إسلام ويب

الرياءللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الرياء داء عضال، خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وما ذاك إلا لشدة خفائه، ولعظيم خطره، فهو سبب لعدم قبول الأعمال، وقد أضحى مزلة لأقدام كثير من العلماء والعباد، وقد بين أهل العلم أقسامه، وفصلوا في ذلك، ومن رحمة الله بنا أن جعل لهذا الداء دواء، ولهذا المرض علاجاً، ذكره أيضاً أهل العلم.

    1.   

    الرياء هو الشرك الخفي

    بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زال حديثنا عن القلوب، وأقسامها، وعللها، وأدويتها، وقلنا: بأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله؛ لأن حركات الجوارح. وأعمال الجوارح تابعة لحركة القلب، وعمل القلب، وإرادة القلب، فإن كانت حركة القلب وإرادته لله جل وعلا وحده، كانت حركة الجوارح وأعمال الجوارح لله جل وعلا وحده، وإن كانت حركة القلب وإرادته وعمله -من عبودية ومحبة ورجاء وتوكل وخشية وإنابة وتفويض- لغير الله جل وعلا كانت أعمال الجوارح وحركات الجوارح أيضاً لغير الله جل وعلا، فانبعثت الجوارح بمعصية الله؛ لأن القلب هو الملك والجوارح هي جنوده ورعاياه، وإن صح وصلح المَلِكُ صح وصلح الجنود والرعايا، وإن فسد الملك فسد الجنود والرعايا، فهم يأتمرون بأمره ويعملون بتوجيهه. ونحن اليوم على موعد مع عمل سيء تنبعث به الجوارح إذا خبث وفسد القلب ومرض.. عمل يحبط الأعمال.. عمل يسبب المقت والغضب من الكبير المتعال.. إنه داء عضال، ومزلة أقدام العباد والعلماء ،إلا ما رحم رب الأرض والسماء، إنه مرض خاف النبي صلى الله عليه وسلم منه على أمته أكثر من خوفه عليهم من فتنة المسيح الدجال، فقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام ابن ماجة في سننه، وحسن الحديث شيخنا الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي. قالوا: وما الشرك الخفي يا رسول الله؟! قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه). وتأتي للصلاة على فتورٍ كأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جـاءت بنقص لما قد كان منك من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيهـا تدبـر للأمـور بالارتقــاء ويا ليت التـدبر في مبـاح ولكـن في المشقـة والشقـاء وإن كنت المصـلي بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغـل كأن الشغـل أولى من لقاء أيا عبد! وإن كنت المجالس يوماً قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد! لا يساوي الله معك أنسـاً تنـاجيه بحب أو صفـاء يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، هذا هو الشرك الخفي، ويوضح ذلك -أيضاً- حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الذي رواه أحمد في مسنده، والإمام ابن حبان في صحيحه، والإمام البغوي في شرح السنة، وهو حديث صحيح الإسناد على شرط الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء). إننا اليوم على موعد مع هذا المرض العضال، مع مزلة أقدام العباد والعلماء إلا من رحم الكبير المُتَعَال، إننا اليوم على موعد مع هذا المرض الذي يحبط العمل، وهو سبب من أسباب المقت والغضب من الله جل وعلا، وكم من إنسان قد زل في هذا الباب وهو لا يدري؟! وكم زلت في هذا الباب أقدام؟! وكم ضلت في هذا الباب أفهام؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ونظراً لطول الموضوع وخطورته -أيها الأحبة- فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع في أربعة عناصر: أولاً: الرياء لغة وشرعاً. ثانياً: الرياء محبط للأعمال والأدلة على ذلك. ثالثاً: أقسام العمل مع الرياء. رابعاً: ما هو السبيل إلى العلاج؟ فأعيروني القلوب والأسماع -أيها الأحبة- وأسأل الله جل وعلا بداية أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يطهر قلوبنا وجوارحنا وأعمالنا من الرياء.. صغيره وكبيره.. غليظه ودقيقه، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.

