إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [8-20]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول الله تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أي: أن هؤلاء الناس المقصود بهم المنافقون، وكلمة الناس أصلها أناس، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً، وإذا دخلت (أل) على كلمة أناس فإنه يلزم أن تحذف هذه الهمزة، فلا يقال: الأناس، ولكن يقال: الناس، فحذف الهمزة مع لام التعريف كاللازم.

    وسموا ناساً؛ لظهورهم ولأنهم من المخلوقات التي يؤنس بها وترى تظهر بعكس الجن، فإن الجن يختفون عن الأعين، وسموا جناً؛ لاجتنانهم واختفائهم، وكلمة الجن تأتي في كل ما خفي، يقول عز وجل: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ[الأنعام:76]، والجنين في بطن أمه، والمجنون؛ لأنه غاب عقله؛ كذلك الجنة؛ لأنها لا ترى الآن.

    إذاً الجن سموا بالجن؛ لاجتنانهم، والإنس سموا إنساً؛ لأنهم يؤنسون ويبصرون ويشاهدون.

    وقيل: سموا إنساً من الأُنس، وهو ضد الوحشة، والقول الأول أولى.

    قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ يعني: يوم القيامة؛ لأنه آخر الأيام.

    قوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ روعي في قوله تعالى: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ معنى كلمة (مَنْ)؛ لأن التعبير عن جماعة؛ ولذلك قال تبارك وتعالى: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ .

    يقول تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ على أساس أن اللفظ على واحد، لكن بعد ذلك قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ روعي معنى كلمة (مَنْ) التي تعبر عنهم بالجمع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون)

    قال الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، لفظ (المخادعة) بوزن المفاعلة، هي استعمال الخدع من الجانبين، وهذه المخادعة هي إظهار الخير واستبطان الشر، ومخادعة الله سبحانه وتعالى، هي مخادعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[النساء:80]، أما خداع المنافقين على القول بأن المخادعة تستوجب مقابلة الخداع من الطرفين، فهناك خداع من الله سبحانه وتعالى والمؤمنين وهناك خداع من المنافقين للمؤمنين، فأما خداع المنافقين بأنهم يظهرون الإيمان والمحبة، ويبطنون الكفر والعداوة، من أجل إجراء أحكام الإسلام عليهم، وحقن دمائهم وتحصين أموالهم وغير ذلك، لكن عاقبتهم وخيمة فقد فضحهم الله في الدنيا بالوحي؛ وفي الآخرة يكونون في الدرك الأسفل من النار.

    والفرق بين خداع المنافقين وخداع الله سبحانه وتعالى والمؤمنين إياهم أن خداع المنافقين لا ينجح ولا يكون له مفعول وأثر إلا على أنفسهم، فيعود وبال هذا الخداع على أنفسهم بإهلاكها وإشقائها، أما خداع الله سبحانه وتعالى فإنه يؤثر فيهم أبلغ التأثير، كما قال تبارك وتعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[آل عمران:54].

    يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا[البقرة:9] بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر؛ ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية.

    فالمنافقون يظهرون الإسلام؛ ليدفعوا أحكام الكفر عنهم: كالقتل والأسر وضرب الجزية عليهم.

    قوله: (وما يخادعون إلا أَنْفُسَهُمْ) وفي القراءة الأخرى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ يقول السيوطي : لأن وبال خداعهم راجع إليهم، فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة.

    قوله: (وما يشعرون) يعني: وما يعلمون خداعهم لأنفسهم، والمخادعة هنا من واحد.

    فالإمام السيوطي يرجح أن المخادعة هنا ليست مفاعلة تقتضي خداعاً من الجانبين على النحو الذي بيناه، فهو يرى أن المخادعة هنا من واحد تماماً كقولك: عاقبت اللص، هل المعاقبة هنا من الطرفين؟ فهذه الصيغة أيضاً تقتضي وقوع المعاقبة من طرف واحد.

    ثم يقول: وذكر الله فيها تحسين، في قراءة (وما يخادعون).

    هذه قاعدة لا بد أن نستصحبها حينما يعبر الإمامان الجلالان عن القراءة، فإذا قال واحد منهم في قراءة، فهذه العبارة يشير بها كل من الجلالين إلى القراءة التبعية أو القراءة التي في العشرة، أما القراءة الشاذة، فيوهمون إليها بقولهم: (قُرئ) فهذه تكون إشارة إلى أن هذه قراءة شاذة؛ ولذلك هنا: القاضي كنعان في هذه الطبعة أضاف بعد كلمة (قرئ) كلمة: شذوذاً؛ حتى لا ينسى القارئ هذا المعنى.

