إسلام ويب

تفسير سورة الكهف [32-59]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين ...)

    يقول تبارك وتعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32].

    مجمل تفسير الآيات المتعلقة بقصة الرجلين

    (( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ))، أي: مثلاً للمؤمن والكافر، (( رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ))، وهي أعز ما يؤثره أولئك في تأزير كرومهم بالأشجار، وأعز شيء عند هؤلاء الناس أن تكون الجنات من الأعناب ثم تحاط بالنخل. (( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا ))، أي: بين الجنتين أو بين النخيل والأعناب. (( زَرْعًا ))، يعني: فحصد منهما الفواكه والأقوات؛ لأن النخيل والأعناب فواكه، أما الزرع فهو القوت، فحصد لهما الفواكه والأقوات فكانتا منشأ الثروة والجاه. ((كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا))، أي: آتت ثمرتها كلها كاملة، ((وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)) ولم تنقص منه شيئاً، ((وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا))، يعني: فجرنا فيما بين هاتين الجنتين نهراً -بفتح الهاء- يسقي الأشجار والزروع، ويزيد في بهجة مرآهما تتميماً لحسنهما. ((وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)) كان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين، مأخوذ من ثمر ماله إذا كثر، وقوله هنا: (وكان له ثمر)، لا يراد به الثمر الذي هو ثمر الفواكه متى وجبت، فإن هذا مما سبق ذكره، لكن المقصود أنواع من المال غير هاتين الجنتين مشتق من (ثمر ماله) إذا كثر. ((فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ)) أي: وهو يراجعه الكلام تعييراً له بالفقر فخراً عليه بالمال وبما أوتي من الجاه، ((أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)) أي: أنصاراً وحشماً. ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ))، يعني: اصطحب صاحبه هذا الذي كان يعايره بالفقر وأنه أكثر منه مالاً وأنصاراً وحشماً، وأخذ يطوف به في هاتين الجنتين، ويفاخره بما فيهما، كما يدل عليه السياق. وإفراد الجنة هنا مع أن له جنتين كما نص لأمور: الأمر الأول: إما لعدم تعلق الغرض بتعددها، فقوله تعالى: (( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ )) هذا سياق في تعداد نعم الله عليه أنهما جنتان وليس جنة واحدة. الأمر الثاني: لاتصال الجنتين ببعضهما بحيث صارتا كأنهما جنة واحدة. الأمر الثالث: لأن الدخول يكون في واحدة ثم في التي تليها. الأمر الرابع: قيل الإضافة تأتي بمعنى اللام، فالمراد بها العموم والاستغراق، أي: دخل كل ما هو جنة له يتمتع بها، فيفيد ما أفادته التثنية مع زيادة، وهي الإشارة إلى أنه لا جنة غير هذه.

