إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [49]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الربا كبيرة من كبائر الذنوب، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وله صور كثيرة، ولذا يجب على كل من يتعامل بالبيع والشراء والصرف والقرض أن يعرف الربا وأحكامه، حتى لا يقع فيه فيقع في اللعنة والإثم.

    1.   

    أحكام الربا والصرف

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الربا والصرف:

    عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء) .

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) ،وفي لفظ: (إلا يداً بيد) ،وفي لفظ: (إلا وزناً بوزن، مثلاً بمثل، سواء بسواء)].

    هذا الباب يتعلق بالربا والصرف، والربا لغة: الزيادة والنمو، ومنه قول الله تعالى: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] يعني: نمت، ومنه: تسمية المرتفع من الأرض: الربوة، قال تعالى: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ [المؤمنون:50] فالربوة: هي المكان المرتفع الذي نبا عن غيره وربا عما سواه، وكذلك قوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة:265] أي: بمكان مرتفع.

    والربا في الاصطلاح: هو زيادة في شيء مخصوص، أي: من المعاملات.

    وأصله: أن أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بالبيع والشراء ونحوه، فإذا حل الدين قالوا لصاحبه: إما أن تعطي، وإما أن تربي الدين الذي عليك، فإما أن تسلمه لنا الآن وإلا تركناه وزدنا عليك فيه، فإذا كان -مثلاً- ألفاً نؤجله سنة أخرى ونصيره ألفاً ومائتين مثلاً، فإذا حل الألف والمائتان جاء إليه في السنة التي بعدها فقال: إما أن تعطي وإما أن تربي، فإذا لم يجد قال: أزيده ثلاثمائة ليصبح ألفاً وخمسمائة، فإذا حلت جاء إليه وقال: إما أن تعطي وإما أن تربي، فإذا لم يجد زاده مثلاً أربعمائة ليصبح ألفاً وستمائة .. وهكذا يزداد الدين في ذمة المدين ويترابى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] أي: أنه يتضاعف شيئاً فشيئاً؛ لأنه في كل سنة يزداد ذلك الربا الذي في الذمة، فلأجل ذلك حرمه الله؛ وذلك لما فيه من الإضرار على أولئك المساكين الذين في ذمتهم ذلك المال وذلك الدين، فإنه يُزاد عليهم وهم لم ينتفعوا بشيء، بل يتضاعف عليهم.

    وقال الله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39] أي: ليكثر في أموال الناس؛ فيعطيه -مثلاً- مائة ويقول: أكتبها عليك بمائة وعشرة، فإذا حلت وأخره قال: هي عليك بمائة وعشرين، أو بمائة وثلاثين، ثم بمائة وخمسين .. وهكذا يربو في أموال الناس، ويزيد في أموالهم شيئاً فشيئاً، هذا هو الأصل في الربا.

    أقسام الربا

    ذكر العلماء أن الربا ينقسم إلى قسمين:

    ربا فضل، وربا نسيئة.

    وربا النسيئة هو الذي كان مشهوراً قبل الإسلام، وهو: مشتق من النسء الذي هو: التأخير؛ من نسأ الشيء، يعني: أخره؛ وذلك لأنهم يقولون: ننسأ الدين، يعني: نؤخره ونزيد في قدره، مثلاً يقولون: نعطيك هذا الصاع ونجعله بصاعين مؤخرين، أو نعطيك هذه المائة ونجعلها بمائة وخمسين أو بمائتين إلى أجل، وهذا هو ربا النسيئة.

    وصورة ذلك: أن يعطيه هذا المال ويجعله بزيادة، كأن يقول: أعطيك ألفاً وأكتبها عليك بألف ومائتين ديناً مؤجلاً لمدة شهر أو شهرين، أو سنة أو سنتين، فهذا ربا نسيئة.

