إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [40]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التمتع أحد أنساك الحج الثلاثة، وبه يجمع الإنسان بين الحج والعمرة مع إراحة نفسه من البقاء على الإحرام، خصوصاً إذا سبق يوم الحج بزمن طويل، وفيه أحكام تتعلق به ينبغي على المسلم معرفتها.

    1.   

    التمتع في الحج

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [باب التمتع

    عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي رضي الله عنه قال: (سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم. قال: وكأن أناساً كرهوها، فنمت فرأيت في المنام وكأن إنساناً ينادي: حج مبرور ومتعة متقبلة. فأتيت ابن عباس فحدثته فقال: الله أكبر! سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) .

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، ومنهم من لم يهدِ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم قد أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهدِ، ومن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم إلى مكة واستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أشواط من السبعة، ومشى أربعة، وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف فأتى الصفا، وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى فساق الهدي من الناس)].

    الأنساك في الحج ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران. وهذا التفريق والتقسيم اصطلاحي من الفقهاء، وإلا فهي في الحقيقة اثنان: تمتع، وإفراد.

    فالإفراد: أن يحرم بالحج فقط، ولا يجعل معه عمرة.

    وأما التمتع فهو أن يأتي بعمرة إما مع حجه مقترنة به -وهو القران- وإما منفصلة عنه، يأتي بها قبل الحج ويفرغ منها، هذا هو التمتع، وسمي تمتعاً لأن فيه انتفاعاً، والانتفاع هو أنه سافر سفراً واحداً حصل فيه على نسكين: نسك حج ونسك عمرة، فحصل فيه على الحج والعمرة جميعاً بسفر واحد، وقد كانوا قبل الإسلام يسافرون للحج في شهر الحج، ويسافرون للعمرة في نصف العام في شهر رجب، فيأتون بنسكين في سفرين، فلما جاء الإسلام أباح لهم أن يجمعوهما في سفر واحد يقضي فيه حجاً وعمرة تخفيفاً عليهم حتى لا تكون هناك مشقة، ولكن إذا تمتعوا واكتفوا بسفر واحد كان من جبران ذلك أن يهدوا هدياً، فسبب الهدي هو جبر ذلك النقص، ما دام أنه في سفر واحد حصل له نسكان كان عليه جبر ذلك بأن يأتي بهذا الهدي، أو يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، هذا هو نسك التمتع.

    1.   

    شرح حديث: (المتعة في الحج سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم)

    في الحديث الأول أن نصر بن عمران: أنه سأل ابن عباس عن متعة الحج فأمره بها، يعني: أمره بأن يتمتع في الحج. يقول: فكأن أناساً كرهوها. يعني: كرهوا المتعة، فنام أبو جمرة ورأى في المنام قائلاً يقول له: حج مبرور ومتعة متقبلة. فسر بذلك، وقص هذا على ابن عباس خبر هذا الذي نبهه وذكر له أن المتعة متقبلة (متعة متقبلة)، فلما أخبر ابن عباس قال: الله أكبر! سنة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: هذا المتعة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهؤلاء الذين كرهوها وذكرهم أبو جمرة لهم سلف، وهناك من كانوا على طريقتهم، وذلك لأن الخلاف في شرعية متعة الحج قديم، وقد كان فيه خلاف بين أكابر الصحابة، حتى إن عمر رضي الله عنه مع أقدميته ومع فضله كان ينهى عن متعة الحج، وكان يأمر بالإفراد، فأطاعه أناس، وصاروا لا يعتمرون مع الحج، بل يقتصرون إذا سافروا على الحج فقط، ثم يسافرون للعمرة في أثناء السنة.

