إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام [123-136]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تبارك وتعالى: ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ..)

    قال تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:123]. قوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا )) هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل وغمط الحق كذلك قد جعلنا مثل هذا في كل قرية أرسلنا إليها الرسل، فجعلنا أكابرها مجرمين، وكانوا متصفين بصفات المذكورين، وكانوا مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليفعلوا المكر على أتباعهم بالتلبيس ليتركوا متابعة الرسل، فغاية مكرهم هو أن يصدوا الناس عن اتباع رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. وأكابر المجرمين هم أهل الترف، كما قال تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34] وقال تبارك وتعالى مبيناً أن أكابر المجرمين هم أهل الترف: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] وقال تبارك وتعالى مبيناً هذا المكر وحاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا .. [نوح:22-23] إلى آخر الآية الكريمة. قال ابن كثير : المراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال، ليزينوا لهم هذا الباطل الذي هم عليه، وكانوا يزخرفون لهم أفانين القول، كما قال عز وجل إخباراً عن قوم نوح: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:22]، وكقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا [سبأ:31-33] أي: مكركم بنا بالليل والنهار. وهذا يبين أن مكرهم مكر متصل في الليل والنهار، فكانوا يزخرفون لهم القول ويلبسون عليهم كي يصدوهم عن سبيل الله تبارك وتعالى. وقوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ )) في إعراب (أكابر مجرميها) قولان: الأول: أن (أكابر) مضاف إلى مجرميها، فـ(أكابر): مضاف، و(مجرميها) مضاف إليه، وعليه فيكون (أكابر) مفعولاً أول لـ(جعل) وأما المفعول الثاني فهو الجار والمجرور في قوله تعالى: (( فِي كُلِّ قَرْيَةٍ )) أي: وكذلك جعلنا أكابر المجرمين في كل قرية. فهذا هو القول الأول في إعراب (أكابر مجرميها). القول الثاني: أن (مجرميها) مفعول أول، و(أكابر) مفعول ثانٍ، والتقدير: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، و(أكابر) تُمنع من الصرف، فسبب عدم وجود التنوين في الإعراب الأول هو الإضافة، وفي الإعراب الثاني المنع من الصرف، والأكابر جمع الأكبر. قال الزمخشري : خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال، وهم الذين يحرضون الناس ويقودونهم إلى الضلال، بجانب أنهم غالباً الأقدر على الفساد، فهم الموجود عندهم القدرة، والمتمكنون من نشر الفساد في الناس، وهم الماكرون بالناس كافة، كما قال عز وجل: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16]. وقوله: (( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) يعني: لا يضرون بمكرهم إلا أنفسهم؛ لأن وباله يحيط بهم، كما قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13] وقال عز وجل: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25]. قال الزمخشري : هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم موعد بالنصرة عليهم. وقوله: (( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) يعني أن هذا الكيد والمكر يرتد في نحورهم؛ لأنهم حتى لو مرت بهم الدنيا دون عقاب فإنهم في الآخرة يتحملون أوزار كل من أضلوهم عن سبيل الله، يعني أن أصحاب الأوزار لا يتحملون أوزارهم وحدهم، لكن كل من أضلوهم عن سبيل الله يحملون من أوزارهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ... )

    ثم قال تبارك وتعالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [الأنعام:124]. قوله: (( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ )) أي: برهان وحجة قاطعة. وقوله: (( قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ )) يعني: كما نزل الوحي على الأنبياء بالمعجزات المصدقة لهم، فكذلك نحن لن نؤمن حتى يحصل معنا نفس هذا الشيء، وينزل علينا الوحي كما نزل على رسل الله تبارك وتعالى. فمعنى (حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) أي: لن نؤمن حتى تأتينا الملائكة بالرسالة، كما فعلت مع رسل الله عز وجل، وهذا -أيضاً- كقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان:21]، وكما قال تبارك وتعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52]، وكما قال -أيضاً- حاكياً عن اقتراحاتهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:92]. ويحتمل أنهم يريدون أن يروا الملائكة عياناً يأتون ويشهدون له بالرسالة، أو أنهم أرادوا أن تأتيهم الملائكة بالرسالة وبالوحي كما جاءت إلى الأنبياء. وقوله تعالى: (( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )) هذا الجزء من الآية يصحح أنهم إنما طلبوا النبوة ولم يطلبوا مطلق نزول الملائكة لتشهد للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الجواب أتى من الله بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فالذي يستحق الرسالة يعلمه الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، وقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]. إذاً: هذا هو الجواب عليهم على ما اقترحوا، فإنهم قالوا: (( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ )) أي: أما أن تنزل عليهم الملائكة ليشهدوا للرسول، وإما أن تنزل عليهم الملائكة بالوحي كما كانت مع الرسل، وهذا القول الثاني أرجح، بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة: (( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ))، فهذا كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن الله لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها، فيليق للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره مما لو انكشف لغيره انكشافه له لطابت له نفسه، أو ذهبت بعقله دلالته وعظمته، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم، والله سبحانه أعلم بالمحل الذي يليق به أن يصطفى ويختار نبياً ورسولاً لله عز وجل، وقد روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل اصطفى -أي: اجتبى- من ولد إبراهيم إسماعيل) يعني: أن إسماعيل عليه السلام مصطفى من جميع ولد إبراهيم عليه السلام باختيار واصطفاء، قال: (واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ورواه مسلم . وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً) صلى الله على نبيه وسلم. ثم قال تبارك وتعالى: (( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ )). قوله: (صغار) أي: ذلة وهوان وضيم في مقابلة ما كانوا عليه في الدنيا من التكبر ومن التعاظم على خلق الله تبارك وتعالى والاستكبار عن الحق، ولذلك صح في الحديث أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة في صورة الذر الدقيق الذي يضعف عن شعاع الشمس، ولذا يمر في المكان الذي فيه ظل، فالمتكبرون يكونون على الصورة الإنسية، لكن في حجم الذر، يطؤهم الناس في الموقف تحقيراً لهم، ومعاملة لهم بنقيض ما قصدوا، فهم قصدوا في الدنيا التكبر والعلو، فعوقبوا بالذل والصغار يوم القيامة، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: (( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ )) أي: ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم. وقوله: (صغار عند الله) يعني: صغار من عند الله، أو صغار عند الله ثابت لهم، يعني يوم القيامة جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره برد آياته وتكذيب رسالته، كما صح في الحديث: (الكبرياء ردائي، والعزة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته). فالكبرياء لله عز وجل، كما قال تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الجاثية:37] فلا ينبغي لأحد أبداً أن ينازع الله سبحانه وتعالى في صفة الكبرياء، فهؤلاء لما نازعوه عز وجل في هذه الصفة، وردوا آياته وكذبوا رسله، واعترضوا على الله عز وجل لأنه اختص بالرسالة غيرهم عاقبهم بهذا الصغار الثابت لهم عند الله. قوله: (وعذاب شديد) يعني: في الآخرة ( بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) أي: بما كانوا يمكرون في الدنيا إضراراً بالأنبياء أو إضراراً بأتباع الأنبياء من الصالحين، وكانوا يأتمرون ويخططون من أجل إطفاء نور الإسلام وحرب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير : لما كان المكر -غالباً- إنما يكون خفياً -وهو التلطف في التحيل والخديعة- قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاءً وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل، يركز في هذا اللواء ليفضح أمام أهل الموقف لأنه كان يكتم المكر في الدنيا، وكانت المؤامرات تعقد في الخفاء، ويتآمرون على المسلمين، ويمكرون بأهل طاعة الله سبحانه وتعالى، فيعاقبون بهذا الغدر يوم القيامة بأن يفضحوا ويكشف غدرهم، وكل غادر يكون يوم القيامة بهذه المثابة حتى يصير ذلك علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ... )