    كذلك ربا الفضل: جاءت الأحاديث بالمنع من ربا الفضل، وأنه داخل في النهي الذي أكده الله؛ وذلك لأن الله عظم شأن الربا، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ [البقرة:275]، وتوعد الله عليه بقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] وهذا وعيد للكفار، فيدل على أنه من كبائر الذنوب، وأن أصحابه يدخلون النار إلا أن يتوبوا؛ ولأجل ذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات كما قال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا .) إلى آخره، فجعل أكل الربا من السبع الموبقات اعتماداً على هذه الآية؛ حيث توعد الله عليه بالنار.

    وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بلعن من تعاطاه أو أعان عليه، فقال: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه) يعني: أنهم تعاونوا عليه.

    سبب تحريم الربا

    شدد العلماء في الربا، واستدلوا بالأدلة التي تحذر منه، وتحرض على الابتعاد عنه، والتحفظ عن تعاطيه.

    ولعل السبب: أنه ظلم للعباد، وبالأخص يُظلم به الفقراء والمستضعفون، وسواء كان ربا الفضل أو ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية، فكلاهما ظلم للفقراء، وتكثير للديون عليهم، وإضرار بهم لا سيما في وقت الحاجة.

    حكم الصرف

    أحاديث الباب تتعلق بربا الفضل، وتتعلق بالصرف، وهو أحد قسمي الباب، فإن الباب معقود للربا والصرف.

    والصرف هو: بيع نقد بنقد، والنقود تختلف، ففي هذه الدولة نقدان أصليان؛ نقد من الذهب؛ وهو: الجنيه السعودي، ونقد من الفضة؛ وهو: الريال السعودي، أو ما يقوم مقامه من الأوراق النقدية، والنقد الثالث الذي هو الفلوس أو القروش ملحق أيضاً بالنقد الفضي؛ وذلك لأنه بدل عنه، أو قائم مقامه، أو فرع عنه.

    فبيع نقد بنقد يسمى: صرفاً، فلابد فيه من التقابض؛ بأن يكون يداً بيد، فإذا اشتريت جنيهاً بدراهم، فلابد من التقابض؛ لأن الجنيه يكون معمولاً من الذهب، وجميع الذهب يكون ربوياً، والعلة فيه هي العلة في الجنيه وفي الدينار، فلا يباع الذهب إلا يداً بيد إذا بيع بفضة أو بنقد آخر.

    وفي الحقيقة: الكلام في مثل هذا قد يحتاج إلى إطالة، والمهم أن نعرف أنك -مثلاً- إذا اشتريت ذهباً فإنك تشتريه يداً بيد، فإن بقي عليك شيء فإنك تأخذه على أنه ذهب، لا على أنه دراهم.

    مثال ذلك: إذا اشتريت أسورة من الذهب التي تُجعل في اليدين، أو قلائد تُجعل في الرقبة، أو أقراطاً تُجعل في الأذن، أو خواتيم تُجعل في الأصابع، أو ما أشبهها من الذهب المصوغ الذي قد أصبح حلياً يتحلى به، فإذا اشتريته وقيمته -مثلاً- عشرة آلاف، ووزنه -مثلاً- ثلاثمائة جرام، ولم تجد معك إلا نصف الثمن، فالبائع لا يقول: في ذمتك ثلاثمائة جرام، بل يكتب: في ذمتك مائة وخمسون جراماً، فإذا أتيت لتقضيه ووجدت الذهب قد رخص فإنك تشتريه جديداً برخص، وإن كان قد ارتفع وغلي فإنك تشتريه شراءً جديداً ولو كان في ذمتك، ولو كان في بيتك، فتقول: عندي لك مائة وخمسون جراماً من الذهب، وهذه قيمتها معي، فإذا قال: ارتفعت قيمتها عن الأمس أو انخفضت، فتجددون لها قيمة، وهذه هي السلامة من بيعها بثمن مؤجل؛ وهذا معنى قوله: (لا تبيعوا منها غائباً بناجز) يعني: إذا كان الذهب غائباً وبعتموه بناجز، أو الفضة غائبة وبعتموها بناجز كان ذلك ربا.

