إسلام ويب

تفسير سورة النساء [31-42]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه...)

    يقول الله تبارك وتعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]. (( إِنْ تَجْتَنِبُوا )) أي: إن تتركوا. (( كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ )) أي: كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها، سواء ما ذكر قبل هذه الآية أو مما ذكر في غيرها من الآيات والأحاديث. (( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )) أي: نمح عنكم صغائر ذنوبكم، وندخلكم الجنة؛ ولذلك قال: (( وَنُدْخِلْكُمْ )) أي: في الآخرة. (( مُدْخَلًا كَرِيمًا )) أي: حسناً وهي الجنة. و(( مدخلاً )) إما أنها اسم مكان، يعني: ندخلكم مكاناً مدخلاً، وإما أنها مصدر من أدخل يعني: إدخالاً مع كرامةٍ. وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وفيها أيضاً رد على من زعم أن المعاصي كلها كبائر، وأنه لا صغيرة، بل الواضح من الآية أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر. كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: (( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ))، وقال أيضاً: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، يعني: مكفرات الصغائر إذا اجتنبت الكبائر.

    درجات الأعمال المكفرة

    هذه الأعمال المكفرة، لها ثلاث درجات: إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها، والقيام بحقوقها، يعني: كالذي يتعاطى دواءً ضعيفاً يقصر عن مقاومة الداء كماً وكيفاً، فهذه الحالة الأولى بالنسبة للأعمال المكفرة التي تكفر الخطايا. الدرجة الثانية: أن تقاوم الصغائر، ولكنها لا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر. الدرجة الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور)، وكما في الحديث: (اجتنبوا السبع الموبقات ..)، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرت كبائر الذنوب. يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: (( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ )) وهي ما ورد عليها وعيد كالقتل والزنا والسرقة، قال ابن عباس : هي -أي: الكبائر- إلى السبعمائة أقرب، وفي رواية أخرى: إنها إلى السبعين أقرب، وهذه الرواية أصحهما عن ابن عباس ، يعني: أن الكبائر عددها إلى السبعين أقرب منها إلى غيره. (( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )) صغائر الذنوب بالطاعات. (( وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا )) بضم الميم وفتحها أي: إدخالاً أو موضعاً (كريماً) وهو الجنة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض...)

    وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]. نهى تبارك وتعالى عن التحاسد، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه، مما يجري فيه التنافس، ولذلك قال: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]. يقول السيوطي في قوله تعالى: (( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ))، من جهة الدنيا أو الدين؛ لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض. (( للرجال نصيب )) يعني: ثواب، (( مما اكتسبوا )) بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره. (( وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ))، من طاعة أزواجهن، وحفظ فروجهن وغير ذلك، وقد نزلت هذه الآية لما قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى: (( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ )))؛ لأن النساء على لسان أم سلمة يسألن كيف يغزو الرجال ونحن لا نغزو، وفي نفس الوقت نعطى نصف الميراث، فأنزل الله تعالى: (( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ))، قال مجاهد : وأنزل فيها: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ .. [الأحزاب:35] إلى آخر الآية المعروفة في سورة الأحزاب، وحديث أم سلمة صحيح الإسناد. وفي رواية: نزلت لما قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (ليتنا كنا رجالاً فجاهدناً، وكان لنا مثل أجر الرجال). فالمقصود من الآية: (( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ )) أنه ينبغي لكل فريق أن يرضى بما قسم له. (( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ )) يعني: ما احتجتم إليه يعطكم. (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )) ومنه محل الفضل وسؤالكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ...)

