إسلام ويب

شرح أخصر المختصرات [46]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما يهم المسلم معرفته أحكام الهدية؛ إذ هي مما يتعامل بها الناس فيما بينهم، وكثير منهم لا يفرق بين الهدية والصدقة والعطية، ولا يميز أحكام هبة الثواب عن هبة التبرع، ولا يعرف ما يجب مراعاته من شروط لجواز أخذ الوالد من مال ولده، ولا متى يجب على الأب التسوية بين أبنائه ومتى لا يجب، وهذه أمور قد بينها الفقهاء، فعلى المسلم أن يعلمها ليسلم من مخالفة الشرع.

    1.   

    تعريف الهبة وأحكامها

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والهبة مستحبة، وتصح هبة مصحف, وكل ما يصح بيعه, وتنعقد بما يدل عليها عرفاً، ‏وتلزم بقبض بإذن واهب، ‏ومن أبرأ غريمه من دينه برئ ولو لم يقبل، ‏ويجب تعديل في عطية وارث بأن يُعطي كلاًّ بقدر إرثه, فإن فضل سوى برجوع, وإن ‏مات قبله ثبت تفضيله، ويحرم على واهب أن يرجع في هبته بعد قبض، وكره قبله.

    وله أن يتملك بقبض مع قول أو نية من مال ولده غير سرية ما شاء ما لم يضره, أو ليعطيه ‏لولد آخر، أو يكن بمرض موت أحدهما، أو يكن كافراً والابن مسلماً].

    الهبة مستحبة، وهي مشتقة من هبوب الريح، يقال: هبت الريح؛ وذلك لأن الريح خفيفة وهبوبها خفيف، ثم سميت الهبة بذلك لخفتها على مال الواهب.

    ويعرِّفون الهبة بأنها: تمليك عين بلا عوض، وتسمى هبة التبرع أو التبرر، فإن صرف لها عوضاً سميت هبة الثواب؛ لأنه يطلب لها أجراً.

    فإذا قال: وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني منه ثوباً أو كيساً، فإن هذه هبة ثواب، فهي من أنواع البيع، لها أحكام البيع، وشروط البيع: بأن يكون الواهب يملك ما وهب، وأن يكون مكلفاً، وأن تكون الهبة مالية، وأن يكون مقدوراً على تسليمها، وأن تكون معلومة... إلى آخر شروط البيع.

    فهذه هبة الثواب، وأما هبة التبرر وهو الذي لا يريد عليها عوضاً، وإنما يقصد بذلك التودد إلى الذي يهب له، ويقصد أن تحصل بينهما المودة والمحبة وصفاء القلوب، كما ورد في الحديث: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة)، والسخيمة هي الضغائن التي في القلوب، والأحقاد والبغضاء، والغالب أنك إذا أهديته شيئاً يفرح به، فإنه يعرف بذلك صداقتك، وإذا كان يكن لك شيئاً من الحقد فإنه يرجع إلى المودة فيحبك ويُقدرك، فهذا السبب في الحث على الهبة.

    فالهبة هي التبرع بالمال بدون عوض في الحياة، وهي مستحبة، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة)، أي: تذهب وحر الصدر كما في رواية: (تسل السخيمة وتذهب وحر الصدر)، أي: تزيل ما في الصدر من البغضاء بين الاثنين، وما بينهما ومن الأحقاد والضغائن، فإذا أهدى إليه عرف أنه يُحبه وأنه يود له الخير، فعند ذلك تثبت المودة.

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيب عليها، وكان يأكل من الهدية ولا يأكل من الصدقات والزكوات ونحوها، ويقول: (إنها لا تحل لآل محمد)، أما الهدية فإنه كان يقبلها ويثيب عليها.

    ما تجوز هبته

    تصح الهدية ولو بشيء يسير، إذا أهديت لصاحبك شيئاً يسيراً ككتاب مثلاً أو فاكهة أو كسوة أو أي شيء مما يطعم أو يفرح به أو يُستعمل، ولو شيئاً يسيراً كقلم أو قرطاس أو دفتر، فإن ذلك مما يحسن استعماله بين الإخوة، فلذلك ذكروا باب الهدية.