    وسبب نهي عمر تأويل منه، وذلك لأنه خاف أن يبقى البيت معطلاً في زمن من الأزمنة، وقال: إذا رخصنا للناس أن يعتمروا مع حجهم فإنهم يكتفون بهذه العمرة، فلا يأتون إلى مكة في أثناء السنة، أما إذا نهيناهم وقلنا: لا تعتمروا، لا تمتعوا، اقتصروا على الحج وأدوا العمرة مرة أخرى فإنهم يؤدونها في بقية السنة، فيأتي أناس يعتمرون في شهر محرم، ويأتي آخرون في شهر صفر، ويأتي آخرون في رجب، ويأتي آخرون في ربيع أو جمادى أو شعبان أو رمضان، فيبقى البيت معموراً بالطائفين طوال السنة ولا يبقى معطلاً، هذا هو ما أراد عمر رضي الله عنه بنهيه عن التمتع الذي هو العمرة مع الحج، وهو اجتهاد منه.

    وقد استدل بأن الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] والإتمام معناه أن من شرع في الحج يتم الحج، ومن شرع في العمرة يتم العمرة، وظهر له أن الإنسان إذا توجه إلى مكة فإنه لابد أن يكون قاصداً أحد النسكين: إما الحج وإما العمرة، ولا يجمع بينهما، هذا هو الذي ظهر له.

    ولا شك أنه اجتهاد منه، وكذلك تبعه على ذلك بعض الصحابة كـعثمان وغيره، فكانوا ينهون -أيضاً- عن العمرة قبل الحج.

    أما علي رضي الله عنه فكان يرى القران، وهو الإحرام بالحج والعمرة جميعاً، ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي بهما معاً، يقول: لبيك عمرة وحجاً.

    ونقول: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي عنه أنه تمتع، وروي عنه أنه أفرد، وروي عنه أنه قرن، والروايات كلها صحيحة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها أخبرت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يريد الحج فليهل بالحج، ومن كان يريد العمرة فليهل بالعمرة) أي: أنه خيرهم، تقول عائشة : (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وكنت فيمن أهل بالعمرة) هكذا ذكرت عائشة أنه أهل بالحج، وظاهره أنه أفرد.

    وفي حديث علي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك عمرة وحجاً) ، وكذلك رواه جابر ، ورواه أنس أنه لبى بالحج والعمرة جميعاً، وظاهر هذا أنه قرن.

    وفي حديث ابن عمر أنه تمتع، يقول ابن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث الطويل: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، فبدأ وأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج)، وظاهره: أنه أهل بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، ثم أهل بالحج، ولكن هذا دليل على أنه قرن، وأنه أدخل الحج على العمرة، وهذا جائز، أي: إدخال الحج على العمرة، وهو إدخال الأكبر على الأصغر، فالعمرة نسك أصغر، والحج نسك أكبر، فإذا أحرم بالعمرة وحدها جاز أن يدخل عليها الحج، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما، فقد خرج مرة إلى الحج، فلما نزل الحجاج بمكة. قيل له: إنه كائن بين الناس قتال. فقال: إن حبسنا عن مكة تحللنا كما فعلنا بالحديبية. فأهل أول ما أهل بالعمرة، ثم قال: ما شأنهما إلا واحد، أشهدكم أني أهللت بحجة مع عمرتي، واشترى هدياً وساقه.

    وذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي، بمعنى أنه اشترى هدياً وساقه معه إلى مكة، وكان ساق سبعين بدنة، وجاء علي من اليمن بثلاثين، فأصبحت مائة بدنة، فنحرها كلها يوم النحر.

    فهذا معنى كونه تمتع، أنه جمع النسكين في عمل واحد، هذا هو التمتع الذي هو الانتفاع، فسماه ابن عمر تمتعاً مع أنه قران، أحرم بالعمرة ثم أدخل الحج عليها فأصبح قارناً.

    من ساق الهدي لم يتحلل حتى يبلغ الهدي محله

    ذكر ابن عمر في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أمر أصحابه أن يتحللوا إلا من كان معه الهدي، وذلك لأن الذي معه الهدي لا يقدر أن يتحلل حتى ينحر هديه؛ لقول الله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] يعني: محل ذبحه. فلذلك بقي على إحرامه لكونه قد ساق الهدي حتى نحر هديه يوم العيد، وأمر الذين معهم هدي أن يبقوا على إحرامهم حتى ينحروا هديهم يوم العيد، ثم يتحللوا.

    أما الذين ليس معهم هدي -وهم أكثر الصحابة- فلم يسوقوا الهدي لعجزهم أو لفقرهم، فهؤلاء أمرهم بالتحلل حتى ولو كانوا مفردين ولو كانوا قارنين، أمرهم بأن يفسخوا حجهم إلى عمرة ففعلوا.

    وقد كرهوا ذلك، كرهوا أن يحلوا إحرامهم إلى عمرة، وقالوا: كيف نحوله إلى عمرة وقد سمينا حجاً؟! وبعضهم سمى حجاً وعمرة، فقالوا: كيف نفسخ إحرامنا ونجعله عمرة وما نوينا إلا الحج؟! فألح عليهم وشدد، وقال: افعلوا ما آمركم به، فعند ذلك تحللوا، ولم يحبسهم هدي، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وقصروا من رءوسهم أو حلقوا وتحللوا، وكان ذلك في اليوم الرابع أو اليوم الخامس من شهر ذي الحجة، وبقوا متحللين، فلبسوا اللباس، وتطيبوا، وأتوا النساء، فأحل لهم التقصير والتقليم والنكاح ونحو ذلك مما كان محرماً عليهم بسبب الإحرام، ثم بقوا على حلهم إلى اليوم الثامن فأحرموا بالحج.

    أما الذين معهم الهدي فإنهم بقوا على إحرامهم، فالذين تحللوا لم يحرموا بحج إلا في اليوم الثامن، وبقوا حلالاً تلك الأيام، والذين معهم الهدي حبسهم الهدي وبقوا على إحرامهم، سواء أكانوا مفردين -أي: بالحج فقط- أو قارنين -أي: بالحج والعمرة-.

    والنبي صلى الله عليه وسلم كان ممن أحرم بالحج والعمرة كما عرفنا، فبقي على إحرامه.

    فلما قدم طاف وسعى، ففي هذا الحديث أنه طاف وسعى، وأنه بدأ بالطواف ورمل فيه، وبذلك أصبح الرمل سنة في الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم، أو أول طواف يطوفه الحاج، وهو أن يسرع في المشي مع مقاربة الخطى، يقول ابن عمر في هذا الحديث: (فخب ثلاثاً ومشى أربعاً) .

    وبعدما طاف صلى ركعتين خلف المقام، وهي سنة الطواف، وبعدها أتى إلى الصفا، وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم بقي على إحرامه حتى كمل حجه.

    وابن عمر في هذا الحديث لم يذكر بقية أعماله؛ لأنها مشهورة، كوقوفه بعرفة، وكذلك عمله في عرفة ثم رجوعه إلى مزدلفة، وكذلك أعماله بمنى مشهورة معروفة، وإنما ذكر أنه بقي على إحرامه حتى قضى حجه ونحر هديه، ثم أفاض في يوم العيد وطاف بالبيت، واكتفى بالسعي الأول لأن القارن ليس عليه إلا سعي واحد، ثم بعدما رمى وحلق وطاف، تحلل التحلل كله، وهكذا فعل من كان معه هدي من المسلمين، هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أمر الذين معهم الهدي أن يبقوا على إحرامهم إما مفردين وإما قارنين حتى ينحروا هديهم.

    وأما الذين ليس معهم هدي فإن الأفضل لهم أن يحرموا بالعمرة متمتعين، ومن أحرم منهم بالحج مفرداً فالأفضل له أن يتحلل إذا قدم مبكراً، فيفسخ حجه إلى عمرة، ويبقى بلباسه إلى يوم التروية، وكذلك من أحرم قارناً فسخ إحرامه وجعله عمرة، وفصل عمرته عن الحج.

    هذا هو الأفضل، وهو الذي اختاره الإمام أحمد ، وقال: إن عندي فيه سبعة عشر حديثاً . يعني: في فسخ الحج إلى العمرة، ولو خالف في ذلك كثير من الأئمة، فأكثر الأئمة كالشافعية وكذلك الحنفية ونحوهم لا يرون الفسخ، إنما الذي يستحبه هو الإمام أحمد ، وقدوته ابن عباس كما في هذا الحديث، فإنه شهد بأن ذلك سنة، وأنه هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأمرين منه، فيكون الأفضل فسخ الحج إلى العمرة أو فسخ القران إلى العمرة، وأن يكون الإنسان متمتعاً، وإن أحرم بالعمرة أولاً فهو أفضل؛ حتى لا يقال له: افسخ حجك أو نسكك إلى عمرة وتحلل، وإن قدم متأخراً وقد أحرم بالحج فقط أو قارناً فله أن يبقى على ذلك؛ لأنه إذا لم يكن هناك زمان يتمتع فيه بالمحظورات وبالمباحات فلا يصدق عليه أنه تمتع.