    قال تبارك وتعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33]. (ولكل) أي: لكل من الفريقين من الرجال أو النساء. (( جَعَلْنَا مَوَالِيَ ))، موالي: جمع مولى، يعني: المقصود ورثة وعصبة يعطون مما ترك الوالدان والأقربون، فيرثون ما تركوا لهم من المال. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:33]، أو: (والذين عاقدت أيمانكم) بالألف ودونها، وهذا المبتدأ ضمن معنى الشرط؛ لذلك وقع خبره مع الفاء؛ لأنه جاء بمعنى الشرط: يعني: (والذين إن عاقدتموهم فآتوهم نصيبهم) فكلمة: (الذين عقدت) أو (عاقدت أيمانكم) تضمنت فيها معنى الشرط؛ فلذلك جاءت الفاء في الخبر، فقال تعالى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]. أما قوله تعالى: (( أَيْمَانُكُمْ ))، فهذا جمع يمين، إما أنها تكون يميناً بمعنى القسم، أو الأيمان من الأيادي، أي: اليد، اليمنى، (( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ )) جمع يمين بمعنى القسم، وإن كان هذا أولى؛ لأن العقد خلاف اليد. والله جل وعلا قال: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ [النحل:91]، ما الذي ينصرف إليه كلمة (الأيمان) هنا؟ العقد وليس اليد: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل:91]، فلهذا يرجح أن يكون المقصود بالذين عقدت أيمانكم أنها جمع يمين بمعنى القسم، وهذا أرجح من القول بأنها اليد، حتى إن قلنا: (( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ )) أو (عاقدت أيمانكم) بمعنى: اليد، فيلزم من ذلك أنهم كانوا يضعون الأيدي عند المعاهدات، أو يضع يده في يد من يتفق معه توثيقاً لهذا العقد، كما يحصل في عقود الزواج وغير ذلك، وحتى عند البيع، كانوا إذا وافق البائع والمشتري وحصل الإيجاب والقبول فيتم الصفق باليد على اليد الأخرى، إيماءً إلى توكيد هذا العقد ونفوذه. فقوله هناك: (( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ )) جمع يمين بمعنى القسم، أو اليد التي يضعونها في العهود. المقصود من الآية: هؤلاء الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة والإرث، فكان هذا الحلف يحصل في الجاهلية، بمعنى: أن الإنسان له أن يتخذ حليفاً أو ولياً ويتفق معه ويقول: إن دمي دمك، ومالي مالك، وإذا أنا مت فإنك ترثني بدون أسباب الميراث الذي هو عن طريق النسب. فيكون عقد اليمين في الحلف والعقود والعروض، (( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ )) أو (والذين عاقدت أيمانكم) يعني: من هؤلاء الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة وعلى الإرث. فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ، فآتوهم الآن نصيبهم وحظوظهم من الميراث وهو السدس. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33] يعني: مطلع على حالكم، وهذا منسوخ بقوله تبارك وتعالى في سورة الأنفال: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75]. وهذه الآية المذكورة يؤخذ منها أنهم أمروا بأن يوفوا بعقود الموالاة التي كانت بينهم في الجاهلية على النصرة والإرث، فأمروا أن يوفوا بما عاقدوا، ونهوا أن ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة جديدة، بمعنى: أنهم نهوا عن إنشاء معاقدة جديدة فيما يأتي، ولكن أمروا بأن يوفوا بما تم في الجاهلية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء ...)

    قال تبارك وتعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]. (الرجال قوامون) أي: مسلطون. (قوامون) جمع قوام، وهو القائم بالمصالح والتأديب والتدبير، يعني: الرجال مسئولون عن هذه الأشياء. (على النساء) أي: يقومون عليهن آمرين ناهين قيام الولاة على الرعية، فمسألة القوامة هي مسألة تنظيمية، وليست مسألة استفزازية، وليس معنى ذلك أن الرجل يطغى على المرأة ويظلمها، لكن بما ميز وبما فضل به الرجل على المرأة فإنه بذلك يصير له حق القوامة، بمعنى: أنه مسئول عن تسيير أمرها، كما يلي الراعي أمر رعيته ويقوم على أمرها.

    أسباب تفضيل الرجال على النساء

    بين الله تبارك وتعالى في هذه الآية إلى أن ذلك بسببين: أحدهما: وهبي، والآخر: كسبي. أما الوهبي: فهو فضل الذكورة، (بما فضل الله به بعضهم على بعض) والبعض المفضل هو الرجال على بعض وهو والنساء، وقد ذكروا في فضل الرجال على النساء أموراً كثيرة، فمثلاً في الرجال: العقل، والحزم، والعدل، والقوة، والفروسية، والرمي، ومن الرجال الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى، والإمامة الصغرى، والجهاد والأذان والإقامة والشهادة في المجامع، والولاية في النكاح والطلاق، والرجعة، وعدد الأزواج، وزيادة السهم والتعصيب، وهم أصحاب اللحى والعمائم كما يذكر العلماء، والكامل بنفسه له حق الولاية على الناقص بنفسه، فهذا فيما يتعلق بالتفضيل الأول، وأشار للتفضيل الثاني وهو التفضيل الكسبي بقوله تبارك وتعالى: (( وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ))، فهذا السبب الثاني للقوامة: (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ))، والنساء ما زلن يتذكرن قوله تعالى آنفاً: (( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا )) إلى آخره، والنساء العاقلات لا يعترضن على هذا؛ لأن هذا أمر واقعي. وهناك استثناءات من هذا، فقد يكمل بعض النساء فتكون امرأة فعلاً بعدة رجال في دينها وعقلها وحفظها، لكن الغالب بخلاف ذلك، كما يقول الشاعر في فضليات النساء: فلو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال ويكفي دليلاً على ذلك -حتى لا نطيل في هذه القضية التي يحلم كثير من الناس الإفاضة فيها- أن عامة النساء تفضل أن يكون مولودها ذكراً على أن يكون مولودها أنثى. فقوله تعالى: (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ))، أي: يقومون على النساء، يؤدبونهن ويأخذون على أيديهن. (( بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ))، أي: بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك. (( وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ))، وبما أنفقوا عليهن من أموالهم، تكون في المهور وغير ذلك. (( فَالصَّالِحَاتُ )) أي: الصالحات من النساء (( قَانِتَاتٌ )) هذه صفة الصالحات من النساء وهي أنهن مطيعات لأزواجهن.