    وهل تصح هبة المصاحف؟

    عندهم أن المصحف لا يباع ولكن يهدى، والصحيح أنه يجوز بيعه، وإذا كان له ثمن فإنه يصح بيعه وتصح هديته، ويصح إهداء كل ما يُنتفع به وإن لم يكن مما يباع، ككلب صيد أو جلد ميتة بعد الدبغ، وغيرها من الأشياء التي فيها منفعة إذا باعها، فإذا أهداها فإن ذلك مما يحصل به المحبة والمودة بين الإخوة.

    صيغة الهبة

    هل للهبة صيغة؟

    تصح بكل قول أو فعل يدل عليها، فإذا أهدى إليك مثلاً ثوباً أو ساعة وقال: خذ هذا، أو هذا تبرع مني، أو أهديتك، أو وهبتك أو ما أشبه ذلك، كان ذلك جائزاً.

    وكذلك لو أشار إشارة عندما مد إليك كتاباً، وفهمت من إشارته أنه هدية بدون عوض، فإنك تقبله ويصير هدية، فتصح بكل قول وبكل فعل يدل عليها.

    فالقول مثل: وهبتك، أهديتك، أعطيتُك، خذ مني هذا، تبرعت لك بهذا، وما أشبه ذلك.

    والفعل هو: أن يمده بيده، أو يُشير إليك لتأخذه، فإذا وضعه على طاولة أو على الأرض وأشار إليك، وفهمت من إشارته أنه تبرع؛ صدق عليه أنه هدية وهبة.

    متى تلزم الهبة

    متى تلزم الهبة؟

    تلزم بقبضها، فإذا قبضها الموهوب له بإذن الواهب أصبحت لازمة، وقبل ذلك يصح أن يرجع فيها، فلو أنه مدّ يده إليك بالكتاب ولكن ما قبضته، فوضعه على السرير ولم تقبضه أنت، ففي هذه الحال يجوز أن يرجع فيها، ولا تكون لازمة.

    فأما إذا قال: خذ هذا الكتاب، وضعه على سريرك أو على طاولة، فأخذته بعد أن قال لك: خذ، ففي هذه الحالة يصير لازماً، ولا يصح الرجوع فيه بعد قبضه.

    أما إذا وضعه على السرير أو على الأرض ولم يقل: خذه، فأخذه صاحب السرير أو صاحب المنزل؛ فمثل هذا لا يصير هبة ولا يلزم، ولصاحبه أن يقول: أنا ما وهبتك، أنا ما أهديتك، بل نسختي بيدي ولا أستغني عنها، فله أن يرجع فيها، لأنه لا تلزم الهبة إلا بهذين الشرطين:

    حصول القبض الذي هو أخذ المتهب.

    وإذن الواهب، وذلك إذا قال: خذه، فتصير لازمة.

    إبراء الدين إسقاط لا يفتقر إلى قبول

    قال المصنف رحمه الله: (ومن أبرأ غريمه من دينه برئ ولو لم يقبل)؛ لأن الإبراء إسقاط، وإذا أسقطه صار لازماً، فإذا قال للغريم: عندك لي مائة أو ألف، وأنا قد أبرأتك وأسقطته عنك، برئ الغريم، ولو لم يقل: أنا قابل، أو قال: لا أرضى أو لا أريدها وأنا في غنى، ولست بحاجة إلى أن تسامحني.

    فيكون قد برئ بمجرد ما يقول: أبرأتك أو أسقطت الدين الذي عليك، أو وهبتك الدين الذي في ذمتك ولو لم يقل المدين: قد قبلت، وكذلك لو قال: لا أريد أن تُسقطه عني، أو قال: لا أُحب منتك، ولا أريد أن يكون لأحد عليّ فضل أو مِنّة، ففي هذه الحال الواهب قد أبرأه وأعطاه وأسقطه، والمتهب أو المدين له أن يرده ويقول: أنا لم أقبضه، أنا لا أريده، أنا لا أسمح ولا أريد أن أقبل منك ولا من غيرك شيئاً.