    أثر الكبر والعجب في سلب نعم الله

    قوله: ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ))، أي: بما يوجب سلب النعمة وهو الكفر والعجب؛ لأنه تلبس بهاتين القبيحتين، كفره بالله ثم الغرور والكبر والعجب، أو ((وهو ظالم لنفسه)) ظلمه لها إما بمعنى تنقيصها وطلبها بتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك. فهو يسيء إلى نفسه وينقصها ويضرها؛ لأنه يأخذ بالأسباب التي تستلزم زوال هذه النعمة وهلاك نفسه، أو (الظلم) بمعنى: وضع الشيء في غير موضعه؛ لأن مقتضى ما شاهده التواضع لله سبحانه وتعالى الذي رزقه هذه النعم لا العجب بها وظنها لا تبيد أبداً، والكفر بإنكار البعث كما يفيد قوله: ((قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ))، أي: تهلك وتفنى، ((هذه)) أي: الجنة، ((أبداً)) لاعتقاده أبدية الدهر، وألا كون سوى ما تقع عليه مشاعره، فلا يؤمن بالغيب، وإنما يعتقد أن الحياة الدنيا باقية إلى ما لا نهاية، ولذلك أردف قوله: (( مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا )) بقوله: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، فهذا دليل كفره وتكذيبه بالغيب. ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، أي: كائنة آتية، ((وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)) إقساماً منه على أنه حتى وإن رد إلى ربه يوم القيامة -على التسليم بوقوعه- فكما أكرمني الله سبحانه وتعالى في الدنيا فلابد أن يكرمني في الآخرة، فهو يقول لصاحبه: حتى لو كان كلامك صحيحاً وأننا سنبعث وننشر ونرد إلى الله، لأجدن في الآخرة خيراً من جنتي هذه في الدنيا؛ تمنياً على الله، وادعاء لكرامته عليه، ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا باستحقاقه واستئهاله، وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه، وكما استحق ذلك في الدنيا فلابد أن يملك هذه الأهلية وهذا الاستحقاق للإكرام في الآخرة. وهذا بلاك شك من ضعف عقله، كما قال تبارك وتعالى فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15] كما قال هذا، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ [الفجر:16]: امتحنه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:16]، وليس الأمر كما تظنون، فليس كل من أعطيه وأكرمه أكون قد أكرمته بالفعل، وليس كل من امتحنته وابتليته أكون قد أهنته؛ لكن أبتلي هذا بالنعم لأنظر أيشكر أم يكفر؟ وأبتلي هذا بالنقم لأنظر أيصبر أم يجزع؟ فهذه ألوان متعددة من العبودية لله سبحانه وتعالى، فهذا ظن أنه نال هذه الأشياء عن جدارة، وأن له أهلية واستحقاقاً لنعمة الله دنيا وأخرى. قال تعالى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، ومثل هذا من يسيطر عليه تصور كيف أن أمريكا والأمريكان وأهل الغرب الآن في تقلبهم في البلاد واغترارهم بالدنيا وزخرفها، وتعاليهم في البنيان، واهتمامهم بزخرفة الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24]، فأصبحوا في حالة اغترار يفوق الوصف بما هم عليه من التقلب في البلاد، ومن إملاء الله عز وجل لهم، ومن ابتلائهم بالنعم وهم يزدادون في العتو والكفران. وقول الله عن الكافر أيضاً: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:77-78]. وقوله: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، أي: مرجعاً وعاقبة، فكفر بالقول بقدم العالم، ((ما أظن أن تبيد هذه أبداً))، كذلك كان ينفي حشر الأجساد، ((وما أظن الساعة قائمة)) وهذا أيضاً كفر، واعتقد عكس الجزاء لما قال: ((لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)) والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته، وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة، وكأنه ينسب إلى الله سبحانه أنه غير قادر على البعث والنشور، والقول بعكس الجزاء ينفي الحكمة الإلهية، ومع ذلك فهو ينتظر أن يثاب على الكفر بما هو الأحسن والحسنى وبما هو أفضل وأعظم، فهذا بلا شك أيضاً ينافي حكمة الله سبحانه وتعالى لأن الجزاء من جنس العمل، فكيف يكفر بالله بهذه الصورة وينتظر أن يثاب على كفره في الآخرة؟! فهذا عكس الجزاء، وهو ينافي الحكمة الإلهية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه ... فلن تستطيع له طلباً)

    يقول تبارك وتعالى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [الكهف:37-41]. ((قال له صاحبه)) الذي عيره بالفقر، وقال له وهو يعيره بما يستحق أن يعير به، فهو يعيره بالفقر وهذا لا يد له فيه، والفقر ليس مما يعير به لأن المال غاد ورائح، فرد عليه وعيره بالكفر، فقال: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب)). وقوله: ((وهو يحاوره)) أي: يراجعه كلام التعيير على الفقر وفي سياق الإنكار عليه في هذا المسلك: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب)) فجعل التراب نباتاً، ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة، (ثم سواك رجلاً)، أي: كملك وعدلك فكنت إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال. قال أبو السعود : والتعبير عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة لإنكار الكفر. يعني: لم يقل تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالله)، بل آثر النص الكريم استعمال لفظ (الذي)؛ لأن (الذي) ستأتي بعده صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وفعل مهم له تعلق أساسي بهذا الموضوع، يشعر بعلية ما في حيز الصفة لإنكار الكفر، يعني: إنما أنكر عليك الكفر لأنك كفرت بالله وقد خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلاً، والتلويح بدليل البعث الذي وافق به قوله عز من قائل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الحج:5] إلى آخره ، فهو يريد في هذا السياق استعمال الاسم الموصول بدل لفظ الجلالة الصريح لإنكار الكفر عليه. ثانياً: للتلويح بدليل البعث والنشور؛ لأن الله إذا كان هو الذي خلقنا من تراب فإنه سبحانه وتعالى أقدر على أن يبعثنا بعد أن نموت ونصير تراباً، كما قد صرح به تعالى في قوله: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ))، وكما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)[البقرة:28] . قال ابن كثير : أي: كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه؛ فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد، وليس وجوده من نفسه، ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته. أي: كيف يستند وجوده إلى موجود مثله؟! وهو مثله عاجز عن أن يفعل ذلك. قال: فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولهذا قال المؤمن: ((لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا))، أي : لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية، ((ولا أشرك بربي أحداً)) أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له من العلويات والسفليات، لا أحد من والسماوات ولا من الأرضين. وقرأ ابن عامر (لكنا) بإثبات الألف وصلاً ووقفاً، وقرأ حفص بحذفها وصلاً وبإثباتها وقفاً، فالوقف أصله لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار (لكن) ثم ألحق ألف إجراء للوصل مجرى الوقف، لأن الوقف على (أنا) بالألف، ولأن الألف تدل على أن الأصل (لكن أنا) وبغيرها يلزم اللبس بينها وبين (لكنَّ) المشددة. قال الزمخشري : ونحوه قول القائل: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي أي: أنا لا أقليك، والقلى هو الهجر، ومنه قول الآخر: ولو كنت ضبياً عرفت قرابتـي ولكنّ زنجي عظيم المشافر يعني: ولكن أنا زندي عظيم المكاسر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله ...)