    وأما إذا كان أحدهما في الذمة، فإنه يجوز المحاسبة والبيع عنه، ولهذا جاء في حديث ابن عمر : (كنا نبيع الإبل بالبقيع، فنبيع بالدراهم ونأخذ الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس، ما لم تفترقا وبينكما شيء) فهذا صرف بعين وذمة، فأصبح ذلك جائزاً.

    وأما قوله: (لا تشفوا بعضها على بعض) فإنه قال ذلك في الذهب، وكذلك في الفضة، أي: لا تبيعوا منها كثيراً بقليل، والشف بمعنى: الزيادة، فقوله: (لا تشفوا) يعني: لا تزيدوا، فلا تبيعوا -مثلاً- حلياً قديماً بحلي جديد أكثر قيمة، فلا تقل مثلاً: هذا حلي وزنه عشرون قيراطاً ولكنه مستعمل، بعني بدله خمسة عشر قيراطاً جديداً، فإن هذا لا يجوز، بل لابد أن يكون مثلاً بمثل، عشرين وعشرين، وإذا لم يوافق صاحب الذهب فإنك تبيعه المستعمل بدراهم، ثم تشتري بالدراهم جديداً، فأما أن تقول: حلي بحلي أكثر منه أو أقل فهذا لا يجوز، وهذا معنى قوله: (لا تشفوا بعضها على بعض) وهذا في الذهب، وهو كذلك في الفضة؛ لأن الفضة يصنع منها أيضاً حلي، فتصنع خواتيم من الفضة، وتصنع أيضاً خلاخل من الفضة، وتصنع أيضاً أسورة من الفضة، ومع ذلك قد تباع بالفضة النقدية، وبالريال النقدي الذي هو فضة، أو ما يقوم مقامه من الأوراق النقدية، ومع ذلك لا يجوز أن يباع إلا مثلاً بمثل أو بقيمته.

    أما بيعه بالعروض فلا بأس أن يباع بالعروض ولو غائبة، فلو مثلاً: كان هناك حلي وزنه -مثلاً- عشرون قيراطاً، فاشتريته بخمسة أكياس أرز، فإنه يجوز ولو كان الأرز غائباً؛ لأنه ليس من جنسه.

    الأصناف الربوية

    ذكر العلماء أن ربا الفضل ورد في ستة أشياء:

    الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، هكذا ورد في حديث عبادة ، ومعناه: أنه لا يجوز أن يباع صاع بر بصاعين، أو صاع تمر بصاعي تمر، ولو كان يداً بيد؛ وذلك لأنه فيه ربا، والربا هنا: هو الزيادة، فهذا صاع بصاعين، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء عنه أنه: (أرسل مرة بلالاً ليأتيه بتمر من تمر خيبر، فجاءه بتمر جنيب -يعني: جيد-وقال: إنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة -نشتري صاعاً جيداً بصاعين رديئين- فقال: هذا عين الربا، إذا أردت أن تشتري من الطيب فبع التمر الذي معك -التمر الرديء- بدراهم واشتر بالدراهم تمراً جنيباً) ، وكذلك سائر أنواع الربويات، فإذا كان عندك -مثلاً- بر رديء وتريد برأ طيباً فبع الرديء بدراهم، ثم تشتري بالدراهم جيداً.

    ويلحق به أيضاً كل المكيلات، فالأرز مثلاً يختلف، فقد يكون عندك أرز رديء وأنت بحاجة إلى أرز جيد، فتبيع الرديء بدراهم، وتشتري بالدراهم من الذي تريده.

    ومثله التمر، لا يجوز أن تبيع صاعاً من تمر بصاعين، ولا كيلو بكيلوين.