    يقول: وفي قراءة (وما يخادعون إلا أنفسهم).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ...)

    يقول تبارك وتعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] المرض هو: السقم، وسبب المرض هذا عندهم ضعف يقينهم وضعف دينهم، فكما توصف قلوب المنافقين بالمرض والسقم، كذلك توصف قلوب المؤمنين بالسلامة، كما قال تبارك وتعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ[الشعراء:88] * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الشعراء:89].

    أو المقصود من قوله: (في قلوبهم مرض) يعني: مرض الشك ومرض التردد؛ لأن المنافق متردد، كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ[النساء:143]، وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام واصفاً المنافقين: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تَعِْيُر إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة، ومعنى العائرة: هي المترددة.

    فالمرض هنا المراد به التردد، فهم يذهبون لا يعرفون اليقين ولا الجزم، فمعنى: (في قلوبهم مرض) يعني: التردد والشك؛ لأن سمة المنافق التردد؛ ولأن المريض متردد بين الحياة والموت.

    قوله: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا يعني: فزادهم مرضاً آخر من حقد وحسد وغل بإعلاء كلمة دينه ونصرة رسوله والمؤمنين، فبالتالي ازداد المرض الذي في قلوبهم.

    الفرق بين عذاب الكافرين وعذاب المنافقين

    قوله: (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم موجع، يبلغ إيجاعه غاية البلوغ. ومنه يعلم إيثار كلمة (أليم) في عذاب المنافقين على (عظيم) المتقدم في عذاب الكافرين، فإن الله سبحانه وتعالى قال قبل ذلك عن الكافرين: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] أما المنافقون فلأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولأنهم أسوأ حالاً من الكافرين، عبر عن عذابهم بالأليم، لأنه بالغ في الإيلام الغاية العظمى!!

    الكذب من الأسباب الموجبة للعذاب

    قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) هذه الباء إما للسببية، أو للمقابلة، يعني: إما أن المعنى: (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) بسبب كذبهم، وهو قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر) وهم غير مؤمنين. أو (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) أي: في مقابلة كذبهم حين قالوا: (آمنا بالله وباليوم الآخر). وفي هذه الآية تقبيح للكذب وتنفير منه. قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) إشارة إلى أن السبب في عذابهم واستحقاقهم هذا الوعيد هو أنهم كانوا يكذبون، ومعلوم أن الكذب أحد الأسباب الموجبة لتعذيبهم، أما الأسباب الأخرى فهي كثيرة ومعروفة كما سيتضح في هذه الآيات، لكن قد يعبر الله سبحانه وتعالى عن إهلاك الكافرين أحياناً ببعض الذنوب؛ تنفيراً منها وتغليظاً في حق فاعليها واستعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها، كما قال تبارك وتعالى في شأن قوم نوح عليه السلام: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]، وقوم نوح كانوا كفرة، فإهلاكهم إنما كان بسبب كفرهم بجانب المعاصي، فتعظيماً لشأن الخطايا التي تدنسوا بها جعل السبب في تعذيبهم هو الخطيئات؛ استعظاماً لها وتنفيراً عنها فقال: (مما خطيئاتهم أغرقوا) وقال: هنا: (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون). إذاً: معنى قوله: (( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )) أي: شك ونفاق أمرض قلوبهم وجعل اليقين فيها ضعيفاً. قوله: (فزادهم الله مرضاً) أي: بما أنزله من القرآن لكفرهم به؛ لأنه لا يجالس أحد القرآن إلا قام منه بزيادة أو نقصان، أما المؤمن فيزيد إيمانه، وأما الكافر فيزداد رجساً إلى رجسه، كما يقول تبارك وتعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124] إلى آخر الآيات، كذلك يقول تبارك وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]. قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) وفي قراءة أخرى: (بما كانوا يكذّبون) بالتشديد، أي: بما كانوا يكذبون نبي الله عليه الصلاة والسلام، وبالتخفيف بما كانوا يكذبون في قولهم: (( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)

    قال تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) هذه بداية بنهيهم عن المنكر، ثم ثنى بعد ذلك بأمرهم بالمعروف؛ كي تتم النصيحة، ففي هذه الآية قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ فهذا نهي عن المنكر، وفي الآية الثانية قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ[البقرة:13] وهذا أمر بالمعروف، كي تستوعب النصيحة لهم.