    قال تبارك وتعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125]. قوله: (فمن يرد الله أن يهديه) يعني: للتوحيد (يشرح صدره) أي: يوسع ويفسح صدره (للإسلام) أي: يصبح ثقيلاً بنور الهداية، فيقبل نور الحق، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7] وروى عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ قال: (نور يقذف فيه، فينشرح له وينفتح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت)، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، وقال ابن كثير : وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً. وقوله: (( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً )) أي: شديد الضيق، فلا يتسع للاعتقادات كلها، ولا للأمور الأخروية، وأصل الحرج موضع الشجر الذي يكون كثيفاً وملتفاً، فكأن قلب الكافر كذلك. وحين يكون الشجر كثيفاً وملتفاً على بعضه التفافاً شديداً جداً وكثيفاً يترتب على ذلك أنه لا ينفذ الضوء منه، ولا يمكن أن يسمح بنفاذ الضوء، فكأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره. فقوله: (( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا )) أي: شديد الضيق. وقوله: (( كأنما يصعد في السماء )) أي: يتكلف الصعود في جهة السماء، وطبعه يهبط إلى الأرض، يعني: طبيعته الهبوط إلى الأرض، وإذا أراد أن يصعد إلى أعلى فإنه يعاني في ذلك أن طبيعته وخليقته وفطرته المنحرفة تجذبه إلى الأرض، فكلما أراد أن يصعد لا يستطيع أن يرقى إلى السماء، فشبه -للمبالغة- ضيق صدره بمن يزاول أمراً غير ممكن؛ لأن صعود السماء مما يمتنع ويبعد. يقول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى: الصعود إلى السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة. والآن لم يعد الصعود في السماء أمراً ممتنعاً أو خارجاً عن حدود الاستطاعة، بل سخرت من الأسباب العلمية ما جعل الناس يصعدون في السماء. وهذه الآية ذكرت الكتب المصنفة أنها مما وافق عليه الإعجاز العلمي القرآن الكريم، حيث يقول أولئك المصنفون: إن هذه الآية الكريمة تحوي إخباراً بأمر ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت الوحي أن يكتشفه بطبيعته البشرية؛ لأن الجبال في مكة ليست شديدة الارتفاع بحيث تظهر فيها هذه الظاهرة، لكن هذه الظاهرة تظهر عند الناس الذين يهوون التسلق في جبال مثل جبال الهملايا وقمة إفرست ونحوها، فمن الأشياء المعروفة جداً أنه كلما أراد الإنسان أن يصعد إلى أعلى يقل الأكسجين في طبقات الجو العلياء، وحينئذٍ يضيق صدره، ويضيق تنفسه لقلة الأكسجين، فلذلك يصيبه الإعياء والتعب الشديد، وهذا كما وصفه تبارك وتعالى هنا بقوله: (( يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كأنما يصعد في السماء)) فكلما ارتفع الإنسان إلى طبقات الجو العلياء يقل الأكسجين. فهذه الأشياء التي اكتشفت سواء عن طريق المناظير، أو عن طريق أخبار هؤلاء الناس الذين يتسلقون إلى الجبال العالية لم يكن لها مصدر بشري في زمن الوحي كي يتلقى منه النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه المعلومة، وهي قلة الأكسجين كلما ارتفع الإنسان في طبقات الجو العليا، الأمر الذي يؤدي إلى ضيق الصدر والصعوبة في التنفس، فلذلك عدت هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي؛ لإخبارها عن هذا الأمر الذي ما كان يعرفه العرب في جزيرة العرب. وقيل معناه: (( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ )) أي: نبواً عن الحق وتباعداً في الهرب منه. وقوله: (( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ )) يعني: في الاعتقادات والأخلاق، والرجس هو ما استقذر من العمل، فسميت أخلاق الكفار واعتقاداتهم رجساً مبالغة في ذم ما هم عليه، فما عليه الكافر من الاعتقادات والأخلاق والشرك كله داخل تحت قوله تعالى: (( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون )

    ثم قال تعالى: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الأنعام:126]. أي: هذا البيان الذي جاء به القرآن الكريم، أو أنه إشارة إلى طريق التوحيد، وإسلام وجه العبد إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وهذا صراط ربك) يعني: طريق الله الذي ارتضاه. وقوله: (مستقيماً) أي: لا ميل فيه، بلا إفراط ولا تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، أو (مستقيماً) لا اعوجاج فيه. وقوله: ( قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) يعني: بينا الآيات لقوم يتذكرون المعارف والحقائق التي هي مركوزة في استعدادهم فيسعدون بها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون )

    ثم يقول عز وجل في مصير هؤلاء الذين يذَّكرون: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127]. قوله: (لهم دار السلام) يعني السلامة من المكاره، ودار السلام بهذا المعنى هي الجنة التي لا يصيب سكانها حزن ولا هم ولا نصب ولا أي مكروه، ولذلك توصف بأنها (دار السلام) أي: السلامة من المكاره، وهي الجنة؛ لكونهم في مقام القرب من الله سبحانه وتعالى. وقوله: (عند ربهم) يشير إلى قربهم عند الله عز وجل. وقوله: (وهو وليهم) يعني: يتولاهم بمحبته، ويجعلهم في أمانه. وقوله: ( بما كانوا يعملون) أي: بسبب أعمالهم الصالحة في سلوكهم صراطه المستقيم، أي: بسبب ما كانوا عليه من الاستقامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ... )