    1.   

    الخلاف في التمتع وفسخ الحج إلى العمرة

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [وعن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟! فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) .

    وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: (أنزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء) قال البخاري : يقال: إنه عمر . ولـمسلم نزلت آية المتعة -يعني: متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات. ولهما بمعناه].

    الأحاديث تتعلق بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وسبب ذلك أن فيها خلافاً قوياً، خاصة في فسخ الحج إلى العمرة وصيرورة الحاج متمتعاً.

    وقد ذكرنا أن الأنساك ثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد. وأن أفضلها عند الإمام أحمد هو التمتع؛ لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهناك ثلاثة أحاديث في التمتع بالعمرة إلى الحج، أو في فسخ الحج إلى العمرة، وأخذ من ذلك الإمام أحمد أن التمتع هو أفضل الأنساك، وقد وقع اختلاف كثير -حتى بين الصحابة- في أفضل الأنساك، فذهب بعضهم إلى أن أفضلها الإفراد، وهو المروي عن عمر رضي الله عنه، حيث كان ينهى عن العمرة في أشهر الحج، وينهى عن فسخ الحج إلى عمرة، وينهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج.

    وقد ذكرنا عذره في ذلك، وأنه أراد بذلك أن لا يخلو البيت من طائفين، أن يكون البيت الحرام معموراً طوال السنة بالطائفين وبالمعتكفين وبالمصلين الذين يقدمون لأداء نسك العمرة، فإنهم إذا اعتمروا مع الحج لم يرجعوا، وأما إذا جاءوا وأدوا الحج فقط فإن العمرة تبقى في ذممهم، وتبقى واجبة عليهم، فيؤدونها متفرقين، فيأتي قوم يعتمرون في شهر محرم، وآخرون في شهر صفر، وآخرون في ربيع.. إلى آخر السنة، فلا يخلو البيت من طائفين، هذا قصد عمر ، وهو مقصد مناسب، ولكن لا يجوز أن تترك السنة لأجل هذا التعليل.

    كذلك -أيضاً- عمر رضي الله عنه تأول، حيث إن الله تعالى أمر بالإتمام، قال تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، يقول عمر : إذا بدأ في الحج فإن عليه إتمامه، وليس له أن يفسخه، فإن فسخه لا يكون إتماماً؛ لأنه قد لا يتيسر له الحج. ويقول -أيضاً-: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة قارناً، وبقي على إحرامه، وكذلك بقي الذين معه الذين ساقوا الهدي على إحرامهم إلى أن تحللوا يوم النحر، فلم يفسخوا حجهم إلى عمرة.

    فهذا -أيضاً- مما علل به عمر رضي الله عنه بقاء الحاج على نسكه وعدم فسخه الحج إلى عمرة.

    وأيضاً مما علل به رضي الله عنه أنهم إذا تحللوا بعد العمرة أو أفردوا الحج أو اعتمروا وتمتعوا وتحللوا بعد العمرة، ترفهوا وتنعموا وفعلوا المباحات ونحوها، حتى يأتي يوم عرفة أو يوم التروية، يقول في بعض الروايات عنه: يوشك أن يظلوا معرسين بهن في ظل الأراك حتى يوم التروية.

    وكذلك قال هذه المقالة -أيضاً- بعض الصحابة لما أمروا بأن يتحللوا ويفسخوا إحرامهم إلى العمرة، ويجعلوا حجهم عمرة ويصيرون متمتعين، قالوا: ننطلق إلى منى وذَكَرُ أحدنا يقطر منياً! أي: ونحن حديثو عهد بالترفه وبالاستمتاع ونحو ذلك، كأنهم يقولون: إن الذي يذهب إلى عرفة يذهب وهو بعيد عن الترفه، وبعيد عن التنعم، وهو الذي يحرم بالحج من الميقات ويبقى على إحرامه إلى أن يقف بعرفة وهو على هذه الصفة أشعث أغبر بعيداً من التنعم ونحوه، هذا كان رأيهم.