    يقول تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39]. ((ولولا)) يعني: هلا قلت عند دخولها هذا الذكر: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. قال الزمخشري : يجوز أن تكون (ما) موصولة، يعني: الأمر ما شاء الله، أو: شرطية منصوبة بالموضع، والجزاء محذوف، بمعنى: أي شيء شاء الله كان، والمعنى: هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها: الأمر ما شاء الله؛ اعترافاً بأنها وكل خير فيها إنما حصل بمشيئة الله وفضله، وأن أمرها بيده إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها، وقلت أيضاً بجانب ما شاء الله: لا قوة إلا بالله؛ إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتسديد أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، فالله هو من يعمر هاتين الجنتين ويدبر أمرهما لا بحولي وفضلي، ولا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل، وإنما تم ذلك بمعونته سبحانه وتعالى وتأييده. إذاً: لا يقوى أحد في بدنه ولا ملك يده إلا بالله تعالى، والقصد من الجملتين: التبرؤ من الحول والقوة، وإسناد ما أوتيت إلى مشيئة الله وقوته وحده. ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر لا يبعد أن ينعكس عليه، يعني: أنت تعيرني بالفقر وأنت لا تأمن أن يعاقبك الله بفقر أشد منه؛ فإن الأمر كله لله عز وجل، فقال له: (( إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ))، يعني: إن اغتررت بأن رأيتني أقل منك مالاً وولداً فعيرتني بالفقر، (( فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ))، في الدنيا (( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا ))، يعني: مقداراً قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية، ((فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا))، أي: تراباً أملس لا تثبت فيها قدم لملاستها. ((أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا))، أو يهلكها لا بآفات عليا كالحسبان، وإنما يهلكها بآفة من جهة الأرض بأن يصبح ماؤها غائراً في الأرض، ((فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)) أي: حيلة تدركه بها بالحفر أو بغيره. وقوله تعالى: (إن ترن)، وقوله: (أن يؤتين) رسم بدون ياء؛ لأنها من ياءات الزوائد، وأما في النطق فبعضهم يثبتها وبعضهم يحذفها، وهذا يبين لنا أن القرآن يؤخذ بالمشافهة؛ لأنه في الحالتين تكتب في المصحف بدون ياء، لكن من حيث القراءة فهناك قراءة بإثبات الياء وأخرى بحذف الياء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره... وما كان منتصراً)

    وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا [الكهف:42-43]. ((وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ))، أي: بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة، وأصله من أحاط به العدو؛ لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه، ثم استعمل في كل إهلاك، ومنها قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [يوسف:66]، ومثله قوله: أتى عليه: إذا أهلكه، وأصلها: أتى عليه العدو إذا جاءه مستعلياً عليه. وشبه إهلاك جنتين بما فيهما بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج منهم أحد. ((فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا))، أي: فعير هو نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه، فعاد بالحسرة والتلوم والتندم، ومن شدة حسرته ظل يقلب كفيه على ما أنفق فيها. قال الزمخشري : تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر، لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن، كما كني عن ذلك بعضّ الكف، وكذلك سقوط اليد وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الأعراف:149]، ولأنه في معنى الندم عدي بتعديته بعلى، أي: ((فأصبح يقلب كفيه)) ندماً ((على ما أنفق فيها))، كأنه قيل: أصبح يندم على ما أنفق فيها وفي عمارتها، فيكون ظرفاً لغواً ويجوز كونه ظرفاً مستقراً. والمقصود أنه كان متحسراً، والتحسر هو الحزن، وهو أخص من الندم؛ لأنه الغم على ما فات. ((وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)) أي: ساقطة عليها، والعروش: جمع عرش وهو ما يبنى ليوضع عليه شيء، فإذا سقط سقط ما عليه، يعني: أن كرومها المعروشة سقطت عن الأرض، وسقطت ومن فوقها كروم العنب بحيث قاربت أن تصير -صعيداً زلقاً- تراباً أملس. ((وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا))، يعني: من الأوثان، وذلك أنه تذكر موعظة أخيه؛ فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه، فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه. ((وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ))، لم تكن له منعة وقوم، ((يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: يقدرون على نصرته من دون الله كما افتخر بهم واستعز على صاحبه، كان يقول: أنا ذو الحسب والنسب، وأنا صاحب الحشم والخدم، أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34] فما نفعه أحد من هؤلاء النفر، ولم تعد له فئة بعد ما كان يبطر ينصرونه من دون الله ((وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا)) يعني: ما كان ممتنعاً بنفسه وقوته عن انتقام الله عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هنالك الولاية لله الحق ...)

    هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44] ((هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا))، أي: في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك هنالك ((الولاية)) أي: النصرة ((لله)) وحده لا يقدر عليها أحد غيره، فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: ((ولم تكن لهم فئة ينصرونه)) بمعنى: أن الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على المشركين، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدق قوله: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [الكهف:40]، ويعضده قوله تعالى: ((هو خير ثواباً وخير عقباً))، أي: لأوليائه، فلا ينقص لمؤمن درجة لدناءته في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئت ((الولاية)) بكسر الواو، بمعنى السلطان والملك، أما (الولاية) بفتح الواو النصرة، فعلى الأولى يكون المعنى: هنالك السلطان له والملك فلا يغلب ولا يمتنع منه، وعلى الثانية: أنه في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر؛ لأن هذا الرجل قال: (( يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ))، ففي هذه الحالة تاب وعاد إلى الله سبحانه وتعالى، فهذه كلمة ألجئ إليها فقالها لما اضطر إليها بعد مجهود، فقالها جزعاً مما دهاه من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها، وهذا كقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر:84] ، وكقوله إخباراً عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:90-91]. أو أن قوله تعالى (هنالك الولاية) إشارة إلى الآخرة، أي: في تلك الدار تكون الولاية لله تعالى، كقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، ويناسبه قوله: (( هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ))، و(هنالك) على الأوجه المتقدمة يكون خبراً متقدماً، والولاية: مبتدأ مؤخراً، والوقف على (منتصراً). (( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ )) قرئت (الحق) بالرفع صفة للولاية، وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المذكور والعامل مقدر، وبالجر كما هي قراءة حفص عن عاصم صفة للفظ الجلالة. (( هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا )) قرأ بسكون القاف وضمها وهما: العاقبة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ...)

    قال سبحانه وتعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45]. ((واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)) أي: اذكر لهم ما يشبه هذه الدنيا في زخرفها وسرعة زوالها. ((كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض)) أي: فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً، فشب وحسن وعلاه الزهر والنور ((فأصبح هشيماً)) بعدما كان في حالة الزهو أصبح جافاً يابساً مكسوراً، ((تذروه الرياح)) تفرقه وتنفثه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها؛ فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل في النبات من شرف النمو ثم يزولون زوال النبات، ((وكان الله على كل شيء مقتدراً)) أي: على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة. ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهى المثل وأبدعها ضرب كثيراً في التنزيل، كقوله تعالى في سورة يونس: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ)[يونس:24] ، وقال تعالى أيضاً في سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ)[الزمر:21] ، وفي الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20] إلى آخر الآية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا ...)

    ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الدنيا، فقال: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]. ((المال والبنون زينة الحياة الدنيا)) وذلك لإعانتها فيها ووجود الشرف بهما، ثم أشار أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي؛ إذ لا يحتاج فيها إليهما في الآخرة، أما في الدنيا فهما ترف وزينة، لأن المال والبنين يعاونان صاحبهما، لكن هذا ليس من أسباب الشرف الأخروي، فقال عز وجل: ((والباقيات الصالحات)) أي: المال والبنون لا يبقيان وهما زينة الحياة الدنيا ومصيرهما مصير الحياة الدنيا الذي بينه في الآية السابقة، لكن الباقيات الصالحات خير منهما ، ((عند ربك ثواباً وخير أملاً)) أي: الأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات خير عند ربك من المال والبنين في الجزاء والفائدة، وخير مما يتعلق بهما من الأمل؛ فإن ما ينال بالمال والولد أو البنين من الآمال والإنجازات في الدنيا غايتها أنها تكون إلى زوال، أما ما ينال من الآمال في الأعمال الصالحات فإنه باق، يقول: وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي لا يزول ولا يحول. وقدم المال على البنين لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد، يعني: المال عنصر عريق وعنصر أساسي بما يربط به من الزينة والإمداد، ولكون الحاجة إليه ماسة؛ ولأن المال زينة ولو بدون بنين، وقد يوجد رجل عنده بنون بدون مال فلا يكون زينة، ولكن إذا كان المال قد يكون زينة لصاحبه ولو لم يكن هناك بنون، ولذلك قدم ذكر المال على البنين. وأفردت الزينة، مع أنها مسندة إلى الاثنين لأنها مصدر في الأصل أطلق على المفعول مبالغة، وإضافتها إلى الحياة اختصاصية؛ لأن زينتها مختصة بها. وقال: ((الباقيات الصالحات)) ولم يقل: (الأعمال التي تبقى)، وكأن الأمر مفروغ منه، وللإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه، بل لفظ: ((الباقيات)) اسم لها لا وصف، ولذلك لم يذكر الموصوف، وإنما يحتاج إلى التعرض لخيريتها. وقال: ((والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً))، فكرر (خير) للإشعار باختلاف حيثيتين. أي: الخيرية والمبالغة مع زيادة. ووقع في كلام السلف تفسير الباقيات الصالحات: بالصلوات والأعمال الحسنة والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أي: الكلام الطيب، وبغيرهما مما روي مرفوعاً وموقوفاً، والمرفوع من ذلك كله لم يخرج في الصحيحين، وكله على طريق التمثيل، واللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده. يعني: لا تعارض بين العموم التي ذكرناه في تفسير الباقيات الصالحات وبين الخصوص الوارد في بعض الأحاديث على أنه من أفرادها، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات من الجانبين، وهن الباقيات الصالحات)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال ... ولا يظلم ربك أحداً)

    وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا\ * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:47-49].أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة التي هي الوعد الحق، والفيصل الصدق بقوله سبحانه: ((وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)).((ويوم نسير الجبال)) أي: اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو أو نيسر أجزاءها بعد أن نجعلها هباءً منثوراً، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)[النمل:88].((وترى الأرض بارزة)) لبروز ما تحت الجبال، أي: ظهورها بنفسها وبروز ما عداها بزوال الجبال والكهوف حتى تبدو للعيان سطحاً مستوياً لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك.((وحشرناهم)) أي: جمعناهم إلى موقف الحساب.((فلم نغادر منهم أحداً)) يعني: لم نترك منهم أحداً، لا صغيراً ولا كبيراً، كما قال: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50] ، وقال عز وجل: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103].(( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ))، أي: مصطفين مترتبين في المواقف لا يزحم بعضهم بعضاً كل في رتبته، وقال أبو السعود (صفاً)، أي: لا متفرقين ولا مختلطين، فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده، وإنما المقصود غير متفرقين ولا مختلطين.قال الزمخشري : شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد، لا يحجب أحد أحداً.(( لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ))، يعني: بلا مال ولا بنين وخلفتكم وراءكم هذه الزينة، وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ [الأنعام:94]، أي تركتم ما أعطيناكم وراء ظهوركم.أو: لقد بعثناكم وجئنا بكم كما خلقناكم وأنشأناكم في أول مرة ، والكلام فيه تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد، بل زعمتم بإنكاركم البعث: (( أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا )) أي: وقتاً لإنجاز ما وعدناكم من البعث والنشور والحساب والجزاء.(وبل) للخروج من قصة إلى أخرى، فالإضراب انتقالي لا إبطالي، والإضراب الإبطالي لإضراب ما بعدها عما قبلها، فيكون فيه إبطال ما قبلها، تقول: جاء محمد بل علي، أما الانتقالي فيستعمل للخروج من قصة إلى أخرى وهو المذكور هنا ، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [الكهف:48].(( وَوُضِعَ الْكِتَابُ ))، أي: صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق.((فترى المجرمين مشفقين)) خائفين أن يفتضحوا ((مما فيه)) أي: من أعمالهم السيئة المسطرة.(( وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا ))، يعني: يا هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمالنا.قال القاشاني: يدعون الهلكة التي هلكوا بها من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة.((مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)) أي: أي شأن حصل لهذا الكتاب؛ فلا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً إلا ضبطه وحفظه؟ والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي وعده مقاديرها وأوصافها، وعدم تسامحه في شيء منها.يقول البقاعي رحمه الله تعالى: (إن لام الجر رسمت مفصولة) هذا من علم تدوين المصحف الشريف، والطريقة التي حفظ بها القرآن سواء من حيث حفظه بالسطور أو بالصدور آية من آيات الله سبحانه، ولا يعقلها إلا العالمون.يقول البقاعي رحمه الله تعالى: وهذه إشارة إلى أنه لشدة الكرب يقفون على بعض الكلم، ويقطعون الكلمة من شدة الخوف والفزع، وهذا من لطائفه رحمه الله تعالى.وهذه اللطيفة لها نظائر كثيرة في القرآن، وضبط رسم المصحف له كثير من الحكم كما وقفنا عليه في هذا الموطن.(( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ))، كل شيء فعله الإنسان سوف يجده مدوناً حتى فتاته في الطين، وسوف يسأل عن هذا: لم فعلت ذلك؟ قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30] ، وقال عز وجل: يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13].(( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ))، فالله سبحانه وتعالى منزه عن الظلم، ولا يقع منه ظلم أبداً، فلن يكتب على الإنسان شيئاً لم يعمله، ولن يزيد في عقابه الذي يستحقه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ...)

    وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]. ثم أشار تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان وإيثاره على الرحمن، والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق، فلا يتولاه إلا من سفه نفسه، وحاد عن جادة الصواب، فقال سبحانه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]. ((كان من الجن)) العتاة المردة الشياطين. ((ففسق عن أمر ربه)) خرج عن طاعته. ((أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو)) أي: فتستبدلونهم بي؛ فتطيعونهم بدل طاعتي وهم لكم عدو يبغون بكم الغوائل، ويوردونكم المهالك. وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتباعه وطاعته، ولهذا قال تعالى: ((بئس للظالمين بدلاً)) أي: بئس للظالمين الواضعين شيئاً في غير موضعه؛ لأن العدو ينبغي أن يتخذ عدواً، أما أن تتخذ العدو ولياً، وتجافي وتعادي الولي الحقيقي الذي هو الله سبحانه وتعالى، فـ(بئس للظالمين بدلاً)، يعني: بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته. قال ابن كثير : وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ [يس:59-60]. كذلك هنا في الآية السابقة بعدما بين الله سبحانه وتعالى حال الناس حينما يرون أعمالهم: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الكهف:49-50]، إلى قوله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]. في سورة يس قال عز وجل: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:55-59]، ثم قال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:60-62].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ...)

    قال سبحانه وتعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]. استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة عنصره وأصله والفسق والعداوة. يعني: أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يستأنف كلاماً يبين فيه أن إبليس وذريته لا يستحقون أن نتخذهم أولياء، ففي الآية السابقة: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ [الكهف:50]، ثم يبين حيثيات ذلك، فيقول تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ [الكهف:51]، فقد بين أولاً الصوارف عن اتخاذ الشيطان ولياً، وهي: خباثة عنصره وأصله، والفسق والعداوة، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]، فهذه الصوارف بين فيها أنهم لا يستحقون الولاية، وينبغي أن ننصرف عن طاعتهم لأجل هذه الصوارف التي ذكر. وقوله: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)) يعني: أين كان إبليس وذريته الذين تطيعونهم في معصيتي وتوالونهم من دوني يوم خلقت السماوات والأرض؟! بل أين هم يوم خلقتهم؟! هل أعانني أحد منهم حتى يستحق أن يكون شريكاً لي في الطاعة والانقياد؟! يعني: هؤلاء مخلوقون مربوبون مقهورون لا يستحقون أن تطيعوهم في معصيتي، ولا أن تتخذوهم أولياء من دوني، ولا أن تعبدوهم من دوني؛ لأن هؤلاء كانوا عدماً ثم خلقتهم، فلم أحتج إلى معاونتهم، وليسوا شركاء لي في خلقي. يقول رحمه الله تعالى: أي: ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض حين خلقتها، ((ولا خلق أنفسهم)) أي: وما أشهدت بعضهم أيضاً خلق بعض منهم، ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر، وهذا أبلغ. ((ما أشهدتهم)) المقصود بها: أنني لم أحتج إلى مساعدتهم ولم يعضدوني، لأني غني عن خلقي، وتأمل أيضاً قوله: ((ولا خلق أنفسهم)) إشارة إلى أنهم مخلوقات، فكيف تعبدون المخلوق وتذرون الخالق؟! فمن لم يشهد فأنى يستعان به، وأنى يصح جعله شريكاً؟! فهل يتصور أن الغائب عند خلق السماوات والأرض يمكن أن يستعان به؟! ثم إذا كان غائباً ولم يستعن به فأنى يصح جعله شريكاً لله؟! لا يصح أن يكون شريكاً لله عز وجل. ولذلك قال عز وجل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، أي: وما كنت متخذهم أعواناً لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير، أي: وإذا لم يكونوا عضداً في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟! واستحقاق العبادة من توابع الخالقية، يعني: الذي يستحق العبادة هو الذي يكون قد خلق، والاشتراك فيها يستلزم الاشتراك فيها، والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير وهم المضلون، فلا يكونون أرباباً، وإنما وضع المضلين موضع الضمير ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال، وتأكيداً لما سبق من الإنكار في اتخاذهم أولياء، أي أنه قال: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا))، ولم يقل: وما كنت متخذهم عضداً؛ لأن استعمال الصفة الظاهرة مكان الضمير فيه إبراز صفة الضلال، وإذا كانوا مضلين ففي هذه الحالة أيضاً لا يستحقون ذلك الاتخاذ كما أشار. ونحو هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم ...)