    وهنا شَرَعَ تبارك وتعالى في تعديد بعض من مساوئهم المتفرعة والنابعة عن نفاقهم وكفرهم، حيث قال: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ الفساد في الأرض مثل: تهييج الحروب وإثارة الفتن، كما قال عز وجل: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ[البقرة:205] ومعنى إفساد المنافقين في الأرض: أنهم يمالئون الكفار على المسلمين ويفشون أسرار المسلمين للكفار، وبالتالي يظهرون الكفار بقتال المسلمين ويجرئونهم على نصب الحرب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لطمعهم في الغلبة عليهم.

    قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ يعني: لا تتسببوا بهذا الذي تفعلون في تهييج الحروب وتأليب الكافرين على المؤمنين.

    قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني: هم تصوروا إفسادهم في صورة الإصلاح؛ لأن في قلوبهم مرضاً.

    وإذا مرض قلب الإنسان فإنه تنقلب عنده القيم وتنعكس عنده الموازيين، فرأوا فسادهم إصلاحاً، وزين لهم هذا الإفساد فحسبوه إصلاحاً، قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ كقوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا[فاطر:8] فهذا تزيين، وكما قال تبارك وتعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا[الكهف:104].

    قال بعض المفسرين: قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني: بين المؤمنين وأهل الكتاب، وقوله تعالى عنهم: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا[النساء:62] أي: نحن مصلحون بين المؤمنين وبين أهل الكتاب، فنحن نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)

    يقول تبارك وتعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] يعني: لا يشعرون بكونهم مفسدين، وهذه الآيات عند عامة المفسرين على أنها في المنافقين؛ لكن من المشايخ المعاصرين وهو أبو الفيض الغماري في كتاب له يتحدث فيه عن إخبار النبي عليه الصلاة والسلام ببعض الأمور الغيبية، فزعم وقال في كتابه حينما تعرض لهذه الآيات: إن هذه الآيات ليس المراد بها المنافقين الأوائل، وإنما المراد بها أهل هذا العصر من المنافقين أو العلمانيين الذين يصورون أعمالهم في الأرض بصورة الإصلاح.

    وذكر من وجوه كثيرة انطباق هذه الصفات كلها عليهم، خاصة أنهم مولعون باستعمال عبارة الإصلاح الديني، وإذا مدحوا واحداً سموه مصلحاً، واليوم يسمونه مفكراً إسلامياً مستنيراً.

    فأفاض في ذلك فلا نطيل بذكر التفاصيل، وإنما يُكتفى بمثل هذه الإشارة، أما مظاهر الإصلاح الديني فتعبير خبيث لا يجوز أبداً أن يطلق مثل هذا التعبير، فالذي يحتاج إلى إصلاح هو واقع الناس، أما دين الله فلا يحتاج إلى إصلاح، الإصلاح إنما يكون لما يطرأ عليه فساد، أما الدين فهو وضع إلهي سائغ لذوي العقول السليمة؛ لما فيه صلاح دنياهم وسعادة أخراهم، هذا هو الدين وكله صلاح، فعبارة (الإصلاح الديني) عبارة خبيثة، يراد بها إدخال البدع، وتحريف لمعاني الإسلام بحجة الإصلاح، فترى القوم مولعين بهذه التعبيرات، فلان مصلح ديني، أو مصلح اجتماعي مع أنه من أشد المفسدين في الأرض: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ...)

    يقول تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا يعني: هذا أمر بالمعروف بعد نهيهم عن المنكر في قوله: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11].

    قوله: (كما آمن الناس) يعني: كما آمن الناس الكمّل وهم المؤمنون؛ لأن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، فالمقصود هنا بالناس هم المؤمنون.

    قوله: قَالُوا أَنُؤْمِنُ هذا استفهام في معنى الإنكار، أي: هم يستنكرون على من يأمرهم بذلك، يقولون: (أنومن! كما آمن السفهاء) فسموا المؤمنين الكمّل سفهاء.

    والسفه: هو خفة وسخافة في الرأي يورثهما قصور العقل، وقلة المعرفة بمواضع المصالح والمضار، وقد وصف الله تبارك وتعالى النساء والصبيان (بالسفهاء) بهذا الاعتبار؛ لعدم إحسانهم تقدير عواقب الأمور وميزانها بالميزان الصحيح حيث قال عز وجل: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا[النساء:5].