    ولكن قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بأن يتحللوا كما تقدم في حديث ابن عمر لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معه في صبح اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، وكان أكثرهم محرماً بالحج مفرداً، لا يذكرون إلا الحج، وكانوا -أيضاً- ليس معهم هدي، عند ذلك قال لهم: (من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فليتحلل وليحلق رأسه أو ليقصر وليجعلها عمرة)، فكأنهم تثاقلوا وقالوا: كيف نجعلها عمرة وقد سمينا حجاً؟! فقال: (افعلوا ما أمرتكم به)، ثم تمنى أنه ما ساق الهدي، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، أو لأحللت معكم)، فجعل الذي منعه من التحلل هو كونه قد ساق الهدي.

    وهكذا قال في حديث حفصة بنت عمر -إحدى أمهات المؤمنين- الذي تقدم، وذلك أن الناس لما تحللوا من العمرة في اليوم الرابع وبقوا محلين، ولبسوا الثياب وتطيبوا، وأتوا النساء وفعلوا محظورات الإحرام، بقي صلى الله عليه وسلم على إحرامه، فقالت له حفصة : ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك -أي: لماذا بقيت على إحرامك والناس قد تحللوا-؟ فاعتذر بأنه لبد رأسه، يقول: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) كان شعر رأسه كثيراً، فجعل عليه شيئاً يمسكه ويتلبد معه كصمغ -مثلاً- أو شمع أو نحو ذلك يمسك بعض الشعر ببعض حتى لا يتشعث رأسه ولا ينتشر فيدخله التراب والغبار، بل يتماسك؛ لأنه عرف أنه سيطول إحرامه، فإنه بقي في الإحرام نحو خمسة عشر يوماً، أي: أحرم في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، ولم يتحلل إلا في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، فبقي نصف شهر، وهذه المدة طويلة، فيخشى أنه يدخل في شعر رأسه شيء من الغبار يتأذى به، فجعل فيه هذا الذي لبده.

    قوله صلى الله عليه وسلم: (وقلدت هديي) أي: سقت الهدي وجعلت في رقابه قلائد مهدياً له إلى الله تعالى.

    وقد شرع الله تعالى الإهداء إلى البيت، وأمر به، ثم أمر -أيضاً- بأن يجعل له ما يميزه وهي القلائد، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [المائدة:2]، فالقلائد: هي التي تجعل في رقاب الهدي، وقد قلد النبي صلى الله عليه وسلم هديه، فجعل في رقبة كل بعير أو كل جمل أو كل ناقة قلادة يعرف بها أنها من الهدي، والله تعالى قد نهى عن التحلل حتى ينحر ذلك الهدي في قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، فلما كان معه هذا الهدي امتنع من التحلل، وبقي على إحرامه لسوقه للهدي، ولو لم يكن معه هذا الهدي لتحلل كما تحلل الذين ليس معهم هدي.

    ولا شك أن هذا من أقوى الأدلة في استحباب فسخ الحج إلى العمرة لمن قدم حاجاً مفرداً أو قارناً، ولكن يقول العلماء الذين قالوا بالفسخ: إن ذلك فيما إذا كان القادم قدم مبكراً، فإن له أن يجعل إحرامه بعمرة. فإذا قدم -مثلاً- في اليوم الخامس أو السادس من شهر ذي الحجة فعنده يومان أو ثلاثة أيام يتحلل فيهما.

    فإذا قدم وهو مفرد نقول له: الأفضل أن تتحلل بعمرة وتجعل إحرامك عمرة وتقلب نيتك إلى العمرة، فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، وقصر من شعرك، وتحلل، والبس ثيابك، وتحل لك امرأتك، ويحل لك الطيب، وتحل لك المحظورات كلها، وإذا كان في اليوم الثامن فأحرم بالحج كما يحرم المتمتعون.