    يقول عز وجل: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128]. قوله: (ويوم يحشرهم جميعاً) يعني: واذكر يا محمد -عليه الصلاة والسلام- فيما تقصه عليهم وتنذرهم به (يوم يحشرهم جميعاً). وقوله: (ويوم يحشرهم) يعني: الجن. وقوله: (أولياؤهم من الإنس) أي: الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. وقوله: (يا معشر الجن) يعني: نقول لهم بعد أن نحشرهم: (يا معشر الجن) والمقصود بمعشر الجن هنا شياطين الجن. قال المهايمي : خصهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر، فالمكر أساساً ينبع من شياطين الجن، ويتبعهم في ذلك شياطين الإنس؛ فلذلك خصهم بالنداء فقال: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) يعني: قد استكثرتم من إغواء وإضلال الإنس، أو: (قد استكثرتم من الإنس) بأن جعلتموهم أتباعكم وأهل طاعتكم، وسولتم وزينتم لهم الحطام الدنيوي واللذات الجسمانية عليهم، ووسوستم لهم بالمعاصي، فحشروا معكم. وهذا فيه التوبيخ والتقريع، يعني: أنتم استكثرتم من هؤلاء الأتباع فهاهم الآن يحشرون معكم بعدما أضللتموهم بمكركم ووسوستكم. وقوله: (وقال أولياؤهم من الإنس) يعني الذين أطاعوهم وتولوهم، ومعروف أن أولياء الشياطين من الإنس هم الذين يطيعون الشياطين في وسوستهم وإضلالهم. ومن ذلك مظاهر الشرك التي يقع فيها كثير من الإنس حينما يتولون الجن، حتى إنهم يخافون منهم الخوف الذي لا ينبغي أن يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، فيتعوذون بهم، ويذبحون لهم، وكم نرى أناساً يذبحون للجن كل ما يطلبونه منهم، فتراهم يطلبون ديكاً لونه كذا، ولون عنقه كذا، ولون ريشه كذا! وبعض الناس إذا افتتح مصنعاً أو شقة أو أي شيء من هذه الأشياء يأتي بالذبيحة فتذبح على عتبة هذا الباب للجن، والعياذ بالله! وغير ذلك من هذه الأفعال الشنيعة، فيقول الله تعالى لهم يوم القيامة: (( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ )) أي: الذين أطاعوهم وتولوهم من الإنس (( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ )). قال الحسن : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت الإنس وعملت. أي أن الجن كانت تأمر والإنس تعمل، كما قال عز وجل في حق الشيطان: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، أي أنه لم يجبرهم على ذلك، لكن الجن تأمر وهؤلاء يطيعون وينقادون. فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة، ولذا قال تعالى عنهم: (( اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ )) فالجن استمتعوا بتعظيم الإنس لهم، والإنس استمتعوا باللذات الحاضرة، وآثروا هذه اللذات الحاضرة من الشهوات وغيرها بسبب وسوسة وتزيين الجن لهم. وقوله: (( وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا )) يعني: بالموت أو بالمعاد الجسماني على أقبح صورة وأسوأ عيشة. قال أبو السعود : قالوا هذا الكلام: (( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ))، اعترافاً بما فعلوا من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث، وإظهاراً للندامة عليها، وتحسراً على حالهم، واستسلاماً لربهم. والله سبحانه وتعالى اقتصر على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة، فلم يقدروا على التكلم أصلاً، أي: أن الجن أنفسهم أفحموا تماماً، فلم يستطيعوا جواباً إلا ما أجاب به هؤلاء الأولياء من الإنس، حيث قال تعالى: (( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ )) أي: على سبيل الندم والتحسر والتأسف (( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا )) ولم يحك عز وجل، ولم يقص علينا خبراً عن جواب المضلين الذين هم الجن إيذاناً بأن المضلين من الجن أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً. وقوله: (( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ )) يعني: منزلكم، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين. وقوله: (( خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ )) يعني: إلا وقت مشيئته أن تخفف، أو ينجي منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركاً راسخاً في اعتقاده. وهذا القول في الحقيقة غير متوجه؛ لأن الخطاب هنا للمشركين، فلا يتناول العصاة الموحدين، والله تبارك وتعالى أعلم. وقد أطال المفسرون الكلام هنا على قوله تعالى: (( إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ )) وهو بحث طويل في الحقيقة، وهو أحد الموضعين اللذين ورد فيهما الاستثناء: ( إلا أن يشاء الله ): الأول: هو هذا الموضع. والثاني في سورة هود، في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:106-107]، وهذا هو بحث القول بفناء النار، ويستند القائلون بفنائها إلى هذه الآية، ولا شك في بطلان هذا المذهب؛ لأن الأدلة المتواترة تقطع بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فمن زعم أن النار تفنى فقد خالف عقيدة أهل السنة والجماعة. يقول الناصر في الانتصار: قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتاً قطعياً، فمن ثمّ اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية وفي أختها في سورة هود، فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة؛ لأنهم لا يخلدون، وهذا قول بعيد. وبعضهم قال: إن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، يعني أنهم مخلدون في النار إلا أن يشاء الله، أي: لو شاء الله لأخرجهم من العذاب. وفائدة هذا الاستثناء أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يوقف عنهم هذا العذاب، والإعلام بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاء أن يخلدوا، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل. وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك، فجاءت جملة ( إلا أن يشاء الله ) إشارة إلى أنهم مخلدون إلا أن يشاء الله، ولو شاء عدم تخليدهم لم يخلدهم، ففائدة الاستثناء إظهار قدرة الله عز وجل، والإعلام بأن خلودهم في النار إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم أيضاً فمن الجائز أن لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى ومحض مشيئة الله سبحانه وتعالى. وفي الآية تأويلات أخر، منها ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه تعالى استثنى قوماً قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يعني أن قوله تعالى: ( خالدين فيها)، معناه: أن الكفار الذين كان هذا شأنهم في الدنيا يستحقون أن يخلدوا في النار (إلا ما شاء الله) يعني: إلا من شاء الله منهم أن يسلم قبل موته ويحسن إسلامه، فيخرج عن استحقاق الخلود في جهنم، وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي، وأن ( ما ) بمعنى: من. ومن تأويلات الآية -أيضاً- أنهم يخرجون من النار، فإذا توجهوا لدخول الجنة أغلقت في وجوههم استهزاءً بهم، فقوله: ( إلا ما شاء الله ) أي: في هذه الفترة فقط التي يغرون فيها بدخول الجنة، حيث تفتح لهم أبواب الجنة، فإذا أرادوا أن يدخلوا بعدما يخرجون من النار تغلق في وجوههم استهزاءً بهم، وهذا معنى قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34]، يعني: حينئذٍ يضحك المؤمنون ويسخرون منهم كما كانوا يفعلون بهم في الدنيا جزاء وفاقاً. فإن قيل: أي فائدة في هذا الفعل؟ وما وجه الحكمة فيه؟ فالجواب أن وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أشق على نفوسهم وأعظم في مكروههم، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه واشتد حرصه على ذلك ثم حيل بينه وبين الفرج ورد إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه، ولا شك أنهم يصدمون صدمة قوية حين ينتقلون من طرف إلى طرف. وإذا صح هذا القول أنهم يخرجون من النار ثم تفتح لهم أبواب الجنة إغراءً لهم بالتوجه ناحية الجنة فإذا أرادوا أن يدخلوها أغلقت الأبواب في وجوههم وأعيدوا إلى العذاب فلا شك أن هذا تيئيس من الفرج، وهو نوع من العقوبة الشديدة التي تعظم وتضاعف حسرتهم. وقوله: (( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ))، يعني: لا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة، ( عليم ) أي: بمن يعذب بكفره فيدوم عذابه، أو يعذب بسيئة أعماله فيعذب على حسبها، ثم ينجو من هذا العذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون)