    ومثله الزبيب، لا يجوز أن تبيع زبيباً كيلو بكيلوين.

    وهكذا المكيلات كلها: الذرة، والدخن، والعدس، والفول، والبن، والقرنفل، والهيل، وما أشبهها، لا يجوز أن يباع منها شيء إلا مثلاً بمثل، وإن كان الناس لا يتعاملون بذلك عادة، لكن ينهى عن ذلك.

    مثلاً: الإنسان قد يكون عنده كيلو من الهيل الرديء، وهناك أناس آخرون يريدونه لأنه أرخص، فيقولون: أعطنا هذا الكيس الرديء بنصف كيس جيد، فيقال: لا، وإنما بعه بدراهم واشتر بالدراهم من الجيد الذي تريده.

    وهكذا كل شيء يوزن ويباع بالوزن، مثل: اللحوم، والحديد، والقطن، والموزونات الأخرى بأنواعها، فلا شك أن فيها علة الربا، فيقال: كل شيء يكال فإنه لا يباع إلا مثلاً بمثل، وكل شيء يباع وزناً فإنه لا يباع إلا مثلاً بمثل،

    وأما الذي لا يكال ولا يوزن كالأقمشة، فهذه لا بأس بها، فيجوز أن تبيع ثوباً بثوبين.

    وكذلك الذي يباع بالعدد، كالخضار التي تباع بالعدد، كالقرع والبطيخ، يجوز أن تبيع واحدة باثنتين أو بثلاث؛ وذلك لأنه ليس بمكيل ولا بموزون؛ ولأنه يتسامح فيه.

    وورد مثل ذلك أيضاً في بيع الحيوان، ورد أنه يجوز أن تبيع شاة بشاتين؛ لأنها قد تتفاوت، ولا يكون ذلك ربا.

    فالحاصل: أن هذه العلة، وهي: كون الشيء يكال أو يوزن أصلاً لا يجوز بيع جنسه بجنسه إلا يداً بيد، ومثلاً بمثل، أما إذا بيع بغير جنسه فيشترط فيه التقابض، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) فإذا بعت تمراً بزبيب جاز التفاوت ولزم التقابض، فتقول مثلاً: بعتك كيلو زبيب بثلاثة كيلو تمر، لكن هاء وهاء؛ يعني: خذ وأعط، وهذا هو معنى قوله: (هاء وهاء) يعني: حاضر بحاضر، فلا يباع غائب بناجز، وكذلك مثلاً: بر برز، يجوز أن يباع صاع بصاعين، وكذلك بر بشعير، يجوز أن يباع صاع بصاعين، ولكن لابد أن يكونا حالين حاضرين (هاء وهاء) حتى لا يكون في البيع ربا النساء الذي هو التأخير. فنتفطن لهذا؛ حتى لا نقع فيه ونحن لا نشعر.

    1.   

    شرح حديث: (جاء بلال إلى النبي عليه الصلاة والسلام بتمر برني)

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاء بلال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال : كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوه أوه! عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به).

    وعن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما عن الصرف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني، وكلاهما يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق ديناً) .

    وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواءً بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجل فقال: يداً بيد، فقال: هكذا سمعت)].

    حكم شراء تمر بتمر آخر أكثر منه أو أقل

    هذه الأحاديث تتعلق بربا الفضل وتتعلق بالصرف، أما الربا فقد عرفنا أنه ينقسم إلى: ربا فضل، وربا نسيئة، وهذه الأحاديث تتعلق بربا الفضل.