    معنى حفظ الزوجات للغيب

    قوله (( حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ )) يعني: حافظات لفروجهن ولأموال أزواجهن وبيوتهم في غيبتهم. (( بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ))، في الحقيقة هذه الآية فيها تفصيل كثير، ومعان كثيرة، وتحتاج إلى محاضرات عدة، لكن حتى ننجز القدر المطلوب من التفسير نحاول أن نمر مروراً سريعاً. أيضاً يدخل في حفظ الغيب، عدم نشر ما يكون بين الزوجين متعلقاً بالجماع، فهذا يذكر أيضاً في حفظ الغيب. (حافظات للغيب بما حفظ) لهن، (الله). فالباء هنا في قوله تعالى: (( بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ))، تحتمل أمرين: إما أنها للمقابلة، كما تقول: هذا في مقابلة ذاك، يعني: كما أن الله سبحانه وتعالى حفظ لهن حقوقهن، بأن أوصى الأزواج بالنساء، وكذلك فعل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فشرع لهن الحقوق وأمر الأزواج بحفظ هذه الحقوق، فينبغي في مقابلة ذلك أن تحذر الزوجة من أن تخونه في غيبته في عرضه وماله ونفسها إلى آخره، فهذا معنى (حافظات للغيب بما حفظ الله)، يعني: في مقابلة ما حفظ الله لهن، فعليهن أن يطعن أزواجهن ويحفظن الغيب. أو الباء هنا في قوله تعالى: (بما حفظ الله) أي: مستعينات بحفظ الله تبارك وتعالى، فالباء للاستعانة، ومعنى ذلك: أن هؤلاء النساء الصالحات القانتات حافظات للغيب كما ذكرنا بما حفظ الله لهن، يعني: لا يتم حفظهن للغيب من حفظ الفروج والأموال وغير ذلك إلا باستعانتهن بالله، إذ لو تُركن لدواعي أهوائهن ونفوسهن لغلبت عليهن الأهواء، إلا أن يحفظهن الله؛ لأن الله خيرٌ حافظاً، فمهما كن صالحات فإنهن لا يثقن بأنفسهن وإنما يستعنّ بالله في حفظ الغيب بما حفظ الله تبارك وتعالى.

    عدم جواز تولي المرأة للقضاء

    واستدل بالآية على أنه لا يجوز للمرأة أن تلي القضاء، أو الإمامة العظمى؛ لأنه جعل الرجال قوّامين عليهن، فلم يجز أن يقمن هن على الرجال كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). وفي الحقيقة وضع المرأة في الإسلام هذا موضوع ذو شجون، والكلام فيه طويل جداً.

    صفة التعامل مع الزوجة الناشز ومراحله

    يقول تبارك وتعالى: (( وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ )). أي: عصيانهنّ لكم بأن ظهرت أمارته، هنا تفسيران لقوله تعالى: (( تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ )): الأول: أن المرأة قد وقع منها النشوز بالفعل. الثاني: أي أنكم تتوقعون نشوزهن. فقوله تعالى: (( وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ )) يعني: عصيانهن لكم بأن بدأت تظهر أمارة النشوز ودلائله، ففي هذه الحالة تطبق ما ذكر الله بعد ذلك من المراحل بالترتيب. الأولى: (( فَعِظُوهُنَّ )) أي: فخوفوهن الله. الثانية: (( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ )) أي: اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز. الثالثة: (( وَاضْرِبُوهُنّ )) ضرباً غير مبرح إن لم يرجعن بالهجران، يعني: إن لم ينفع الهجران ننتقل إلى المرحلة الثالثة وهي الضرب غير المبرح. (( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ )) يعني: فيما يراد منهن، (( فَلا تَبْغُوا )) لا تطلبوا (( عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ))، طريقاً إلى ضربهن ظلماً. وأيضاً: لا شك أن هذه الآية مما يحتاج إلى كثير من التفصيل؛ لأن بعض الناس يسيء فهم موضوع ضرب النساء، حتى إن أعداء الإسلام يشنعون على كلام الله تبارك وتعالى ويضلون الناس عن سبيله، بسبب سوء مسلك بعض الرجال الجهلة من المسلمين. فأعداء الدين من الكفار ينشرون في وسائل الأعلام أن المسلم يعتقد أنه يجب عليه أن يضرب زوجته كل يوم في الصباح وفي المساء، ويعتقد أيضاً أن هذه عبادة، وهذا مما يضحك، لكن هذا واقع، فهم يشنعون على الإسلام بهذه الافتراءات والأكاذيب، مع أن الضرب بعد استيفاء شروطه مكروه، أي: أن الضرب مباح مع الكراهة ولا يباح بإطلاق؛ ولذلك ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لا امرأة ولا خادماً ولا شاة قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في هؤلاء الذين يظلمون النساء: (ما تجدون أولئك خياركم) يعني: مع الإباحة فإن خيار المسلمين لا يفعلون ذلك. فالموضوع فيه تفصيل، ومن ذلك أنه ينظر إن كان الضرب يجدي فليجأ إليه، أما إن كان الضرب يزيد في النشوز فلا داعي أصلاً للجوء إليه، وهذا ليس فقط في حق النساء، بل حتى الصغار، فالضرب ليس عملية تنفيس، بمجرد أن يغضب على الولد فهو يريد أن يستريح ويشفي غليله بضربه. فمع أن الضرب قد يؤدي إلى التشويه العضوي البدني في الولد لكن خطورته في التشويه النفسي أعظم وأكبر، حيث تصبح عنده عاهة نفسية. المقصود من الضرب أنه وسيلة للتأديب، فإذا لم يؤد للتأديب، ولم يعد بفائدة فسيكون ضرراً محضاً، وإنما يلجأ إليه لأجل تحصيل المنفعة من ورائه. (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا )) يعني: فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن، وإذا كنتم قد جعلكم الله من القوامين عليهن وأعلى منهن فاعلموا أن الله أعلى منكم فاتقوا الله فيهن؛ ولذلك قال: (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ))، أي أعلى منكم، وأكبر منكم، فإن ظلمتموهن ينتقم الله سبحانه وتعالى منكم؛ ولذلك قال بعض السلف: (إني لأستحيي من الله أن أظلم من لا يجد له ناصراً إلا الله تبارك وتعالى).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما...)

    وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35]. بعدما ذكر الله حكم النفور وحكم النشوز الذي يصدر من جانب الزوجة، ذكر بعده مباشرة النفور من الزوجين معاً، فقال تعالى: (( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا )). (وإن خفتم) علمتم، (شقاق بينهما) يعني: خلاف بينهما، يعني: وجود نزاع بين الزوجة والزوج. فإذا كان النفور بين الزوجين من الطرفين: (فابعثوا حكماً). قوله تعالى: (شقاق بينهما) يعني: بين الزوجين، والإضافة للاتساع، والأصل: شقاقاً بينهما، فأضيف المصدر إلى ظرفه، كقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سبأ:33]، بمعنى: بل مكر في الليل ومكر في النهار، وهو ظرف. (( فَابْعَثُوا ))، إليهما برضاهما (حكماً) رجلاً عدلاً. (من أهله) أي: من أقاربه، (وحكماً من أهلها). ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه، وتوكل هي حكمها في الاختلاع، فيجتهدان -أي: الحكمان- ويأمران الظالم بالرجوع، أو يفرقان إن رأياه. قال سبحانه: (( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )). (إن يريدا) قيل: الزوجان، وقيل: الحكمان، (إصلاحاً) يعني: بصدق نيتهما فيه. (( يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )) يعني: بين الزوجين، أي: يقدرهما على ما هو الطاعة من إصلاح، أو تفريق. (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا )) بكل شيء (( خَبِيرًا )) بالبواطن كالظواهر.

    مهمة الحكمين بين الزوجين ومدى سلطتهما

    قول السيوطي رحمه الله تعالى: ويوكل الزوج، فيه اشتراط التوكيل وهو مذهب الشافعي والأحناف، ومعنى يوكله: أن صاحب السلطة الحقيقية هو الزوج لا الحكم؛ لأن مهمة الحكمين عند الشافعية والأحناف منحصرة فقط في الإصلاح، وليس لهما أي طريقة غير الإصلاح بين الزوجين إلا بتفويض من الزوجين. أما مذهب مالك فيمنح الحكمين حق الحكم بالتفريق من دون توكيل الزوجين لهما؛ لأن الحكم نفسه لا يكون حكماً إلا إذا كان له سلطة في اتخاذ مثل هذا القرار، فعند المالكية لا يفتقر إلى التوكيل؛ لأنه بوصفه حكماً له حق الطلاق حسبما يتفقان، أما عند الشافعية والأحناف فلا بد من التوكيل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)

    قال تبارك وتعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36]. (واعبدوا الله) وحدوه، (ولا تشركوا به شيئاً) كما جاء في الحديث المشهور من حديث معاذ أنه قال: (ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن يدخلهم الجنة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. تنزل (( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )) أي: أحسنوا بالوالدين إحساناً، يقدر فعل قبله وهو: وأحسنوا. وهذا مما يبين عظم بر الوالدين، حيث إن الله سبحانه وتعالى يأتي به مقترناً بالأمر بعبادته، يعني: يأتي الأمر بالتوحيد ثم يليه مباشرة الأمر ببر الوالدين. (( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ))، الإحسان إلى الوالدين لا يتوقف على حياتهما، وإنما يمتد حتى بعد وفاتهما، وذلك بالدعاء لهما وبالتصدق عنهما وغير ذلك. وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:36]، يعني: القرابة. وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36]. (وبذي القربى) يعني بذلك: القرابة. (واليتامى) لأن اليتامى فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم، تنزلاً لرحمته عز وجل.