    إذاً: هؤلاء المنافقون كانوا في يسار وسعة عيش، وكانوا في رياسة وجاه، وكان أكثر المؤمنين فقراء، منهم الموالي: كـصهيب وبلال وخباب رضي الله تعالى عنهم أجمعين فدعوهم سفهاء؛ تحقيراً لشأن هؤلاء الصحابة؛ لأنهم ضعفاء، لذلك فقد ذكر أبو سفيان لـهرقل حينما سأله: أضعفاء الناس اتبعوه أم وجهاؤهم وأشرافهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: كذلك أتباع الأنبياء.

    الشاهد هنا أن قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ أي: الصحابة أو المؤمنون.

    قوله: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ يعني: الفقراء الضعفاء كـصهيب وبلال وخباب وغيرهم، نحن لا نفعل كفعلهم، فقال الله تبارك وتعالى رداً عليهم وذباً عن هؤلاء المؤمنين: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ يعني: لا يعلمون ذلك، فكأن السفاهة كلها منحصرة فيهم هم لا في غيرهم ولا تخرج عنهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا...)

    يقول تبارك وتعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] قوله: وَإِذَا لَقُوا (لقوا) أصلها إذا لقيوا فحذفت الضمة للاستثقال، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو، ثم ضمت القاف للمناسبة، فأصلها لقي فصارت لقوا.

    قوله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا يعني: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة نفاقاً ومصانعة وتَقيَّة، وليشركوهم فيما أصابوه من الخير ومن المغنم.

    قوله: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يعني: إذا خلوا منهم ورجعوا إلى شياطينهم وجلسائهم: قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ يقال: خلوت بفلان أو خلوت إلى فلان، يعني: انفردت معه وخلا تكون بمعنى مضى في تفسير آخر إما أن يقال: (وإذا خلوا) يعني: انفردوا عن المؤمنين وصاروا منفردين بشياطينهم ورؤسائهم وأصحابهم، أو يقال: خلا بمعنى مضى، ومنه قولنا: القرون الخالية، يعني: السالفة والماضية.

    قوله: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يعني: إلى أصحابهم أولي التمرد والعناد، والشيطان يكون من الإنس ويكون من الجن، والدليل قوله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا[الأنعام:112].

    قوله: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يعني: إضافتهم إليهم؛ لأنهم مشتركون معهم في الكفر، ومن ثم أضافهم إلى شياطينهم.

    قوله: قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي: اطمئنوا نحن معكم وعلى ما أنتم عليه.

    قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ يعني: إنما نحن في إظهارنا الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم.

    يقول السيوطي رحمه الله تعالى: وَإِذَا خَلَوْا منهم ورجعوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ رؤسائهم.

    قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ في الدين.

    إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بهم بإظهار الإيمان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون...)

    يقول عز وجل: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15]. (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يعني: الله سبحانه وتعالى يسخر بهم. قوله: وَيَمُدُّهُمْ يعني: يزيدهم على وجه الإملاء والاستدراج والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]. والطغيان هو: مجاوزة الحد، والشاهد من القرآن قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11] ومنه أيضاً كلمة الطاغوت. قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ذكر الله سبحانه أنه يستهزئ بهم، لكن لم يبين هنا تفاصيل هذا الاستهزاء، وقد بينه في سورة الحديد في قوله تبارك وتعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:12-13] فهذا هو استهزاء الله تبارك وتعالى بهم جزاء وفاقاً، والجزاء من جنس العمل. قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ العمه بالهاء مثل العمى؛ لكن الفرق أن العمى عام في البصر وفي الرأي، أي: العمى في البصيرة وفي البصر، أما العمه فهو خاص بالرأي، وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه؛ ولذلك يقول: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي: يزيدهم حيرة وتردداً وضلالاً. قوله: (في طغيانهم) فيه إشارة إلى أن هذا الطغيان غمرهم دنسُه وعلاهم رجسُه، حتى غرقوا في هذا الطغيان، فهم يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، حيثما يمموا لا يرون إلا هذا الضلال، وهذا التردد، وهذا الطغيان!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ...)

    يقول تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] قوله: (أولئك) إشارة للبعد؛ للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء حالهم.

    قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ الضلالة هي الجور عن القصد، والمقصود بها هنا العدول عن الصواب في الدين، قوله: (بالهدى) يعني: بالتوجه إلى الضلالة بدل الهدى، والمقصود بالهدى هنا الاستقامة على الدين.

    قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ يعني: كأن الهدى شيء هم متمكنون منه ويمسكونه بأيديهم ويملكونه ملكية كاملة، فجعلوا لتمكنهم من الهدى وسهولة وصولهم إلى الهدى لتيسير أسبابه كأنه في أيديهم، بل إنهم يتصرفون فيه كتصرف المالك.

    قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ معلوم أن الشراء هو استبدال السلعة بالثمن، وأخذ السلعة بدلاً من الثمن أخذاً منوطاً بالرغبة فيها.

    والإعراض عنه.

    يعني: أنت إذا أردت أن تشتري أي جهاز مثلاً، وسعره غالٍ مثلاً فكيف تتم عملية الشراء؟ تتم بأن تستبدل السلعة بالثمن، وما تفعل ذلك إلا لأنك تأخذ السلعة، فتضحي بالمال مقابل أن تنال السلعة، فهذا أصل عملية الشراء، فهذا الأخذ وهذا التبديل بين السلعة والثمن هو أخذ منوط بالرغبة في السلعة والإعراض عن الثمن، وتقبل مكانه وبدلاً منه هذه السلعة، فكذلك هؤلاء كأن الهدى كان معهم وكأنهم متمكنون منه، زهدوا فيه ورغبوا عنه، واستبدلوه بالسلعة التي هي الضلالة، يقول عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.

    قد يقول قائل: كان يكفي لو أن الله سبحانه وتعالى اختصر على قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى[البقرة:16]؛ لأنها تشير إلى نفس هذا المعنى؛ لكن بلا شك أن مثل هذا التعبير والتتميم يزيد المعنى وضوحاً، فهذه من مسالك البلغاء والفصحاء، كما في قول الخنساء ، تصف أخاها صخراً تقول:

    وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نارُ

    وإن صخراً لتأتم الهداة به.

    يعني: هو إمام للهداة والأدلة.

    كأنه علم يعني: جبل عال مرتفع شامخ، لم تقتصر على هذا حتى أضافت قولها: في رأسه نار.

    يعني: لم تكتفي بوصفه أنه جبل مرتفع حتى أضافت إلى ذلك اشتعال النار في رأسه من شدة الوضوح.

    فقوله تبارك وتعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ هذه إشارة إلى أنهم لا يفقهون في التجارة وما يستجلب الربح؛ فهم قد خسروا أعظم خسارة؛ لأنهم خسروا رأس المال هو هذه الهداية وهذا الهدى؛ فلذلك قال تبارك وتعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ .

    وعلى هذا الأساس ذهب بعض المفسرين إلى تفسير قوله تعالى: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ بقوله: ليس المقصود بقوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ أي: الهداية الدينية فقط، لكن المقصود أنهم لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم إلى طرق التجارة؛ لأنهم ليسوا خبراء بالتجارة، ولم يهتدوا إلى طرق التجارة الصحيحة، وهي: تحصيل أقصى قدر من الربح فضلاً عن ثبات رأس المال، فشأن التجار البصراء بالأمور الحرص على أعظم ربح ممكن، أما إذا أتى رجل يدعي أنه تاجر ثم إذا به يضيع الربح من أصله ثم يفقد أيضاً رأس المال فبلا شك أن هذا دليل على أنه غير مُلِمِّ بأساليب التجارة الرابحة، شأن التجار البصراء الذين عندهم بصيرة وعلم وخبرة بهذا العلم.

    1.   

    تفسير السيوطي لقوله تعالى: (الله يستهزئ بهم) والآية التي بعدها

    يقول الإمام السيوطي رحمه الله تبارك وتعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي: يجازيهم باستهزائهم. (وَيَمُدُّهُمْ) أي: يمهلهم. (فِي طُغْيَانِهِمْ) بتجاوزهم الحد في الكفر. (يَعْمَهُونَ) يترددون تحيراً، والجملة في محل نصب حال. وقوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) أي: استبدلوها به. (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) أي: ما ربحوا فيها؛ بل خسروا لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) أي: فيما فعلوا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ...)

    ثم ضرب الله تبارك وتعالى هذين المثالين لأحوال هؤلاء المنافقين يقول تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17].

    قوله: (مثلهم) أي: صفتهم في نفاقهم.

    كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا أي: مثل من أوقد ناراً، وقدر الإمام السيوطي هنا: ناراً في ظلمة.

    لا بد أن يكون المعنى كذلك حتى يتم هذا المثل، انظر إلى دقة تفسيره، يقول: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ يعني: أوقد ناراً في ظلمة.

