إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [52]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تنقسم الذنوب إلى كبائر وصغائر، وقد بين العلماء ضابط الكبيرة، والفرق بينهما وبين الصغائر، وحذروا من التهاون بالصغائر، وبين أحكامها وما يترتب عليها.

    1.   

    الموحدون لا يخلدون في النار وإن دخلوها

    من عقيدة أهل السنة: أنهم لا يخلدون العصاة في النار، وإن دخلوها فإنهم يخرجون منهم، والمراد الذين ماتوا وهم مصرون على بعض الذنوب الكبيرة التي ورد فيها وعيد، وأما الخوارج فتمسكوا بأحاديث وبنصوص فيها وعيد شديد لمن عمل ذنباً أو كبيرة، فأخرجوهم من دائرة الإسلام وأدخلوهم في الكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم بمجرد ارتكاب الذنب.

    أما المعتزلة فأخرجوهم من الإسلام ولم يدخلوهم في الكفر، وجعلوهم في منزلة بين الكفر والإيمان، وحكموا بخلودهم في النار بموجب النصوص التي فيها وعيد.

    وأهل السنة قالوا: إنهم تحت مشيئة الله إن شاء غفر لهم ذنوبهم وأدخلهم الجنة من أول وهلة، وإن شاء أدخلهم النار تطهيراً لهم لما اقترفوه من الذنوب، ما يمحصون ويهذبون وينقون يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فمنهم من يكون بقاؤه في النار ألوفاً من السنين، ومنهم من لا يبقى فيها إلا قليلاً، على قدر ذنوبهم أو بدعهم، ومآلهم إلى الجنة، ولو بعد مدة؛ وذلك لأنهم من أهل الإيمان، ومن أهل التوحيد، ومن أهل التصديق، وإن كان معهم شيء من الذنوب التي اقترفوها.

    فكيف نحمل النصوص التي فيها الوعيد بعدم دخول الجنة لبعض العصاة؟

    وردت أحاديث كثيرة وآيات ظاهرة الدلالة في أن العصاة في النار، سواء يخلدون فيها أو يدخلونها، أو يحرمون الجنة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، ومثل قوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، ومثل قوله: (إن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه)، ومثل الآيات قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، وكقوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]، ومثل قوله في آكل الربا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] يعني: من عاد إلى التعامل بالربا، فتوعدهم بأنهم من أصحاب النار بمجرد أكلهم الربا، والربا إنما هو من الكبائر لا من الكفر والشرك، وكذلك الوعيد في قتل النفس، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا [النساء:93].

    تمسك بهذه النصوص الوعيدية من القدرية والخوارج، وجعلوها نصاً في أن العاصي المصر على المعصية لا يخرج من النار، بل يدخل فيها ويخلد، وتمسكوا بالآيات التي فيها عدم الخروج من النار كقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37]، وكقوله: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22]، وكقوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة:167] هذا ما تمسك به الوعيدية.

    وأهل السنة يقولون: هذه النصوص فيها وعيد شديد، فنجريها على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، لتكون زاجرة عن المعاصي، وذلك لأن التهاون بالمعاصي يعتبر ذنباً أكبر من فعلها، فلأجل ذلك لا نتأولها حتى تكون زاجرة، بل نؤيدها ونؤكدها ونستدل بالأخبار الأخرى، وبالأحاديث الكثيرة التي فيها الوعيد الشديد على الذنوب، والتي فيها إهلاك الله تعالى لمن أذنب أي ذنب، أو لمن ارتكب أي منكر، ولو تتبعنا ذلك لوجدنا فيه أحاديث كثيرة تدل عليه، ومن أراد أن يتوسع فيها فليقرأ الأحاديث التي ذكرها ابن القيم في كتابه الذي سماه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، حيث أورد في أوله أحاديث كثيرة وأدلة كثيرة تدل على أن الله تعالى يعاقب على الذنوب، ولو لم تصل إلى الكفر، وأنه بسبب الذنوب أهلك أقواماً.