    حقيقة المسكين والفرق بينه وبين الفقير

    قوله: (والمساكين) يعني: المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فالذي يكون عنده من الأولاد الكثير ولا يستطيع أن يفي بحاجاتهم هو مسكين. وذكرت من قبل الفرق بين الفقير والمسكين، وقلنا: إذا اختلط عليكم الفرق بين الفقير المسكين فتذكروا الآية في سورة الكهف، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، إذاً المسكين هو الذي يعمل لكنه لا يفي بحاجته. أما الفقير فلا دخل له أصلاً. فتذكر قوله: (لمساكين يعملون).

    أنواع الجيران وحقوقهم في الإسلام

    قوله: (( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ))، أي: الذي قرب جواره، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال نسب ودين. إذاً الجيران نوعان: جار ذو قربى، وجار جنب، الجار ذو القربى هو الجار القريب الذي يكون قريباً منك إما بنسب أو رحم، وإما بدين فيكون مسلماً. (( وَالْجَارِ الْجُنُبِ )) أي: الجار الأجنبي. قال نوف البكالي : (الجار ذي القربى) يعني: الجار المسلم، (والجار الجنب) يعني: اليهودي والنصراني. ولا شك أن من محاسن الإسلام الاهتمام حتى بالجار الكافر حيث جعل له حقه وحرمته، ونزل في حفظ حقه قرآناً. وقد وردت الوصية بالجار في أحاديث كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وهذا متفق عليه، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يشفع الرجل دون جاره)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره. قال: فما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام إلى يوم القيامة، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)، وعن ابن مسعود (أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) يعني: بزوجة جارك. وعن أبي العالية عن رجل من الأنصار قال: (خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أنا به قائم ورجل معه مقبلٌ عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال: فقال الأنصاري: والله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل الذي كان معه مقبلاً عليه، ووقف وطال وقوفه مع هذا الرجل، حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام -يعني: أشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام من طول القيام الذي وقفه مع هذا الرجل- فلما انطلق قلت: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل فجعلت أرثي لك من طول القيام، قال: ولقد رأيت؟ قال: قلت: نعم، قال: هل تدري من هو؟ قال: لا، قال: ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، ثم قال: أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد . في هذا الحديث لنا أن نتخيل وقوف الرسول صلى الله عليه وسلم الطويل، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أقوى الناس بدناً، وكان إذا صارع أبطال العرب في المصارعة كان يصرعهم عليه الصلاة والسلام، ومع هذه القوة أشفق عليه الصحابي من طول القيام، فلك أن تتخيل ما مدة هذا القيام؟! وهذا الوقوف الطويل لم يكن في أمر وحكم عادي بل توقع الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام سيورث الجار، مع الأب والأم والابن وغير ذلك. إذاً: المسلم يتعبد الله بحفظ حقوق الجار، حتى وإن قدر على أذيته أو الانتقام منه فإنه لا يفعل ذلك؛ لأنه ينزجر خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ورعاية لحق الله، فالدافع إلى الإحسان في الإسلام هو رقابة الله سبحانه وتعالى وليس أن يقابل بالمثل. إذاً: ما نجده في مجتمعات المسلمين اليوم هو أبعد ما يكون عن آداب الإسلام، حتى إن الجار لا يعرف اسم جاره في البنايات الجديدة، ونادراً ما تجد رغبة في التقارب أو أداء حقوق الجوار، هذا إذا لم يحصل الأذية، بل تجد صوراً كثيرة من الأذى وأحياناً تكون باسم الدين، كهذا الذي يستعمل مكبرات الصوت لسماع القرآن الكريم، هذه الصورة تؤذي الشيخ الكبير والطفل والمرأة والمريض وغيرهم، هل يصح أن يستعمل القرآن بهذه الصورة التي تعرفونها لأذية الناس، فضلاً عن الحفلات والأفراح وما يكون فيها من الأذية، فهذا كله من أذى الجار وهذا من الذنوب. وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً). وروى الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر ! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)، أكثر ماءها حتى تستطيع أن توزع منه على جيرانك، وفي رواية: (إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)، ولـمسلم : (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)، يعني: غوائله وشروره ومؤامرته وأذيته، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)، يعني: الظلف الذي يكون محرقاً، والمقصود: حتى لو كان شيئاً حقيراً فأهده لجارتك، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث المتفق عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره). يقول تعالى: (( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ )) هذه الآية عامة في الجيران سواء كان الجار يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً، والمسلم له حق أعلى بلا شك، باعتبار أنه جار ذو قربى، يعني: إما أن يكون قريب المكان كما قال عليه الصلاة والسلام: (أهدي إلى أقربهما منك باباً)، ومعنى هذا: أن جار القربى مقدم على غيره حتى ولو كان غير مسلم.