    ثم يقول عز وجل: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]. قوله: ( وكذلك نولي بعض الظالمين ) يعني: من الإنس، ( بعضاً ) أي: نجعلهم يتولونهم بالإغواء والإضلال، كما فعل الشياطين وغواة الإنس. وقوله: ( بما كانوا يكسبون ) يعني: بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي. قال الرازي : لأن الجنسية علة الضم. أي: لا تقع موالاة إلا بسبب وجود تناسب بين المتولين، لأن المحبة هي عبارة عن تناسب ومشاكلة وتجانس، فلذلك قال تعالى هنا: (( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي )) أي: نوجد الولاية والمحبة والنصرة. وقوله: ( نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ) يفيد أنهم اتحدوا على غرض ومقصد واحد، وهو معاداة الله ومعاداة رسول الله وشرع الله عز وجل، فلذلك تجد أن أهواءهم سواء ومتناسبة، ويوجد بينهم من الوثائق الخبيثة ما يجعل بعضهم يأوي إلى بعض. فالجنسية علة الضم، فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث، والطيور على أشكالها تقع، والأسماك على أشكالها تقع، وأنت إذا نظرت إلى الطيور تجد كل القافلة التي تطير تكون كلها من نوع واحد، فإذا كانت قافلة غربان تكون كلها من الغربان، ولا تجد شيئاً يشذ، حتى الناس الذين يغوصون في البحار ويرون قوافل الأسماك وهي تمشي في الماء يرون أن الأسماك -أيضاً- على أشكالها تقع. وكذلك بني آدم يأوي كل واحد إلى جنسه وإلى من يشاكله وإلى الشخص الذي يجد فيه نوعاً من التناسب والموافقة في الصفات وفي الطباع وفي الاستعدادات، فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث، وكذلك القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية. ولا شك في أن هذه الآية تعطينا نفس معنى الحديث الذي يروى ولا أظن أن أحداً صححه من العلماء وهو: (كما تكونون يولى عليكم). يقول السيوطي في الإكليل: الآية معنى حديث: (كما تكونون يولى عليكم) أخرجه ابن قانع في (معجم الصحابة) من حديث أبي بكرة ، وكذلك أسند في (الجامع الصغير) تخريجه إلى الديلمي في (الفردوس) عن أبي بكرة ، وإلى البيهقي عن أبي إسحاق السبيعي ، ورمز له بالضعف. وعلى أي الأحوال فمعنى الحديث صحيح، وقد عبر بعض السلف عن هذا المعنى بقوله: أعمالكم عمالكم. يعني أن العمال هم الحكام والولاة والأمراء، فعلى جنس وأنواع أعمالكم يكون هؤلاء الذين يتولون أموركم، فإذا كانت الشعوب ظالمة فاسقة متعدية لأمر الله عز وجل وتاركة دينها يعاقبها الله سبحانه وتعالى ويسلط الله عليها حكاماً ظالمين من نفس جنسهم. فالله تعالى يولي بعض الظالمين بعضاً، وعلى هذا فقوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129] يعطي نفس معنى: (كما تكونون يولى عليكم) ومعنى (أعمالكم عمالكم). ومن يتتبع التاريخ يجد هذا الأمر، وقد روي أن بعض الناس في زمن أحد الخلفاء انتقد ذلك الخليفة بأنه لا يسير فيهم بسيرة عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له: أما عمر فكان والياً علي وعلى مثلي من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما أنا فصرت والياً على أمثالكم. وفي هذا إشارة إلى هذا المعنى: (كما تكونون يولى عليكم) ، فهناك تفاعل بين الرعية الرعاة، فإذا كان الرعية ظلمة يسلط عليهم بسبب ذنوبهم هؤلاء الولاة الظالمون. وأسند في (الدر المنثور) عن منصور بن الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا )) ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أُمِّر عليهم شرارهم. وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: ويقال في معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضاً فيهلكه أو يذله. والآية لها معانٍ أخرى. وقوله: (( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا )) ( نولي ) بمعنى: نسلط، وهذا -أيضاً- من سنن الله سبحانه وتعالى التي نراها بين وقت وآخر، فنحن نرى أن الشخص الذي يعين الظالم ويتذلل له ويكون جندياً من جنوده ونصيراً من أنصاره وولياً من أوليائه إذا بالأيام تدور ثم ينقلب عليه، كما يقال: من أعان ظالماً سلطه الله عليه. فبعدما يكون بينهم هذه الموالاة وهذه المناصرة تدور الأيام وتجري فيهم سنن الله سبحانه وتعالى، حتى إن هذا الذي أعانه ينتقم الظالم منه، ويذيقه من نفس الكأس، فالانقلابات العسكرية والخيانات والقتل والاغتيال ما هي إلا عبارة عن انتقام ينتقم الله به من ظالم بظالم، ثم ينتقم من الظالمين جميعاً، فسنة الله سبحانه وتعالى أنه لا تدوم للظلم دولة، لكن تجد الظالم ينتقم الله به من ظالم مثله، ثم ينتقم من الظالمين أجمعين، وتكون العاقبة للمتقين. ولذلك يقول السمرقندي : معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضاً فيهلكه أو يذله. قال: وهذا كلام لتهديد الظالم لكي يمتنع عن ظلمه، ويدخل في الآية جميع من يظلم. فالآية عامة، وليست فقط كما نتحدث -في الولاة، ولكن في كل من يرتكب أي نوع من الظلم، سواءٌ أكان راعياً في رعيته، أم تاجراً يظلم في تجارته، أم سارقاً يظلم الناس بأخذ أموالهم، أم غير ذلك. قال الفضيل بن عياض : إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجباً. يعني: وتذكر هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة (( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي )) أي: نسلط (( بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )). فمعنى ( نولي ) نسلط بالمعاقبة، أو ( نولي ) بمعنى: يقع بينهم التناسب والموافقة، وكل إنسان يختار الذي هو على شاكلته ويرضاه ويتولاه. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: معنى هذه الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاءً على ظلمهم وبغيهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ...)

    ثم بين تبارك وتعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم؛ كما في الآية السابقة التي قال فيها تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:128-129]. فبين عز وجل ما يكون من توبيخ الكفار يوم القيامة بعدما بين توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم، وأعلم أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل، فيشهدون على أنفسهم بالكفر، وأنهم لن يعذبوا إلا بالحجة، فقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام:130]. قوله: ( وينذرونكم ) أي: يخوفونكم. وقوله: ( لقاء يومكم هذا ) وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه الأهوال. وقوله: ( قالوا ) الواو تعود إلى الجن والإنس. وقوله: ( شهدنا على أنفسنا ) أي: أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم وبتكذيب دعوتهم، كما فصل في قوله تعالى: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك:9]، فيقرون ويعترفون بأن الحجة قد قامت عليهم، وأن الله سبحانه وتعالى ما كان ليظلمهم، ولكن كانوا هم أنفسهم يظلمون، فيشهدون على أنفسهم، ويقرون بجريمتهم، وأن الرسل جاءتهم، وأقامت الحجج عليهم، ودعتهم إلى الحق، ولكنهم استكبروا واستنكفوا. وقوله: ( وغرتهم الحياة الدنيا ) يعني: غرهم ما فيها من الزهرة والنعيم، وهو بيان لما أرداهم في الدنيا إلى الكفر، فالكافر يميل إلى الكفر؛ لأن الدنيا تجذبه إليها، وتشغله عن الآخرة. وقوله: ( وشهدوا على أنفسهم ) أي: في ذلك الموقف في الآخرة. وقوله: ( أنهم كانوا كافرين ) يعني: بعدما شهدت عليهم الجوارح؛ لأنهم في البداية ينكرون، وقد سبق في آيات أخرى في سورة الأنعام أنهم يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] قال تعالى: انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]، لأن الكافر يجد الهلاك محققاً في الآخرة، فيقول: أحاول أي محاولة لعلي أنجو. فيقول لله سبحانه وتعالى: يا رب! إنك حرمت الظلم، وأنا لا أقبل علي شهيداً إلا من نفسي. فتأتي الملائكة فتشهد عليه والكتاب مفصلة فيه أعماله فيقول: ما أجيز إلا شاهداً من نفسي. فيختم الله سبحانه وتعالى على أفواههم وتنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون. وقوله: ( وشهدوا على أنفسهم ) يعني: في الآخرة بعدما شهدت عليهم الجوارح وقال الواحد منهم لجوارحه: سحقاً لكُنَّ؛ فعنكن كنت أناضل. وقوله: ( أنهم كانوا كافرين ) يعني: في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.