    فاستدل مثلاً بما روي في بعض الآثار: أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: (أني مهلك من قومك ستين ألفاً من شرارهم وأربعين ألفاً من خيارهم، قال: يا رب! هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يجالسوهم ويؤانسوهم)، فعاقب الأخيار في الدنيا بالهلاك، ولم يكن لهم ذنب إلا مجالسة الأشرار ومؤاكلتهم، ولم يذكر ذنب الأشرار هل وصل إلى الكفر أو أنه من المعاصي، وإذا كان من المعاصي فهو دليل واضح على أن العصاة متوعدون بالهلاك في الدنيا، وبالعذاب أو الوعيد في الآخرة.

    وروي أن ربنا سبحانه أمر جبريل أن يخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب! فيهم عبدك فلان، لم يعصك طرفة عين، فقال: به فابدأ وأسمعني صوته، فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ قط، فأمر بإهلاكه، مع أنه لم يذكر له ذنباً إلا أنه لا يغار لله، ولا يتمعر وجهه في ذات الله، وذلك دليل على أن هذا ذنب.

    فإقرار العصاة، وعدم الغضب لذات الله، ذنب، ولو لم يعمل الذنب، ولكنه لما لم يغضب لغضب الله استحق أن ينزل عليه من الوعيد والعذاب ما نزل على المعذبين، وهذا يدل على أن أهل المعاصي على خطر في الدنيا وعلى خطر في الآخرة.

    ولو لم يكن إلا أثر ذلك الغضب عليهم في الآخرة، لو لم يكن للعصاة عقوبة إلا أنهم إذا غضب الله عليهم انتقم منهم في الدنيا بأي انتقام، ولو لم يصل ذنبهم إلى الكفر؛ فحري بهم أن يتوبوا.

    وكذلك من آثار غضب الرب عليهم أن يدخلهم دار العذاب، وهي النار، ولو لم يدخلوها إلا ساعة لاحترقوا، فكيف بما روي أنهم يمكثون فيها عشرات السنين وربما مئات السنين أو ألوف السنين وهم يعذبون فيها، على قدر ذنوبهم كباراً وصغاراً، ولا شك أن هذا عذاب شديد لو اقتصر على عذابهم ساعة لكان أولى بهم ألا يقترفوا ذنباً، وألا يصروا على معصية أياً كانت تلك المعصية.

    ولما جاءت هذه الأحاديث وهذه الآثار في وعيدهم كان من عقيدة أهل السنة: أنا نخاف على العصاة، فنقول للعصاة: إنا نخاف عليكم، لا نأمن عليك أيها العاصي نقمة الله، لا نأمن عليك عذابه، لا تأمن أيها العاصي أن يأخذك الله على غرة وغفلة، لا تأمن أن يعذبك أي عذاب، حتى ولو كان عذاباً تظنه هيناً، روي عن بعض السلف أنه قال: (لو توعدني الله إذا عصيته أن يحبسني في الحمام لكان ذلك وعيداً شديداً) أي: يستحق أن أهرب من المعصية حتى لا أحبس في الحمام، فكيف بالحبس في النار التي تلتهب وتشتد على أهلها، إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14]، كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] فإذا كان هذا وعيد بهذا العذاب الذي هو عذاب النار؛ فلا شك أنه يحمل المؤمن المصدق على الهرب من أسباب العذاب، حتى ولو كان يرجو في النهاية أن يخرج من النار وأن يدخل الجنة.