    أقوال المفسرين في الصاحب بالجنب

    قال تعالى: (( وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ )). يقول السيوطي : الرقيق في سفر أو صناعة، وقيل: الزوجة. فانظر كيف أخلاق الإسلام لم تفوّت شيئاً، ما من شيء إلا فيه ما يرضي الله تبارك وتعالى ويصلح حال العباد. (والصاحب بالجنب) قال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح. وقال زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، يعني: إذا رافقك رجل في السفر فهو داخل فيمن أوصى الله بالإحسان إليه، فهو صاحب بالجنب؛ لأن الذي يرافقك في السفر كالجار. يقول الزمخشري : هو الذي صاحبك بأن يكون بجنبك. (والصاحب بالجنب) يعني: قدر أن تكون بجواره، وبجنبه، هذا معنى الصاحب بالجنب، إما يكون رفيقاً في سفر، أو جاراً ملاصقاً، أو شريكاً في تعلم علمٍ، حتى زميلك في المدرسة أو في الكلية الذي يجلس إلى جوارك هو صاحب بالجنب، والذي يجلس بجوارك في مجلس أو مسجد هو صاحب بالجنب، له حق عليك، وعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة إلى الإحسان، وقد روي عن علي وابن مسعود أنهما قالا: (الصاحب بالجنب هي المرأة) أي: الزوجة؛ لأنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك، وقد سبق أن ذكرنا قول بعض الشعراء: صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب

    وصف ابن السبيل وحكمه

    قوله : (( وَابْنِ السَّبِيلِ ))، كل هذا داخل فيمن ذكر الله تعالى ممن له حق. (( وَابْنِ السَّبِيلِ )) هو المنقطع في سفره، والمقصود به: المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به، وابن سبيل حتى لو كان ثرياً في بلده وانقطعت به السبيل فهو يستحق من الزكاة. نسب ابن السبيل إلى السبيل -الذي هو الطريق- لمروره عليه، وملابسته وملازمته له، فهو لا يستطيع أن يتحرك منه إلى بلده؛ لأنه لا يجد ما يبلغه، أو الذي يريد غير بلده لأمر يلزمه، فهذا يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه. وقال ابن بري : ابن السبيل هو: الذي أتى به الطريق، ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة (السائل) في معنى ابن السبيل؛ لأنه جاء تابعاً لابن السبيل في البقرة من قوله: (( لَيْسَ الْبِرَّ )) إلى قوله تعالى: وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177]. وقال بعضهم في تعريف ابن السبيل: ومنسوب إلى ما لم يلده كذاك الله نزل في الكتاب ومنسوب إلى ما لم يلده، أي: ابن السبيل منسوب إلى السبيل.

    حقوق الرقيق في الإسلام

    قال تعالى: (( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )) من الأرقاء المماليك؛ لأنهم ضعفاء الحيلة فهم في أيدي الناس كالمساكين لا يملكون شيئاً، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض موته بقوله: (الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة). وأيضاً موضوع الرق في الحقيقة من المواضيع المهمة جداً التي تثير كثيراً من التساؤلات، وإن شاء الله فيما بعد نفصل الكلام في موضوع الرق في الإسلام. وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: (هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: انطلق فأعطهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وهذا رواه مسلم ، يعني: يحبس عمن يملك قوته كالمملوك وغيره. فقال عليه الصلاة والسلام: (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يطعمه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين؛ فإنه ولي حره وعلاجه) متفق عليه. فهذه من الآداب التي ينبغي أن يلتزم بها المسلم تجاه الخادم؛ لأنه الذي يعينه على تحصيل قوته، فهو يشتري الطعام ويتولى إنضاجه وطبخه وغير ذلك، ثم تستأثر أنت به، ويجلس هو يتأذى بريح القدور، هذا ليس من أدب الإسلام في شيء، لكن أكمل صورة أن تجلسه معك، ويشاركك في الطعام، فإن لم تجلسه معك فناوله لقمة أو لقمتين؛ لأنه هو الذي ولي حره، وهو الذي عالج هذا الطعام حتى نضج فصار له فيه شيء من الحق. وقال صلى الله عليه وسلم في هؤلاء العبيد والرقيق: (إخوانكم خولكم -يعني: ملككم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) متفق عليه.

    ذم الاختيال والفخر والدافع لهما

    قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا )). (مختالاً) أي: متكبراً عن الإحسان إلى من أمر ببره. لماذا الاختيال بالذات؟ لأن الاختيال قد يكون كبراً، وقد يكون هو المانع الذي يمنع الرجل الذي أنعم الله عليه بالنعم أن يحسن إلى من أُمر ببره، فتجد الرجل الغني قد يستنكف عن أن يجلس بجوار خادمه أو رقيقه، وغير ذلك. (فخوراً) هو الذي يعدد مناقبه ويقول: أنا فعلت وفعلت وغير ذلك تكبراً واختيالاً. إنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع؛ لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبراً فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، بل يتجاهل حقوق الناس ومنزلتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس). (فخوراً) أي: أنه لا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة؛ بل لرد أمر الله تبارك وتعالى. عن أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ الملَكة وسيئ الخلق وحسوداً إلا وجدته مختالاً فخوراً، هذه صفة أساسية، وتلا هذه الآية: (( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا )). ثم قال: ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، وتلا قوله تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32] ، وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر الكثير من الأدلة من الكتاب والسنة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ...)