    هل من الجن رسل؟

    هنا بعض التنبيهات: أولاً: قوله تعالى: (( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ))، كلمة: ( منكم ) هل يفهم منها أن هناك رسلاً من الجن كما أن هناك رسلاً من الإنس؟ الجواب: كلا، فليس من الجن رسل، إنما من الجن نذر ودعاة فقط، فمن ذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى بعث إلى الجن رسلاً من الجن استدل بقوله تعالى هنا: (( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ )) بعدما قال: (( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ )). وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم . والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط، نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف. قال ابن عباس : الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر فقط. يعني: دعاة يبلغون وينذرون، لكن لم يرسل الله رسلاً من الجن. وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيها مضافاً، فقوله: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) المقصود: رسل من أحدكم، وهم الإنس فقط، أو أنه من إضافة ما للبعض للكل، أي: إضافة ما للبعض الذي هو الإنس للكل، وهذه الإضافة تصح؛ لأنها إضافة إلى المجموع، فلا يتعارض أن يكون المقصود واحد من الفريقين فقط، مثل قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] بعدما قال عز وجل: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [الرحمن:19] فالمفسرون يقولون: وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من أحدهما، وهو المالح دون العذب، وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله تعالى: (( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ))[الرحمن:19]، ثم قال بعد ذلك: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22]. وهو جائز في كل ما اتفق في أصله، فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين وهم الإنس، وهذا قول الفراء والزجاج . فمعنى الآية: يا معشر الجن والإنس! ألم يأتكم رسل من جملتكم؟! فاعتبر هنا معشر الجن والإنس المكلفين كأنهم شيء واحد، فحينما يقول الله: (( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ )) يقصد المجموع كله، لكن حين نفصل نعلم أنه لم ترسل الرسل إلا من الإنس، ولم يكن في الجن رسل. والمعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم؟! لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً، بل من الإنس خاصة. وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم والإيذان بتقاربهما ذاتاً واتحادهما تكليفاً وخطاباً، وكأنهما من جنس واحد، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر. وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فإذا حملناها على ظاهرها فالمقصود من قوله: ( رسل منكم ) ليس رسلاً فقط من الله سبحانه وتعالى، وإنما تحمل على رسل الرسل، كما قال تبارك وتعالى في سورة يس : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13] أي: مرسلون من عند عيسى عليه السلام؛ لأنهم رسل رسول الله عيسى عليه السلام، فأطلق الرسل على رسل عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فإذاً: يكون المراد في قوله: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) -إذا قلنا: إن من الجن رسلاً- يكون المقصود رسل الرسل الذين ينذرون قومهم ويحملون إليهم رسالة رسل الله عز وجل. وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم، حيث نطق به قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:29-31] أي: الرسول عليه الصلاة والسلام. وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الرسول كلامه في قلوب قوم من جن عصره فيسمعون كلامه ويأتون قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به، وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه، فقال سبحانه وتعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس:14]. وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما وبخ الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر، فهذه الآية فيها توبيخ للكفار وإظهار أن الله أزال عذرهم وأقام عليهم الحجة، ولم يبق عندهم أي عذر. فقوله: (( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا )) وأي أن الله سبحانه وتعالى أزال العذر بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة، فكان المقصود حاصلاً. قال الحافظ ابن كثير : والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163] إلى قوله تبارك وتعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال عز وجل عن إبراهيم: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27] وذرية إبراهيم من الإنس، فامتن الله على إبراهيم بأن جاء حصر الأنبياء من بعده في ذريته فقط، سواء أكانوا من إسماعيل أم من إسحاق عليهما الصلاة والسلام. فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20] أي: لأنهم بشر. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109] ومعلوم أن الجن تتبع الإنس في هذا الباب.

    وجه الجمع بين قوله تعالى: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) وقوله: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)

    قال عز وجل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام:130]، فما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله عز وجل: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] ففي هذا الموضع حلفوا وأقسموا على أنهم ما كانوا مشركين، وفي الآية الأخرى: (( وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ))؟ والجواب أنه ينبغي أولاً أن يكون السؤال أن تقول: ما الحكمة؟ أو ما السر في كذا؟ أو ما السبب في كذا؟ لكن أن تقول: هناك تعارض بين هاتين الآيتين فهذا من سوء الأدب؛ لأن كلام الله لا يضرب بعضه ببعض، وإنما من الأدب أن تقول: ما وجه الجمع؟ أو كيف يرفع الإشكال بين كذا وكذا؟ أو: غير ذلك من التعبيرات، لكن أن يزعم امرؤ -والعياذ بالله- أن بينهما تعارضاً، فهذا من سوء الأدب مع كلام الله عز وجل. فبعد هذا السؤال يأتي الجواب: بأن يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة، فتخيل أنك يوم القيامة تحاول أن تمعن فهي بعقلك، فقدر يوم القيامة خمسون ألف سنة مما نعد، فالواحد منا يعيش ستين سنة إلى مائة سنة مثلاً، فتخيل يوماً مقداره خمسون ألف سنة لا يعمل الإنسان فيه شيئاً، ولا تستطيع أن تستدرك أو تستثمر هذه الخمسين ألف سنة حتى تنجو؛ لأنك انتقلت إلى دار الجزاء، فالإنسان إذا حاول أن يدرك مقدار هذا اليوم العظيم يستطيع أن يستشعر ما فيه من الأهوال والمعاناة، ويجتهد في العمل لأجل هذا اليوم، ثم إذا ترقى بعد ذلك وتخيل الحياة الدائمة الخالدة التي لا نهاية فيها ولا موت على الإطلاق -سواء في جنة أو في نار- يدرك -أيضاً- أن الأمر جد لا هزل فيه. فالخمسون ألف سنة هذه تكون حافلة بالأحداث وبالوقائع وبالأحوال المختلفة، وتتنوع فيها الأحوال، فتارة يقر الخلق، وفي مناسبة معينة وفي ظروف أخرى يجحدون، وتارة يقولون: نشهد على أنفسنا أننا كنا كافرين. ومرة أخرى يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين. فهذا هو سبب التعارض في الأقوال وفي الإقرارات، فمرة يحلفون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين. ومرة أخرى يعترفون ويقرون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين. مثلاً: إذا كان وكيل نيابة يأخذ أقوال أحد فإنه يعترف بشيء، ثم بعد ذلك يتردد، ثم ينفيه، ثم يرجع فيثبته مرة أخرى، فهذا الاضطراب يدل على شدة الخوف والفزع واضطراب الأحوال، فلا شك في أن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه، حتى إنه لو حصل شيء من التضارب في الأقوال فإن التحقيق كله يلغى؛ لأن هذا يدل على أن الإنسان لم يكن في حالة نفسية مستقرة، فكونه يقول كلاماً ثم ينفيه، ويصدقه ثم يكذبه يدل على أن حالته النفسية غير مستقرة عند التحقيق لسبب أو لآخر، فبالتالي يُرفض التقرير كله. فالشاهد أن هؤلاء يقرون مرة ويجحدون مرة أخرى، فمرة يحلفون ويقولون: ( والله ربنا ما كنا مشركين ) وهذه يمين مغلظة، ويتهمون الملائكة أنهم افتروا عليهم، وأنهم سجلوا في صحائف أعمالهم ما لم يفعلوه، ويقول أحدهم: لا أريد شاهداً إلا من نفسي. ثم يفحهم الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك حينما يحاولون كل طرق الخلاص يعترفون، كما قال عز وجل: (( وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ))، يعني: بالفعل. وبعض المفسرين ذهب إلى أن قوله: ( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) أن المراد: شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قيل: لماذا كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم في الآية الكريمة: (( قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )) فالأولى حكاية لقولهم، فكيف يقولون ويعترفون؟ فالجواب أن المتكلم في المرة الأولى في قوله تعالى: (( شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا )) هم الكفار أنفسهم، فهذه حكاية لما قالوه بحروفه. وأما المتكلم في المرة الثانية في قوله تعالى: (( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )) فهو من كلام الله سبحانه وتعالى، يقصد به ذمهم وتخطئة رأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم. فما أعظم حجة القرآن الكريم! فإن كل هذه المحاورات من أجل مصلحتنا نحن، فيجب على كل إنسان مسلم وكافر أن يستحضر هذه المواقف، ويستعد لها من الآن؛ لأنه ليس هناك إقامة للحجة أكثر من هذا، فكل تفاصيل يوم القيامة، وحجج التوحيد، ومجادلة المشركين، وتنويع الخطاب بهذه السور إنما المقصود به أن تقوم الحجة على الناس، فلن يهلك على الله إلا هالك عاتٍ متمرد قاس يستحق عذاب الله سبحانه وتعالى. فالله يقول له: لو كفرت ستخلد في جهنم وتعذب هذا العذاب الأليم، وهذه هي الحجج وهذه هي البراهين: ومع ذلك يصر، مع أنه أعطاه الله الفرصة، وأرسل إليه الرسل، وقامت عليه الحجج، فلا شك في أنه يستحق العذاب، وأن الله ما ظلمه؛ لأنه سبق أن أنذره بذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون)