    مآل أهل التوحيد إلى الجنة لا يعني الأمن وعدم الخوف

    من عقيدة أهل السنة أن كل من كان من أهل التوحيد ومن أهل الإيمان فإن مآله إلى دخول الجنة ولو عذب في النار ما عذب، ولكن نخاف عليه ونحوفه، فقد وردت الأدلة الكثيرة في نجاة أهل التوحيد، فآمن أهل السنة بذلك، وصدقوا بأحاديث الشفاعة، والتي منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي لأمتي شفاعة يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئاً)، وقال في حديث عتبان : (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، وأشباه ذلك من الأحاديث، وكذلك أحاديث الإخراج من النار، وفيها أن الله يقول للشافعين وللملائكة: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه أدنى أدنى حبة خردل من إيمان، ثم يقول الله تعالى: لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله).

    فيخرج من النار أهل لا إله إلا الله؛ وذلك لأنهم كانوا موحدين لم يشركوا بالله لا في الاعتقاد ولا في الأعمال، وكانوا ممن قال: لا إله إلا الله مخلصين من قلوبهم، وكانوا على إيمان راسخ في قلوبهم، ولكن لضعف ذلك الدافع نزعتهم النفس إلى فعل شيء من الذنوب، فأصروا ولم يستغفروا حتى أتتهم آجالهم، وهم مؤمنون مصدقون، ولكن قد يدخلون النار بسبب ما اقترفوه من الذنوب، ثم بعد ذلك يخرجهم الله إذا شاء بفضله ورحمته.

    إذاً: نحن نخاف على العصاة، ولا نأمن عليهم، نقول للعاصي: إنك على خطر، إذا رأيت العاصي المصر على المعصية المتمادي في معصيته فعليك أن تحذره، وتقول: إنك على خطرين: خطر عقوبة في الدنيا بأن يعاجلك الله وينتقم منك، وخطر عقوبة في الآخرة بأن يدخلك في النار وهي دار عذابه، ولو كان مآلك ونهايتك بتوحيدك واعتقادك أن تخرج منها، ولكن لا تأمن العذاب، ولا تستطيع أن تصبر عليه، فالنار التي توعد الله بها شديدة الوقود والالتهاب، وحرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم، وشراب أهلها المهل والصديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبداً في مزيد، فكيف تصبر عليها؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! إن كانت لكافية، فقال: فضلت عليها نار جهنم بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)، إذا كانت النار تضاعف سبعين ضعفاً فمن يطيق الصبر عليها؟!

    الله تعالى قد ذكر أنواع العذاب فيها حتى ذكر الحميم، وذكر الزقوم، وذكر المهل والصديد الذي هو شرابهم، وقال: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97]، وقال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا [النساء:56]، وقال في شرابهم: يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29]، وقال أيضاً: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، فهذا يحصل لكل من دخل النار، ولا شك أنه يخيف المؤمن، فالمؤمن المصدق يخاف أن يدخل في هذا العذاب ولو وقتاً يسيراً.

    إذاً: نحن نخاف على العصاة، ولا نأمن عليهم عقاب الله، ونقول لهم: لا تأمنوا مكر الله أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ولو تعلقتم وتشبثتم بالأدلة التي فيها الوعد، والتي فيها إخراج العصاة من النار، والتي فيها تحريم أهل التوحيد على النار، لكن لا تأمنوا من النار ولو وقتاً يسيراً، فتوبوا إلى ربكم وأصلحوا أعمالكم، فهذا هو الجمع بين هذه الأحاديث.

    أهل السنة تمسكوا بأحاديث الشفاعة التي فيها إخراج أهل التوحيد من النار، وقالوا: ربما يمكثون فيها عشرات السنين أو مئاتها أو ألوفها، وأهل الوعيد تمسكوا بالأدلة التي فيها دخول النار والوعيد بالنار على بعض المعاصي، والجمع بينهما أنه لا مانع من أن يدخلوا النار، ثم بعد ذلك يخرجون منها برحمة أرحم الراحمين، وبشفاعة الشافعين، ولا مانع أن يطلق الخلود على الدوام الطويل، أو على المكث الطويل، ولا مانع أن يطلق حرمان الجنة، أو حرمان دخولها على حرمان الدخول لأول مرة أو نحو ذلك، والله هو الحكيم في أمره، وكلام الله وكلام رسوله لا يمكن أن ينقض بعضه بعضاً، بل كله حق، فمتى أمكن الجمع قلنا به واعتقدنا صحته، وإذا لم يمكن وكلنا أمره إلى الله.