    الحديث الأول: فيه قصة وهي: أن بلالاً قبض تمراً من خيبر من نصيب المسلمين، ولما قبضه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، فاستغرب من أين هذا التمر؟ وكأنهم يعرفون أن تمر خيبر الذي يقبض من أهلها مجموع ومخلوط رديء وجيد، ولكن استنكر هذا التمر الجيد، فقال بلال: (إني اشتريت صاعاً بصاعين من هذا؛ لأجل إطعامك من التمر الجيد والطيب، فعند ذلك قال: (أوه)، وهي كلمة يعبر بها عن الإنكار، أي: أنكر عليه، ثم قال: (عين الربا)، أي: هذا عين الربا، ويسمى ربا الفضل، وأمره بعد ذلك أن يبيع التمر الرديء بدراهم، ثم يشتري بالدراهم من التمر الطيب؛ حتى يسلم من الربا.

    فكونه يأتي إلى بائع التمر الجيد ويقول: بعني صاعاً بصاعين، فهذا رباً؛ لأن التمر لا يجوز أن يباع بتمر، إلا مثلاً بمثل، ولو اختلفت القيمة.

    وهذا -أيضاً- يدخل فيه جميع الربويات، فالبر بالبر لا يجوز أن تبيع منه صاعاً بصاعين، ولا صاعاً من أرز بصاعين، ولو كان أحدهما أغلى ثمناً، فإذا كان عندك رزٌ رديء وتريد رزاً جيداً فبع الرديء بالدراهم ثم اشتر ما تشاء، وكذلك جميع المكيلات وجميع الموزونات، لا يباع جنساً بجنسه إلا مثلاً بمثل، أو أن تبيع الرديء بدراهم وتشتري بالدراهم ما تريده من الجيد، هكذا اتفقت هذه الأحاديث.

    كيفية التعامل الشرعي في الأصناف الربوية

    تقدم قوله عليه السلام: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، يداً بيد..) إلخ، وقوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا هاء وهاء) يعني: خذ وأعط، يداً بيد، مثلاً بمثل.

    وكذلك الفضة بالفضة، لا تباع إلا مثلاً بمثل يداً بيد؛ وذلك حتى لا يكون فيها تفاوت، فيشترط في المثليات التماثل والتقابض، وفي غيرها التقابض.

    وبيع الجنس بجنسه، متساوياً أو متفاضلاً قد يكون قليلاً، ولكن الذي يقع الناس فيه كثيراً هو بيعه بغير جنسه من المكيلات، فلابد فيه من التقابض وإن لم يكن هناك تساوي، فإذا بيع -مثلاً- لحمٌ بلحم فلابد من التقابض، فبيع لحم إبل بلحم غنم يجوز فيه التفاوت، فيجوز رطل غنم برطلين من لحم الإبل، لكن لابد أن يكون يداً بيد، وكذلك المكيلات يجوز بيع صاع بر بصاعين من الشعير أو بصاعين من الأرز؛ وذلك لأنهما جنسان، فيجوز صاع بر بصاعين شعير أو نحوه، أو صاع أرز بصاعين شعير؛ وذلك لأنهما جنسان، ولكن لابد من التقابض قبل التفرق، ولابد أن يكون يداً بيد، وكذلك بقية المكيلات المختلفة.

    فمثلاً: قد تحتاج إلى زبيب وليس عندك دراهم، فتشتري الزبيب بالتمر، فتشتري -إذا كان بالكيل- صاع زبيب بصاعين من التمر، أو بالوزن رطل زبيب برطلين من التمر، يجوز ذلك، ولكن بشرط أن يكون يداً بيد، فلابد من التقابض، وهكذا يقال في سائر المبيعات التي هي من الأجناس.

    وقد عرفنا أن الذي يدخله الربا ما كان مكيلاً أو موزوناً، وأما الأشياء التي لا توزن عادةً ولا تكال فلا بأس من التفاوت فيها، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً للغزو، لعل عددهم كان -مثلاً- ستمائة، وكانت الإبل التي عندهم قدر أربعمائة أو خمسمائة، لا تكفي هذا الجيش الذي يريد الغزو، فقال له صلى الله عليه وسلم: (اشتر على إبل الصدقة)، وإبل الصدقة قد تأتي بعد نصف سنة أو بعد ثمانية أشهر، فلم يجد بدّاً من أن يشتري من الناس، فصار يشتري البعير بالبعيرين من إبل الصدقة، حتى اشترى ما جهز به بقية ذلك الجيش.