    الفرق بين العطية والهبة والصدقة

    في هذا الباب جمعوا الهبة والعطية، وفي آخره ذكروا الوصية، والوصية تأتينا في الفصل الذي بعده إن شاء الله.

    العطية معناها قريبٌ من الهبة ومن الهدية، ولكنها أعم، فيدخل في ذلك عطية الوالد لأولاده أو من دونه أو من فوقه، وكأن الهبة والهدية أخص، فإذا كان عندنا مثلاً أمير من الأمراء أو ثري أو رئيس قبيلة، وعندنا إنسان فقير مسكين، فالأمير أو الرئيس إذا سلّم هذا الفقير كسوة أو كيساً، فهل تسمى هذه هدية؟

    هذه تسمى صدقة منه عليه؛ لأنه لا يُريد الأجر منه، وإنما يريد الأجر من الله، أما الفقير إذا جاء مثلاً بطيب طيب الرائحة وأعطاه للأمير، فهذه تسمى هدية وهبة، فالعطية من النازل للعالي تسمى هدية، ومن العالي لمن تحته تسمى صدقة، وأما من إنسان لمن هو مثله فتسمى عطية، وقد تسمى أيضاً هدية.

    والغالب أن الفقير إذا أهدى للأمير فإنه والحال هذه يريد أكثر منها، فهو يقول: أنا أهديت للأمير هذه الفاكهة العجيبة، أو هذه الأطياب وما أشبهها؛ لأنني أريد أن يثيبني ويعطيني أكثر مما أعطيته، والعادة أن الأمير الذي أهدي له يثيب هذا الفقير، فيعطيه ثمنها مرتين أو أكثر أياً كانت تلك الهدية ولو كانت متوافرة، ولو أهدى إليه مثلاً فاكهة كعنب أو رطب مع أنها قد تكون موجودة عند الأمير أكثر، ولكنه أراد بذلك الثواب.

    فإذا شُرط فيها الثواب فإنها تسمى هبة ثواب، وفي هذه الحال يكون لها حكم البيع، فيصح أن يرجع فيها فيقول: أنا أعطيتك أو وهبتك هذا الكيس ولم تهدني ولم تهبني فأنا أحق به، وقد ورد في ذلك حديث: (الرجل أحق بعطيته ما لم يثب عليها) أي: ما دامت موجودة وقد عُرف بأنه قصد أجر الثواب والعوض، فله في هذه الحال أن يرجع فيها؛ لأنها شبه بيع، والبيع لابد له من عوض، ولذلك قالوا: تصح الشفعة فيها إذا حدد الثمن، فإذا كان لك قطعة أرض إلى جنب أحد جيرانك، فأهديتها إلى أمير مثلاً وقلت: أريد ثوابها مثلاً مائة ألف، ففي هذه الحال للجار الذي إلى جانبك أن يقول: أنا لي شفعة فيها، وأدفع مائة ألف فتكون الأرض كلها لي، فهبة الثواب بمنزلة البيع، وكذلك له أن يرجع فيها كما عرفنا؛ لأن الرجل أحق بهديته ما لم يثب عليها، أي: إذا كان قد شرط ثواباً ولم يحصل له.

    1.   

    التسوية بين الأولاد في العطية

    ثم العطية كأنها بين المتقاربين في الحال، أي: إذا سلمت لأخيك شيئاً أو لجارك فإنها تسمى عطية، وكذلك هبتك لمن تحتك إذا لم تقصد الأجر تسمى عطية، ومن ذلك عطية الوالد لأولاده تُسمى عطية، فعطيتك لأخيك عطية، ولزميلك وصديقك عطية، ولولدك عطية، وأما للفقير الذي هو أنزل منك فإنها تسمى صدقة، وأما للأمير الذي فوقك فهذه تسمى هدية وهبة، والغالب أنك تأمل أكثر من ثمنها.

