[باب ليلة القدر.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً، حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين -وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه- قال: من اعتكف معي فليعتكف في العشر الأواخر، فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر. قال: فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين)].
هذا الباب فيه هذه الأحاديث التي تتعلق بليلة القدر، وسبب ذكرها أنها في رمضان، وأن رمضان هو شهر الصوم، فبعدما ذكرت الأحكام التي تتعلق بالصوم كان من تمام ذلك أن تعرف الليلة التي في شهر رمضان، وهي ليلة القدر.
وقد اختص رمضان بالصيام، وفضل فيه القيام الذي هو التهجد والتراويح ونحو ذلك، وخص -أيضاً- بفضل ليلة فيه، وهي ليلة القدر، وهي -بغير شك- في رمضان، وذلك لأن الله أخبر بنزول القرآن في رمضان، وأخبر بنزوله في ليلة القدر، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] أنزل القرآن في رمضان، وفي أي رمضان أنزل؟ لقد أنزل في ليلة واحدة، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] ، فإذا كان أنزل في رمضان وأنزل في ليلة القدر دل على أنها في رمضان وأنها ليلة من لياليه.
وقيل: سميت (ليلة القدر) لعظم قدرها، أي: الليلة التي لها قدر، ولها فضل، والقدر بمعنى الشرف، أي: ليلة الشرف وليلة الفضل وليلة الميزة التي تميزت بها عن غيرها، أو الليلة ذات القدر.
وعلى كل حال فإنها ليلة فاضلة قد أخبر الله بفضلها، فقال تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] أي: العبادة فيها أفضل من العبادة في ألف شهر. أو نحو ذلك من الأقوال.
كذلك قد وردت الأدلة الكثيرة على فضلها، وقد أخفى الله تعيينها، والحكمة في ذلك أن يجتهد العباد في ليالي الشهر، فلو أخبروا بعينها وأنها الليلة السابعة أو السادسة أو الخامسة لم يجتهدوا في بقية الليالي، بل ينامون ليالي الشهر كله، فإذا جاءت تلك الليلة قاموها وحصلوا على الأجر، والله تعالى يحب من عباده أن يكثروا العمل، ويحب من عباده أن يشتغلوا بالعبادة في الأوقات كلها في عدة ليال في شهر أو في أشهر أو في عشر ليال أو ما أشبه ذلك، فليست العبادة في ليلة واحدة كالعبادة في خمس ليال أو في عشر ليال، ولو كان الذي يوافق تلك الليلة يحصل على هذا الأجر الذي هو ألف شهر، ولكن مع كثرة العمل حتى يرجو موافقتها يحصل له مضاعفة الأجر والثواب، وبهذا تعرف الحكمة في إخفائها حتى يجتهد العباد في ليالي الشهر.
فعلى العباد أن يجتهدوا رجاء أن يوفقوا لموافقة تلك الليلة.
وذهب الشافعي إلى ترجيح ليلة إحدى وعشرين، واستدل بحديث أبي سعيد الذي سبق، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فمطرت السماء ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد، وكان المسجد على عريش -يعني: لم يكن مسقوفاً بالطين-، فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام بعدما صلى الفجر رأى أبو سعيد على جبهته وأنفه أثر الماء والطين، فرجح أن تلك الليلة هي ليلة القدر، وهذا ما رجحه الشافعي لهذا الحديث.
والآخرون قالوا: إنها ليست يقينية.
وذهب بعضهم إلى أنها تتنقل، أي أنها في سنة تكون في العشر الأواخر، وفي سنة تكون في السبع الأواخر، وفي سنة تكون في الوسط، وسنة تكون في العشر الأول، وسنة تكون -مثلاً- ليلة إحدى وعشرين، وأخرى ليلة ثنتين وعشرين ونحو ذلك، فلأجل ذلك قالوا: إنما تقع للإنسان إذا قام العشر كلها، وهذا هو السبب في تخصيص العشر الأواخر بزيادة صلاة وزيادة اهتمام اتباعاً للسنة النبوية، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر)، وفي رواية: (أحيا ليله كله)، فأفاد بأنه يخص العشر الأواخر بزيادة اجتهاد وأعمال لا يعملها في غيرها رجاء أن تحصل له تلك الليلة، ورجاء أن تقتدي به أمته في ذلك.
وكذلك رجح بعضهم أنها في السبع الأواخر، واستدل بهذا الحديث عن ابن عمر ، فقد ذكر ابن عمر أن رجالاً كثيرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا في المنام ليلة القدر أنها في السبع الأواخر، فلما توافقت رؤياهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت -يعني: توافقت- في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) .
والسبع الأواخر قيل: أولها ليلة ثلاث وعشرين على تقدير أن الشهر ناقص. وقيل: أولها ليلة أربع وعشرين على تقدير كمال الشهر. فتكون هذه السبع محل اجتهاد.
والوتر هي الليالي الأوتار، فليلة إحدى وعشرين وتر، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين هذه الليالي الوتر، والوتر هو العدد الفرد الذي فيه زيادة فرد، والشفع هو الاثنان، فليلة اثنتين وعشرين شفع، وليلة أربع وعشرين شفع، وليلة ست وعشرين، وليلة ثمان وعشرين وليلة ثلاثين، هذه تسمى ليالي الشفع، ومعروف بأن العدد ينقسم إلى شفع ووتر، كما في قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:3].
فعرفنا بذلك أن هذه الليلة تترجح أنها في الوتر، ولكن لا ندري هل المراد الوتر مما بقي أو الوتر مما مضى، وحينئذ يكون ذلك حثاً على قيام العشر كلها، فالوتر مما مضى أن تكون ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين، فهذا الوتر بالنسبة للماضي، والوتر بالنسبة للباقي هو ما ورد في الحديث: (التمسوها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى، في آخر ليلة)، فهذا وتر، وقوله: (تاسعة تبقى) إذا كان الشهر كاملاً فهي ليلة ثنتين وعشرين، فهذه (التاسعة الباقية) وهكذا، فيكون ذلك حثاً على الاجتهاد في هذه الليالي كلها، أعني ليالي العشر.
ولا شك أن الحرص على قيام هذه الليالي حرص على كثرة الأعمال، والإنسان يحب أن يعمل عملاً كثيراً يثاب عليه، والعمل الذي يعمله في هذه الليلة هو العبادة، الصلاة مع طول القيام ومع الخشوع والخضوع، وثبت في الحديث أن عائشة قالت: يا رسول الله! إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ فقال: (قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) أمرها بأن تطلب العفو، والعفو هو التجاوز عن الخطأ، كأنه أمرها بأن تعترف بأنها مقصرة وليس لها مطلب إلا العفو، وهكذا سائر العباد، فالعبد عليه أن يحتقر عمله ولو كان كثيراً، فيكون منتهى طلبه المغفرة والعفو عن الخطأ وعن التقصير، فهذا مطلب من المطالب التي تطلب في ليلة القدر، والدعاء فيها مرجو أن يستجاب، وكذلك كثرة الذكر وكثرة القراءة وطول القيام وما أشبه ذلك، فإذا أدام العبد ذلك رجي أن يثيبه الله وأن تحصل له المغفرة التي رتبت على تلك الأعمال، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر