالسدرة، كما قال القاضي، لأنهم يجتمعون في ظلها. يعني: أن شجر النبْق يجتمع الناس في ظله، وهذه الشجرة أيضاً يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت سدرة لذلك، والله تعالى أعلم. لكن ورد في الحديث: (أن كل نبْقة فيها كقلة من قلال هجر)، فهي على هذا حقيقةٌ، وهو الأظهر. ولا شك أنها حقيقة؛ لأن الحديث صحيح، وكان الأولى بـالقاسمي رحمه الله أن ينزه تفسيره من ذكر حكايات بعض العلماء الذين يزعمون المجاز في مثل هذه الأشياء؛ فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وصف سدرة المنتهى بأن كل نبَقة فيها كقلة من قلال هجر، فهذا يرفع أي احتمال للمجاز كما يزعمون. (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)، أي: التي تأوي إليها أرواح المقربين. وقوله: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)، أي: من جلال الله وعظمته، ومعناه: أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها. (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)، هذا تنزيه لبصره صلى الله عليه وسلم، أي أنه ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه. (( وَمَا طَغَى ))، يعني: ما تجاوز مرئيه المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً لا شبهة فيه. وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته. (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) في هذا إشارة إلى أنه رأى الكبرى من آيات الله، وهو جبريل عليه السلام، أي: رأى الملك الذي عاينه وأخبره برسالته، وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبرى، ويحتمل أن تكون (( الكبرى )) صفة لآيات في قوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ) أي: الآيات التي هي الكبرى، وعلى هذا يكون المرئي محذوفاً. يعني: إذا قلنا إن (الكبرى) المقصود بها جبريل، فتكون هي المفعول به؛ لكن إذا قلنا: إن (الكبرى) صفة لـ(آيات)، ففي هذه الحالة يكون المفعول به محذوفاً، وحُذف لتفخيم الأمر وتعظيمه، وكأنه قال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أموراً عظاماً لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.

    1.   

    كلام ابن القيم على أوائل سورة النجم

    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه عن رؤيته لجبريل مرة أخرى عند سدرة المنتهى. فالمرة الأولى: كانت دون السماء: (( بِالأُفُقِ الأَعْلَى )). والثانية: كانت فوق السماء (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى). وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها مرتين: كما في الصحيحين عن زر بن حبيش رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:9]، فقال: أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح). وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] قال: (رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح)، وقال البخاري عنه: (أي: رأى رفرفاً أخضر يسد الأفق). قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة . والتقدير على رأي ابن مسعود : (( فَأَوْحَى )) أي: جبريل، (( إِلَى عَبْدِهِ )) أي: إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يرى أن الذي (( دَنَا فَتَدَلَّى )) هو جبريل، وأنه هو أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله؛ أوحى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إلى جبريل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) قال: رأى جبريل عليه السلام. وفي صحيحه أيضاً عن مسروق قال: (كنت متكئاً عند عائشة رضي الله عنها فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعذليني، ألم يقل الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23]، وقال: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض. ثم قالت: أوَلم تسمع أن الله عز وجل يقول: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103]؟ أوَلم تسمع أن الله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولَاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51]؟ قالت: ومن زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]. قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]). وفي الصحيحين عن مسروق أيضاً قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله! لقد قف شعري مما قلتَ. وفيهما أيضاً قال: قلت لـعائشة: فأين قول الله عز وجل: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:8-9]؟ قالت: (إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق). وفي صحيح مسلم أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور، أنى أراه؟!). وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وهذا الحديث ساقه مسلم بعد حديث أبي ذر المتقدم، وهو كالتفسير له. فالحجاب هو النور الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الحجاب قابل لأن يكشف، كما سنبين. ولا ينافي هذا قوله في حديث الصحيح -حديث الرؤية يوم القيامة-: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه)، فإن النور الذي هو حجاب الرب تبارك وتعالى يراد به الحجاب الأدنى إليه، وهو لو كشف لم يقم له شيء، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ .. [الأنعام:103] قال: (ذاك نوره الذي هو نوره -يعني: الذي هو نور الله- إذا تجلى به لم يقم له شيء). وهذا الذي ذكره ابن عباس يقتضي أن قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ .. [الأنعام:103] على عمومه وإطلاقه في الدنيا والآخره؛ لكن هل يلزم من نفي الإدراك نفي الرؤية؟ الجواب: لا يلزم من ذلك أن الله لا يُرى، بل يُرى في الآخرة بالأبصار من غير إدراك. يعني: لا يُحاط بالله أبداً، وإنما يُرى بالأبصار، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ وأبصارنا لا تقوم بإدراك الشمس على ما هي عليه؛ فهل نستطيع نحن أن نحدق في الشمس وننظر إلى قرص الشمس في وقت الضحى مثلاً ونحملق فيه؟ الجواب: لا، بل لو حصل ذلك قد يعمى الإنسان، فإذا كانت الشمس وهي مخلوقة لا نستطيع أن ندركها على ما هي عليه بأعيننا مع القرب الذي بين المخلوق والمخلوق، فالتفاوت الذي بين الخلائق وذات الرب جل جلاله أعظم وأعظم، ولهذا لما حصل للجبل أدنى شيء من تجلي الرب ساخ الجبل واندك بسبحات ذلك القدر من التجلي، كما قال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَاً [الأعراف:143]. وفي الحديث الصحيح المرفوع: (جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، فهذا يدل على أن رداء الكبرياء على وجهه تبارك وتعالى هو المانع من رؤية الذات، ولا يمنع من أصل الرؤية، فإن الكبرياء والعظمة أمر لازم لذاته تعالى، فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينهم وبينه فهو الحجاب المخلوق، وليس هو نور الله عز وجل؛ لأن نور الله لا يزول أبداً، فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينه وبينهم فهو الحجاب المخلوق، وأما أنوار الذات التي يحجب عن إدراكها، فذاك صفة للذات لا تفارق ذات الرب جل جلاله، ولو كشف ذلك الحجاب الذي هو من نور الله لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، وتكفي هذه الإشارة في هذا المقام للمصدق الموقن، وأما المعطل الجهمي فكل هذا عنده باطل ومحال. والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل عليه السلام، فقوله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] أي: جبريل فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:9] * (( فَأَوْحَى )) أي: فأوحى الله، (( إِلَى عَبْدِهِ )) يعني: إلى عبده محمد عليه السلام، والمفهوم: أن الوحي إنما يكون بواسطة جبريل، أو (( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ )) يعني: أوحى بواسطة جبريل إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم (( مَا أَوْحَى )). وأما قول ابن عباس : (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين) فالظاهر أن مستنده هذه الآية الكريمة: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، وقد تبين أن المرئي فيها جبريل، فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي الإجماع على ما قالته عائشة من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فقال في نقضه على بشر المريسي الكلام على حديث ثوبان ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي البارحة في أحسن صورة)، فحكى تأويل المريسي الباطل، ثم قال: ويلك! إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبتَ إليه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر : (إنه لم ير ربه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تروا ربكم حتى تموتوا)، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وأجمع المسلمون على ذلك، مع قول الله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] يعنون: أبصار أهل الدنيا، وإنما هذه الرؤية كانت في المنام. يعني: أن حديث ثوبان ومعاذ كانت رؤيا منام

    أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه

    ثم قال الله تبارك وتعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]: قال ابن عباس : (ما زاغ البصر يميناً ولا شمالاً، ولا جاوز ما أُمر به)، وعلى هذا المفسرون، فنفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين يدي الملوك والعظماء من التفاته يميناً وشمالاً، ومجاوزة بصره لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة، إذ لم يلتفت جانباً، ولم يمد بصره إلى غير ما رأى من الآيات وما هناك من العجائب، بل قام مقام العقل الذي أوجب أدبُه إطراقَه وإقبالَه على ما رأى دون التفاته إلى غيره، ودون تطلعه إلى ما لم يره، مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال. وزيغ البصر: التفاته جانباً. وطغيانه: مده أمامه إلى حيث ينتهي. فنزه في هذه السورة علمه عن الضلال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، ونزه عمله عن الغي، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]ونطقه عن الهوى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، ونزه فؤاده عن تكذيب بصره: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، ونزه بصره عن الزيغ والطغيان: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وهكذا يكون المدح: تلك المكارم لا قعبان من لبن شبن بماء فعادت بعد أبوالا