    تعريف الرياء لغة وشرعاً

    أما تعريف الرياء لغة: فهو مشتق من الرؤية، يقول الفيروز أبادي : راءى مراءاة ورياء أي: يُريْ غيره خلاف ما هو عليه. وحقيقة الرياء شرعاً لا تختلف كثيراً عن معناه اللغوي. فالرياء شرعاً: هو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها، فيحمدُ الناس صاحبها، فهو حين يظهر العبادة لا يبتغي بها وجه الله، وإنما يبتغي بها الثناء والحمد من الناس، بل ربما إذا حان وقت الصلاة وهو في الخلوة لا يصلي، وإذا رأى أعين الناس تنظر إليه قام إلى الصلاة، بل ومن الناس من يغلظ الرياء منه والعياذ بالله، كأن يكون مع كبير من الكبراء، أو مع حاكم من الحكام، أو مع أمير من الأمراء، ودخل هذا الرجل المسجد -لتصور عدسات التلفاز صلاته- إذا به يدخل مع هذا المسئول الكبير بغير وضوء والعياذ بالله، لماذا؟ لأن الإعلام يريد أن يظهر جزئية معينة للسُّذَّجِ البُلَهَاءِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فالرياء شرعاً: هو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها؛ ليحمد الناس صاحبها على ذلك، ولينال جاهاً أو مكانة في قلوب الخلق، وأظن أن عقولكم ستذهب الآن بمنتهى السرعة إلى هؤلاء الذين يرشحون أنفسهم لمجالس النواب، أو لمجالس الشعب، أو لغيرها من هذه المجالس التي لا شرعية فيها، وفي أثناء جولاتهم الانتخابية يتصنعون بما ليس فيهم، ويظهرون من الطاعات والعبادات ما هم بعيدون عنه كل البعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    1.   

    الرياء محبط للأعمال

    العنصر الثاني: أن الرياء يحبط العمل، فإذا ابتغى العبد بعمله وجه الناس والثناء منهم، والجاه في قلوبهم، والمحمدة على ألسنتهم، ولم يبتغ بعمله وجه الله جل وعلا فعمله حابط ومردود في وجهه؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو: ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو: ما كان موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله جل وعلا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، ولقول الله جل وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، ولقول الله جل وعلا: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7]. فالرياء يحبط العمل -أيها الأحباب- والأعمال يتوقف صلاحها وفسادها وقبولها وردها على نية فاعلها وصاحبها، فإن كانت نية العبد صالحة لله، قبل عمله، ولو كان في أعين الناس حقيراً فهو عند الله عظيم، وكم من الأعمال ينظر الناس إليها على أنها عظيمة، وعلى أنها جليلة، وعلى أنها كبيرة وهي عند الله حقيرة، لا تزن عنده جناح بعوضة؛ لأن صاحبها ما ابتغى بها وجه الله، وإنما ابتغى بها الثناء والمحمدة عند الناس، والله جل وعلا يعلم السر وأخفى! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فالأعمال يتوقف قبولها على صلاح النية، فإن ابتغيت بعملك الله جل وعلا قبل عملك، ولو كان في أعين الناس حقيراً، ولو ابتغيت غير الله جل وعلا رد عملك في وجهك، ولو كان في أعين الناس عظيماً. ولذلك ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يغزو -أي: يجاهد- يلتمس الذكر، والرجل يقاتل يلتمس المغنم -أي: الغنيمة-، والرجل يقاتل يلتمس الأجر فما لهم؟ -أو أيهم في سبيل الله؟- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وفي رواية النسائي وابن ماجة -والحديث حسنه الحافظ العراقي - أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر -يريد الأجر من الله جل وعلا وفي نفس الوقت يريد أن يذكر بين الناس- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، لا شيء له، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، وما ابتغي به وجهه جل جلاله). وفي الحديث الذي يخلع القلب ويعكر صفو الحياة، والذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد -مات في ميدان الشرف والرجولة والبطولة- فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نعمه فَعَرَفَهَا قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). لا إله إلا الله! رجل بذل نفسه في ميدان القتال، ولكنه ما ابتغى بعمله وجه الكبير المُتَعَالِ، والله جل وعلا يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إن كنت تستطيع أن تخدع الناس، فلن تستطيع أن تخادع الله جل وعلا، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:9-10]. قال: (رجل استشهد فَأُتِيَ به فعرفه نعمه، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن) عالم ملأ الدنيا علماً وملأ الدنيا فتاوى، عالم أشير إليه بالبنان والتف الناس حوله، إلا أنه ما فعل ذلك إلا ليحصل كرسيّاً زائلاً، وليحصل منصباً فانياً، أو ليكون قريباً من السلطان، فما ابتغى بعلمه وجه الرحيم الرحمن، والله يعلم منه السر وأخفى. وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تك تأمر بالمعروف وتنه عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه). قال: (ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فَأُتِيَ به فَعَرَّفُه نعمه فَعَرَفَهَا، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل -هذا ما قد نلته في الدنيا- ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). عالم وقارئ للقرآن لم يبتغ بعمله وجه الرحيم الرحمن، يسحب على وجهه ليلقى في النيران، نسأل الله السلامة والعافية، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، برحمته وهو أرحم الراحمين. أما الرجل الثالث أيها الأحباب! (رجل أعطاه الله من أصناف المال فَأُتِيَ به فَعَرَّفَه نعمه فَعَرَفَهَا قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيلاً من أوجه الخير تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال: هو جواد -ليقال: المحسن الكبير- فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). أسمعت -أيها الحبيب- إلى خطورة الرياء؟! رجل مات في ميدان القتال، يسحب على وجهه في النار! ورجل ملأ الدنيا علماً، يسحب على وجهه في النار! ورجل قرأ القرآن بالليل والنهار، يسحب على وجهه في النار! ورجل أنفق في كل أبواب الخير، يسحب على وجهه في النار! لماذا؟ لأنهم لم يبتغوا بأعمالهم وجه العزيز الغفار، وإنما ابتغى كل واحد منهم مأرباً شخصياً وغاية شخصية، فلما حصل عليها في الدنيا حرم الجزاء من الله جل وعلا في الآخرة، فالرياء -أيها الأحباب- محبط للعمل؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، وإلا ما ابتغي به وجهه جل جلاله.

    1.   

    أقسام العمل مع الرياء

    اعلموا أيها الأحبة! أنه تارة يكون العمل رياءً محضاً، كأن يكون الرياء في أصل الدين -أي: أن يظهر الإسلام، ويبطن الكفر- فهذا أشد أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، إذا أظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو مخلد في النار؛ لقول الله جل وعلا: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، والله جل وعلا يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، ولقول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204-205]. فأشد أبواب الرياء أن يكون العمل رياءً محضاً في أصل الدين، فإذا راءى في أصل الدين فأظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو مخلد في النار ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن كان الرياء بعبادة من العبادات أو بطاعة من الطاعات مع وجود أصل الدين، كأن يكون الرجل مؤمناً موحداً لله جل وعلا، ولا يسجد إلا لله، ولا يوجه العبادة إلا لله، إلا أنه زل في عبادة من عباداته وطاعة من طاعاته فراءى بها الناس والمخلوقين فبالإجماع أن هذه العبادة وهذه الطاعة وهذا العمل حابط ومردود في وجهه، ولا قبول له عند الله جل وعلا؛ لما أسلفته من المقدمات ومن الأدلة. وقد يكون الرياء مشاركاً للعمل، فإن شارك الرياء العمل من بدايته -أي: من الأصل، ومنذ انعقاد النية- فأيضاً الأدلة الصحيحة الصريحة تقول بإحباط هذا العمل وبعدم قبوله عند الله جل وعلا، بمعنى: لو أن رجلاً خرج ليصلي، وما خرج أصلاً للصلاة إلا مراءاة للمخلوقين، وليرائي بها الناس، فالرياء شريك مع نية العمل، فهذا العمل كله من أوله إلى آخره عمل حابط ومردود في وجه صاحبه، وأكتفي بدليل واحد على ذلك، وهو الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). وفي رواية ابن ماجة : (فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك). وقد يكون العمل لله جل وعلا في أوله، فيأتي الرجل للصلاة يبتغي بها وجه الله، ولكنه وهو في أثناء الصلاة طرأ عليه طارئ الرياء، فاختلف العلماء في هذه الحالة هل يحبط العمل كله أم لا؟ ولكن الراجح -كما رجحه الإمام أحمد والإمام الطبري-: أنه إذا كان أصل النية لله جل وعلا، وإذا كان أصل العمل لله جل وعلا وطرأ عليه طارئ الرياء، فإن دفعه فلا يضره هذا الطارئ بلا خلاف، أما إن استرسل مع الرياء في العمل، فإن عمله لا يحبط ولا يرده الله، وإنما يجازى على أصل نيته الأولى، وهذا من رحمة الله جل وعلا. أما حين يكون العمل خالصاً لله جل وعلا وحده، لا تشوبه شائبة من شوائب الرياء ولا من شوائب النفاق، ويلقي الله للعبد الحب في قلوب الخلق وفي قلوب الناس، ويجري ألسنتهم بالثناء عليه، فيفرح العبد بذلك ويستبشر به، فهذا لا يضره بإجماع، وليس هذا من أبواب الرياء، والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من أعمال الخير فيحمده الناس عليه، أي: يعمل أعمال الخير مبتغياً وجه الله جل وعلا ومخلصاً لله في عمله؛ فيحمده الناس على هذا العمل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تلك عاجل بشرى المؤمنإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]، قال ابن عباس : أي محبة في قلوب الخلق، ويؤكد ذلك أيضاً حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ومسلم : (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل وقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض). وفي الحديث الذي رواه البزار وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان صيته حسناً وضع في الأرض، وإن كان صيته في السماء سيئاً وضع في الأرضإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]، وأود أن أنبه إلى أمر وهو أن حسن الثياب وحسن النعل وحسن المظهر ليس من الرياء، والدليل على ذلك ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الكبر بَطَرُ الحق وغمط الناس). أي: ليس هذا من الكبر وإنما الكبر بطر الحق وغمط الناس. هذه هي أقسام العمل مع الرياء بإيجاز شديد، وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يقينا شر الرياء والنفاق، إنه ولي ذلك ومولاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    السبيل إلى علاج الرياء

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فأخيراً -أيها الأحباب- ما هو السبيل إلى علاج الرياء، وإلى قلع جذوره من القلب، ألخص لكم ذلك في نقاط عملية فأقول: لابد لعلاج الرياء من علاج علمي، ومن علاج عملي:

    العلاج العلمي للرياء

    أما العلاج العلمي: فهو أن يعلم المرائي عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة، أما عاقبة الرياء في الآخرة: فهو إحباط العمل ورده، وأن ليس له وزن عند الله جل وعلا. وأما عاقبة الرياء في الدنيا: فإن يظهر الله جل وعلا للناس سريرته: (فمن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس) ، وقال أحد السلف: فليحذر أحدكم أن تمقته قلوب الناس وهو لا يدري، قيل: كيف ذلك؟ قال: إذا ما كان مع الناس أظهر الطاعة، وإذا ما خلا بينه وبين ربه بارز الله بالمعصية. لابد أن يفضحه الله جل وعلا وأن يظهر سريرته، وإظهار ضد القصد أمر ثابت شرعاً وقدراً، والدليل على ذلك ما رواه البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به). نقل الحافظ ابن حجر قول الإمام الخطابي في معنى الحديث: أن من عمل عملاً ليس خالصاً لله جل وعلا لابد أن يظهر الله للناس سره ويجعله علانية، ونحن نرى الواقع يؤكد ذلك أيضاً، فكم من الناس نسمعهم بآذاننا يقولون: إن فلاناً هذا مراءٍ، وإن فلاناً هذا منافق، سبحان الله! لأن الله جل وعلا قد أظهر سره وجعله علانية، وجعل الله البغض له في قلوب الخلق وفي قلوب العباد. واعلم -أيها الإنسان- بأن ذم الناس لك لا يبعدك من الله إن كنت قريباً منه، وحمد الناس لك لا يقربك من الله إن كنت بعيداً عنه، والناس لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يدفعون عنك رزقاً، ولا يقربون لك أجلاً، فلمَ ترائي الناس وتخادع الله جل وعلا؟! أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه؟! أتستحي من الناس ولا تستحي من الله؟! الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:218]، ويَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]؟!! فمن علم أن الناس لا يملكون له ضرّاً ولا نفعاً، ابتغى بعمله وجه الله؛ لأنه ينبغي أن نعلم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا علم المرائي الذي شتت قلبه وشتت عقله وشتت جهده لإرضاء الناس هنا وهناك، إذا علم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك كف عن الرياء، وكف عن مراءاة المخلوقين، ولو أرضى أحد كل الناس لأرضى الناس سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، بل إن من عائلته وأسرته من عاداه، ومن سبه، ومن مشى خلفه ليقول للناس: هذا كاذب فلا تتبعوه! فإرضاء الناس غاية لا تدرك. فاعلم -أيها الإنسان! وأيها المسلم! وأيتها المسلمة- بأن ذم الناس لا يبعدك عن الله إن كنت قريباً منه، وبأن حمد الناس لا يقربك من الله إن كنت بعيداً عنه جل وعلا، وذم الناس وحمد الناس وكلام الناس لا يدفع عنك رزقاً، ولا يقرب لك أجلاً، ولا يملك الناس لك ضرّاً ولا نفعاً؛ لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً فضلاً عن غيرهم. الأمر الثاني: اللجوء إلى الله جل وعلا في طلب الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50]، ولنا في خليل الله إبراهيم الأسوة والقدوة، وهو الذي كان يتضرع إلى الله جل وعلا أن يجنبه وبنيه الشرك الأكبر فيقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، فإذا كان الخليل يتضرع إلى الله جل جلاله أن يجنبه الله الشرك الأكبر، فينبغي أن نتضرع إلى الله جل جلاله أن يجنبنا الشرك الأكبر والأصغر.

    العلاج العملي للرياء

    أما العلاج العملي وهو في كلمة واحدة: لا علاج للرياء أفضل من الإخفاء.. إخفاء الطاعات.. إخفاء العبادات، حتى يتدرب القلب على مراقبة الله وحده لا مراقبة الناس، فلا علاج للرياء أنفع من الإخفاء، أن تخفي طاعتك عن أعين الناس، وأن تكون طاعتك لله جل وعلا، هذا إن كانت الطاعة مما لم يأت الشارع بوجوب الجهر به. وقد فصل القول في ذلك أعظم تفصيل الإمام العز بن عبد السلام في كتابه القيم (قواعد الأحكام): إذا كان العمل الذي شرعه الله جل وعلا مما يؤدى جهراً: كخطبة الجمعة.. كالأمر بالمعروف .. كالنهي عن المنكر .. كالصلاة .. كالأذان فهذا لا يمكن أن يؤدى سرّاً، ولا يمكن أن يخفى، وإنما لابد أن يؤدى جهراً مع مجاهدة النفس والقلب؛ ليكون العمل خالصاً لله جل وعلا. أما النوافل .. أما الصدقات .. أما سائر الطاعات التي لم يأمر الشرع بالجهر بها فينبغي أن تدرب نفسك على الإتيان بها بينك وبين الله جل وعلا؛ ليتقوى القلب على الإخلاص، ولينشط القلب على مراقبة الله لا مراقبة الناس. وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل. اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، اللهم طهر قلوبنا وجوارحنا وأعمالنا من الرياء، اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وجسداً على البلاء صابراً. اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وارزقنا الصدق في أحوالنا يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثَبَّتَّهُ، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755987811