    ثم يقول عز وجل: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131]. في هذه الآية إعلام بأنه تبارك وتعالى أعذر إلى الثقلين الجن والإنس بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتبيين الآيات وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد، وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم لم تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه، وينبههم على بطلانه؛ لأنه ينافي الحكمة. إذاً: ينبغي أن نضم هذه الآية إلى آية أخرى في سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. فقوله: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131] أي أن الله سبحانه وتعالى ما كان له أن يهلك أي قرية أو أي أمة بظلمهم، حتى لو كان هذا الظلم هو الظلم الأكبر وهو الشرك الذي هو الظلم العظيم. وقوله: ( وأهلها غافلون ) يعني: لم تقم عليهم الحجة الرسالية، ولم تأتهم رسالة الرسل والأنبياء. فالله سبحانه وتعالى كتب على نفسه أنه لا يعذب أمة حتى تقوم عليها الحجة وتصل إليها الرسالة، مع أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على التوحيد، والفطرة تهدي إلى التوحيد، فلو أنك تخيلت مولوداً صغيراً يعيش في حجرة مغلقة -بغض النظر عن توفير سبل الحياة كالرضاعة والطعام بصورة أو بأخرى- بدون أن يتصل بأي مخلوق آخر من أم أو أب أو أخ، ويظل منفرداً في حجرة وينمو وينمو إلى أن يشب ويبلغ ويصير مكلفاً فإنه سينطق بالتوحيد، وهذا كل واحد منا يحسه في نفسه؛ لأن أقوى دليل على وجود الله عز وجل وعلى توحيد الله هو الفطرة. فلا ترهق نفسك إذا سمعت كلام الفلاسفة الدجالين الذين يقولون: إن الشك أول اليقين. أو: ينبغي أن تبدأ بالشك. أو نحو هذا الكلام الذي يقوله الدجالون، وغرضهم به هو الصد عن سبيل الله. فأنت -أيها الإنسان- تولد على الفطرة التي تجعلك تفزع إلى الله سبحانه وتعالى، وتشعر بأنك تأوي إلى الله عز وجل، وتكون هناك صلة وثيقة بينك وبين الله. وأي واحد منا إذا تذكر أيام صباه الأولى سيجد أن هذا الشعور كان مغروساً في أعمق أعماق قلبه، أي أن الاعتراف بالله سبحانه وتعالى والفزع إلى الله واللجوء إلى الله في الشدائد شعور فطري مغروس في كل واحد منا لا يحتاج إلى أن يدلل عليه؛ لأنه موجود في قلبه، فالله سبحانه وتعالى فطر الناس على التوحيد، كما قال عز وجل: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] يعني: لا تبدلوا خلق الله، ولا تفسدوا فطرة الناس وتصدوهم عن التوحيد. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: مهيأً لتقبل الحق. فأولاد اليهود والنصارى ما لم يكلفوا ولم يبلغوا هم على هذه الفطرة النقية فطرة الإسلام وفطرة التوحيد. ثم أعطى الله الناس العقول التي ميزوا بها على البهائم وعلى العجماوات كي يتدبروا في آيات الله عز وجل، ثم أرسل إليهم الرسل، وبث لهم الآيات الكونية في كل آفاق الدنيا، وكلها تدلهم على توحيد الله عز وجل فضلاً من الله ومنة، والله عز وجل تكفل بأنه لا يعذب أحداً حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، إذ لابد من أن تبلغه حجة الرسل، ولابد من أن تبلغه وتصل إليه دعوة الرسل، فإذا رفضها فحينئذٍ يستحق العذاب. فهذه الآية فيها دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة، ولا حكم للعقل، إنما الحكم للشرع والنقل، كقوله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون)

    ثم قال عز وجل: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:132]. قوله: ( ولكل ) أي: من المكلفين. وقوله: ( درجات ) أي: مراتب. وقوله: ( مما عملوا ) أي: من أعمالهم، يبلغونها ويثابون بها، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، واستدل بها -على هذا التأويل- على أن الجن يدخلون الجنة ويثابون، وهذه المسألة محل خلاف؛ لأن بعض العلماء يذهبون إلى أن مؤمني الجن ثوابهم أن لا يعذبوا، لكن الظاهر -والله تعالى أعلم- أن مؤمني الجن يدخلون الجنة مثل مؤمني الإنس، ودليل ذلك في سورة الرحمن، ففي سورة الرحمن الخطاب موجه إلى الجن والإنس، وذلك في قوله تعالى: (( يا معشر الجن والإنس )) وكذلك في آيات: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فالخطاب في سورة الرحمن كلها متوجه إلى الجن وإلى الإنس، كقوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47] وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الجنة نعيم يستحقه مؤمنوا الجن ومؤمنوا الإنس أيضاً. ومما يدل على صحة هذا المذهب -أيضاً- قوله تبارك وتعالى هنا: (( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا )) على أساس أن قوله: ( لكل ) يعني: لكل فريق من الجن والإنس ( درجات مما عملوا ) يعني أن مؤمني الجن يستحقون درجات الجنة تبعاً لأعمالهم. قال ابن كثير : ويحتمل أن يعود قوله: ( ولكل درجات مما عملوا ) لكافري الجن والإنس. يعني: ولكل واحد درجة في النار بحسبه، كقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ...)