    أنواع الاستطراد في القرآن الكريم

    ولما ذكر رؤيته لجبريل عند سدرة المنتهى استطرد، وذكر أن جنة المأوى عندها، وأنه يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى، وهذا من أحسن الاستطراد، وهو أسلوب لطيف جداً في القرآن الكريم, والاستطراد في القرآن الكريم يأتي على نوعين: أحدهما: أن يستطرد من الشيء إلى لازمه، مثل هذه الآية. فالسياق أساساً في الكلام على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل، قال تبارك وتعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم:12] إلى أن قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، وهذا كله في إثبات رؤية جبريل، ثم قال: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:14]، هذا هو الموضع الذي رآه فيه، ثم استطرد القرآن الكريم إلى شيء من التفصيل عن سدرة المنتهى، وهذا من الاستطراد الذي يكون أحسن ما يكون وأفخم ما يكون وأبدع ما يكون، فحينما ذكر سدرة المنتهى استطرد في وصفها وأحوالها: عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:15-16]. ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، ثم استطرد من جوابهم إلى قوله تبارك وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلَاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتَاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ .. [الزخرف:10-13] إلى آخر الآيات، فهذا ليس من جوابهم؛ ولكنه تقرير له وإقامة للحجة عليهم. فهل الكفار لما يوجه إليهم السؤال: (( مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )) هل هم يقولون: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً .. [الزخرف:9-10]؟ الجواب: لا، بل انتهى جوابهم عند: (( خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ))، فاستطرد القرآن الكريم من هذا إلى ما يلزم منه، وهو ذكر صفات الله تبارك وتعالى وأفعاله. ومن ذلك أيضاً -من هذا النوع من الاستطراد-: قول الله تبارك وتعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:49-52] فهذا جواب موسى، ثم استطرد سبحانه وتعالى من جواب موسى فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلَاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجَاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:53-55]، ثم عاد إلى الكلام الذي استطرد منه: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى [طه:56]... إلخ. النوع الثاني: أن يحصل استطراد من الشخص إلى النوع، كقول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:12-13] فـ(الهاء) في قوله: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ تعود إلى الإنسان. فهنا استطرد، فـ(الهاء) لا تعود على المذكور من في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ [المؤمنون:12]؛ لأن الإنسان هنا هو آدم عليه السلام. فقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)، الذي خلق من طين هو آدم فقط، وقوله: (( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ )) المقصود هنا من بعد آدم عليه السلام، وهذا استطراد من الشخص الذي هو آدم إلى النوع الإنساني بعد آدم وهو سائر البشر. ومن هذا النوع من الاستطراد أيضاً: قول الله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحَاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:189-191]، فسياق آخر الآيات في المشركين، وليس في آدم وحواء، فآدم نبي، وحواء كانت مسلمة، فإذا أحسنا فهم القرآن لم نقع في الاشتباه الذي يقع من بعض الناس، حتى إن بعض المفسرين زعموا أن المقصود بقوله تبارك وتعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً) يعني: لما آتى الله آدم وحواء صالحاً كانت حواء -فيما يزعمون ولم يصح- كلما رزقت بولد لا يعيش، فأتاها الشيطان وقال لها: لو أردته أن يعيش فسميه عبد الحارث، فلما رزقت بولد سمته عبد الحارث، والحارث شيطان، فلذلك قالوا: إن هذا هو المقصود بقوله تعالى: (( جَعَلاَ )) أي: جعلا -أي: آدم وحواء - (لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، وهذا السياق لا يمكن أن يكون في آدم وهو نبي معصوم، ولا في حواء وهي أول مسلمة على وجه الأرض، وإنما الصحيح أن هذا نوع من الاستطراد في القرآن الكريم، وهو استطراد من الشخص إلى النوع، وذلك في قوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ [المؤمنون:12-13] وفي الآية الأخرى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [السجدة:8] لكن هنا قال: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ فـ(الهاء) لا تعود على آدم، إنما هذا استطراد في نوع آدم، وهم بنوه. أما هذه الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهو آدم (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) لأن حواء خلقت من آدم (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ)؛ لأن الحمل في البداية يكون خفيفاً؛ ولذلك تستطيع أن تتنقل وتروح وتجيء بلا عبء (( فَلَمَّا أَثْقَلَتْ )) معناه: فرغت من الوضع (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحَاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً) هنا السياق بدأ ينتقل استطراداً من الشخص إلى النوع، وأما الكلام عن آدم وحواء فقد انتهى، وصار الكلام هنا عن المشركين من ذريتهما، ولا بد أن تفهم الآية على هذا النحو. وعلى هذا فقوله: (( فَلَمَّا آتَاهُمَا صالحاً )) يعني: لما آتى الله آدم وحواء صالحاً كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، هذا هو معنى الآية، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء لأنهما أصل لذريتهما، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف:11]، يعني: بتصويرنا لأبيكم آدم؛ لأنه أصلكم، بدليل قوله تعالى: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11] فخاطبنا نحن وإن كان المقصود آدم لأنه أصل الذرية، فكذلك هنا في قوله: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) يعني: جعل كثير من ذرية آدم وحواء بعد ذلك شركاء فيما آتاهما، فهنا استطرد من ذكر الأبوين إلى ذكر المشركين من أولادهما، والدليل: قوله تعالى -مباشرة بعد هذه الآية-: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) * (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، فهذا نص صريح بأن المراد المشركون من بني آدم. والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756185389