    قال تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37]. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) أي: يبخلون بما يجب عليهم من الحقوق. (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي: هم في أنفسهم لا ينفقون ويعز عليهم أن يروا غيرهم ينفقون في سبيل الله تبارك وتعالى، فيبخلون بما في أيديهم، وكذلك يبخلون بما في أيدي غيرهم، فتراهم يأمرون الناس بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء ممن وجد، وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره، يقول الشاعر: وإن امرأً ظنت يداه على امرئ بنيل يد من غيره لبخيل يقول الزمخشري : ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل من إذا طرق سمعه أن أحداً جاد على أحد سقط به وحل حبوته، واضطرب ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته ضجراً من ذلك وحسرة على جوده. (( وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ))، أي: من المال والغنى، يكون الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم النعم والغنى فيظهرون الفقر ويكتمون هذه النعم؛ كذلك إذا كانوا موسرين يظهرون الإعسار والعجز بقدر إمكانهم. (( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ))، فهو وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذابٌ يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: الذين يبخلون بما يجب عليهم ويأمرون الناس بالبخل، (( وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ )) من العلم والمال، وهم اليهود كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم على محمد صلى الله عليه وسلم إنما نخشى عليكم الفقر، وكانوا أيضاً يكتمون ما علموه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون الحق وهم يعلمون خبر المبتدأ في قوله: (وأعتدنا) محذوف تقديره: لهم وعيد شديد. (للكافرين) بذلك وبغيره، (عذباً مهيناً) أي: ذا إهانة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم... ويؤت من لدنه أجراً عظيماً)

    وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:38-40]. قال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38] (والذين) عطف على الذين في الآية قبلها. (ينفقون أموالهم رئاء الناس) يعني: مرائين لهم. وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38] يعني: كالمنافقين وأهل مكة، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا [النساء:38] أي: صاحباً يعمل بأمره كهؤلاء. فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]، أي: فبئس القرين هو. قال تعالى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [النساء:39] يعني: أي ضرر عليهم في ذلك؟ والاستفهام للاستنكار و(لو) مصدرية، أي: لا ضرر فيه، وإنما الضرر فيما هم عليه من البخل والشح، وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:39] أي: فيجازيهم بما عملوا. قال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]. (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ) أحداً (مِثْقَالَ) أي: وزن (ذَرَّةٍ) ويطلق على أصغر نملة، بأن ينقصها من حسناته أو يزيدها في سيئاته. الله عز وجل منزه عن هذا القدر الضئيل من الظلم، فلا يزيد في السيئات مثقال ذرة، ولا ينقص من الحسنات هذا المثقال. ثم قال تعالى: (( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ))، وإن تك هذه الذرة حسنة -شريطة أن تكون من مؤمن- فإنه يضاعفها، وإن قرئت: (وإن تك حسنةٌ) بالرفع على أن (كان) تامة، وحسنة: تكون فاعلاً فجائز. قوله: (يضاعفها) أي: من عشر إلى أكثر من سبعمائة، وفي قراءة: (وإن تك حسنةً يُضَعّفْها) يعني: الله سبحانه وتعالى من عدله إذا هم الإنسان بالسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه بها شيء، أما إذا هم بها فعملها ففي هذه الحالة تكتب عليه سيئة. أما المكفرات فكثيرة جداً التي قد يكفر بها عنه، أما الحسنة فبعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف بعد ذلك لمن يشاء فوق السبعمائة ضعف، وفي ذلك قال بعض العلماء: الويل لمن غلبت آحاده عشراته. يعني: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله عز وجل، والسيئة بمثلها إلا أن يعفو الله عنها، فهذا الرجل عنده رصيد من الخطايا والآثام -التي هي بالآحاد- غلبت العشرات بل المئات من الحسنات، معنى ذلك: أن هذا إنسان مصر على معصية الله عز وجل، ومتفنن في ذلك، حتى إن آحاده غلبت عشراته، فمثل هذا يستحق فعلاً أن يهلك والعياذ بالله، فلا يهلك على الله إلا هالك. قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ )) لا يبخس أحداً من ثواب عمله، ولا يزيد في عقابه شيئاً مقدار ذرة، وهي النملة الصغيرة في قول أهل اللغة، قال ثعلب : مائة من الذر زنة حبة شعير، يعني: المقصود بهذه الآية ضرب المثل بأقل الأشياء، ولا نحتاج إلى التعسف من بعض الناس حيث يقومون بحمل ألفاظ القرآن الكريم على ما استحدث من الاصطلاحات الآتية، كأن يتكلم بعضهم عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فيقول: القرآن أخبر بأن الذرة ليست هي أصغر مكونات المادة، بل هنا الذرة تنقسم إلى الإلكترونات، أو النيترونات إلى آخره، ويقول: القرآن الكريم يبين ذلك، أين هذا أيها المدعي؟! فيقول: (( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ )) إلى قوله: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ [سبأ:3]، أي: أن هناك أصغر من الذرة. لكن كلمة (الذرة) إذا أطلقت في العرف أو في لغة العرب فإن أذهانهم تنصرف إلى هذا المعنى الصارف الآن. الذرة بسهولة عند العرب أصغر شيء في نظرهم، حتى إنهم كانوا يقولون: هي النملة الصغيرة، فخرج الكلام هنا على أصغر شيء يعرفه الناس. ونحن إذا عرفنا ما هو أصغر من الذرة، فهل الله عز وجل يظلم أقل من الذرة؟ الله عز وجل منزه عن الظلم: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). (( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا )) أي: يضاعف ثوابها، (( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ )) أي: زيادة على هذه الأضعاف، (من لدنه) أي: بما يناسب عظمته على سبيل التفضل. (( أَجْرًا عَظِيمًا )) أي: عطاءً جزيلاً، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً، منها: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الشفاعة الطويل يقول الله عز وجل: (ارجعوا، فمن وجدتم معه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار. وفي لفظ: (أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوهم من النار، فيخرجون خلقاً كثيراً). ثم يقول أبو سعيد اقرءوا إن شئتم: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ))).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ...)