    فدل هذا على أنه يجوز أن يشترى البعير بالبعيرين، ولو كان أحدهما غائباً؛ لأن إبل الصدقة غائبة، فعلى هذا يجوز أن تشتري شاة بشاتين سواء كانت حاضرة أو غائبة، وفرساً بفرسين، وكذلك في الأدوات سيارة بسيارتين، وكذلك في الأكسية ثوباً بثوبين حاضراً أو غائباً؛ لا بأس في ذلك كله؛ لأنه ليس مما يدخله الربا.

    كيفية التعامل الشرعي في الصرف

    القسم الثاني في الباب هو: الصرف؛ فإن الباب معقود بأمرين: الربا والصرف، ولا شك أن الصرف يكون فيه ربا، والصرف هو: بيع نقد بنقد، وبيع النقود بالنقود كثيراً ما يحصل بينها تفاوت، ولو كان مسماها واحداً؛ فإن الزمن القديم كانت العملات تصنع من الذهب والفضة، فكل شيء يصنع من الذهب يسمى ديناراً، وما صنع من الفضة يسمى درهماً، وما صنع من النحاس يُسمى فلساً، وجمعه فلوس، ودانق جمعه دوانق، وكلها يتعامل بها إلا أن بعضها أقل قيمة، فالفلوس أقل قيمة من الدراهم، والفلوس تكون من النحاس، والفضة تكون منها الدراهم، وهي أقل قيمة من الدنانير التي هي من ذهب.

    فعلى هذا احتيج إلى صرف هذه الأشياء بعضها ببعض، فيأتي الإنسان بالفلوس التي تصنع من النحاس، ومثلها أيضاً في هذه الأزمنة القروش التي تصنع من المعدن إلى إنسان آخر ويقول: أصرفها لي بدراهم من الفضة، أو يأتي صاحب الفضة بالدراهم ويقول: أريد أن تصرفها لي بفلوس، ومعلوم التفاوت بينها، فمثلاً: قد تكون عشرون قرشاً بريال، أو أربعون فلساً بدرهم، فيجوز أن تكون أربعون بواحد؛ لأن هذا نوع وهذا نوع، ولكن لابد من التقابض، بأن يكون يداً بيد.

    وكذلك الذهب مع الفضة، فالفضة دراهم، والذهب دنانير، فيأتي صاحب الدينار ويقول: اصرف لي هذا الدينار بدراهم فيقول: قيمته عشرة دراهم أو عشرون درهماً، فيقال: لابد من التقابض يداً بيد، هذا هو حكم صرف النقود بعضها ببعض.

    وفي هذه الأزمنة حلت محلها هذه الأوراق النقدية التي قامت مقام الفضة في جميع الدول إلا ما شاء الله، ولما قامت مقامها أصبحت نقداً، ومعلوم أن الأوراق لا قيمة لها، ولولا أن الحكومات أكدت التعامل بها وجعلتها قائمة مقام الفضة لما قبلت، وهذه الحكومات جعلت عندها رصيداً لها من الفضة أو من الذهب، فعلى هذا تأخذ حكم الفضة في كونها يتعامل بها كما يتعامل بالفضة، ويدخلها من الصرف ما يدخل الفضة، فلابد إذا صرفت بالدراهم أو صرفت بالدنانير من التقابض مع وجود التفاوت ولو اتفقت الأسماء.