    فإن قال: أنا أختار ما اختاره عمر للصحابة من البقاء على الإحرام قلنا له: لك ذلك، فلسنا ننتقد على عمر ، ولكن نذكر الأفضل، فنقول: الأفضل ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته.

    1.   

    خلاف الصحابة في التحلل من الحج

    قد ثبت تحلل الصحابة عن نحو سبعة عشر صحابياً، كلهم رووا أنه صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة، وأن يفسخ ذلك الحج الذي أحرم به، وذهب إلى ذلك الإمام أحمد ، وخالفه في ذلك الشافعية ونحوهم، واختاروا ما ذهب إليه عمر ، من أنه لا يجوز التحلل، ولا يجوز فسخ الحج إلى عمرة، واستدلوا بالآية، وهي قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ [البقرة:196] ، قالوا: لابد أن يكون الحج تاماً، فالذين ذهبوا إلى البقاء على الإحرام هم أبو بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يأمرون بالبقاء على الإحرام وينهون عن التحلل، وخالفهم في ذلك بعض الصحابة كـابن عباس رضي الله عنهما، فكان يلزم بالتحلل لمن أحرم مفرداً أو قارناً، يلزمه بأن يتحلل، وأن يجعل إحرامه بعمرة، فقيل له: إن أبا بكر وعمر ينهيان عن التمتع! فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر !!

    يقول: إن اجتهاد أبي بكر وعمر يخصهما، وإنه نظر نظراهُ واجتهاد اجتهداه، ولكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بأن تقدم.

    ولكن مع ذلك نقول: رأي أبي بكر وعمر وعثمان ذهب إليه مالك والشافعي ونحوهما، أن من أحرم لا يتحلل، ورأي ابن عباس ذهب إليه الإمام أحمد ، وقال: إنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي تمناه، فذهب إليه هذا الإمام لقوة الأدلة ولكثرتها، ومع ذلك الكل على حق وعلى صواب، فالشافعية لا يبطلون إحرام من تمتع، ولا من فسخ الحج إلى عمرة، ولا يضللونه، وكذلك الحنابلة لا يضللون من بقي على إحرامه ولا يخطئونه، هذا هو القول المختار.

    لكن قد ذهب بعض العلماء إلى وجوب فسخ الحج إلى العمرة، ورجح ذلك ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، واختار وجوب التحلل والإلزام به، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه أن يتحللوا قال له بعضهم: (أرأيت عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد) .

    ومما استدل به حديث عمران بن حصين الذي تقدم، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالمتعة -يعني: متعة الحج-، وأن الله تعالى أمر بها في قوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، فما دام أنها وردت في القرآن، وفعلها الصحابة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد أن يعترض عليها، وذكر أن عمر رضي الله عنه إنما نهى عنها اجتهاداً اجتهده ورأياً رآه، وهذا معنى قوله: (قال رجل برأيه ما شاء) بعدما ذكر أنهم فعلوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن ينسخها، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، فبقيت من السنة، فلماذا نتركها ما دام أنه لم ينزل ما ينسخها، إنما عمر هو الذي نهى عنها لمجرد رأي رآه ولاجتهاد اجتهده.

    وعلى كل حال فإن أفضل الأنساك الذي نختاره -إذا لم يكن الإنسان ساق الهدي- أن يحرم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وأنه إذا أحرم مفرداً وقدم مبكراً أن الأفضل له التحلل، وأما إذا كان معه الهدي فإن عليه أن يحرم بالقران أو بالإفراد، ولا يتحلل حتى ينحر هديه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من قدم متأخراً في اليوم الثامن -مثلاً- أو مساء اليوم السابع فالأفضل له أن يبقى على إحرامه إذا كان مفرداً أو قارناً؛ إذ ليس هناك مدة يتمتع فيها، فما بقي إلا ساعات قليلة حتى يحرم الناس بالحج، فيبقى على إحرامه والحال هذه، وإذا اختار التحلل أو اختار إتمام العمرة فلا مانع من ذلك، والأمر فيه سعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756637090