    وهذا مأخوذ من سياق الآيات: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ .

    قوله: نَارًا التنكير للتعظيم، يعني: أنه أوقد ناراً عظيمة في وسط هذه الظلمة.

    قوله: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ أي: فلما أضاءت هذه النار ما حوله فأبصر واستدفأ وأمن مما يخافه.

    هذه فوائد النار: أنها تعطي الدفء في البرد، وتعطي الإضاءة والهداية والرؤية، وأيضاً الأمن مما يخاف.

    قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يعني: أطفأه، وجمع الضمير مراعاةً لمعنى: (الذي) ذهب الله بنورهم؛ لأن معنى (الذي) يشير إلى هذا الجمع.

    يعني: أطفأ نارهم التي هي مدار نورهم فبقوا في ظلمة وخوف.

    قوله: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ أي: حتى لا يبصروا ما حولهم فيبقوا متحيرين على الطريق خائفين.

    وتأمل هنا قوله تبارك وتعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ كان يمكن أن يقول: (ذهب نورهم) لكن قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فهذا فيه إشارة إلى فقدانهم معية الله سبحانه وتعالى، لم يعد لهم المعية الخاصة التي هي للمؤمنين، ولم يعد لهم حظ من قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[طه:46].

    ولا من قوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[النحل:128].

    وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ[الأنفال:19] فهذه إشارة إلى فقدانهم هذه المعية الخاصة التي هي إنما تكون للمؤمنين.

    أيضاً قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل: بنارهم؛ لأن النار لها فائدتان: الإشراق، والإحراق، فالإشراق هو النور، والإحراق هو النار، فبين هنا أن الله سبحانه وتعالى أذهب عنهم الإشراق الذي هو النور، وأبقى لهم الإحراق وهو العذاب بالنار.

    قوله: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لم يقل: ذهب الله بضوئهم؛ لأنه لو قال: ذهب الله بضوئهم، فيحتمل أن يبقى معهم أصل النور، لكن نفى عنهم أصل النور ومنع عنهم مادة النور بقوله تبارك وتعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي: أطفأه.

    قوله: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ هنا جمع كلمة (ظلمات) وهذا شأن الله سبحانه وتعالى في التعبير عن الحق والباطل، فالباطل لا يكاد ينحصر، وطرق الضلال كثيرة جداً، والأديان الباطلة والمذاهب الضالة لا تنحصر؛ ولذلك دائماً يعبر عنها القرآن بصيغة الجمع، تجدون في القرآن دائماً: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ[البقرة:257]، وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ[الأنعام:1] إذاً: دائماً تجد في القرآن الظلمات مجموعة والنور مفرداً؛ لأن الطريق إلى الله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وإنما الذي يتعدد هو الباطل.

    لكن كيف نجيب عمن يقول في قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ[المائدة:16]: إن سبل السلام هنا جاءت بصيغة الجمع؟!

    نعم، سبل السلام هي أنواع الخيرات وأنواع الطاعات المتعددة، لكنها كلها تصب في طريق واحد، وهو هذا النور، وهو هذا السبيل الذي هو سبيل الله؛ ولذلك لما خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً في الأرض قال: هذه سبل الله -أو هذا سبيل الله-، ثم رسم على جنبتيه خطوطاً متفرقة، وقال: هذه سبل على رأس كل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا قوله تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153] .

    قوله: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ يعني: لا يبصرون ما حولهم فهم متحيرون عن الطريق خائفون؛ فكذلك ارتباط المثل بصفة المنافقين الذين آمنوا بإظهار كلمة الإيمان، فاستمتعوا بها واستفادوا منها بحفظ أموالهم ودمائهم، وجريان أحكام الإسلام عليهم، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب وأذهب الله عنهم هذا النور عند الموت؛ بحيث يجازون على ما كانوا يُكنُّون في صدورهم لا على ما كانوا يظهرون بين الناس، فهذا هو المعنى، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ .

    وكذلك المنافق ينتفع بهذا النور الذي هو كلمة لا إله إلا الله، وبإظهارهم الإيمان والتوحيد ومحبة المؤمنين، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ انتهت فترة استفادته من هذا الإظهار بالموت، انطفأ نوره، ولم يعد ينتفع بهذا النور، فهذا حاله بعد الموت!.

    فالحاصل أنهم انتفعوا بهذه الكلمة -كلمة: لا إله إلا الله- مدة حياتهم القليلة، ثم قطع الله هذا الانتفاع عنهم بالموت، فهم إذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)

    يقو تبارك وتعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] قوله: (صم) يعني: هم صم عن الحق، فلا يسمعونه سماع قبول.