    فمثلاً: عندنا الريال السعودي والريال اليمني والريال القطري، الاسم واحد ولكن بينها تفاوت، فيجوز صرف الريال السعودي بثلاثة أو بأربعة ريالات يمنية أو قطرية، ولكن لابد من التقابض، بأن يكون يداً بيد، هذا معنى قوله: (هاء وهاء) أي: خذ وأعط، فلابد من التقابض قبل التفرق، وكذلك سائر العملات -ولو اختلفت الأسماء- يجوز فيها التفاوت؛ ومع ذلك لابد من التقابض، فعندنا -مثلاً- الدولار الأمريكي والدينار الكويتي أو العراقي، والجنيه المصري أو السوداني، والليرة السورية أو التركية، والربية الهندية، ونحوها، ولا شك أن هذه عملات من أوراق، وهي تتعرض لأن يأتي عليها التلف، فتغرق بالماء، وتحرق بالنار، وتحملها الرياح وتفرقها، ولكن لما كانت عملات قائمة مقام الذهب والفضة جعل لها قيمة، فأخذت مأخذ أصلها وهو الفضة؛ فلزم عند صرف بعضها ببعض من التقابض قبل التفرق.

    فإذا أردت صرف الريال السعودي بالليرة السورية -مثلاً- فلابد من التقابض، خذ وأعط، أو أردت صرف الجنية السعودي بجنيه مصري فلابد من التقابض مع وجود التفاوت، ولو كان الاسم واحداً والتفاوت كثيراً، ولو كان هذا جنية وهذا جنية فلابد من التقابض قبل التفرق، خذ وأعط.

    إذاً: صرف العملات بعضها ببعض، لابد فيه من التقابض، وأجاز بعض المشايخ عند الحوالة الاكتفاء بالإسناد أو ما يسمى (الشيكات)، وجعلوا ذلك قائماً مقام التقابض؛ وذلك لأنه قد لا يتيسر وجود العملة الثانية التي أريد صرفها.

    فمثلاً: تريد حوالة ريالات سعودية إلى بلاد أخرى كمصر أو سوريا، وقبل أن يرسلوها يحولونها من ريال إلى ليرة أو إلى جنيه، ولا يسلمونك نفس الجنيه المصري، وإنما يقولون: ليس موجوداً عندنا، إنما هو موجود في فرعنا الذي في مصر أو في دمشق، ويسلمون لك شيكاً، فبعض المشايخ جعل هذا الشيك قائماً مقام النقد، وجعله كافياً في القبض، وتساهلوا في ذلك لوجود المشقة.

    وبعضهم يقول: إذا أردت الحوالة فاجعلها عندهم أمانة، فمثلاً: إذا أردت أن تحول خمسة آلاف ريال سعودي إلى مصر فإنهم يقبضون منك الخمسة الآلاف ويعطونك سنداً بأن عندنا خمسة آلاف لفلان يقبض قيمتها في القاهرة، وقد تكون الخمسة الآلاف يوم الحوالة -مثلاً- بثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه مصري، فذهبت بعد خمسة أيام إلى فرعهم في مصر، وقلت: عندكم لي خمسة آلاف ريال سعودي، أعطوني بدلها جنيهات مصرية، فقبل خمسة أيام قيمتها ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقالوا: الآن قيمتها قد نقصت، فلا تساوي الخمسة الآلاف إلا ثلاثة آلاف، فماذا تقبض منهم؟ هل تقبض ثلاثة آلاف ونصف الذي هو سعرها عندما سلمت لهم الخمسة الآلاف أو ليس لك إلا سعرها في الوقت الحاضر الذي سلُمت لك وهو ثلاثة آلاف؟

    الجواب: ليس لك إلا سعرها في الوقت الحاضر.

    وكذلك لو ارتفعت: فلو أعطيتهم خمسة آلاف وقيمتها في ذلك اليوم ثلاثة آلاف، وذهبت إلى المصرف ووجدت قيمتها أربعة آلاف، فلك أربعة آلاف جنيه، يعني: لك قيمتها في وقت القبض، وبهذا يسلم المسلم من الربا.