    1.   

    الكبائر والصغائر

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه : وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء:48] وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به).

    فقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان لا بدخولهم في الكفر بل لهم منزلة بين منزلتين كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله).

    وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) تخصيصه أمة محمد يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد وفي ذلك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولم يخص أمته بذلك بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله وليس في بعض النسخ ذكر الأمة].

    وقوله: (في النار) معمول لقوله: (لا يخلدون)، وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون (في النار) خبر لقوله: (وأهل الكبائر) كما ظنه بعض الشارحين.

    واختلف العلماء في الكبائر على أقوال: فقيل: سبعة، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه، وقيل: ما يسد باب المعرفة بالله، وقيل: ذهاب الأموال والأبدان، وقيل: سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها، وقيل: لا تعلم أصلاً أو أنها أخفيت كليلة القدر، وقيل: إنها إلى السبعين أقرب، وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقيل: إنها ما يترتب عليه حد، أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال.

    واختلفت عبارات السلف في تعريف الصغائر، فمنهم من قال: الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة، ومنهم من قال: كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، ومنهم من قال: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، أعني: المقدرة، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب.

    وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة كالشرك والقتل والزنا والسحر وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك كالفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا، وعقوق الوالدين واليمين الغموس، وشهادة الزور وأمثال ذلك.

    وترجيح هذا القول من وجوه:

    أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كـابن عباس وابن عيينة وابن حنبل وغيرهم.

    الثاني: أن الله تعالى قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [النساء:31]، فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أُوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر.

    الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب، فهو حد متلقى من خطاب الشارع.

    الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال، فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب، مجرد دعوى، ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه، يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية ونحو ذلك ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر، وهذا فاسد.

    ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان، يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير، والميتة، والدم، وقذف المحصنات، ليس من الكبائر! وهذا فاسد.

    ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر، وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر.

    ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو إنها مبهمة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، والله أعلم].

    انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر

    هذا الكلام يتعلق بالكبائر؛ لأن الكلام حولها في قول صاحب المتن: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون)، يعني: ونعتقد أن أهل الكبائر إذا دخلوا النار فإنهم لا يخلدون، بل يمكثون فيها بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون، ولما ذكر أن هذا قولنا في أهل الكبائر، احتيج إلى معرفة الكبيرة ما هي؛ وذلك لأن الله تعالى قسم الذنوب إلى قسمين: كبائر وسيئات، فقال تعالى في سورة النساء: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] فجعل هناك كبائر وهناك سيئات، ولا شك أن الكبائر سيئات ولكنها كبيرة، والسيئات التي دونها تسمى صغائر، وقال تعالى في سورة النجم: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ [النجم:32] فقسمها إلى كبائر وإلى لمم، واللمم هو مقدمات الذنوب، وقد ثبت عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واللسان يزني وزناه النطق، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فجعل التصديق أو التكذيب بالفعل الذي هو الزنا بالفرج، وجعل هذه مقدمات، وهي اللمم؛ وذلك لأن تحريمها من باب سد الذرائع، لأنها من باب الوسائل، فالأصل هو الزنا الذي حرمت هذه الأشياء لأجله.

    ولاشك أن الزنا من الكبائر فقد توعد الله عليه بقوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، وقرنه بالشرك والقتل فقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68] فجعل هذه الأشياء مما يتوعد عليه بالآثام وبالعذاب.

    وبذلك نعرف أن الذنوب قسمان: كبائر وصغائر، فإذا قلت: ما حد الكبيرة، حتى نتجنبها؛ فتغفر لنا الصغيرة؟

    نقول: إن الكبائر هي الذنوب الفاحشة التي سميت فاحشة، والتي توعد عليها، إما بحد في الدنيا، وإما بعذاب في الآخرة، فمثلاً: الشرك والقتل والزنا والربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات؛ هذه قد توعد عليها بعذاب في الآخرة.

    ومثلاً: السرقة والقذف والسكر، هذه قد جعل فيها حد في الدنيا، وهو الجلد، أو نحو ذلك، فإذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب)، وقوله: (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، نعد النياحة من الكبائر، وكذلك إذا أطلق على الذنب أنه كفر كقوله: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية)، أو (اثنتان في الناس هما بهم كفر)، أو: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وأشباه ذلك، فهذه كلها من الكبائر.

    خلاف العلماء في تعيين الكبائر وتعدادها

    ثبتت بعض الأحاديث التي فيها عد الكبائر كقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور، وشهادة الزور)، وهذه جعلها من أكبر الكبائر، وسميت اليمين الغموس بهذا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فاليمين الكاذبة ورد فيها وعيد شديد.

    ولعلكم قد قرأتم الكتب التي ألفت في ذلك، فقد ألف فيها الإمام الذهبي كتابه المشهور: كتاب الكبائر، وأوصلها إلى سبعين كبيرة، جمع فيها ما وقف عليه، وإن كان قد أدخل بعضها في بعض، وجاء بعده ابن حجر الهيتمي وألف كتاباً كبيراً سماه: الزواجر عن اقتراف الكبائر، وأوصلها إلى أربعمائة، بتفصيل في بعضها، وهذا دليل على أنهما كثيرة، ويمكن أن توجد في هذه الأزمنة ذنوب لم تكن مشهورة من قبل، فتضاف إلى هذا العدد، وبذلك يعرف أن الكبائر كثيرة، وأنها لا تحصر في سبع ولا في سبعين، كما روي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، وفي رواية: إلى السبعمائة، أي: أنها قد تصل إلى سبعمائة.

    وقد يقال أيضاً: ضابط الكبيرة أنها ما أصر صاحبه على الذنب، ولو كان ذنباً صغيراً، ولذلك قالوا: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.

    ولعل ذلك تفسير لما ورد في قصة الرجل الذي كلما أذنب ذنباً تاب إلى الله، واعترف به، وطلب من ربه أن يغفره، فغفره الله له وقال: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي)، فجعل الاستغفار بعدها سبباً لمحو الذنب، فنقول: إن الإصرار على الذنب ولو كان صغيراً يصيره كبيراً؛ وذلك لأنه يدل على التهاون بذلك الذنب، وبما ورد فيه من الوعيد، وتهاون بنظر الله إليه، وتهاون بما جاء في تحريمه، فأصر عليه واستمر عليه، فإذا أصر على شيء يسير ولو كان -مثلاً- أكلاً يسيراً من الحرام، ولكنه استمر عليه فإنه يصبح كبيراً، وإذا أصر على كذب ولو يسيراً، كل يوم أو كل أسبوع يكذب كذبة أو كذبتين اعتبر هذا ذنباً كبيراً، وإذا أصر على النظر إلى النساء المتبرجات، واستمر على ذلك اعتبر استمراره كبيرة من الكبائر، وإذا أصر على السباب والشتم واللعن، أو أصر على سماع المحرم من الغناء ونحوه، أو أصر على النظر في الصور الفاتنة، واستمر على ذلك؛ اعتبر هذا الإصرار ذنباً يضاف إلى ما ورد فيه من الوعيد، واعتبر كبيرة من الكبائر.