    قوله: (بكم) أي: خرس عن الخير فلا يقولونه.

    قوله: (عمي) أي: عن طريق الهدى فلا يرونه.

    قوله: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ يعني: عن الضلالة.

    فهذه إشارة إلى أن هؤلاء المنافقين قد سُدت عليهم سُبُل الهداية كلها.

    وسبل الهداية ثلاثة: سمع، وبصر، وعقل.

    إذاً: هذه إشارة إلى أن طرق الهداية سدت على هؤلاء المنافقين، فهم صم عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول، وإذا سمعوه فكما تسمع الأنعام كما قال الله عنهم: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ[البقرة:171] قوله: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ يعني: يرفع صوته وينادي البهائم أو العجماوات.

    قوله: (بما لا يسمع) أي: لا يسمع الدعاء والنداء، كالحيوان من البقر والقرود وغيرها من العجماوات، إذا ناديت سمع صوتك، لكن لا يفهم الكلام، فهذا الكافر لو تلوت عليه المعلقات السبع يفهمها ويعرف معانيها، لكن لا يفهمون ما ينفعهم، وهذا الكلام حقيقي يجب استحضاره حين نتكلم وليس مجازاً، فهؤلاء على قلوبهم أقفالٌ كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24] فالقلب له قفل والعياذ بالله، وضع الله سبحانه وتعالى على قلوب هؤلاء الناس أقفالاً، فلا يخرج الكفر والنفاق منها ولا يدخل الإيمان فيها، لا يسمح بالخروج ولا بالدخول، فداخلها والعياذ بالله هذا النفاق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ..)

    يقول تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة:19] يعني: مثلهم كأصحاب صيِّب، والصيِّب هو المطر، أصله صيوب، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمتا، من صاب يصوب يعني: ينزل.

    قوله: مِنَ السَّمَاءِ أي: كصيب من السماء، والمقصود بالسماء هنا السحاب، والدليل على ذلك قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ[الواقعة:69] يعني: من السحاب.

    قوله: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ هذا التنكير للتفخيم والتهويل، كأنه قيل: في هذا السحاب ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف.

    قوله: (ورعد) قيل: هو الملك الموكل به، وقيل: صوته.

    قوله: (وبرق) يعني: لمعان بريقه الذي يلمع به، لكن الأولى أن يوصف الرعد بأنه قاصف، والبرق بأنه خاطف.

    قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ يعني: أصحاب الصيب يضعون أصابعهم في آذانهم .

    والمقصود بأصابعهم الأنامل، فهذا من إطلاق الكل، مع إرادة الجزء.

    قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ يعني: من أجل الصواعق.

    قوله: حَذَرَ الْمَوْتِ يعني: خوف الموت من سماعها، كذلك هؤلاء المنافقون إذا نزل القرآن وفيه ذكر الكفر المشبَّه هنا بالظلمات، والوعيد عليه المشبَّه بالرعد، والحجج البينة المشبَّهة بالبرق، يسدون آذانهم؛ لئلا يسمعوه، فيميلوا إلى الإيمان وترك دينهم، وهو عندهم موت.

    فهذا هو من طباق هذا المثل على أحوال هؤلاء المنافقين.

    إذاً: المقصود بقوله تبارك وتعالى: (فيه ظلمات) يعني: أن الوحي الذي ينزل من عند الله سبحانه وتعالى وهو القرآن يحتوي على وصف الكفر بالظلمات، ويحتوي على الوعيد على الكفر، وهو الذي شبهه بالرعد بقوله: (وَرَعْدٌ ) والآيات التي تنزل عليهم كالرعد، وتنذرهم عاقبة هذا الكفر.

    قوله: (وبرق) أيضاً في هذا الوحي برق ونور ساطع وحجج بينة، فهم يسدون آذانهم؛ لئلا يسمعوا هذه الحجج فيميلوا إلى الإيمان، ويتركوا دينهم؛ لأنهم يخافون إذا سمعوا هذا الوحي الذي فيه تنفيرٌ عن الكفر وترغيب في الإيمان أن تميل قلوبهم؛ ولذلك يضعون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق؛ حذر الموت الذي هو التحول مما هم عليه إلى الإسلام، كأن هذا التحول عندهم موت، فبالتالي يسدون منافذ الهدى؛ كي لا يصل الوحي إلى أسماعهم.

    قوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يعني: محيط بهم علماً وقدرة، فلا يفوتونه ولا يعجزونه، وهنا أظهر الله سبحانه وتعالى ما كان يمكن أن يضمر؛ لأن السياق يقتضي أن يكون: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بهم.

    فإظهار كلمة الكافرين في قوله: (والله محيط بالكافرين) لبيان أن ما دهمهم من البلاء وحل بهم كان بسبب كفرهم، كقوله تعالى: أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ[آل عمران:117] فأظهر هذا الوصف، وهو أنهم قوم ظلموا أنفسهم؛ لأن الإهلاك الناشئ عن السخط والغضب لا عن قضاء وقدر فإنه يكون أشد على هؤلاء الكافرين؛ فلذلك أظهر وصفهم بالكافرين، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم ...)

    يقول تبارك وتعالى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] قوله: يَكَادُ يعني: يأخذ.

    قوله: الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ يعني: يأخذها بسرعة، وضوء البرق أضعاف ضوء الشمس؛ لأن ضوء البرق القاذف الذي نراه قوي جداً، ولو استدام قليلاً لربما أثر على بصر الإنسان.

    قوله: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يعني: مشوا في ضوء هذا البرق.

    قوله: وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا يعني: وقفوا أو جمدوا مكانهم بلا حراك، كأن تقول: قام الماء إذا جمد وسكن، كذلك تقول: قامت السوق، يعني: كسدت وركدت.

    إذاً: الله تبارك وتعالى يبين أن ما في القرآن من الأمثلة يزعج قلوب هؤلاء المنافقين، فهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين، وبيان ما هم فيه من التحير والجهل بما يأتون وبما يذرون، إذا أضاء لهم البرق مشوا مع خوفهم من أن يخطف هذا البرق أبصارهم؛ لكنهم أيضاً يريدون أن ينتهزوا تلك ويستفيدوا من هذه الإضاءة التي تحصل من البرق.

    إذاً: إذا ظهر البرق هم بين أمرين: الأول: يخافون منه أن يخطف أبصارهم لشدة قوته.

    الثاني: يريدون أن ينتفعوا بهذا الضوء؛ لأنهم واقفون في ظلمات.

    قوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ أي: لو شاء الله في قصف الرعد فأصمهم، أو في ضوء البرق فأعماهم.

    يقول السيوطي : قوله تعالى: (وإذا أظلم عليهم قاموا) وقفوا تمثيل لإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبهم، وتصديقهم لما سمعوا فيه مما يحبون، ووقوفهم عما يكرهون.

    يعني: هذا هو حال المنافقين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج والبراهين فهذه الحجج تزعج قلوبهم، وهي المشار إليها في آيات القرآن بالبرق، فهذا البرق يزعج قلوبهم فهم إذا سمعوا فيه الوعيد والتهديد على عاقبة الكفر والكفرة والمنافقين خافوا، كذلك ثم إذا سمعوا فيه أشياء يحبونها فإنهم يصدقون بها ويأنسون بها ويريدون أن يستفيدوا منها، أما إذا أتاهم ما يكرهون فإنهم يقفون عما يكرهون، بمعنى: أنهم يعبدون الله على حرف، كحال من وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ[الحج:11] يريد أن يعبد الله على جانب واحد فقط وهو جانب الخير.

    فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ[الحج:11]، قال: هذا دين حسن، أصبنا فيه خيراً من كثرة الأموال والصحة ونتاج الخيل والإبل إلى غير ذلك من متاع الدنيا.

    وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أي: اختبار وابتلاء.

    انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ أي: انقلب على عقبه.

    خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[الحج:11].

    لكن إذا ابتلي في صحته بمرض أو في ماله بفقر أو بأي مصيبة في الدنيا تراه ينقلب على عقبيه ويقول: هذا دين سوء ما رأينا فيه خيراً، ويتطير ويتشاءم من هذا الدين والعياذ بالله، فهذا حال هؤلاء المنافقين.

    قوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ يعني: ولو شاء الله لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بالباطنة، كما طمس بصائرهم البصيرة وختم على قلوبهم وأعمى قلوبهم عن رؤية الحق، كذلك أيضاً يمكن أن يفسد عليهم حواسهم الظاهرة، كما أفسد عليهم حواسهم الباطنة.

    قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني: إن الله على كل شيء شاءه سبحانه وتعالى قدير، ومنه إذهاب ما ذكر من هذه الحواس.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755994348