    يقول تبارك وتعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]. كيف يكون حال هؤلاء الكفار؟! علاقة هذه الآية بما قبلها أن الله تبارك وتعالى بين في الآخرة أنه لا يظلم أحداً، وأنه تعالى يجازي المحسن بإحسانه ويزيده على فضل حقه. فبين تعالى في هذه الآية أن عملية الحساب والجزاء بالحسنات والسيئات كذلك يتم بحضور الرسل وشهادتهم، الذين جعلهم الله الحجة على خلقه، لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتنكيل له أعظم، وحسرته أشد، ويكون السرور ممن أظهر الطاعة أعظم، وهذا وعيد للكفار الذين قال الله فيهم: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ))، ووعد للمطيعين الذين قال الله فيهم: (( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ))، وعادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه فيما بعد: كيف بك إذا كان كذا وكذا؟! كيف بك إذا فعل فلان كذا وكذا؟! أو كيف بك إذا جاء وقت كذا؟! (فكيف إذا جئنا) أي: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، واستشهدك على هؤلاء؟! يعني: المخاطبون بالقرآن هم قومه الذين شاهدهم وعرف أحوالهم. ثم إن كل أهل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة:117]، ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ [النحل:89]، صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ، فقال: حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم)، معنى ذلك: أن الرسول عليه الصلاة والسلام بكى تعظيماً لهذا الموقف حين يكون في موقف الشاهد، وهذا حال الشاهد صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون حال المشهود عليه؟! وكان عليه الصلاة والسلام يبكي ويشفق من ذلك الموقف، حتى قال: (شيبتني هود وأخواتها)، لما فيها من تصوير أهوال يوم القيامة، وهو صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفضله على العالمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ )) كيف يكون حال هؤلاء الكفار إذا جئنا من كل أمة بشهيد -وهو نبيها- يشهد عليها بعملها، (وجئنا بك) أي: يا محمد صلى الله عليه وسلم (على هؤلاء شهيداً).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول...)

    يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [النساء:42]. (يومئذ) أي: يوم هذا المجيء. (يود الذين كفروا لو) (لو) بمعنى: أن المصدرية. (تسوى) بالبناء للمفعول أو بالبناء للفاعل، مع حذف إحدى التاءين بالأصل، ومع إدغامها في السين، يعني: تقرأ: (وعصوا الرسول لو تُسَوّى) أو: (لو تَسّوّى بهم الأرض) يعني: يتمنون بأن يكونوا تراباً مثلها لعظم هول ذلك اليوم. (( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ )) أي: يتمنون أن يتحولوا إلى تراب، كل أمتي يوم القيامة في هذا الموقف؛ حتى لا يحاسبوا ولا يعذبوا، كما قال تبارك وتعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]. قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42] أي: أنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، فهم لا يقدرون على كتمانه؛ لأن جوارحهم هي التي ستشهد عليهم، فهم يودون أن يدفنوا في الأرض حال كونهم لا يكتمون الله حديثاً، ولا يكذبونه بقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] أي: مع كل الجرائم التي ارتكبوها في الدنيا يأتون يوم القيامة وهم يحسبون أن الكذب يمكن أن ينجيهم، فأي حيلة يتوقعون منها فائدة يسلكونها؛ فلذلك يحلفون أمام الله سبحانه وتعالى يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، كما روى ابن جرير عن الضحاك : أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (يا ابن عباس ، قول الله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا . وقوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]...) كأنه يسأل عن الجمع بين هاتين الآيتين؛ لأن فيها نوعاً من الإشكال فهو يستوضح، فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك، فقلت: ألقي على ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد فيقول المشركون: إن الله لا يتقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نجحد، فسألهم فقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، قال: فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755799502