    ذكر المصنف رحمه الله بعد ذلك عطية الوالد لأولاده، وأنه إذا أعطى أولاده عطية بدون سبب فإنه يلزمه التسوية والعدل، وقد جاء في ذلك حديث النعمان بن بشير ، وهو أن والده بشير بن سعد أعطاه ونحله غلاماً، فقالت أمه: (أحب أن تُشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ليشهده، فقال: أكُلَّ ولدك نحلته مثله، قال: لا، فقال: فأرجعه)، وفي رواية أنه قال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: فلا إذن، وقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، وفي رواية أنه حينما قال: (أشهدك على هذا، قال: لا أشهد على جور)، وكل هذه الألفاظ في الصحيحين أو أحدهما.

    وقوله: (اعدلوا بين أولادكم) العدل هو: التسوية، واختلف في مفهوم هذه الكلمة، فبعضهم قال: يسوي بين الذكر والأنثى؛ لأن قوله: (اعدلوا بين أولادكم) معناها: سووا بينهم، فيعطي الذكر كالأنثى، وقيل: إن العدل هو أن يقسم لهم على ما في الميراث، للذكر سهمان وللأنثى سهم؛ وذلك لأن كتاب الله تعالى هكذا فرض لهم، ولاشك أن القرآن هو أعدل ما يقال: إنه عدل، وهذا هو الصحيح، وهو أنه يسوي بينهم بقدر ميراثهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].

    وإذا قدِّر أنه فضل بعضهم وزاده، ففي هذه الحال يلزمه التسوية، فيسترد ما أعطى ذلك الذي أعطى، لقصة النعمان فإنه رد تلك الهبة، فعُلم بذلك أنها لا تلزم ولو قبضها ذلك الابن، وأنه يلزمه التسوية، فإن قدر على أن يعطي الآخرين مثل هذا الذي أعطاه فإنه يلزمه أحد أمرين: إما أن يُعطي الآخرين حتى يستووا أو يسترد ما أخذه من ذلك الذي فضله.

    حكم موت الأب قبل أن يسوي بين أولاده في العطية

    لو قدِّر أن الأب مات قبل أن يسوي بين أولاده، ففي هذه الحال هل تثبت؟

    ذكروا أنها تثبت، وأن الورثة ليس لهم مطالبة أخيهم، وهذا هو الذي عليه الفتوى.

    وذهب آخرون إلى أن للورثة مطالبة أخيهم فيقولون: أبونا فضلك وأعطاك شيئاً زائداً علينا بغير سبب، فنحن لا نرضى، ويلزمك أن تأتي بما أعطاك وتضعه في التركة، ونقتسمه بالسوية، وهذا قول لبعض العلماء، وله وجاهته حتى لا يلحق الأب إثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوراً فقال: (لا أشهد على جور)، فإذا أرادوا إبراء ذمة أبيهم فإنه يلزمهم التسوية، فيرد الذي فضل على إخوته ما كان أخذه.

    حالة جواز التفضيل بين الأولاد

    في هذه المسألة شيء من التفصيل، فنقول: إنه قد يجوز التفضيل لبعض الأسباب أو بعض المناسبات، فمن ذلك تزويج من بلغ منهم؛ لأن التزويج كالنفقة، فإذا بلغ واحد وزوجه، ثم بلغ الثاني وزوجه، فلا يلزمه أن يعطي الأصاغر مثل ذلك الكبير الذي زوجه، ولو كانت أمهم مثلاً مطلقة وهم تحت كفالتها فلا تقول: أنت أعطيت ولدك هذا خمسين ألفاً في زواجه، فأعط أولادي كل واحد منهم خمسين ألفاً، وعليه أن يقول: من بلغ منهم فإني أزوجه، وأما قبل البلوغ فلا يلزمني.

    فلو مات قبل أن يزوّج بعضهم فليس لهم أن يأخذوا من التركة مقابل زواجهم، بل يقتسمون التركة ويتزوجون إن شاءوا من أنصبائهم.

    ومن ذلك في هذه الأزمنة إذا بلغ أحدهم من الذكور مثلاً ثماني عشرة سنة احتاج إلى سيارة يتنقل عليها، وقد يكون له إخوة صغار، فيشتري له أبوه سيارة للدراسة وللتنقل، فهل يلزمه أن يُعطي الصغار مثل قيمة هذه السيارة، وتقول أُمهم: أعطيت ولدك الكبير سيارة بخمسين ألفاً مثلاً، فأولادي هؤلاء عليك أن تعطيهم قيمتها إذا بلغوا ليشتروا مثلها؛ لأنك إذا لم تفعل فقد فضلت بعضهم؟

    لا يلزمه ذلك، وما ذاك إلا أن هذه السيارة للحاجة، فمتى بلغ الصغير اشترى له مثلها، وقبل البلوغ ليس بحاجة إليها فهي كالزواج.

    وهكذا مثلاً إذا كان له بنات، واشترى لكل واحدة منهن حلياً بعشرة آلاف، فهل يعطي الذكور مثلها؟

    لا يلزمه؛ لأن هذا من تمام الزينة، فلا يلزمه أن يعطي الذكور مثل ذلك.

    وعندنا مثلاً الكسوة تتفاوت، فهو يشتري كسوة أولاده الذكور، فالذكر قد يكفيه كل شهرين أو كل أربعة أشهر خمسون ريالاً كسوة، وأما الأنثى فإن كسوتها قد تكون بمائتين، فلا يلزمه إذا اشترى كسوة أنثى بمائتين أن يُعطي الذكر تمام المائتين؛ لأن هذه كسوتها، وهذه كسوته، وقد أعطى كلاً منهم كسوته وسد حاجته، فهذا التفاوت لا يلزم التسوية فيه.

    وبعضهم إذا زوج بناته قد يجهز بعضهن مثلاً بأربعين ألفاً زيادة على المهر، وبعضهن لا يجهزها كذلك، ويكتفي بمهرها، فهل يلزمه لهذه التي ما أعطاها شيئاً أن يُعطيها مثل ما جهز به أختها؟

    لا يلزمه ذلك؛ لأن هذا التجهيز تستحقه تلك، فيشتري لها كسوة ويشتري لها حلياً أو أواني، أو ما أشبه ذلك، فإذا كان الصداق الذي دفع لها قليلاً زاده من عنده، فلا يلزمه أن يُعطي أخواتها مثل هذه الزيادة، سواء قبل الزواج أو وقت الزواج.

    كذلك ذكروا أنه يجوز التفضيل أيضاً لأسباب؛ منها: إذا كان أحدهم معوقاً فله أن يزيده وأن يتبرع له، كالمريض أو الضرير أو ما أشبه ذلك؛ لأنه بحاجة إلى الزيادة.

    وكذلك لو أن أحدهم تفرغ لطلب العلم، والآخر اشتغل بطلب الدنيا، فهذا الذي اشتغل بطلب الدنيا حصل على مال واشترى له سكناً وأثث سكنه، وطالب العلم منشغل بالطلب وبالتعلم فيستحق أن يساعده في السكن، ويستحق أيضاً أن يساعده في الزواج أو في تأثيث السكن، ويقول لإخوته: أنتم استغنيتم، وأنا مطالب بمن لم يستغن، فكما أنكم استغنيتم، وانفرد كل واحد منكم في مسكن، وصار ينفق على نفسه، وأنا أنفق على إخوتكم الأطفال، ولا يلزمني أن أُعطيكم مثلهم؛ فكذلك أيضاً لا يلزمني أن أعطيكم مثل هذا الذي تفرغ للتعلم وانقطع للفقه في الدين، فليس يلزمه أن يُعطي إخوته مثل ما أعطاه.

    وقد يقول: اشتغل بطلب العلم وأنا أشتري لك سيارة، وأنا أزوجك، وأنا أُسكنك، وأنا أُنفق عليك، فيقول: أنا لا أريد التعلم ولكني أشتغل لنفسي، فيقول: إذا اشتغلت لنفسك واستغنيت فلا يلزمني لك أكثر من حاجتك، فإذا أغنيت نفسك فلا نعطيك شيئاً، بل نعطي أخاك الذي تفرغ.

    كذلك أيضاً يقع أن بعض الأولاد ينقطع على والده والآخر ينفصل، فهذا الذي انقطع عند والده يستحق أن يكافئه،

    كثير منهم يقول: أنا أشتغل مع والدي في تجارته، أشتغل معه في سقي حرثه، أساعده في حرفته أياً كانت، كما إذا كان خياطاً أو قصاراً أو خرازاً أو غسالاً أو نحو ذلك، فأحد أولاده انفرد بصنعة، والآخر اشتغل مع والده؛ فهذا الذي اشتغل مع والده يستحق أن يعطيه مقابل اشتغاله سكناً ويزوجه ويعطيه سيارة.

    ثم أيضاً قد يشتغل بعضهم مع أبيه أربعين سنة في تجارته، والأخ الثاني موظف مستقل بوظيفته، فيجوز للأب أن يُشرك الولد ويقول: هذا الولد الذي اشتغل معي عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاماً، أجعله شريكاً، فأجعل تجارتي بيني وبينه نصفين.

    أو يقول: إنه اشتغل معي في سقي الحرث، وفي إصلاح المضخات، وفي حفر الآبار، وفي الحرث والسقي والزرع والغرس وإصلاح المجاري للماء وما أشبه ذلك، فنقول: لاشك أنه تعب معك عشر سنين أو عشرين سنة، فإما أن تجعل له مرتباً كما لو كان أجنبياً، وإما أن تُشركه في هذا الحرث.

    وهكذا في البوادي بعض أولادهم يتعلقون بالوظائف، وبعضهم يبقى عند ماشية أبيه يرعى ويسقي، ويحفظ إبلاً وغنماً، فينقطع على حفظ ماشية أبيه، فهل يساوى بإخوته الآخرين عند الميراث؟

    إخوته توظفوا، وكل منهم يجمع مرتبه، ويشتري لنفسه مسكناً وأثاثاً، وأصبح عنده رأس مال، وعنده ذخيرة، وهذا انشغل مع أبيه في رعي غنمه وإبله، وفي سقيها وحفظها وإصلاحها ومراعاتها، وخدمة أبويه؛ فيستحق والحال هذه أن يجعل له نصيباً من هذه الأغنام أو الإبل، ويقول لإخوته: أنتم استغنيتم عن أبيكم، وهذا خدم أباه وقام بخدمته وحفظ حلاله وحفظ أمواله، ففي هذه الحالة يجوز التفضيل.

    1.   

    حكم الرجوع في الهبة

    قال المصنف رحمه الله: (ويحرم على واهب أن يرجع في هبته بعد قبض، وكره قبله إلا لأب).

    ذكر أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض بإذن الواهب، فإذا قبضها الموهوب له بعد أن يأذن له الواهب ويقول: اقبض هذه الهدية أو هذه الهبة خذها فهي لك، فقبضها، فهل لصاحبها أن يرجع فيها إذا كانت هبة تبرر وليست هبة ثواب؟

    لا يجوز، وقد اشتهر في الحديث المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)، وقال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)، أي: هذا مثل سيء مطابق: فالكلب إذا وجد مثلاً جيفة وأكل منها أكثر من حاجته، وخاف أن يضره، فإنه يتقيأ، فيقيء نصف ما أكل، وبعد خمس ساعات أو ثلاث ساعات يأتي إلى قيئه ولو كان منتناً كريه الرائحة فيأكل قيئه، يقول قتادة : (ولا أعلم القيء إلا حراماً).

    فالإنسان إذا أكل لحماً أو خبزاً أو نحو ذلك، وبعد أن استقر في بطنه تقيأه، فهل نفسه تطمئن إلى أن يعود فيأكل ذلك القيء؟

    لا شك أنه مستقذر طبعاً، فيقول قتادة : (ولا أعلم القيء إلا حراماً)، أي: فإذا كان كذلك عُرف أنه لا يجوز الرجوع في الهبة بعد أن يستلمها المتهب ولو كانوا في المجلس ولو قبل التفرق؛ فإنه مثل الكلب.

    حتى ولو كانت كثيرة، ولو وهبك بيتاً وأعطاك مفاتيحه، أو وهبك أرضاً وأعطاك وثائقها، وبعدما أعطاك وتمت الهبة وتم التقبل والقبض قال: رُد عليّ بيتي، أو أرضي، أو ناقتي، أو سيارتي، فتقول له: ألست قد وهبتها لي؟ ألست قد أهديتها لي؟

    فإذا قال: أنا أحق بها؛ فالجواب: أن ذلك لا يحل لك، إلا إذا كان قد اشترط أجراً وهي هبة الثواب كما تقدم، ففي هذه الحال يجوز أن يرجع في هبته إذا كان قد اشترط لها عوضاً، ويسمى المردود، أي: ما يرده المتهب على الواهب.

    وأما قبل القبض فإنه مكروه، فلو أعطاك أو وهبك كتاباً فوضعه على الطاولة، وقبل أن تقبضه وتستلمه أراد الرجوع، فهذا مكروه رجوعه ولو كان جائزاً، أي: أنه يجوز ولكن مع الكراهة.

    ويستثنى الأب فيما يهب لأولاده؛ وذلك لأن الوالد يملك ما بيد الأبناء، فله إذا وهبهم أن يرجع، واستدل لذلك بحديث النعمان بن بشير عندما وهبه أبوه ذلك العبد، ثم رجع فيه لما قال له صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) فلما لم يكن عنده ما يُسوي بين أولاده رجع ورد تلك الهبة والنِحلة، والأب يملك ما بيد أولاده.

    1.   

    شروط أخذ الأب من مال ابنه

    قال المصنف رحمه الله: (وله) يعني: للأب (أن يتملك بقبض مع قول أو نية من مال ولده غير سرية ما شاء ما لم يضره، أو ليعطيه ولداً آخر، أو يكن بمرض موت أحدهما، أو يكن كافراً والابن مسلماً).

    دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)، وهو حديث مشهور، ولو كان في طرقه بعض الضعفاء، لكن بمجموعها يرتقي الحديث إلى أن يكون صحيحاً لغيره، فيجوز للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، سواء بقول أو بنية.

    فالقول كما إذا قال: إني قد تملكت أرض ولدي هذه، فتدخل في ملك الأب، أو يقول: إني قد تملكت سيارة ابني هذه، فتدخل في ملك الأب.

    والنية كما لو أخذ الأب مفاتيح دار ابنه ونوى أنه أدخلها في ملك الأب، ففي هذه الحال تدخل في ملك الأب بمجرد النية، وكذا إذا أخذ وثائق الأرض، وأخذ مفاتيح السيارة، وعزم على أنه قد ملكها وأخرجها من ملك ابنه إلى ملك الأب، فتدخل في ملك الوالد.

    ويستثنى من ذلك السرية، فالأرجح أن المملوكة التي يطؤها ولده بملك اليمين، يحرم عليه أن يتملكها؛ لأن ابنه قد وطأها، ولا يحل له أن يطأ ما وطأ ابنه.

    عدم الإضرار بالولد

    اشترطوا لذلك التملك شروطاً:

    الشرط الأول: ألا يضر الولد.

    الشرط الثاني: ألا يأخذه من ولده ليعطيه ولداً آخر، فإن هذا جور.

    الشرط الثالث: ألا يكون في مرض موت أحدهما، أي: موت الأب أو موت الابن.

    الشرط الرابع: ألا يكون الابن مسلماً والأب كافراً.

    ففي مثل هذه الحالات لا يصح للأب أن يأخذ، فإذا كان الابن محتاجاً إلى هذه الدار ليسكنها، ويسكن أولاده فيها، ولا يستغني عنها، والأب مستغنٍ؛ فهل له أن يخرج ولده ويقول: يا بني اخرج وانزل في خيمة أو نحوها واترك لي هذه الدار لأؤجرها؟

    الدار ملك الابن، وهو الذي ملكها وعمرها وتعب فيها، وأسكن فيها أولاده، فلا يحل للوالد أخذها؛ لأن هذا ضرر عليه، وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال تعالى: وَلا تُضَارُّوهُنَّ [الطلاق:6]، وقال: غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12]، فدل على أنه إذا تضرر الابن فلا يجوز للأب أن يأخذ، فإذا قال مثلاً: هذه سيارتي يا أبي لا أستغني عنها، ولا أستطيع أن أستأجر كلما أردت أن أذهب إلى مكان، ولا أقدر على أن أشتري بدلها؛ فكيف تأخذها وتدعني وأنت مستغن عنها، ولست محتاجاً إلى ثمنها، ولا محتاجاً إلى استعمالها؛ لأن عندك غيرها؟

    فلا يجوز والحال هذه أن يأخذها، حتى ولو كان الشيء صغيراً، فلا يجوز له أن يأخذ ثوبه ويدعه عارياً، أو يأخذ طعامه ويدعه جائعاً، والأب مستغن عنه.

    أن لا يعطي ما أخذه لولد آخر

    الشرط الثاني: ألا يعطيه لولد آخر، فيأخذ من هذا ألف ريال ويعطيها للثاني، فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن هذا جور، وفي الحديث: (لا أشهد على جور(، لكن إذا كان الابن مستغنياً وعنده فضل، وأخوه فقير وذو حاجة شديدة، وليس عنده ما يكفيه، والأب لا يقدر على أن يعوله؛ فإنّ على الأخ أن يُنفق على أخيه ولو كان لا يرث منه، ويجوز للأب أن يأخذ من مال هذا المستغني الذي عنده فضل ويُنفق منه على أخيه الفقير، فأما إذا كانا متكافئين فليس له أن يأخذ من هذا ويعطي هذا، فهذان شرطان.

    أن لا يكون الأخذ في مرض موت أحدهما

    الشرط الثالث: ألا يكون في مرض موت أحدهما؛ وذلك لأنه عند المرض تتعلق بالمال حقوق الورثة، فإذا مرض الابن، وله زوجته وأمه وأولاده ذكوراً وإناثاً؛ فليس للأب في مرض موت الابن -إذا كان مرضاً مخوفاً- أن يأخذ من مال الابن؛ لأنه بذلك يظلم الزوجة ويظلم الأم ويضر الأولاد إذا أخذ تركة أبيهم.

    وهكذا أيضاً لو كان المريض هو الأب، فإنه في هذه الحال ليس له أن يتملك؛ لأنه إذا كان مرض الأب مرضاً مخوفاً -أي: يخاف منه الموت- ففي هذه الحال نقول: ليس له أن يتملك من مال أولاده؛ لأنه والحال هذه كأنه يأخذ من مال هذا ويجعله في تركته ليُعطي أولاداً له ما كسبوا، وليُعطي زوجات له ما اكتسبن؛ فيضر بعض أولاده وينفع آخرين، هذه ثلاثة شروط.

    أن لا يكون الأب كافراً والابن مسلماً

    الشرط الرابع: ألا يكون ذلك من مسلم لولد كافر، فلا يجوز للكافر أن يأخذ من مال ولده المسلم؛ لأن أموال المسلم ملك لورثته، والكافر ليس له ميراث، فلا يرث من مال ابنه المسلم كما سيأتي في الفرائض إن شاء الله.

    فليس له أن يأخذ من مال الولد المسلم أو قريبه المسلم أو أبيه المسلم، لقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756194118