    ثم قال عز وجل: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [الأنعام:133]. قوله: ( وربك الغني ) أي: الغني عن خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. وقوله: ( ذو الرحمة ) يعني: يترحم عليهم بالتكليف تسهيلاً لهم، ويمهلهم على المعاصي، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل ليس لأن إرسال الرسل يعود إلى الله سبحانه وتعالى بالمنفعة، معاذ الله! وإنما إرسال الرسل ما هو إلا رحمة لعباد الله تبارك وتعالى. فقوله: ( وربك الغني ) أي: غني عنكم ( ذو الرحمة ) أي: يرسل الرسل ليرحمكم، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فانظر إلى الربط هنا بين الغنى والرحمة، يعني أن الله سبحانه وتعالى غني عنكم، وغني عن عبادتكم، وأنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد، فما يرسل الرسل إلا لمنفعتكم أنتم دون أن ينتفع هو سبحانه وتعالى من ذلك بشيء. وقوله: (( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ )) تمهيد لقوله بعد ذلك: (( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ )) يعني: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدك ما يشاء من الخلق يعملون بطاعته كما أنشأكم أنتم من ذرية قوم آخرين ذهب بهم ثم بذريتهم، لكنه أبقاكم ترحماً عليكم، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة القتال: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] أي: سيكونون أفضل وأطوع لله منكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين)

    ثم قال عز وجل: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134]. قوله: ( إنما توعدون ) يعني: من البعث وأحواله وأهواله. وقوله: ( لآتٍ ) يعني: لكائن لا محالة. وقوله: ( وما أنتم بمعجزين ) أي ما أنتم بفائتين، والله لا يعجز عنكم. وهذا رد لقول هؤلاء المشركين: إن من مات فقد فات. أي: لن يستطيع أحد أن يعيده إلى الحياة. فرد الله سبحانه وتعالى على ذلك، وبين أنه قادر على إعادتهم وإن صاروا رفاتاً، فقال: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134]، أي: لن تعجزوا الله؛ لأنهم زعموا: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10] أي: إذا تهنا وضعنا في الأرض وصرنا تراباً فكيف نكون في خلق جديد؟ فقال الله عز وجل رداً عليهم: ( إنما توعدون ) أي: من البعث والنشور ( لآتٍ ) قطعاً ( وما أنتم بمعجزين ) أي: ما أنتم بفائتين، بل نحن قادرون على بعثكم ونشوركم وحسابكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ...)

    ثم قال سبحانه وتعالى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:135]. قوله: ( قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ) يعني: على غاية تمكنكم واستطاعتكم، وابذلوا أقصى ما في إمكانيتكم في هذا العمل، يقال: مكن مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن. أو أن معنى ( اعملوا على مكانتكم ) أي: على جهتكم وحالتكم. من قولهم: مكان ومكانة كمقام ومقامة، والمعنى: أنتم رضيتم بالكفر فاثبتوا على هذا الكفر. وهذا تهديد لهم، كقوله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] لأنه ليس المقصود به أن هناك اختياراً بين الكفر والإيمان، لكنه تهديد وتوعد، وهذا مثل قول جبريل في الحديث: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به) ، فقوله: (اعمل ما شئت) تهديد، وكذلك هنا يكون قوله: ( اعملوا على مكانتكم ) يعني: ابذلوا غاية ما تستطيعون وما تقدرون عليه. أو: ( اعملوا على مكانتكم ) يعني اثبتوا على كفركم وسترون عاقبة هذا الكفر. وقوله: ( إني عامل ) أي: ما أمرت به من الثبات على الإسلام. وقوله: (( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ))، أي: الدار التي بنيت لعبادته تعالى وحده دون غيره، فسوف تكون العاقبة للذي يضع العبادة في موضعها لا للظالم الذي يضع العبادة في غير موضعها. والدار هنا المقصود الدنيا، كما قال عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]، وقال عز وجل أيضاً: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وقال: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]. فالمراد بالدار الدنيا، وبالعاقبة في قوله: ( فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ) عاقبة الدنيا، أي: عاقبة الخير؛ لأنها الأصل، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة للآخرة وقنطرة المجاز إليها. وقوله: ( إنه لا يفلح الظالمون ) أي: الكافرون. والظلم هنا المقصود به الظلم الأكبر، وهو الشرك، ووضع الظلم موضع الكفر، ولم يقل سبحانه وتعالى: إنه لا يفلح الكافرون، وإنما قال هنا: (إنه لا يفلح الظالمون) لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله وفي غير موضعه، فوَضع الظلم موضع الكفر إيذاناً بأن امتناع الفلاح يترتب على أي فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم الظلم؟! أي: أن الشخص الذي يقع في أي نوع من أنواع الظلم حتى لو كان دون الظلم الأكبر الذي هو الشرك فإنه لا يفلح، ولا يمكن أن الظالم يفلح ، فما بالك إذا كان هذا الظلم هو أكبر وأخطر أنواع الظلم الذي هو الشرك العظيم بالله سبحانه وتعالى؟!

    لطائف في قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ...) الآية

    هنا بعض اللطائف: منها: إرادة التهديد بصيغة الأمر، فقوله تعالى: (( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ )) فهذه مبالغة في الوعيد، وكأن المهدِّد يريد تعذيبه مجمعاً عليه، وكأن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما يبلغهم بما أمره الله به في قوله: (( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ )) كأنه يريد أن يعذب هؤلاء القوم، وأن النية والقصد ثابت وأكيد في أنهم سيعذبون، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه، وتسجيل بأن المهدِّد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصى عنه. وقوله: (( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )) هنا لفتة طيبة جداً من اللطائف العظيمة في القرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى قال هنا: (( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ )) ولم يقل: فسوف تعلمون أن العاقبة ستكون لنا. وإنما قال: (( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ )) وهذا فيه معنى الإنذار، وفيه -أيضاً- إنصاف في المقال وحسن الأدب، حيث لم يقل: العاقبة لنا. وإنما فوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا من الكلام المنصف، كقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24] وهذا ليس فيه تنازل عن الحق، وإنما فيه نوع من التلطف بالخبر، حتى لو كان المخاطب كافراً؛ لأن المقصود هو جذبه إلى الحق، فلذلك حينما تقول له: ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) يدفعه ذلك إلى حسن ظن بك أنك غير متعصب أو أنك منصف، وحينئذٍ يسهل جذبه إلى هذا الحق، فكذلك هنا قال: (( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ )) ولم يعين المقصودين الذين تكون لهم عاقبة الدار. وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق، ومع ذلك فإن في الآية قطعاً بأن المنذر على يقين بأنه هو صاحب الحق. فقوله: (( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ )) يعني: ثابت على الإسلام الذي هو دين الله سبحانه وتعالى. وفيه تبشير أيضاً بأن العاقبة لمن يثبت على الحق، فقوله: (( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ))، قال ابن كثير : وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه، فمكن له في البلاد. ولنعلم أن سورة الأنعام سورة مكية، ونزلت في الوقت الذي كان المسلمون يضطهدون فيه أشد الاضطهاد في مكة، وكان الصحابة يعذبون، وكان الإسلام غريباً، وكان هناك أذىً للرسول عليه السلام ولأصحابه، وعانى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه البلاء الشديد والاضطهاد في مكة المكرمة من كفار قريش، ومع هذا فإن هذه الآية نزلت عليهم في هذه الحال، فقال الله تعالى لنبيه: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:135]، فانظر كيف كان على ثقة من وعد الله سبحانه وتعالى بالتمكين في الدين، فهذا وعد الله له في فترة الاضطهاد والقهر، وقد أنجز الله له موعوده، فمكن له في البلاد، وحكمه في مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب بما في ذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم. ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:24-52]، وقال تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13-14]. وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة، ولله الحمد والمنة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ...)