    وأما التعريفات التي تقدمت فكلها تقريبية، فكل يعرف الكبيرة بما يظهر له، ولا شك أن الذنوب تسد باب المعرفة، كما تقدم في بعض التعاريف، وإن كان هذا التعريف ليس بواضح، وكذلك التعريفات الأخر، التي فيها: أن الكبائر: ما توعد عليه بوعيد أو بعذاب أو بنفي إيمان، أو ما فيه حد في الدنيا أو عقوبة في الآخرة، والذين قالوا: إن الكبائر لا تعلم ولا يعرفون معناها، وأنها قد أخفيت كما أخفيت ليلة القدر في ليالي رمضان ونحو ذلك، نقول: لا شك أن الله ما أمر باجتنابها إلا وهي معروفة، ولا شك أنه ورد في بعض الذنوب ما يعين أنها من الكبائر، كما ذكرنا في السبع الموبقات وفي أكبر الكبائر التي في حديث أبي بكرة ، وفي غير ذلك.

    وإذا عرف العبد أن هذه من الكبائر، وأن الإصرار عليها سبب للوعيد الذي رتب عليها، فإنه يجتنبها حتى يسلم له دينه، وحتى يستحق الوعد من الله تعالى بتطهير الخطايا؛ وذلك أن اجتناب الكبائر سبب لمحو الصغائر.

    إياكم ومحقرات الذنوب

    الصغائر قد تكثر على الإنسان، فإن كان مصراً عليها، ومكثراًمنها، لم يأمن أن تهلكه، تجتمع عليه من كل جهة فتهلكه، وإن كانت متفرقة ويسيرة من غير إصرار فإن الله تعالى يغفرها بالأعمال الصالحة، والحديث الذي ورد في التحذير من الكبائر يفهم منه أنه في المصر عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)، ثم ضرب لها مثلاً بقوم نزلوا في فلاة، فحضر جميع القوم، فجعل هذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود حتى جمعوا حطباً كثيراً، فأوقدوا فيه ناراً، فأنضجوا خبزتهم، يعني: أن الذنوب الصغيرة: كلمة، ونظرة، وسمعة، وبطشة، وأكلة، ونحو ذلك، فإذا كانت كثيرة اجتمعت على الإنسان وأحدقت به وأهلكته، كما أن القوم إذا اجتمعوا وهم كثير وجاء هذا بعود وهذا بعرق مع أن الأرض صحراء ليس فيها حطب، فلكثرتهم يجمعون ما يوقدون به حتى ينضجوا طعامهم، فهذا يبين أن الإنسان لا يأمن من الإصرار على الذنوب الصغيرة حتى لا تهلكه وتوقعه في العذاب، أو تؤهله بأن يكون من أهل الوعيد، ومن أهل العذاب الشديد والعياذ بالله.

    وبلا شك فإن التهاون بها والإكثار منها يدل على عدم الاهتمام بتحريم الله وبنهيه، أما الذي يحذرها ويتركها خوفاً من الله؛ لأن الله نهى عنها وحرمها، فهو الذي يستحضر عظمة الله، ونهيه وتحذيره.

    1.   

    فضل التوبة وشروطها

    قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وإن لم يكونوا تائبين)؛ لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب، وإنما الخلاف في غير التائب، وقوله: (بعد أن لقوا الله تعالى عارفين)، لو قال: (مؤمنين) بدل قوله: (عارفين) كان أولى؛ لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم ، وقوله مردود باطل كما تقدم، فإن إبليس عارف بربه قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36] قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وكذلك فرعون وأكثر الكافرين قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-85]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء التي يشير إليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم]

    لا خلاف أن التوبة تمحو الذنب ولو كان من الكبائر، ولو كان من الشرك، فالكلام ليس في التائب، أما أهل التوبة فلا وعيد عليهم، بل الله تعالى يقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم، ويدخلهم دار كرامته، ويكفر عنهم بسبب توبتهم ما وقعوا فيه من كفر ومن كبائر ومن صغائر ومن ترك أوامر، يمحو ذلك كله بسبب التوبة، وهذه التوبة لابد أن تكون نصوحاً، وهي التي أمر الله بها، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8]؛ وذلك لأن هناك من يتوب توبة لا تزجره عن المعاصي، وتسمى توبة الكاذبين، فلا تكون مفيدة له، ولا ماحية لما وقع منه، ولا لما فعله من الخطايا، ولا لما تركه من الطاعات، فلابد أن تكون التوبة نصوحاً.