    يقول تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [الكهف:52]. ((ويوم يقول)) الحق تبارك وتعالى، ((نادوا شركائي الذين زعمتم)) في دار الدنيا أنهم شركاء؛ لينقذوكم مما أنتم فيه، ويقال لهم ذلك على رءوس الأشهاد تقريعاً وتوبيخاً لهم. ((فدعوهم)) نادوا هذه الآلهة، فمنهم من ينادي اللات، ومنهم من ينادي العزى؛ كل ينادي الإله الذي عبده من دون الله، أي: نادوهم طالبين منهم الإعانة لبقاء اعتقاد شركهم، يعني: أنهم ما زالوا على الشرك. ((فلم يستجيبوا لهم)) أي: فلم يعينوهم؛ لعجزهم عن الجواب فضلاً عن الإعانة. وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم، يعني أن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((فدعوهم فلم يستجيبوا لهم)) وهذا أمر ظاهر أنهم إذا دعوهم في ذلك اليوم فلن يستجيبوا لهم ولن ينفعوهم وإنما أبرزه وأظهره في الآية تهكماً بهم، وإيذاناً بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به. ((وجعلنا بينهم)) أي: بين الكفار وآلهتهم، ((موبقاً)) أي: مهلكاً يشتركون فيه جميعاً وهو النار، أو: عداوة هي في الشدة نفس الهلاك، فعبر عن العداوة بالهلاك، كقول عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً، أي: إذا أحببت فلا تبالغ في المحبة، وتتعلق بمن تحب، ثم إذا انقلبت على الجانب الآخر تكون مبالغاً أيضاً في العداوة، حتى إنها تتفق في التلف والفساد بينكما. وعلاقة قول عمر بتفسير: ((موبقا)) أن التفسير الثاني لها يعني: مهلكاً يشتركون فيه وهو النار. كما كان هؤلاء يحبون آلهتهم في الدنيا ويكلفون ويتعلقون بهم، لكن في الآخرة حينما يبغضونهم يبغضونهم بغضاً مهلكا، ويؤيد هذا قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:81-82]، أي: أعداء لهم، كما قال تبارك وتعالى في سورة العنكبوت: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [العنكبوت:25]، بالروح والدم نفديك يا فلان، ويكتبون له لوحة تأييد بالدم -ولعله دم المرضى والمساكين- ثم يوم القيامة: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25]، يقول تعالى: ((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)) * ((كَلَّا)) فالذين تبحثون في جنابهم عن العز سوف ينقلبون عليكم، وسيتبرءون منكم يوم القيامة، ((وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)). قال ابن كثير : وأما إن جعل الضمير في قوله تعالى ((بينهم)) عائداً إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به. يعني يحتمل أن قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا)) يعني: بين الكافرين وبين آلهتهم. هذا قول. وقول آخر: فصلنا المؤمنين عن الكافرين وميزناهم، كما قال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] أي: انفصلوا لا تختلطوا بالمؤمنين، فهذا تفسير آخر، فهو كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14]، وقال عز وجل: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43]، وقال: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَينَهُم [يونس:28] أي: فصلناهم، وقال تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس:30].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار ... أكثر شيء جدلاً)

    يقول سبحانه وتعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:53-54]. ((ورأى المجرمون النار)) أي: جهنم المحيطة بأنواع الهلاك، ووضع المبهم مقام المضمر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك. أي: فتكلم على هؤلاء الكافرين فلم يقل: (ورأوا النار) وإنما قال: ((ورأى المجرمون النار)) فإظهار وإبراز كلمة (المجرمون) فيه تصريح بالصفة التي يعرف أنهم يستحقون بسببها هذا المصير. ((فظنوا أنهم مواقعوها)) أي أيقنوا بأنهم واقعون فيها. ((ولم يجدوا عنها مصرفاً)) أي: معدلاً ينصرفون إليه، إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن؛ فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب مقدر وحاضر غير مؤجل، ومجرد توقع العذاب لا شك أنه في حد ذاته عذاب، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال للرجل الذي أراد أن يذبح شاة فقعد يسن السكين أمام أختها: (أتريد أن تميتها موتتين)، فكيف بالبشر؟ فهذا الانتظار وهذا العناء في حد ذاته عذاب معجل. ثم يقول سبحانه وتعالى: ((وَلَقَدْ صَرَّفْنَا))، أي: "نوعنا في هذا القرآن: الجامع للمهمات وأنواع السعادات لمصلحة الناس ومنفعتهم ((من كل مثل)) يركز على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به. ((وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا))، أي: مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا ... وجعلنا لمهلكهم موعداً)

    ثم يقول تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف:55-59]. ((وما منع الناس)) أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم. ((أن يؤمنوا)) أي: من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك. ((إذ جاءهم الهدى)) القرآن والحق الواضح النير، ((ويستغفروا ربهم)) عن المعاصي السالفة. ((إلا أن تأتيهم سنة الأولين)) يعني: إلا أنهم كانوا يطلبون إتيان سنة الأولين، أو انتظار إتيان سنة الأولين وهي عذاب الاستئصال. ((أو يأتيهم العذاب قبلاً)) أي: يرونه عياناً ومواجهة، وهو عذاب الآخرة أو أعم، والقبل بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قِبَلاً) أو (قُبُلاً)، جمع قبيل بمعنى: أنواعاً مختلفة، وقرأ بفتحتين ((أو يأتيهم العذاب قَبَلًا)) أي: مستقبلاً. ((وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)) أي: وما نرسلهم قبل إنزال العذاب إلا لتبشير من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى. ((ويجادل الذين كفروا بالباطل)) يجادلون ويقترحون آيات، ((ليدحضوا به الحق)) أي: ليزيلوا بالجدال الحق الثابت عن مقره، وليس ذلك بحاصل لهم. وأصل الإدحاض: إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها، فاستعير من زلل القدم المحسوس لإزالة الحق المعقول. قال الشهاب : ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره، وأنشد لنفسه: أتانا بوحل لإنكاره ليزلق أقدام هذي الحجج فكأن كلامهم وجدالهم مثل الوحل يضعوه أمام الحق حتى يزيلوه عن مكانه، لكن الحق ثابت مستقر لا يؤثر فيه ذلك. ((وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا)). (ما) إما مصدرية، يعني: واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزواً، أو (ما) موصولة، يعني: واتخذوا الذي أنذروا به من العقاب هزوا، أي: استهزاءاً وسخرية، وهو أشد التكذيب، حيث وصف بالمصدر مبالغة. ثم يقول تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا))، كناية عن عدم تدبرها والاستعاض بها بأبلغ أسلوب. ((ونسي ما قدمت يداه)) أي: ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به عليه إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك. ((إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ))، أي: جعلنا عليها حجباً وأغطية كثيرة كراهة أن يفقهوه، أي: يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله. ((وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)) أي: وجعلنا فيها ثقلاً يمنعهم من استماعه، والجملة تعريض بإعراضهم ونسيانهم. يعني: فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه لأنا ((إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا))، فالجملة تعريض بأن إعراضهم ونسيانهم مطبوعان على قلوبهم، وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]. ((وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا))، أي: فما يكون منهم اهتداء البتة. وقوله: ((وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا))، والآيات في هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد:6] . ((وربك الغفور ذو الرحمة)) ربك: مبتدأ ، والغفور: خبره، وقدم الوصف بالمغفرة على الرحمة لأنه أهم بحسب الحال، والمقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استحقاقهم له كما يعرب عنه قوله: ((لو يؤاخذهم بما كسبوا)) والموعد المذكور هو بدر، أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات، أو يوم القيامة، والكل لاحق بهم، يعني أن الله لم يعجل لهم العذاب، ((بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً)) محيصاً أو مفراً أو ملجأ أو منجى. قوله: ((وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)). ((وتلك القرى)) قرى عاد وثمود وأضرابهم، ((أهلكناهم لما ظلموا)) بالكفر والطغيان. ((وجعلنا لمهلكهم موعداً)) وقتاً معيناً لا محيد لهم عنه، وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب، أي: إن تأخر عنكم العذاب فلا تستعجلوا فهناك موعد لابد أنه آتيكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756532757