    ثم بين عز وجل نوعاً من جهالات مشركي قريش ومكة وضلالاتهم، وهو أنهم كانوا يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تبارك وتعالى بعد تشريكهم إياه فيما اختص بخلقه، فقال عز وجل: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]. قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ ) يعني: مما خلق. وقوله: ( من الحرث ) أي: الزرع. وقوله: ( والأنعام نصيباً ) جعلوه لله بأن كانوا يصرفونه إلى الضيوف وإلى المساكين والفقراء، فهذا هو نصيب الله سبحانه وتعالى الذي كانوا يجعلونه له. وقوله: ( فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) أي أنهم جعلوا لله نصيباً وللأصنام نصيباً، وكيف يجعلون للأصنام نصيباً وهي لا تأكل ولا تشرب؟ والجواب: كانوا يجعلونه للسدنة الذين يخدمون هذه الأصنام، وأيضاً كانوا يذبحون لها للتنسك. فإذاً: النصيب الذي كانوا يجعلونه لله يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، ونصيب الأصنام يصرفونه إلى الأصنام بالتنسك والتعبد وللسدنة الخدام، وإنما لم يذكرو اكتفاءً بما بعده. وقوله: ( فقالوا هذا لله بزعمهم ) أي: هذا مستقر له الآن من غير استقرار له في المستقبل العارض. يعني: هذا لله الآن، لكن لا نضمن أنه في المستقبل سيكون لله، فإذا حصلت ظروف فسيتوجه لغير الله! وقوله: ( وهذا لشركائنا ) يعني: هذا مستقر لشركائهم، وليس هذا فحسب، بل يستقر لشركائهم ما ليس لهم أيضاً، فيأخذون ما كان لله ويدفعونه إلى نصيب الشركاء، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، وإذا سقط في نصيبها شيء من نصيب الله تركوه، كما قال تعالى: (( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ))، أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله أو هلاك ما هو لله لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من إكرام الضيفان والتصدق على المساكين. أي: أن ما يتعلق بالأموال أو بالزرع أو باللحم أو بأي شيء مما هو لله سبحانه وتعالى إذا سقط مع النصيب الذي هو للأصنام يتركونه للأصنام، أما إذا سقط نصيب الشركاء مع ما هو لله يلتقطونه ويعطونه للأصنام، بل إن نصيب الله أصلاً يأخذونه ويعطونه للأصنام. فقوله: ( فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ) أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله أو هلاك ما هو لله، فلا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من إقراء الضيفان والتصدق على المساكين. وقوله: ( وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو للأصنام أو هلاك ما لها، فينفقون عليها بذبح نسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك، وكانوا يفلسفون هذا الضلال وهذا الظلم بقولهم: إن الله غني، ولكن هذه الأصنام محتاجة، فنحن نأخذ ما كان لله -الذي كان من المفروض أن يأخذه الفقراء والمساكين- ونبذله للسدنة أو للذبح والتقرب لهذه الأصنام. وقوله: ( ساء ما يحكمون ) يعني: ساء ما يقسمون، وذلك لأمور: أولاً: لأنهم عملوا ما لم يشرع لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع لهم هذه القسمة بينه سبحانه وتعالى وبين الأصنام. ثانياً: لأنهم عملوا أولاً ما لم يشرع لهم ومع هذا ضلوا في القسمة؛ لأنه تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه، لا إله غيره ولا رب سواه، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يعدلوا فيها، بل جاروا فيها؛ إذ رجحوا جانب الأصنام في الحفظ والرعاية على حق الله، فهذا التقسيم باطل وفاسد، ثم بعد ذلك لم يحترموا هذا التقسيم الفاسد الذي ألزموا أنفسهم به، وهذا يذكرنا بآية أخرى في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] ويذكرنا بالكلام الذي يدور حول الديمقراطية، فالديمقراطية أصلاً مخالفة للدين ومخالفة للتوحيد؛ لأن الديمقراطية حكم الشعب للشعب، فالشعب هو الذي يشرِّع، وهو الذي يحل، وهو الذي يحرم، ومع أن هذا هو الدين الذي ارتضوه بديلاً عن الإسلام لم يحترموا قوانينه، والكل يعلم الأحوال التي تجري في بلاد المسلمين. فقوله: (( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا )) يعني: هذه الرهبانية ما شرعها الله لهم، ولا شرع لهم أن يحرموا الطيبات والزواج ونحو ذلك، وإنما هم الذين اخترعوها وابتدعوها. وقوله: (( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ))، أي: ما فرضناها عليهم. وقوله: (( إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ))، هذا استثناء منقطع، بمعنى ( ما كتبناها عليهم ) أي: ما شرعناها لهم، لكن كتبنا عليهم أن يبتغوا رضوان الله عن طريق العبادات المشروعة لا العبادات المبتدعة. وقوله: (( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ))، أي: مع أنهم هم الذين ألزموا أنفسهم بالقوانين الرهبانية ونظام الرهبنة، لكنهم مع ذلك ما رعوها حق رعايتها، حتى الأشياء التي ألزموا أنفسهم بها لم يحترموها، فهذه الآية من نفس هذا الباب. وقوله تعالى: (( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ )) أي أن الله هو الذي خلق، وهو الذي ذرأ، ومع ذلك انظر كيف يقسمون! وقوله تعالى: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ، أي: في تعظيمهم للشركاء أكثر من تعظيم الله سبحانه وتعالى. كحال هؤلاء الناس الذين حكي عنهم أن الواحد منهم إذا طلب منه أمام القاضي في المحكمة أن يحلف بالله عز وجل فإنه يحلف يميناً غموساً تغمسه في النار؛ لأنه كاذب فيها، لكن إذا قال له: احلف بالولي أو بالشيخ فلان أو بحياة أولادك أو بغير ذلك يتلعثم ويقر بالحقيقة، والعياذ بالله! وهذا شرك عظيم، فانظر كيف يستهزئ باسم الله ثم كيف يعظم هؤلاء الأولياء! فقوله: (( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )) يعني: من ترجيح جانب الأصنام على جانب الله بعلة تقتضي ترجيح جانب الله لإلهيته وعدم صلاحية الإلهية لغيره، وهم يعللون هذا القسمة الضيزى فيقولون: لأن ربنا غني، لكن هذه الأصنام محتاجة! وإذا كانت محتاجة فهل تصلح أن تتخذ آلهة؟! فإذاً: العلة نفسها التي اعتلوا بها واستندوا إليها هي نفسها تحمل في طياتها إبطال هذا الشرك الذي هم عليه، فهي محتاجة؛ والمحتاج لا يصلح إلهاً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وما ذكرناه في الآية هو الذي قاله أئمة التفسير، فقد روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية الكريمة: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً، وللوثن جزءاً، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه الشيء فيما سمي لله سبحانه وتعالى الأحد الصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئاً جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا الوثن فقير، فيعطونه هذا الشيء، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة إلى الله تعالى، فقال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا .. [الأنعام:136] إلى آخر الآية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756003981