    فإذا حولت دراهم إلى بلاد أخرى فيها الجنيه أو فيها الليرة أو نحو ذلك فحولها بالريالات السعودية، ثم هناك يقبضونها بقيمتها، لكن قد يقول أهل المصارف: لا يمكن أن نرسلها بدون مصلحة؛ بل نحن نريد المصلحة، فنقول: لا شك أنكم تأخذون مصلحة؛ فإنهم يأخذون مصلحة حتى في البلد الواحد، فأنت -مثلاً- لو كان معك جنيه سعودي وأتيت به صاحب المصرف لقال: آخذه منك بخمسمائة، فإذا أخذت الخمسمائة، ورجعت إليه بعد يوم وقلت: بعني جنيهاً فسيقول: أبيعك بخمسمائة وخمسين؛ لأنه ما صرف عليك إلا ليربح، فقد يشتريه منك بأربعمائة وخمسين، ويبيعك أو يبيع غيرك بخمسمائة وهكذا، فأهل المصارف لابد أنهم يربحون، سواءً ربحوا هنا أو ربحوا هناك، فالمصلحة لهم، وبهذا يسلمون من الربا في الصرف.

    حكم بيع الذهب المصوغ بآخر غير مصوغ أو العكس

    بيع الذهب المصوغ مشتهر، ومعلوم أن الذهب المصوغ والفضة المصوغة لها قيمة تزيد على قيمتها عندما كانت غير مصوغة؛ لأنه لا شك أن الصياغة لها قيمة، فأنت -مثلاً- إذا كان عندك قطع أو سبائك ذهب وجئت إلى الصائغ وأمرته أن يصوغها لك حلياً: قلائد، أسورة، خواتيم، أقراطاً، أو أي شيء مما يتحلى به؛ فلا شك أنه لا يصوغه إلا بمصلحة، فيقول: أجرتي على هذا مائة أو ألف، فمثلاً: إذا كان قيمته عشرين ألفاً فقد يأخذ عليه -مثلاً- ألفاً مقابل الصياغة، فإذا أردت بيعه بذهب فنقول: بعض العلماء يجوز بيعه بذهب زائد على وزنه، فإذا كان وزنه -مثلاً- ربع كيلو، وتريد أن تبيعه بذهب مضروب جنيهات؛ فيجوز أن تزيد فيه، وقد تقول: هذا ما يستعمل إلا نقوداً، ولكن الصحيح: أنه لا يباع إلا بمثله، وإذا أراد الفائدة فيبيعه بغير جنسه، يبيعه بفضة أو يبيعه بأوراق نقدية أو نحو ذلك.

    وهكذا أيضاً كثيراً ما يحدث شراء الحلي بثمن مؤجل، وهذا لا يجوز، فالحلي من النقود أصله نقود، فلا يجوز بيعه إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، لكن إذا لم يكن معك نقود كافية، ودخلت تشتري قلائد أو نحوها، ووجدت وزنها -مثلاً- مائة جرام، وقيمتها عشرون ألفاً، فنظرت وإذا معك عشرة آلاف، فأخذت القلائد التي وزنها مائة جرام وأعطيته عشرة آلاف، فقال البائع: أين العشرة الأخرى؟ فقلت: ليست معي، فماذا يكتب في ذمتك؟ لا يكتب: في ذمتك عشرة آلاف، بل يكتب: في ذمتك مائة جرام من الذهب عيار كذا وكذا، سباكة كذا وكذا، فإذا أتيته بالقيمة بعد خمسة أيام فوجدت أن خمسين جراماً قيمتها اثنا عشر ألفاً أو قيمتها ثمانية آلاف فلا يستحق عليك إلا ثمنها وقت الوفاء، فاكتبها في ذمتك ذهباً ولا تكتب دراهم حتى لا يكون بيع ذهب بفضة مع عدم التقابض، فيكون في ذمتك ذهب، فبهذا يسلم المتبايعان من الوقوع في المخالفات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756376697