    وتعرفون أن للتوبة شروطاً لابد منها، وذكر العلماء منها ثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إلى الذنب.

    أما الذي يتوب بلسانه ويقول: أنا تائب، أو تبت إلى الله، ومع ذلك هو مصر على الذنب، حتى ولو كان صغيراً، ومتهاوناً به، فهذا لا توبة له؛ لأنه يتوب بلسانه، ويعمل الذنب بلسانه أيضاً، يقول بلسانه: تبت إلى الله، ثم يستعمل لسانه في الشتم أو في اللعن أو في القذف، أو نحو ذلك، أو يستعمل بصره في المحرم، بأن ينظر إلى الحرام، أو يقول بلسانه ويأكل الحرام، وهو مستمر على ذلك، فلا توبة له، وكذلك الذي يتمدح بمعاصيه، مع أنه قد تركها، فيتمدح بأنه قد زنى بكذا وكذا، ويتمدح بأنه قد قتل فلاناً وفلاناً، ويرى ذلك منحة، ويتمدح بأنه قد خدع فلاناً، وأخذ ماله، أو سرق كذا وكذا، ويتمدح بأنه قد شرب كذا وكذا خمراً وما أشبه ذلك، فكل ذلك لا تقبل معه التوبة.

    وهكذا الذي يتوب توبة مؤقتة! بأن يعزم على أنه بعد حين سيعاود الذنب إذا قدر عليه، ومن أمثال هؤلاء: الذين يسافرون لأجل الزنا إلى كثير من البلاد الإباحية، فإذا جاءوا قالوا: تبنا، ولكنهم عازمون على أن يرجعوا إلى تلك البلاد مرة أخرى؛ ليعودوا إلى ما فعلوه.

    وهكذا من ترك الذنب في وقت من الأوقات، كالذين يتركون الخمر في رمضان أو الدخان أو نحو ذلك، ثم يعزمون على العودة إليه بعد إفطارهم، لا شك أن هؤلاء لا تقبل توبتهم.

    والحاصل أن التوبة النصوح تمحو السيئات وتمحو الكبائر، وتمحو الشرك، وأكبر الشرك التثليث الذي ذكره الله عن النصارى، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:73-74]، فدعاهم إلى التوبة مع كونهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة.

    وكذلك دعا الذين يشركون في قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ [الفرقان:68-70] فاستثنى من هؤلاء التائب فإنه تقبل توبته، وقد ذكر الله أنه يبدل سيئاته حسنات.

    والمراد أن التوبة الصادقة تكون سبباً لمحو الذنوب كلها كبائرها وصغائرها، أما ما يتعلق بأهل الكبائر الذين لم يتوبوا، فقد عرفنا أنهم تحت مشيئة الله، إذا شاء الله عاقبهم وعذبهم بقدر ذنوبهم، وإذا شاء غفر لهم ومحا عنهم ما وقعوا فيه من السيئات، ومعلوم أنا لا نأمن أن ينتقم الله منهم في الدنيا، وأن يغضب عليهم في الآخرة، فيعذبهم على هذه الذنوب التي اقترفوها، ومعلوم أيضاً أن عذاب الله شديد، وأن العذاب في النار لا يقدر عليه أحد، قال الله في عذاب النار: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] ومن يطيق الصبر على ذلك العذاب الشديد؟!

    فإذا عرف المؤمن أنه باقتراف هذه السيئات متوعد بهذا الوعيد الشديد؛ زجره ذلك وحمله على أن يتوب إلى الله تعالى، ويقلع عن السيئات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756940767